أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود المصلح - الفصل الاول من رواية صوت الجبل















المزيد.....



الفصل الاول من رواية صوت الجبل


محمود المصلح

الحوار المتمدن-العدد: 2560 - 2009 / 2 / 17 - 03:28
المحور: الادب والفن
    


صوت الجبل
لبيك ..1
النفس وهواها شيطان... العدو ...
اجتاز الجرف ، وخلف ورائه روائح الجيف التي خلفها الفيضان ، بدأ الظل يزحف ببطىء شديد ، لما غافل الجرف الشمس وهي تهرب مغربة تحت وطأة الطبيعة السرمدية ، مجازات الرمل الأصفر المتسرب من المقلع المجاور ، فرش الممر الضيق ببساط من الحرير الرملي الناعم ، لكنة اتون ملتهب ، السوافي شكلت من الرمل الناعم ملامس واشكال ذات تناقض غريب ، الممر الضيق يفضي الى مرتقى صغير من الحجارة الحثانية البيضاء ، بان السفح وكأنه اسبل جلبابه وهو يتدثر به كشيخ هرم ، لم يسلم على معصرة الزيتون الرومانية القديمة ، لم يلتفت الى بقايا البناء المتهدم ، كأثر لمن كانوا ورحلوا ، تحسس معصم يده ، تذكر يوم ان صعد الرحى الحجرية الكبيرة ، يوم ان صرخ .. وانكسر معصمه ... يومها حقد على الرومان ..
وحملهم وزر ما أصابه ..
ارتقى الالتواء بنتوائته البارزة كلسان ، تعلق بها ، عانقها ، ثمة شيء يدفعه الى الاعلى ، الالتفات الى الرسومات وتلك التشكيلات النحتية البارزة والغائرة متعة الصعود ، اشرف على عرصة صغيرة ، تفضي الى كهف ذو فم ضيق اسود ، الى جانب فم الكهف وقف عمود من الجير تآكل جزء منه فبان كالمجذوم ، رغبة الارتقاء تدفعه ، وقوة خفية اخرى ، بين هذا وذاك تقدم ، ارتقى ، تجاوز الكهف الذي تعارف عليه الناس في الوادي ( الاسود ) .

نظر الى الاعلى حيث القمة ، كانت القمة قد تلاشت ، غابت في غيهب الضباب ، وغلالة الهباء الملون بالاحمر والاصفر المتدفق من الشفق الدامي ، الالوان تنز من القمة ، تسيل على السفح ، تلون المنحدرات ، والنتؤات ، تشكل من الانجرافات ، اشكالا هجينة ، نصفها آدمي والنصف الاخر تشكيلة من حيوانات وكائنات خرافية ، مد يده الى نتوء في صخرة شقها جذر زقومة شائكة ( حذرته العجوزمن الزقومة) :
كساب ..اياك والزقومة .. اراك تلعب في افيائها كثيرا .. الزقومة ؛ بسملت ورتلت وتعوذت ثم فجأة قالت كمن يفضي سرا لا بد منه :
الزقومة يعني ... يعني ... بيت الجن ..ها ، ساح الدم
كانت يده كتلة من نار ، كتلة من دم ، صرخ من الم .. ربما من خوف ، نظر الى اسفل ، انسلخت يده ، انشق الحجر الى نصفين ، اختلت ارضيته ، خذله النتوء .. سقط .
تلاشى في اللا شيء.. غاب قي العتمة .. لفه قاع البئر الاسود ... ونام

غرق قرص اللهب ذليلا مكرها ، باهتا ، لكنه ساحر ، في هوة سحيقة خلف الجبل ، جيش سحب من تحالف الأسود والأحمر غزت الوادي ، لفعت الجبل بطوق محكم ، نسمة باردة ، محملة برائح الجيف تأتي من فوهة الوادي عبر الحلق مرورا بالمجرى المترب المغبر ، لفحت وجهه ، عفرته بعفير مترب رطب ، المجرى شكل بوابة للريح ، الريح أم السوافي ، تجمع التراب الناعم ، غمر اليد الحمراء الدامية ، الشعر المفلفل الاسود الخشن غمرته طبقة من السوافي والسائل اللزج الاحمر القاني ، في السماء تجمعت سحب سود ، من الجحور سعت الهوام ، تزحف على برودة الرمل الناعم الاملس ، خطت آثارها بحكمة وسكينة ، الوادي استسلم للعتمة .

رائحة التراب اصدق رائحة .
مجرى الوادي ، ببقية ما به من ماء ، بيت للناموس ، الناموس ينشط ويكد في الليل ، اللية ثمة فريسة ، تداعى الناموس الى السفح ، ترك شجيرات الحور البائسة ، السامقة ، الجرداء ، عندما تعم الدنيا الظلمة ، وتنتشر العتمة وتنسحب الشمس الى الكواليس ، تزداد احتمالات انتهاك الحريات والاعتداءات .. عمت الدنيا الظلمة .. انتشر الظلام .. انسحبت الشمس الى الكواليس ... شبع الناموس .
نام كساب .

اشجار الطرفا خضراء يانعة ، تعانق السفح بحميمية ، بريكات الماء تجمعت عند حذاء السفح ،الحد الفاصل بين السمو والانخفاظ ، تكونت سبخة طينية لزجة ، اتخذتها الضفادع مسرحا لعرض قفزاتها ، ونقيقها الدائم ، النقيق يشتدد في الليل ، بعض الجراذين التي هربت او تم تهريبها من النهر الكبير السرمدي المقدس وجدت في السبخات وكرا ومرتعا .. تظخمت
وكبرت .. غدت تتجول في المجرى على مرأى من الناس ، بعد ان كانت تخافهم .
اشجار الحور الجافة ابتعد عنها مجرى الوادي ، فأعلنت غضبها بأن تعرت ، وكفت عن منح الظل والفي .. اشجار الحور رقيقة . لكنها منحت نفسها بما تبقى عليها من ورق مسكنا للناموس
والباعوض .
الليل يصغي بصمت مهيب رهيب مخيف في الوادي المنحصر بين جبلين أشمين ، لا صوت
الا صوت نقيق الضفادع والصراصير .. بين الحين والآخر يلعو صوت عراك بين جرذين ، ربما اختلفا على ضفدعة صغيرة وقعت فريسة بيد احدهما ، رائحة الوادي .. جيف .. رطوبة خانقة .. اللون الاسود الموشى بالازرق القاتم هو اللون الغالب .
غيمة سوداء كثيفة فتحت ستارة السواد ، فأطل القرص الذهبي موشى بالأحمر الخجل ، لكنه قبل ان يفلت من ربقة اللون الاسود كان قد داهمه اللون بسيل من الدهان الاسود الموشى بالاصفر والاحمر ، بينما كان يعلن الضوء عن نفسه بهالة القمر الصفراء المشبعة بالضياء الابيض الشفيف الرهيف ، لم تحتمل جيوش العتمة السوداء فداحة الضياء فتلاشت هاربة حيث لا جهة محددة بعد ان اصابها في اماكن كثيرة فباتت كخرقة ممزقة . وعم الوادي الضياء .
تململ بهدوء ، سحب يده الدامية ، وخزة الالم ، وخزة الخدر ، رفع جفنه الاعلى الثقيل ، أحس بحرقة الرمل والعرق ، رأى الضوء الشفاف يسقط على الزقوم .. الطرفا .. الحور .. تنعكس الظلال على السفح ، تتراقص الخيالات .. بأشكال افعوانية .. غرائبية .. كائنات خيالية ... تمازجت الخيالات مع الاصوات .. بات المشهد عرضا ضوئيا غرائبيا .. أحس بالخوف .. أغمض عينه المفتوحة .. احس بالحرقة .. تحامل على نفسه .. لينأى بنفسه عن المشهد على السفح المقابل ..سمع صوتا رهيف كالهمس .. لكنه مدوي .. ثقيل لزج ...
( النوم اختصار العمر .. خسارة الليل .. والحلم كسبها ) .

تحسس بلسانه الملوحة على زاويتي فمه ، السائل الاحمر اللزج .. انكمش الى الداخل ، لاذ
بنفسه عما سواها ، استرق النظر من تحت الجفن الثقيل ذو الرموش السود الطويلة ، كان القمر قد تدثر بالعباءة السوداء.. فتوقفت الكائنات عن الرقص على السفح .. انسحيت الى المجهول ..
لفتها العتمة ..كما لفت باقي الموجودات في الوادي.. فجاءة زعق طير ... كان نسرا .. وصل الصوت باهتا ... لكنه كان كافيا ليرتعب .. تمالك نفسه .. راح يجتر ما يعرفه عن الوادي..والسفح والجبل .. وتلك الاصوات ..
( طالما طفت بهذه الارجاء .. تعقبت الحمام البري .. تسلقت السفح .. دخلت الكهف .. لم استطيع أن اتجاوز الحزام الرخامي فوق ( الاسود ) نبشت العش الوديع .. أخذت الزغاليل ذات الزغب الابيض الضارب الى الرمادي .. معطت الرأس بيدي .. اشعلت النار بما تيسر .. / تلمذ على ذكر الشواء / اخذت بيض( الشنير ) صيدا ثمينا ...و.. انزل ستارالعين الثقيل بسرعة لما لمع الرمل امام عينه التعبة .. خاف العرض .. جاء الصوت ثقيلا كالرصاص :

( النوم اختصار العمر .. خسارة الليل .. والحلم كسبها ) .

حاول ان ينهض ، خانته قواه ، تحالف ضعفه وخوفه ضده ، بات وحيدا .. مجردا من نفسه التي وقفت ضده .. اراد ان يهرب من القعر.. من العتمة .. وجد جسده ثقيلا .. لم يستطع ان يحمله ..
استسلم منهارا .. ونام .

كالعادة زارتة الاطياف ، حملته الكائنات الغريبة ، ذوات الاجنحة ، طافت به بعيدا ، الريش يعبق
بروائح غرائبية ، سماوية ، منعشة ، مزيج من البخور والمسك ، ورائحة العنبر الاصفر الفاقع ،
اكمة الدوم تبدو زهرية زاهية ، خيط القرص الذهبي الجليل .. المهيب .. تلف الاكمة بهالة صفراء ضاربة الى الخضرة المزرقة .. بات اللون الجنزاري هو لون الارض .
اقسم ذات مساء وهو يدس رأسه في حجر العجوز الملتحفة ( بالملفع ) الاسود انه سمع الاذان
وهو يطير مع الكائنات المجنحة في السماء .. واكد انه سمع مديحا نبويا وتسبيحا كله حزن وشجن .. من جوقة خفية .. صوتهم .. بكاء .. لكنه كالغناء ...نواح ..
لم تصدقه العجوز يومها ، اقسم لها انه شاهد من فوق ، ما لا يمكن مشاهدته من تحت ، شاهد
وعرف مبكرا .. ذكر لها كيف كانت تتجمع على الدكة امام البيت مع عجائز الوادي .. كيف كانت تبكي .. وتنوح .. قبيل ( الحضرة ) كيف طافت حول النار .. كيف هام الجميع على صوت الانشاد الحزين ...
العجوز بين مصدقة ومكذبة .. ما ذكره صحيح ... لكن ان يطير ...؟ ان تحمله الملائكة .. او الجن ؟ ؟ ضمته يومها بين يديها كورته في حجرها كأنها تخفيه .. تبعده .. تحميه .. راحت تشمه
وهي تهلوس بادعية وتدس في صدره بين اللحم والثوب الحرز ملفوفا بخرق خضراء جلبتها في رحلة طلبا للبركة من قبر سيدنا ( ابو عبيدة ) .
تملص منها ورح يقسم وهو ينط ..اغرته بحبات ( الدوم ) الحمراء الشهية اقترب منها ، قالت يومها على مضض :
اصقك .. لكن لا تخبر احد بقصتك .. اذا اخبرت احد فلن تطير ثانية . قالتها وهي بين مصقة ومكذبة ، هذا سر .. السر لا يكون بين ثلاثة ... اذا خرج منك ... انت صغير على السر .. صغير على المشقة.. وغابت في حالة الوجد .. ترتل .. وتنشد .. وتناشد القوى الخفية بتوسل ..الدموع اكثر ما كانت تتقنه العجوز الحزينة .
من اول رحلة الى السماء .. من اول حالة طيران .. من بدء ارتباطه بكائناته الغريبة .. لم يخبر احد .. حتى العجوز نسيت بعد زمن قصته .. وظنت ان الحرز الذي يحمل .. ( والحجاب )
والتعاويذ .. وخرزة ( سليمان ) الحمراء تحميه .. فسكتت .

الان يطير يحلق فوق الوادي ، يخترق العهن المنفوش ، يحس ببرودة .. تلفه الاجنحة بين الريش
يتسرب الدفىء اللذيذ .. الخدر الذي يسبق النوم .. حالة الوسن الجميل .. يدرك هو : ان رحلة العودة الى الوادي .. الى القعر ... الى النفس .. قد بدات ..

تحسس يده الدامية .. تأوه .. وقام .

الرمل تبر مبثوث ..حبات من اللؤلوء تلمع تحت اشعة الشمس ..في الافق تنتصب خيالات من وهم جميل ، في آخر الافق الاصفر المغبش.. تنعكس الخيالات ظلالا في بحر الهباء البعيد .. بحر السراب في صيف تموز ..القرص الذهبي الاصفر اللامع في كامل بهائه .. وفي اوج سطوته يصب سيلا من نار على القاع الممتد ...
وقف على ناصية ذكرياته .. اشرف على الماضي .. فتح ابواب تراكمت عليها السنون ..
نفض هباء العمر القديم .. عرج على السفح .. والتكية .. ترآءت لعينيه كما كانت واجمل مما يتصور .. همم في نفسه :
( كانت تناقظاتي على الدوام تقودني الى الاتزان .. وكانت خيالاتي هي حياتي التي عشتها بحق .
اما الحقيقة فكانت هباء .. هباء . .. كم هربت من نفسي ، واختبئت خلف حلم ..حلم ارسمه ..والونه ..ابنيه واهدمه لأعيد بنائه من جديد .. انام متكورا على نفسي .. كحلزونة لزجة .. اطوق رأسي بساعدي .. اصنع الظلمة التي تمكنني من التخيل .. الظلمة والعتمة .. بيئة التخيل الاثيرة
الاكثر حميمية .. زرت مدنا بعيدة .. كونت مشاريعا ومزارعا عظيمة .. بنيت مدنا وبيوتا وقصورا .. تعرفت على الاشراف والكبار تماما كما رافقت الضعاف والفقراء ..
الاحلام حياتنا الخفية / حياة الظل او ظل الحياة ..
من تلك الخيلات في بحر الوهم .. كذ بة الشمس.. السراب ، بنيت بيوتا .. وقصورا لها اسوار عالية اعرف حجارتها حجرا حجرا ، اعرف تفاصيلها ..لأنني اعشقها ..مدينة تعج بالناس .. كنت قد اخترتهم وفق مواصفات قد حددتها سلفا ،
نصبت نفسي ملكا .. وجعلت لي عرشا وسلطان .. جعلت لها بابا .. يدخله من يشاء .. شرط ان يكون عاشقا متيما ميمما شطر الحبيب .. قلبه يتلهف .. لسانه يلجلج .. يرتج ..ينتظم بعد حين يرتل .. ينشد .. يذوب في الوجد ..ثم فجأة :
اقترب من الخيلات .. المس الوهم ..
كنت في قرارة نفسي على شفير الحقيقة .. قرب الوهم .. لكن ما صدمني .. انني اتجول بعدها في المدينة ، اصافح الناس ، التقيه الله..م .. الماء لطم قدمي .. نعم اقسم بسيدي الوليّ .. اقسم .. انني
رفعت جلبابي فوق الركبتين .. وخضت الماء .. ماء حقيقي ..القصور .. البيوت ، تشرع ابوابها ونوافذها ..طاقة اللهب حنت على المدينة .. رافقتها نسمات عليلة .. شرعت ادور حول نفسي وانا في وسط الماء الابيض الشفاف ، تترأى لعيني صور وخيالات .. تصفق ، تجهش بالبكاء والنشيد ..الصوت صوت الحضرة . . الهيئة هيئة الحضرة .. العمامات الخضر ذاتها التي كانت في بيت امي العجوز ..الله.. الله.. الله.. الله..
انتظمت حلقات الرقص ، المميز الوحيد ذو العمامة البيضاء الطويلة يدور ، يشجع المريدين ، يربت على كتف احد الاتباع ، يحيي الزوار ، يدور حول نفسه دورة سريعة محكمة واثقة قوية وهو يرتجف من الوجد والهيام ، انفكت عقدة العمامة ، فأحكمها بيد مدربة سريعة ، احتدت موجة الرقص على صوت المنشد ذو اللحية السوداء الكثة ، كان صوته بمثابة الوقود الذي يشعل حماس الحضرة ، حبات مكورة لؤلؤية تلمع على الوجوه .. بدأ التعب يظهر .. والفتور يصيب الاجساد ، فقاد المنشد الحضرة الى استراحة صغيرة .. تمايل فيها الى الامام والخلف .. وهو يهمهم ..الله .. الله .. الى ان باتت الهمهمة عبارة آه مكرورة .
لفح وجه وهج القيظ ، اشتم رائحة التراب .. سقط من عليائة الى قاع الوادي ..

(2)
لو رأيتم لما رأيت ما انكرتم علي ماترون .
الموت هو الحقيقة الكبرى .
مضت ليلتان ، اغلقت فيهما السماء باب القربة ، انحصر السيل الى الضفاف ، اهدى النهر السهل الفيضان ، في حين اغرق البساتين والحقول ، فرش الفيض النهري السهل بالسمك ، فشبع الناس بعد جوع ، اشرقت الارض بنور ربها ..
ذهب السيل بما ذهب به من متاع وماشية ، وحزن من حزن ما شاء له ان يحزن ، وفر من فر الى الكهوف على السفح .. لكن لم يجروء احد على الارتفاع اكثر ..فما تناقله الناس عن الكهف الاسود .. وسكان القمة .. كان حري بهم الرضا بما وصلوا اليه عند السفح ..
لم تغادر العجوز كوخها .. على الرغم من موقعه على مرتفع صغير يفصل بين السهل والنهر .. يشرف على الحقول الخضراء على جانبي السهل .. الا ان سكان الوادي الاسفل زعموا انها محمية بالقوى الخفية .. فلم يحدث ان فاض النهر وتركت كوخها الى الكهوف كما يفعل عامة سكان الوادي .. ومنهم من راح يدعي انها تملك الحصن لحصين ( حجاب كبير ملفوف بقطعة
من الحرير الاخضر جلبته من مقام سيدي ابي عبيدة ) ما لبسه احد واصابه مكروه قط .
وذهبت مجموعة تؤكد ذلك :
ابنها كساب ، كم صعد الجبل ، كم تجاوز( الاسود ) كم سقط .. لكنه لم يتأذى ..لماذا ؟!
لانه محمي بحجاب الحصن الحصين .
طوال الليتان .. لم تدرك العجوز حقيقة ما حدث .. صماء .. بكماء .. عمياء .. تحملق بصمت ،
ببله ووله في كل ما حولها .. كانت قصعة ( الخبيزة ) التي اعدتها يسرى على حالها في الزاوية المعتمة من الكوخ .. بينما كان ثغاء الشياه في الخارج مفجع كانها تتوسل .. في حالة ما بين النوم واليقضة .. قرب ( النقرة ) تمسك بسبحتها الالفية ، وفي الغبش الذي ارتسم على بياض عينيها
يقف ذيب بين جموع كثيرة الرجال .. على رؤسهم خوذات صفر ..النار تحيط بهم من كل صوب
ثمة هرج ومرج ، الرجال يشيرون الى ذيب بأيديهم ونظراتهم وكلامهم ، ارهفت السمع ، اسدلت
ستارا آخر من العتمة .. تناهى اليها الحوار واضحا بينا :
- اطفاء النار .. له الاهمية القصوى .
- رد ذيب ، تنبهت العجوز ارهفت .. لكن هذا غاز .. من يجرؤ ؟
- الاحتياطات الامنية كاملة متكاملة ..
- لا بد من متبرع ..
- ثمة مخاطرة
تقدم ذيب الى اقرب نقطة آمنة .. مد انبوب اسود طويل .. بتعابير صارمة .. وعضلات متحفزة . انحنى فوق الانبوب المطاطي الاسود .. العيون مشدودة الى الامام .. الارجل متحفزة الى الخلف .. القلب يدق بقوة .. الحقيقة الكبرى .. امام الجميع .. الخوف مسيطر ..
لكن لا بد من متبرع ..
قلب العجوز يدق .. ترجف .. تغرق قي بحر من العرق .. تبحث عن لسانها عبثا .. اصبح قطة من خشب .. عظم .. تريد ان تصرخ .. ان تبكي ... تعطل اللسان .. فقط هي البصيرة فتحت طاقة في الفضاء البعيد البعيد .. شاهدت .. وسمعت .. فجأة ملىء الفضاء الحريق .. اختفت الصور وعم اللهب .. وصوت انفجارات متتالية .. بينما كانت الشمس في سماء الجزيرة الصحراوية في اوج اشتعالها ترقب اختها على الارض .. فجأة جفلت العجوز من مرقدها ، تحاملت على ضعفها .. صرخت .. عاد الدم الى لسانها .. نفظت سبحتها الالفية تناثرت الحبات على الارض في كل مكان ..ردد الجبل الصوت المفجوع :
ذيب مات ... ذيب مات
من سمع ، وصفها بالجنون ، اقامت في نفسها مأتما ، وتلقت في حضرتها العزاء .. ناحت
وولولت .. نظمت الشعر رثاء ..ووصفت لكساب ما حدث وهي تنوح .. وصفت وصف من
وقف على الحدث وشاهد وسمع .. اقسمت انها أحست بحرارة النار .. قالت :
وسيدي ابو عبيدة هذا ما حدث ..
حدث انفجار .. مات ذيب .. ومات معه ناس كثر .. كان حريق ..

لم يكن غريبا أن يصدقها كساب ، فهو ادرى ، صدقها كثيرون من الوادي ، اقامت عزاء ،
لم تنتظر ان تتأكد من الخبر كما هي العادة ، فما شاهدته اكيد بما يكفي لان تصدق وتعرف
وتحزن ، وتقيم بيتا للعزاء ، ام كوخها ( والخربوش ) كثير من سكان الوادي ومن المريدين والاتباع في التكية ، وبعض مشايخ الصومعة ، والكثير من الفقراء ممن اثرت فيهم العجوز أم كساب ( خضرة ) كما كانو يسمونها ، وحل هذا الاسم محل اسمها الحقيقي ( عشبة ) حيث كانت تلبس ( مدرقة مطرزة بالأخضر ، تحتها ( شنتة خضراء ) وتعصب رأسها بملفع اسود عليه عصبة خضراء من مقام ( سيدي ابو عبيدة ) .
استمر العزاء ثلاثة ايام ، في اليوم الثالث تقربت بشاة عن المرحوم ، في اليوم السابع اولمت بشاة قرناء ، وفي الاربعين اقامت ماتما ذبحت فيه شاة اخرى .
اعتزلت الناس فترة ، فلم تفتح بابا ، ولم تداوي مصابا ، فقط هم الاطفال الذين كانت تسارع الى معالجتهم ، من مشاكل في البطن ( البعاج ) او كسر او خلع في احد الاطراف ، او قراءة
ايات من الكتاب ، او الورد ، او الادعية ، ثم تختم بتعليق التمائم والحجاب مع بعض الوصايا ، لم تقم حضرة الخميس ، فقدها الاتباع والمريدون ، طرقوا الباب ، مرات كان كساب يطل برأسه من خلف العرزال على الزاوية ، ويقول باقتضاب :
نايمة .
بعد ايام يقول كساب دخلت في نوبة من الذكر كان يستمر حتى طلوع الفجر ، اما في النهار
فكانت تهتز وهي تصلي ، لتختم الصلاة بالاذكار ، والورد ، والسبحة الالفية تتكوم كأفعى امامها تأخذ حباتها حبة حبة ، يعلو شفتيها الزبد ، تتعرق ، ترتجف ، ثم تضطجع جانبا ، مستسلمة لحالة الوهن والخدر ، ترفض الطعام والشراب ، فقط تأخذ كوبا من الشيح المغلي
مع قطعة من السكر ، خسرت الكثير من وزنها ، تلاشت ، ثم دخلت في غيبوبة طويلة ، كانت سكانة ، هامدة ، فقط صدرها يرتفع وينخفض ، وصوت تنفسها العميق ، كساب يجلس
عند رأسه ، يحرص على حياة النقرة ، ودلة القهوة التي تقف بجانبها ، يستمد منها طاقة للسهر ، ياخذ حزمة من القيصوم يدسها في التقرة فيعلو اللهب ، يتبعها بضمة من الشيح ، تعبق رائحة زكية ، هي رائحة النقاء ، يرتل وينشد ، ينثر حفنة من البخور والبطم الابيض ، تعبق الرائحة الزكية ، يغرق في ورده اليومي ، يذكر ويسبح ، اقسم كساب بعد موت العجوز:
كانت غائبة ، نائمة ، مضى على غيبوبتها ايام ، كنت عند رأسها اقرأ الورد بعد صلاة العصر ، فجأة مدت يدها .. نظرت اليها كان ثمة ورقة بيضاء ، ناولتني الورقة بوهن ،
فتحت الورقة ، بيضاء بلا كتابة ، رائحتها مسك وعنبر ، غير مطوية نظيفة ، رائحتها
تطغى على المكان ، استمرت رائحتها اياما ، ملت برأسي الى اذن امي ، سألتها : بهمس
- وانا لا اتوقع ردا :
- ما هذه الورقة ؟
- من الرجال ، واشارت بيدها نحو السقف .
- أي رجال ؟
- انهم يطيرون ، يسبحون بعيدا في الفضاء . يرفلون بالثياب البيض .
ثم سكتت ، نامت

( 3 )

دستور يا اسياد ................
مرجان المجنون ، كان عاقلا ، تركته زوجته ( خنسة ) ، وتركت الوادي ، هربت الى بيت اهلها ، ولم تعود ،يوم ان عاد من رحلته الى المجهول عاريا ، يمتطي حصانا من شجر الحور الجاف ، ويمتشق سيفا خشبيا ، يلوح به في الفضاء ، مرجان تجاوز الاسود ، سمع بمن تجاوز الاسود فظن ان التجاوز مسموح لأي كان ، لم يقدر قواه ، لم يعرف مستواه ، دفعه الى الصعود طمع ، وساقه جوع وجشع ، سحبه من ذقنه النابتة كلحية تيس سوداء سحبه الى الاعلى ، وهو لا يدري ان في صعوده هبوط ولو ارتقى .
المعصرة الرومية ، عند اقدام الجبل ، حيث تتشعب اودية ، ومجاري جافة كثيرة ، خلفها كهوف ذات تجاويف سوداء ، ومداخل حجرية ، كانت في السابق مرتعا للاطفال ، ثم غدت
خانات لمواشي البدو الذين يأتون في الربيع ، ومكثون حتى بداية الصيف ، ولما يغادرون ،
وقد خلفوا الكهوف ، برائحة الروث ، تذهب النسوة اليها ، تجمع الروث كوقود ، قالت زوجة
مرجان بعد رحلتها الى الكهوف :
-الكهوف محفورة ... القبور منبوشة ..
سكان الوادي استنكروا نبش القبور :
- من يجرؤ على نبش القبر ..
- اين حرمة الاموات ..
- ماذا يجدي اقلاق راحتهم ..
- ماذ يجدي نبش قبر قديم ..ونثر العظام والجماجم على الارض ..
- والله لا يفعل ذلك الا كافر ...
- البعض همس في الجلسات الانفرادية ..
- انهم يبحثون عن الذهب ..الاشارات والعلامات موجودة في كل مكان ..
البعض ذهب الى ان البدو يملكون خارطة ..
- خارطة ؟
- نعم خارطة ...
-ماذا يعني خارطة ..
- خارطة توضح اماكن الذهب .. كان الرومان والاتراك يدفنون الذهب في القبور كنوع من التورية . انهم رومان .!
- وهل وجدوا الذهب ..
- البعض وجد ...
- ومنهم من جن مثل مرجان .. او قتل .. ومنهم من فقد ولم يعثر له على اثر .
- كيف ؟
- اخذه سكان اعماق الارض ، العالم السفلي ، عالم الظلمة ، لهم القدرة ، وهم اسياد الارض ، يتحكمون بمصيرها ، ومصير من عليها ، اذا رضوا عن مخلوق كانت الدنيا طوع امره ،
ينفذ من عالم الى آخر ، لا يعبىء لمصاعب الحياة ، هم ..سكان الجبل الاوائل .. هم سكان
الخرائب .. هم اهل الارض .. هم من يدس الوهم في النفس .. فتسعى الى حيث يريدون ،
هم من يزرعون في النفس وهم القوة ... والقدرة .. والرغبة .. فتتوهم النفس بعد الاستسلام
لنزواتها .. لهواها .. فتنقاد ..وهو بداية الضياع .
يجوبون اطراف الارض ، ربما يكرمون ويمنحون ويعطفون ويعطون ، وربما يبطشون ويضربون هكذا بلا سبب .
تجاوز مرجان الاسود .
مدفوعا بالوهم . ولم يحصل على الاذن بالصعود .. ليس هذا فحسب بل انه تجاوز العقل حينما ذهب بلا حصن او حجاب ..
تجاوز مرجان الاسود .
فهام على وجهه .

راح الناس في الوادي يتناقلون خبر مرجان ، حينما ترك غنم الوادي ( الحوش ) وفقد لفترة ، بحثوا عنه في كل مكان ممكن لكن لم يكن احد ليتصور انه غامر وتجاوز السقف المسموح له ، تعدى حدوده ، خانه التقدير ، اعمت بصيرته الرغبة ، حينما عاد بعد ايام دخل بوابة الوادي ، فم الوادي الجنوبي ، عاد عاريا ، كما ولدته امه ، يركب على غصن حور جاف ، يتخذه حصانا ، وبيده غصنا آخر اتخذه سيفا ، ما ان وصل السفح المحاذي للاكواخ حتى لحقه الصبية الصغار ، ثم تبعهم بعض الكبار ، بينما راحت النساء تغطي وجوهها وهي ترى عورته بارزة ، احدى الامهات نهرت ابنتها وهي تنظر بدهشة لعضوه الذكري المتدلي بين
فخذيه ، بينما تركت لنفسها حرية استراق النظر .
من يومها ، اتخذ الاسود صفة القداسة ، وصار له مهابة ، فكان هو الحد الفاصل بين اهل الوادي والقمة ، فلم يفكر احد بالصعود او التجاوز ، فاذا ارتقى الاولاد نبهتهم امهاتهم الى ما حدث لمرجان ، فكان هو العبرة وهو الدرس الذي تعلمه اهل الوادي .
( من تجاوز الحد الفاصل بين القمة والقاع بلا اذن اوسلطان فقد نفسه وضاع )
بل لم يعد يفكر احد بالصعود ، ولم يفكر احد ان خلف القمة قمم اخرى اشد وعورة واكثر مهابة وقداسة ، حتى اولائك الذي يملكون رجاحة العقل ، وممن عرف عنهم الشجاعة ،
وحبهم للمغامرة والمخاطرة ، لم يفكروا اكثرمما فكر اهل الوادي .
بل ربما فكروا ، وربما دار في نفوسهم ما يدور في كل نفس ، لكنهم آثروا السلامة قبل الندامة ، وقنعوا بما هم فيه ، او لعلهم تطبعوا بطباع اهل الوادي الذين قبلوا حياة القاع
ولم تمتد عيونهم الى ما في يد غيرهم ، على انهم حسدوا صبح الغانم الذي سكن القلعة
التركية السوداء القديمة ، فاستحق لقب اقدم ساكن في الوادي ، لكن بقي الغريب الوحيد ،
والرجل الغامض الذي لم بخالط الناس مثلما لم يبادر الناس في الوادي الى مخلطته بعدما
صدهم وردهم اكثر من مرة ، الوحيدة التي ربطتها علاقة معهم الدرويشة .

وصل مرجان الكهف الاسود ، يحمل معوله ، وقربة ماء . لم يدرك الاشارة ، التي تنمح لمرة واحدة ، لم يفهم ان الحظ يأتي مرة واحدة فقط ، كان حري به ان بفهم عندما عطش فشرب القربة كاملة وما ارتوى ... كان حري به ان يعود .. نزلت على قلبه غلالة سوداء حجبته عن الفهم ، وحجبت عنه الادراك .. زرعت مكانهما الوهم .. الهوى .. فتابع الصعود ...
رسم حلم الهبوط بدقة ونسي انه لا يزال في طور الصعود والارتقاء ، احس ببرودة تجتاحه ،
اغرقه العرق ، جف ريقه ، تحسس القربة الجلدية على جنبه ، كانت ضامرة ، رفعها بيد ، امسك بالاخرى الفوهة ، احكمها على فمه ، نزلت قطرة وتبعتها اخرى ثم توقفت ، عصرها بيده ، لم تفلح المحاولة ، لم يرتوي ، اجال لسانه حول فمه ، كان الجفاف في كل ما حوله ، لم يفهم ، لم يدرك ، غلبته شهوة الصعود ، تحسس معوله ، راح يستعرض حلم الهبوط بالكنز ،
تذكر بيت صبح الغانم ، راح يحاور نفسه ، او ثمة من بحاوره .. يستدرجه ، ليوقع به ، ليكشفه ، ثم ليلقي به الى القاع :
-اشتري بيتا كبيرا
- وقطيعا من الاغنام ؟
- وقطيعا من الاغنام .
- ومزعة ؟
- ومزرعة .
- الكنز قريب .. في متناول اليد .. بعد ان اتجاوز الاسود اهبط ( هنا سمع قهقة في الفضاء عندما ذكر لفظة اهبط ... ) الى اول كهف ..
- ثم ؟
- ابحث عن قبر .. انبشه .. احفر قليلا .. و ... اهبط الى القاع ..( تعالت القهقهات بصوت هستيري ) ..
تابع الصعود اعتلى صخرة صوانية سوداء ، الصخرة الصوانية ، بيت الشرر ( ام النار ) هي الزناد ما ان تقدحها حتى يدب الحريق ، ذات انياب حادة بارزة ، ولسان متشعب ، شره ، الصخرة الصوانية غريبة في مكان كله صخور حثانية ، كلسية ، جعل بينه والانياب البارزة مسافة امان ، قوس ظهره الى الخارج ، نسي صدره بيت الحياة ، ابتعد بخاصرتيه ، قرب ما يجب ابعاده وابعد ما يجب تقريبه ، خالف السنة المتبعة في التسلق ، مد يده الى حافة ظنها
الركن المكين ، خانته يده المتعرقة ، جرحته انياب الحافة في صدره ، سال خيط من الدم .. نظر اليه مسحه بكم قفطانه الاسود ، تعالت القهقهات في الفضاء .. صرخ صوت ملأ الافق
( لا شيء يعدل الدم .. الدم لا يؤخذ الا بالدم ) .
لم يدرك الاشارة ..
كرر المحاولة باستماته ، بعنف ، العرق المالح يحز الجرح ، يحرقه من الخارج الى الداخل ، تحامل على الاذى ، شعر بحريق يسري في عروقه ، تمسك بحافة ذات نتؤء يمكن ان يتكىء
عليه ، امسكها بيد ، وجعل يده الاخرى ممسكة بلسان املس ، تشبث بالحافة وجعل ثقله عليها ليختبرها ، ولما امنها ارتقى ، وقف كتمثال قديم ، كرجم ، وتمدد على الصخرة يجمع شتات نفسه وجسده ، نظر بعيون مفتوحة ، الكهف يفتح فمه كسبع جائع ، لكنه يغويه بالدخول ، فم الكهف واسعة سوداء مظلمة ، جلس على الحافة ، مد قدميه في فم الكهف .. بحث عن الارض .. الارض غارت الى الاسفل ..
نظر فوقه الى السقف ، لسان صخري طويل يمتد كمظلة مخيفة عظيمة ، تعجب ودارت الاسئلة في رأسه ، فتوصل الى نتيجة مفادها :
لا يستطيع ان يتجاوز هذا اللسان الا جني ، لا يمكن لبني بشر ان يجتاز هذا الحد ، ان يخترق هذا السقف ، وقدم السؤال :
كيف استطاع كساب هذا الجني ان يجتاز السقف ؟ ان يصل القمة ؟ ان يصل الباب الحجري الاسود ؟
هو جني لا محالة ، او ربما هذا فعل الحصن الحصين ، فعل الدرويشة .
عشرات الكهوف بافواهها الفاغرة كبقع سود في صفحة الجبل ، كانها تضحك ، ترقب المشهد المأساوي الغرائبي بسخرية ، لكن بصمت ، تتفرج على الضحية كيف تقدم نفسها كقربان على مذبح بوابة الكهف ، قربان لكن بلا نتيحة ترجى .
بعض الفوهات خبرت التجربة مرة او اكثر ، بعض القرابين بقيت كهياكل عظمية في القاع ،
بعد ان تناويتها الصقور والنسور في القمة ، الاخرى آلت الى ما صار اليه مرجان ، ولعل هذا يفسر سبب كثرة المجانين في الوادي .
قفز الى الاسفل ....

القمة الاكبر تظلل الكهوف وتسبغ على الساحة المطوقة بالكهوف بشكل نصف دائرة عتمة موحشة ، حجبت السماء عن الارض ، الصمت المهيب مخيف ، قلب مرجان فقد القدرة على الصبر ، طاقته الروحية التي كانت تدفعة تلاشت ، حل مكانها الوهن والضعف والخوف ، لحظة السقوط ثواني ، لكنها كانت كافية ليدرك انه سقط في الهاوية ، لحظتها فقط تمنى لو يتمكن من التراجع ، النكوص ، العودة ، لكن لحظة السقوط سريعة ، قاضية ، حاسمة ، عنيفة ، تنير للحظة حتى يدرك الساقط الحقيقة ثم تكون النهاية كالبرق الخاطف .
لحظة السقوط العنيف السريع ، لمع كالبرق في ذهنة ، شريط سريع لاحداث الصعود وتراءت لعينيه الحقيقة .. سمع الصوت يأتي من خلف الشريط كالدوي :
( لا شيء يعدل الدم .. الدم لا يؤخذ الا بالدم ) .
هنا انارت الصرخة عقله ، بينما اسدلت ستارة سوداء على عينيه ، وشعر ببرودة كالثلج تجتاحه ، وتاه في متاة من العتمة الداخلية والخارجية ، واصبح معزولا عن نفسه ، لم يدرك ما حدث بعدها .
واصبح هذا الحدث في الوادي تاريخا يؤرخ به للاحداث .
تعالت صرخة كلها الم .. كانت صرخة الحقيقة ...
لكن بعد فوات الاوان .

عين اللهب الاصفر ترقب القاع ، ترسل خيوطا من نور ونار ، الوادي ساكن ، السيل الصغير المتبقي في النهر يبدو من الاعلى كخيط من الفضة متعرج ممتد يتلوى كانه يتوجع من الم ، قطع القرص الاصفر الملتهب منتصف السماء بقليل ، كانه توقف ليرقب القاع ، قبل ان يتابع المسيرالسرمدي نحو الغرب ، حيث النهاية اليومية لشي الوادي بلهيب النار المتدفق .
الدواب اوت الى افياء الدفلى والرتم ، الدوم يتساقط على الارض بفعل اللهب المتدفق من الاتون الملتهب في السماء . هجعت الكلاب بالقرب منها ، بينما كان الناس في قيلولة ما بعد الظهر ، ثلة من الصبية زفوا الخبر ، عبر صياحهم :
مرجان ( انجن انجن ... والصقوا به اللقب مجنون ، وهو يعتلي غصن شجرة الحور الجاف ويمسك آخر يلوح به كسيف ) رددت الافياء المجنون .. المجنون ...
خرج الناس ، راقبوا مرجان وهو يقفز عاريا كما ولدته امه ، ( خنسة ) اطلت برأسه من خلف
العرزال امام الكوخ ، شاهدت العري الفاضح ، ادركت ما حدث ، توقعت ما آل اليه ، منذ ان اخذ المعول وقربة الماء ، توارت خلف العرزال ، انسحبت بنعومة الى الداخل ، اقعت خلف بوابة الصفيح ، في العتمة ، واصوات الصبية تدوي كانها الرعد :
المجنون .. المجنون ..
لم يتمكن احد من اللحاق به .. حتى من عرف في الوادي بانه سريع العدو .. السلق ..لم يتمكن من الامساك به ، دار مرجان حول الاكواخ اكثر من مرة ولم يبدو عليه التعب ، الا ان جلده كان يلمع من اثر العرق .. كاد السلق اكثر من مرة ان يمسك يه ، لكنه كان يتملص منه بسرعة ، يحني جذعه تحت اليد الممدودة من السلق ، يلتف بسرعة ، يناوره ، ثم يعدو مبتعدا .. دامت المطاردة حتى تلون الافق بالشفق الاحمر ، وتطاولت الظلال ، وظهر التعب واضحا على السلق حينما القى بنفسه فوق كومة من البرسيم الاخضر ، بانفاسه المتسارعة ، وهو يطلب جرعة ماء من احدهم . من يومها فقد السلق شهرته كسلق ، ولم يفاخر بعدها احدا بقدرته على الجري .
اختفى مرجان بعدها ، العتمة تزحف ببطىء شديد ، خنسة تسللت من الكوخ ، التفت خلفه ، بيدها صرة وضعتها على رأسها ، تنظر بالاتجاهات كلها في الوقت ذاته ، نظرات هارب ، خائف ، تمشي بحرص وهدوء .
التفت خلف الاكواخ ، تركت فم الوادي الجنوبي الواسع ، الذي كان بمثابة البوابة الرئيسة للوادي
لسهولة الدخول والخروج من فوق قنطرة قديمة بنيت فوق النهر من جذوع الاشجار ، آثرت الصعود فوق السفح الشرقي ، على الرغم من وعورته ، افضت الى الممر الضيق ، كانت اشجار الكينا الظليلة العملاقة تضفي على الممر عتمة فوق العتمة ووحشة ، انسحبت الى الدرب التي اتخذها الرعاة لاغنامهم ، وعبرت الكينا ، فاشرفت على الطريق الواسع الذي انارته السماء بضياء شفيف ازرق .
اختفت خنسة من الوادي مدفوعة بخجلها من مرجان المجنون العاري ، واصبحت غيابات مرجان المتقطعة امرا عاديا ، وتراوحت المرات التي يظهر بها ما بين عري او لباس ممزق يكشف اكثر مما يستر ، تداول الناس اختفاء خنسة بقصص مختلفة ، لم تذهب واحدة منها الى
النية الحسنة ، ثم تناسى الناس قصتها ، لكن بقيت قصة مرجان ، وظهوره المتقطع ناقوسا يدق
ليذكر الناس بعاقبة من يجتاز حده ، ولا يقدر قدرته ، وبقيت قصته تاريخا يؤرخ به .

(4 )
للصمت معنى ...
شيء ما ينمي الخوف في الجبل ..
النهر كخيط رخو ..لكنه لامع كالفضة ..
التغير في كل شيء سنة الله في الكون .. سبحانه يغير من حال الى حال .. واضافت بعد صمت ولا يتغير ، مجت نفسا طويلا من الغليون .. فلمع راسه وتوهج ثم خبى . استندت من الاتكاء ،
سحبت المسند ووضعته تحت ركبتها ، عدلت جلستها ، السكينة وقت الظهيرة في الوادي ، كانها الموت ، الارض خارج الاكواخ نار ملتهبة .
دس كساب ضمة من القيصوم في النقرة ، وقرب الدلة النحاسية من الجمر ، زحف راجعا بجانب الدرويشة ، دس راسه في حضنها ، اشتم نفسا عميقا ، دائما كان يعلق رائحة ( الدرويشة خضرا) اجمل رائحة في الوادي ، تعمدت ان تنفث دخان الغليون في راسه مداعبة ،تضوعت رائحة القهوة زكية منعشة ، زحف مقتربا من الزاوية ، اخذ الدلة وعاد ، صب فنجانا كبيرا للدرويشة وقدمه ، وصب آخر وعاد الى صدر الكوخ ، اتكأ على مسند القش وتمدد ، سمع رشفة القهوة ،استدار و تأوه ..فبان الحصن الحصين معلقا في صدره ، فألقت الدرويشة السبحة الالفية ، فعرف انها انتهت من ورد الصباح ، آثار الخدوش بارزة ، اختلس نظرة الى وجهها ، قرأ ملامحها عرف ما يدور في عقلها وبشيء من الانكسار :
- اعرف لغة الصمت .. استطيع ان أتهجأ افكارك . ثم غير من نبرة الصوت وبهدوء تابع :
- ثمة من يراقبني .. ثمة من يسحبني الى القمة .. لم اصل بعد .. لكنني احاول ..
الدرويشة تمج مجات متتالية من الغليون .. بان وجهها من خلف غلالة الدخان ظبابي مطموس المعالم ، هنا تكمن الصعوبة ،همس كساب في سره كيف سأسبر غورها اقرأ ملامحها .. هنا تكمن الصعوبة .. عدل من جلسته وقال بما يشبه الشكوى بهمس :
- انا لست وحدي .. متبوع .. ثم بنبرة اعلى وبما يوحي بالثقة :
- يعني متبوع .
تسربت حزمة من الشعاع الى المجلس عبر الشق الفاصل ما بين الباب والجدار فكون هباء من النور المركز على صفحة العجوز ، بسرعة استرق النظر ، قرأ الحزن .. شاهد الوجد
فعرف ماتبقى ..
اراد ان يشرح .. وقبل ان يشرع سعلت الدرويشة ، والقت بالغليون امامها .. هي تمج من الغليون .. وتنفث الدخان ...الى ان تسعل .. عند اول السعال ..تلقي بالغليون امامها ...
قالت بصوت ثقيل كأنها تتابع حديثا سابقا :
- لا يسكن الجبل الا جني او شيطان رجيم ( نفثت في صدرها ثلاث مرات ) وهزت جلبابها المطرز . صمتت للحظة بلعت ريقها ثم بتراجع :
- او ملك سلطانا ، او حلت به بركة ، او ... سكتت فجأة . سحب كساب غليون الدرويشة ،
ودس فيه حفنة من الهيشي الجاف ، وضع على رأسه جمرة ، اخذ نفسا ، فتوهج التبغ على الرأس ، قدمه للدرويشة ، الصامتة ، وبلا مقدمات ودنما ان ينظر اليها ، كانه يتجنب سهاما نارية
لوح بيده وقال بما يشبه الهمس :
ثمة اصوات تغلي في داخلي ، خوف يظللني ، والرهبة تطبق علي من كل مكان ، انت تخافين علي ، وانا اعرف اني مرهون لشيء غير القاع ، نظري معلق بالقمة ، بالباب الحجري الاسود ،
بالتحليق ، كانت الحضرة البداية ، والصعود لن يكون النهاية ، قلبي معلق بهوى القمة ، هناك عندما اصعد ، ارتقي ، اتنفس ، اتعطر ، اخلص الى نفسي ، اتجرد من الوادي ، اترك السفح ، انسى القاع، من عرف القمة ، لن تستهوية المنحدرات ، لن يرضى بالقاع .
تنفث الدرويشة دخان غليونها الطويل : تفك ربطة الشنبر عن رأسها ، تتهدل خصلة مخضبة بالحناء ، حمراء يتخللها الشيب .دون التفات :
- من اين لك كل هذا ...
-
- هذا لا يكون من صغير مثلك ... لا بد من زيارة الشيخ ...
- وهدان ؟
- هذا شيخك .. فلا يليق ان تذكره بغير احترام ....
- سيدي وهدان ؟... سيدي وهدان .. و لا يهمك .
- الناس مقامات يا كساب .. سيدي وهدان احنا دخيل جدو .. هذا على جد يا ولد ..
الم ترى كيف فعل الحصن الحصين فعله معك .. انه يحميك .. يرعاك .
- الله هو الحامي .
- والنعم بالله .. لكن للشيوخ كرامات ..
- يصمت .. في محاولة لقطع الطريق على الدرويشة ، قبل ان تسهب في الحديث عن الكرامات التي منحها الله للشيخ وهدان . وقبل ان يشرع بالحديث عن اطماع الشيخ وهدان والكلام الذي يدور في الوادي ، والذي لا يمكن ان تصدقه الدرويشة .
استدارت الدرويشة ، امسكت بالدلة وسكبت فنجانا من القهوة ، وتمددت على البساط المزركش .
سبح كساب في الخيال ، تعالت في الخارج اصوات شتى ، ابرز ما ييمزها ثغاء الاغنام ،
الرعاة يسوقونها الى السفح ، مرورا بالمقبرة ، ذات الحجارة البيضاء ، اعتاد الناس في الوادي ان يدهنوا شواهد القبور بالشيد ، الاسلاف دفنوا امواتهم في الكهوف ، وفي السفح ،
وعلى امتداد الجبل ، كان العجب كيف تمكنوا من تسلق الجبل العظيم ، كيف وصلوا الى القمة ، ليس القمة الاولى ، بل تجاوزوها الى الكهف الاسود ، ثم الى سلسلة الكهوف في القمم المتتابعة السامقة الغائبة في الضباب .
ابتعد كثيرا عن العجوز ، جدف بعيدا ، غرق ، تلاشت رائحة الغليون ، رحل بعيدا عن الكوخ ، اسدلت ستارة كثيفةخلفة ، بات الافق امامه ممتدا بعيدا صافيا ، المساحة الخضراء ، خضراء يانعة ممتدة ، رأى الاسلاف يتقاطرون من اتجاهات شتى .
في البداية ظن انهم يحتفلون ، مظاهر الاحتفال بادية ، الالوان المزركشة ، الاقنعة الملونة ، الشعور الطويلة المصبوغة ، عازف البوق ، وظارب الطبل ، ثمة اصوت لكنها بعيدة ، ارهف السمع ، الاصوات اصوات النشيد في الحضرة ، لكن غير مفهومة ، الحزن بادي في اللحن الشجي ، ثمة من يبكي ..
دقق النظر هن نساء .. ربما رجال .. او نساء ورجال .. ثمة صف من الاطفال في الخلف ، يقودهم شيخ ذو لحية بيضاء طويلة .. فرك كساب ذقنة ..تذكر الشيخ .. هو ذاته الشيخ الذي لاقاه عند البوابة الحجرية السوداء .. هو من فتح له الباب ، قاده الى الهليز الضيق ، تركه عند بداية الانفراج الواسع للمر ، ابتسم الابتسامة ذاتها ، لوح بيده واختفى ، كأنه لم يكن ، ابتهج ثمة من يعرفه في هذا الجمع ، تلاقت عيناهما ، ابتسم الشيخ ولمعت عيناه ، رد كساب بابتسامة مماثلة ، العجوز غرقت في بحر النوم ، كانت في الايام الماضية قد تغيرت عادتها كثيرا .. اصبحت تنام كثيرا ..
من فم الوادي الاوسع ، عبر الفوج الاول .. بطيئا ، تبعه الفوج الثاني ، في الوسط ثلة من الشباب بلباس ذهبي بهي ، يحملون على اكتافهم ، احدهم ، بلباسه الذهبي البهي ، ببطىء يمشون ، تبعهم مجموعة اخرى من الناس لكن بلباس مزركش ملون بهي ، لحقت بهم مجموعة الاطفال يقودهم الشيخ الجليل.
كان الفوج الاول قد وصل سفح الجبل ، فوج الاطفال تجاوز النهر ، اخذ الفوج الاول يصعد
الجبل ، لكن بخطوات سريعة ، كانها العدو ، ما ان يصعد فوج حتى يتبعه الفوج التالي حتى صعد الاطفال ، كان الفوج الاول قد تلاشى في الارتقاء ، الى ان اختفى اخر فوج من الاطفال في القمة ، ولفهم الضباب .
عاد الى الكوخ ، يغرق بالعرق ، يرتجف من البرد ، وقشعريرة تجتاحه ، كاد يتجمد من البرد
تململت العجوز على الصوت ، دس رأسه في حجرها ، طوقته بيدها ، اظفت عليه الفروة بجانبها ، مسحت جبينه ، وشرعت تتمتم .
همست في اذنه :
هم ؟
اومى بعينه أن نعم .
همهمت : آه .. يا خوفي .. ما سلك طريقهم احد ونجا..
شرعت تقراء آية الكرسي ، والمعوذات . تاهت في الورد ، نام كساب عميقا ، الدرويشة تدرك انه سينام عميقا طويلا ، دست تحت رأسه الدراعية بعد ان طوتها ، انسحبت الى النقرة وابعدت الدلة ، لاذت الى الزاوية ، اخذت صرة من العدل ، اخرجت منها طاسة الرعبة النحاسية ، ذات الزخارف الكتابية الغائرة ، سكبت من الروايا قليلا من الماء ، قرأت ما تيسر لها ، تمتمت بتمائم ، وضعتها جانبا .. وراحت تنتظر ان يعود كساب من رحلة النوم ... ليشرب ماء طاسة الرعبة .
ادركت الدرويشة انها بكل طلسمها وتمائمها وخرزاتها وحرزها لن تمنع امرا هو ما تخافه وتهابه وتعمل حسابه ، منذ ان سقط السقطة الاولى قرب المعصرة الرومية القديمة ، تتذكر
ذلك اليوم ، عاد يرتجف ، بقي في فراشه ايام ، لم يبرح الكوخ ، ينام كالميت ، يغرق بالعرق
يرتجف من البرد ، تلفه في الفروة الكبيرة ، رواد الحضرة نصحوها برش الاثر ، بعضهم نصحها بزيارة الشيخ وهدان في الزاوية ، قرب سيدي ابو عبيدة ، وما ان غادروا الكوخ ،
نهضت ، اخذت بقايا القمح والشعير والحلقوم والكعيكبان والمخشرم ، رشت فوقهما عطرا
وقليلا من الماء ، اضافت الملح ، وقصت خصلة من شعر كساب الغائب في النوم ، وقطعة من ثوبه ، وضعت المكونات كلها في قصعة كبيرة ، انتظرت الى ان يحين موعد الغروب ، بين المغرب والعشاء ، بداية العتمة ، احكمت الملفع حول رأسها ، لفت وجهها ، بالمنديل القدسي المزركش ، وخرجت وهي تتمتم تدب منحنية على المحجان الخشبي المعكوف من الاعلى .
لبد الغيم الاسود تنذر بالمطر ، السماء تتهيىء لموسم الليل والعتمة ، بعد ان انسحبت ذات
الاشعة الذهبية الى الجانب الاخر ، الريح تصفر ، الوادي خال ، القاع مقفر ، السفح موحش
ارتقت القنطرة ، سمعت صوت خرير الماء ، نظرت الى السيل الهزيل ، لم يكن ثمة صوت
للماء ، نظرت صوب السفح ، كان بيت صبح الغانم بحجارته السود يغرق في عتمة السفح الموحشة ، راودتها الافكار حول ما اشيع عن بيت صبح الغانم ، الذي بني فوق منبع النهر ، وما يردده الناس في الوادي ، من ان النهر يجري من البيت تحت الجبل ، ويصدر هذا الصوت الذي يشبه الخرير عندما يسكن الوادي ويهدء القاع .
تحصنت بالتعاويذ الموروثة ، قرات بعض وردها ، تذكرت دعاء الهلع والخوف ، وصلت السفح ، كانت المعصرة الرومية على يمينها ، استدارت ، وقفت قبالتها ، حسمت امرها ،
هنا سقط كساب ، هنا يجب ان يكون مكان الرش ، وتحسبا لعدم الخطأ وسعت دائرة الرش ، اخذت تضع يدها في القصعة وترش الارض وهي تردد مستعطفة سكان الجبل ، اهل الظلمات ، اهل الخفاء :
يا سامعين الصوت صلوا على النبي
اولكم محمد .. ثانيكم علي ثالتكم فاطمة بنت النبي
يا مين سمع ؟ يا مين شاف ؟ يا مين رأى ؟
يا مين حس يا مين دس يا مين ضر كساب بن
عشبة؟ .
اخذت تنثر بيدها من القصعة وهي تتابع :
هذا عشاء عيالكم وهذا شعر خيلكم
هذا عطر نسوانكم وهذا عليج خيلكم *( يقلب الصقور القاف جيم احيانا )

وهج الجمر في النقرة ، يتوهج ، كخفقات قلب ضعيف كلما هبت نسمة من شقوق الباب قرب الزاوية ، فتتضوع معه رائحة بقايا البخور، رحل كساب في النوم بعيدا ، تأوه بشكل فاجع ، حبت الدرويشة حبوا نحوه ، تحسست رأسه ذو الشعر الكثيف غارقا ببحر من العرق ، السخونة تحرقه من الخارج الى الداخل ومن الداخل الى الخارج ، عادت الى الزاوية ، سكبت الماء من الروايا في قصعة عميقة ، بصقت فيها ثلاثة مرات ، تمتمت وقرات ، تثأبت ، ( من عادتها حينما تقرأ الورد او المصحف ان تتثاءب وكان ذلك لازمة للعلاج ).
عادت ، اخذت تسكب الماء وتمسح جيهته ، اخذ يستفيق ، اشتم رائحة الدرويشة المميزة العبقة بمزيج فريد من الروائح الزكية دائما ، فتح عينيه ، ابتسم ، ابتسمت ، كانت هذه طريقة المسامحة المألوفة بينهما ، أخت طاسة الرعبة رفعت رأسه بيدها وقالت بصيغة الامر ومن يعرف ان الاخر قد يرفض كالعادة ، لكن هذه المرة استجاب دونما اي مقاومة شرب ،
وحمد الله . فقبلته بين عينيه ، فاستنشق الرائحة بعمق عن قصد حتى تشربتها اوردته وشراينه وحبسها في اعماقه.
البداية
(5 )
بيت صبح الغانم
سلسة من الجبال الترابية الداكنة تقف امام سلسة صخرية سوداء ذات ارتفاعات وقمم مختلفة ، آخر السفح يمتد مجرى نهري صغير ، يتلوى كحبل رخو ، ثم ينزوي خلف انحناءة قوية ، تناثرت اكواخ من الصفيح المتآكل الضارب الى اللون البني ، ليس من السهل تميزها عن بعضها بعض الاكواخ كانت من القصب المجلل بالخيش ، اكواخ كابية توحي بالبؤس والشقاء ، على السفح الاخضر المعشوشب ، خلف سرب من اشجار الحورتقف بجلال تحفه الرهبة ، كما يحفه الغموض، القلعة ، كما يطيب لسكان الوادي ا ن يسموها ، قلعة ذات حجارة سوداء بازلتية منحوتة بدقة متناهية ، مكونة من طابق واحد ، محروسة ببرجين كبيرين ،لهما كوى صغيرة عالية بحافة مسننة مستديرة ، البعض كان يطلق عليه بيت صبح الغانم ، قلة كانوا يفضلون اسم
قصر السلطان .
على حجر ابيض كبير بشكل مستطيل فوق قنطرة كتب بخط نافر :
( غلال خانة ، بأمر مولانا السلطان وتلاشت بعض الحروف وبقي الاسم مشوها ، وتاريخ محذوف جزء منه وبقي عام الف وثمانمـ.........) ولعل هذا ما اشار الى حقبة معينة ، وسبب
التسمية بـ بقصر السلطان ...
احد كبر المعمرين بالوادي ، صالح الوهر ، يسكن كوخا في اطراف الوادي ، على السفح المقابل لسفح صبح الغانم ، لا يذكر شيأ له قيمة بالنسبة للبيت ، لكن كل ما كان يقوله انه اول من سكن الوادي ، وهو اول من بنى فيه بيتا ، قرب الكهف المجوف ، ويشير بحسرة الى الكهف :
- كان في اخر الكهف نبعة ما ء ، لاتزيد ولا تنقص ، كنا نشرب منها ونسقي الدواب ، قبل ان تجف مع جفاف الوادي كله .
اذا سأله احد : من اول من سكن الوادي ؟
يجيب على الفور:
ليس صبح الغانم على اي حال ، اول من سكن الوادي انا ، كانت القلعة مخفية خلف الاشجار ، حتى لم اكن اعرف ان هناك ثمة قلعة الا بعد زمن ، ولو عرفت ما سكنتها ، انها للحكومة ...
ينحسر الشماغ عن رأسة الاصلع ، يعدله ، بيد معروق جافة كجذع شجرة ، توحي بماضي قوي وجسم ضخم ، يدس يده تجت غطاء الرأس ويهرش رأسه ، بانت على ضؤالقنديل صفحة وجهه
المجدور الذي اعتاد ان يخفيه بالكوفية صيفا وشتاء ، تابع السرد بلا اهتمام :
- عندما اخذ الناس يتوافدون على الوادي ، ويبنون بيوتهم على مجرى النهر ، كانوا يسعون ان يكونوا بالقرب من الماء ... ضحك ، ثم اردف :
والسمك ... صمت لحظة هرش رأسه ثم تابع :
وعندما جفت العين زعمو ان الحفر عليها قد يعيد الماء اليها ... يصمت .. يتابع بأنكسار :
كم تعبنا في الحفر ، حتى ما تراه اليوم من عمق للمغارة ليس العمق الحقيقي .. بل هو ما حفرناه
بما تيسر لنا من ادوات ..يصمت ... تمر لحظات حتى كأنه كف عن البوح ..كنا نحفر باستماتة ليلا ونهارا .. فريق يحفر وأخر يستريح .. يمد يده يشهر اصبع الشاهد ويشير الى الخارج حيث هضبة صغيرة بالقرب من السفح ..يتنفس بعمق ثم يزفر وفجأة :
هل ترى ذلك التل الصغير .. انه ما اخرجناه من تراب من المغارة . اخرجناه وما خرج الماء جفت العين ويبست ... حفرنا ليل نهار ، حملنا التراب على اكتافنا ، واخذنا نكومه هناك واشار بيده ، دون عينه ، التي نقرها الجدري ، وكل من سمع بالحفر زعم اننا نبحث عن الذهب ، بل راح البعض يروج اننا وجدنا الذهب ولكن لاننا لم نقدم القرابين للجن صار الذهب تراب ، كما ترى ذلك التل . ثم صمت كأنه نام .
صوت نهيق الحمار في الخارج ، اشارة معروفة معتادة ، تشير الى عودة الابن الاكبر لصالح الوهر ، جمعة ، يعود مع المساء ، من البساتين.. بربط الدابة تسرع شهلة تنزل الخرج والحلس ، وتصب الماء في الران وتغرف التبن من البرميل المجاور وتضعه في المذود امام الحمار ، تنسحب الى الكوخ وتمارس عملها اليومي المعتاد بعد عودة جمعة .

بعض القصص حول القلعة ، ان البيت ، القلعة ، بقايا قرية عثمانية ، تهدمت يوم الزلزال العظيم واختفت تحت الارض ، لكن بقيت القلعة لانها الاكبر ، ومما تردده الاشاعات ان البيت مسكون بالجن الذي حكمه صبح الغانم وزوجته ، وسخراه لخدمتهم ، فهم لا يعملون ولا يخالطون الناس ولا يتعاملون معهم ، ولعلهم لا يأكلون او يشربون ، فهم لا يزرعون الارض ولا يربون الدواب ، ولا يخرجون ، او ان لديهم ما يكفيهم مؤنة الخروج والعمل ، وهذا قاد خيال البعض الى
ان القلعة كانت مخزنا لغلال الحكومة العثمانية ، ففيها دهاليز واقبية ومخازن ومستودعات تحت الارض ، كما ان النهر يصب في بئر كبيرة تحت القلعة وهذا كله يكفيهم مؤنة حياتهم وحياة اولادهم واولاد اولادهم ، فضلا عن الذهب العثماني الذي كان مفونا في القلعة بعد انهيار الدولة العثمانية على امل العودة لاحقا .. لكن هذا الامر لم يتم .
ومما دعم الاشاعات ، واعطى للقصص المصداقية عند اهل الوادي ان صبح الغانم وعياله لم يبادروا الى علاقة مع اهل الوادي ، ولم يرحبوا بأي علاقة ، بل حتى ان رؤيتهم خارج القلعة كانت محدودة جدا ، ويضيف بعض العارفين من المراقبين لهم انهم لم يحظوا بزيارة ضيف او قريب او حتى عابر سبيل ، ويضيف واصفا اياهم :
انهم من الجن والله اعلم .
لكن جميع سكان الوادي يجمعون على ان الوحيدة التي زارتهم ولم يبادروا الى رد زيارتها كما جرت العادة بين اهل القاع هي الدرويشة ، ويصف الناس هذه العلاقة بين الدرويشة وسكان القلعة :
لا يستطيع احد ان يرد الدرويشة ( احنا دخل جدها ) ولا ان يزعلها ( والله تلوك نيعه ) الا ان الدرويشة لم تبادر الى الحديث عن القلعة او سكانها مما اكسبها احترام الجميع ، فكانت ترد على اي سؤال :
هو شو.. بيت زي باقي البيوت .. بس من الحجر .. المهم السترة ..
واعتاد الناس ان لا يردوا بعد هذا الجواب المقتصد الكافي .. لكن بعد ان يذهب الناس من مجلسها
تأخذ باستعراض القلعة كانها صور سينمائية لكن بلا حسد او حسرة فما ملأ قلبها اكبر من كل الدنيا ( هكذا كانت ترد على كساب عندما تقرأ في عينيه البريق ) فلا يملك عندها الا ان يقول كالعادة : الحمد لله . عندها تأخده بحجرها وتقبله .. فينعم بلحظة الشم الحميمة .
ويغفو على تمتمتها ، وتثائبها ، ثم اخيرا يصحو على نشيجها المر .
عندما كبر والتحا بلحية غزاها الشيب مبكرا ، وسلك دروب العارفين ( كما يسميهم الشيخ الكبير صاحب الحضرة العلية ) يتذكر ان العجوز كانت تتقن فنون النواح ، فلكل مقام مقال عندها ، فهي
تدرك هذا .
تنوح بشعر يتفطر له القلب حزنا ، بلحن شجي حزين ، لا يغرق صاحبه بالحزن فقط بل يدفع لآخرين الى البكاء واستحضار من ماتوا من الاحبة ، فهي باكية عز نظيرها تثير البواكيا ، ولو كانوا قساة القلوب .
ولعل هذا أحد العوامل الذي جعل من بيتها قبلة لنساء الوادي ، بل انهن كن يتخذن من هيئة الحضرة يومي الخميس والاثنين حجة للتوغل في طقوس من البكاء المنظم ، تبكي العجوز بعد ان تدخل قلب الحضرة ، تنظم القصيد لعباقرة الرثاء ومن نظمها ، بصوت نواح ، تردد من بعدها النسوة ، فلا ينتهين الا وقد جفت مأقيهن ، وانهكت حناجرهن ، وذبلت جفونهن ، وتعبت ايديهن ،
فيتكأن على البسط ، فيذهبن في غفوة لا تطول قبل أن يتفرقن .. ومما يلفت الانتباه أن بعضهن
يقبلن يد العجوز .



#محمود_المصلح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حوسبة التعليم .. قيم جديدة .. تحديات كبيرة
- شاشات ...
- التربية المرورية
- الالحاد ... والتدين .. نظرة من الخارج
- التعليم أم التجهيل
- واتشافيزاه ..........
- الفردية
- الجيرنكا............... غزة ....... أين بيكاسو؟؟؟.....


المزيد.....




- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود المصلح - الفصل الاول من رواية صوت الجبل