أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سالم العوكلي - لا بد من الجلوس خلف المقود المجتمع المدني والعلمانية















المزيد.....


لا بد من الجلوس خلف المقود المجتمع المدني والعلمانية


سالم العوكلي

الحوار المتمدن-العدد: 2539 - 2009 / 1 / 27 - 08:12
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


يدور الحديث دائما عن المجتمع المدني باعتباره جوهراً للإصلاح السياسي ومضموناً مؤسسياً للديمقراطية ، والحديث عن المجتمع المدني يتطرق غالباً إلى مكوناته المتمثلة في المؤسسات الأهلية وبعض النظم التشريعية والإدارية التي تعطي حس المبادرة والمشاركة لأكبر قطاع من الناس في العملية السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وفي ظاهرها تبدو هذه المطالب شرعية وحضارية ، لكن كونها مطالب وكفى هو أساس الأزمة والارتباك الذي نقع فيه ، فثمة أمور عديدة فرضت نفسها عبر التاريخ والحراك الاجتماعي والإعداد الثقافي لها، ولم تكن مجرد مطالب بقدر ما هي نتاج طبيعي لنضج الواقع الاجتماعي ولتطور أنساق علاقات الإنتاج ومن ثم تهيئة الذهنية لمثل هذه النتاجات التاريخية والسيكولوجية المتوافقة مع معطياتها الجديدة .. نطالب بكل هذه المكونات بتفاؤل نحسد عليه ، وكأن الأرضية مؤهلة لهذه الروشتة الشافية من كل أمراض النظم الشمولية ، وكأن مشروعنا التنويري كان ناجحاً واستطاع أن يعد المناخ لمثل هذه المباني الديمقراطية كي تفعل فعلها .
بداية سأقول جازماً ـ لأنني حتى الآن على الأقل لا أرى غير ذلك ـ إن الديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان ، كلها دون مواربة نتاج للحداثة بمعناها الاصطلاحي ، وإن الحداثة مع تشابك تعريفات وتعدد طرق تحليلها تمثلت في محورين أساسيين ( الحريات والذاتانية ) .
وسأقول أيضاً ـ بغض النظر عن اليوتوبيات المطروحة عبر تاريخ الاجتهاد الإنساني كمشاريع للسعادة الإنسانية المطلقة ، والتي ترسم العودة إلى الفردوس الإنساني المفقود ، بأطروحات المطاف الأخير للصراع الإنساني ونهاية التاريخ وانتصار الخير الحتمي ، من أفلاطون إلى هيجل ـ ماركس ـ ماو ـ فوكوياما .. الخ ـ سأقول دون مواربة أيضاً : إن التجربة التاريخية في الممارسة الديمقراطية تؤكد صراحة ، أنه لا يمكن أن توجد ديمقراطية إلا في ظل مجتمع مدني ، ولا يقوم مجتمع مدني إلا في ظل مجتمع علماني ( يبدو من الغريب هنا الحديث عن الديمقراطية بهذه الإطلاقية أو بلغة غير ديمقراطية ، وهو منحى يعكس إلى حد ما أزمة ثقافتنا وأنا لست بمعزل عن هذا الإرث اللغوي والفكري ، ولكن ما يشفع لي هو كوني أحاول أن أعطي هنا وجهات نظر إجرائية ، وفي الوقت نفسه أحاول التقاط أحكامي من ما آلت إليه التجارب التاريخية ، وما نلمسه في تفاوت الواقع الإنساني الراهن الذي بالتأكيد وراءه عوامل مركبه ومعقدة ، غير أننا باعتبارنا ضمن الحداثة الإنسانية ولو بكوننا مستهلكين أو مستمتعين بنتاجها ، ملزم علينا بشكل أخلاقي أن نكون أيضاً ضمن سياقها الثقافي والفكري والسياسي ، متحاشين محاولات الغربلة المستحيلة التي نرنو من خلالها إلى التمتع بالثورة التقنية دون التورط فيما أفرزته من قيم وعلاقات جديدة، بالتأكيد أهمها الديمقراطية وحقوق الإنسان التي نهضت على أرضية العلمنة لتلك المجتمعات) وبعد هذا الفاصل التبريري الذي لابد منه ، سأسأل دون مواربة أيضاً : هل ثمة مجتمع إسلامي ديمقراطي بما تعنيه الكلمة حتى الآن ، يتداول السلطة ومتعدد ، وفوق ذلك مستقر دون نزاعات دينية أو إثنية أو سجناء رأي ، من موريتانيا إلى إندونيسيا ، سؤال أترك الإجابة عنه عبر متابعة نشرات الأخبار اليومية، وهذا بدوره سيقودنا إلى مصادرة تضعنا من جديد صميم مسألة الدجاجة والبيضة ، فأقول إن كل المباني الديمقراطية المنشودة لا يكفي أن تتواجد على الأرض بلافتاتها البراقة أو على ورق التعاقد الاجتماعي ، لكن لابد لها أن تبنى في العقل أولاً .
العقل الذي قرر في أكثر لحظات عزلته وحيرته أن يكف عن النظر إلى السماء وينزاح إلى الأسفل.. العقل الذي لا تحركه قوى اللاوعي الجماعي والخرافة والوجديات الأسطورية الممعنة في التضليل .. العقل الذي لا يكتفي بالدعاء كل جمعة ( ربنا لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا ) العقل الواثق بقدرات الإنسان بمعزل عن جماعته الدينية التي مازالت تذهب إلى صلاة الاستسقاء رغم توقعات الأرصاد الجوية الدقيقة ، العقل الذي لا يتشفى في الآخرين ، معتبراً الزلازل والعواصف والفيضانات عقاباً من الله إذا مست الكفرة ، وامتحاناً منه إذا مست المسلمين ، العقل المأخوذ بانتظار المهدي أو الزعيم المخلص الأوحد ، وأننا خير أمة أخرجت للناس حتى وهي تتمرغ في الوحل ، العقل اللائذ بالكسل والمستمتع أي استمتاع بالحكم على الأشياء قبل فهمها ، وأن كل شئ مفصل تفصيلا ، وليس في الإمكان أبدع مما كان ، العقل الذي يستورد كل رفاهيته ، وأدويته ، وتقنيته ، ومسبحاته ،ومكيفاته ومكبرات صوت الآذان واللقاحات ، يستورد كل ذلك من أناس يعتقد دون ذرة شك بأنهم في النار ، العقل الذي يسبح في مناهج تعليمية تعبوية تؤكد له أن الآخر كافر وعدو حتى يثبت براءته ، وإن عنترة العبسي والمهلهل أهم من ابن رشد وابن خلدون .. العقل الذي يعتبر الخرافة أكثر حضوراً من الحياة اليومية ، والأسطورة أكثر حضوراً من التاريخ .. العقل الذي يستورد من الغرب أنظمة السجون وأدوات التعذيب وسيارات المطاردة البوليسية ويعتبر حقوق الإنسان والديمقراطية والمجتمع المدني نتاجات غربية لا تناسبنا .. العقل المشحون بوعي نرجسي متكبر وعند الهزيمة يتحول إلى وعي عدواني.. العقل الذي هو باختصار مازال في مرحلة ما قبل الحداثة رغم انه ضمن جسد يستمتع بكرنفال الحداثة .. عقل انفعالي مبني على الحدس وردود الأفعال .. وبالحصيلة هو عقل لا علمي يجتاز عصراً محركه العلم .
تقول آلان تورين في كتابها نقد الحداثة : لا حداثة دون تكون ذات في العالم تحس بمسؤوليتها إزاء نفسها والمجتمع ) العقلنة وإضفاء الذات يظهران في الوقت نفسه مثل النهضة والإصلاح ، ثمة جدل لا يمكن تجاوزه بين اختراق العقل للبنى القبْلية وبين اكتشاف الإنسان لذاته المستقلة التي منها يتشكل المجتمع والأمة والإنسانية، فالتفاعل بين الذات كمعطى إنساني منزوع عن سياقاته الدوغمائية ، والعقل كأداة منهجية لفهم العالم والتاريخ ، وإدراج الأسئلة الوجودية في صميم الثقافة والوجدان ، من شأنه أن يبلور مفهوماً حديثاً للآخر ، وبالتالي جوهر الحوار الذي عليه نبني قدرتنا على التعدد والتجاور والتسامح ، محددات السلوك الديمقراطي الذي يتأصل في الذات الإنسانية ، ومنها ينطلق إلى المؤسسة والتشريع .
الذات الموكلة للآخرين والمذابة في محاليل ورثتها ولم تخترها ، دينية أو قبلية أو عرقية ، تتخلى عن كونها ذاتاً مستقلة ، وتدخل في حالة إدماج جماعي يجعلها جزءاً من حالة تعصب عمياء منكِرة بطبيعتها للاختلاف والحوار، وبالتالي فهي تلوذ بحماية الجماعة لأنها جزء من لحمتها ، فالقانون من أجل الذات المستقلة ، والعرف من أجل الذات الذائبة في القبيلة ، وما بين هذا وذاك مسافة شاسعة يتحقق فيها مصير ومصداقية مقولات مثل المجتمع المدني وحقوق الإنسان ، وهذه المسافة هي التي تربك أيضاً مفهوم وفعالية نصوص حقوق الإنسان لدينا ، باعتبارنا نناقش دوما كلمة حقوق الأولى ، ولم نلتفت إلى الكلمة الثانية : إنسان ، هل حقاً لدينا إنسان فعلاً إذا ما تجاوزنا التعريف الوصفي والبيولوجي له ؟ الإنسان ذات مستقلة وإذا ما ذابت في أي مفهوم للقطيع فهي منقطعة عن وجودها الإنساني ، وهذا ما يفسر توافق منجزنا في حقوق الإنسان مع منجز المجتمعات الأخرى في الرفق بالحيوان ، إنها وقفت لدينا كمطالب عند تحسين وضع السجون وعدم الضرب والتعذيب، ومنع ذبح الإناث، وإدانة الإبادة الجماعية خوفاً من الانقراض ، ولا مشروع لباقي الحريات ، كحرية التعبير واختفاء الرقابة، والمساهمة السياسية وغيرها من المطالب التي يختلف فيها الإنسان عن الحيوان .
يقر ويبر (نقد الحداثة) : بأن روح الرأسمالية تقوم لا على الانتقال من الزهد إلى إرادة التملك والاستهلاك ، بل العكس ، على الانتقال من زهد خارج العالم إلى زهد في العالم ، وبالتالي إلى استبطان الحركة التي بها يتحول الفرد إلى ذات لها الحق في تقرير كيانها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ) الذات الزاهدة في العالم من حقها أن تنتهك مسلماته وقوالبه الجاهزة وان تكون فوق مقدساته ، وفوق ذلك بقدر ما هي تشكل نسيج المجتمع بقدر ما هي ناتئة ومفصولة بحدود تنبع من طبيعة الثقافة وتضمنها مجموعة من القوانين والتشريعات المنطلقة من حقيقة كينونتها الخاصة .
فهل بإمكاننا أن ندعي أن تلك الذات قد تم اكتشافها وإنجازها داخل مجتمعنا الذي مازال شغوفاً بالتجريد والتعميم. إن التضحية بالذات على مذبح الكتل الهلامية أصبح لدينا طقساً أخلاقياً وبطولة ، وليس أدل على ذلك من الشعارات التي نهتف بها والتي تكاد مفردة الموت تشكل أكثر من تسعين بالمائة منها ، الموت من أجل ماذا ومن؟ لن نعرف أبداً .. صار الوطن أهم من المواطن ، والإنسانية أهم من الإنسان ، والرمال أهم من الدماء ، والاستقرار أهم من الحرية، والانفتاح استلاباً ، والفشل مؤامرة ، والآخر عدواً متآمراً حتى يثبت براءته، والمستقبل ضوءاً بعيداً علينا أن نسير إليه مغمضي العيون ، والقبيلة جسد ملتبس تتخلى فيه الأجساد المفردة عن حدودها ( ما أنا إلا من غزية ) وتغدو لبنة في بنيان مرصوص ، لا ملامح له .
ومن هذا المنطلق ، الذي ينبعث من افتراضات قاسية ، ولكن لا مناص من ذلك ، فحتى في الطب لا يخلو التشخيص من وسائل قاسية ومؤلمة ، من هذا المنطلق سيبعث سؤالُ الذات سؤالَ الحرية ـ ليس ببعدها المطلق ولكن بشكلها الإجرائي ـ لأن الحرية الجماعية لا تتأتى إلا بذوات حرة .. إطلاق الحريات كان أحد مكونات الحداثة التي لا يهمها الثمن الذي سوف تدفعه من أجل هذه القيمة ـ إنه ثمن زهيد ندفعه على طريق التحرر بدل أثمان باهظة ندفعها على طريق القمع والطغيان ـ الحريات التي تحاصرها مراراً السلطات الاجتماعية والدينية والسياسية ، والتي تدفع بالمجتمع لأن يتربى ضمن تقاليد فيها المحرم أساسي والمباح عرضي .
الحرية المعنية هنا ليست شعاراً متورما ، أو لافتة مرفوعة ضد عدو نتوهمه ونعد له ما استطعنا من قوة ، لكنها الحرية في أدق تفاصيلها المرتبطة بالحياة اليومية ، من الأسرة إلى الفصل إلى الشارع إلى المجتمع برمته .. ترويض الضرورات الأمنية التي بحجتها يصبح القمع مسألة وطنية ، وحضور القانون كمنظم لهذا الفيض من الحريات ، وبإنسان يتربى في هكذا مجتمع يمكننا أن نقوى ونحاور الآخر ونعد ما استطعنا من قوة .
ثمة طغيان اجتماعي يخترق حياتنا ، ويصادرها تحت العديد من اللافتات البراقة ، ما هو في الواقع إلا أرضية طبيعية لولادة الطغيان السياسي ، وللموضوع بعده السيكولوجي إضافة إلى كونه ثقافياً .. إننا ننشأ في مجتمع يبجل القهر والتربية القاسية المنطلقة أساساً من جذر ديني مؤول حسب عقل أبوي عاش أساساً تحت نير القمع ..الأسرة عندنا دولة عرشية صغيرة ، صورة الأب فيها تختزل صورة الحاكم التقليدي .. وبهكذا معطيات سيكون الاختلاف والتعددية وقابلية الانتقاد أشياء بعيدة عن متناول هذه الجماعة التي ألغت الذات وهاجسها الفطري في التحرر ، وجعلتها غير قادرة على الحوار والمبادرة وتحسس حدود حقوقها رغم إتخامها بالواجبات .. هذه القيود ذات منشأ ديني تحيل بمجملها نمط التفكير إلى مجرد حدس عام يعتبر الحياة كمعطى واضح ومحدد منذ الأزل ، والأمر مثل ما يحدد شايغان (النفس المبتورة) :(لاشيء في الدين متروك للمصادفة ، ولا شئ خاضع لتقلبات الزمن وحوادث التغيرات وأمزجتها ، كل شئ مفروز ومبرمج ومحفوظ في الألواح منذ الأزمنة العريقة ، إن الدين وممثليه يبعثون الطمأنينة لأنهم يعرفون الجواب ، ولأنهم يدفعون المجهول ، يحصرون المصادفة في منطقة المؤذي وغير الضروري ، ويكتبونها بضوء الخلاص الساطع وصراطه المستقيم .. ) وهكذا في عقل تكون فيه الأسئلة مقلقة ومزعجة تغدو الأجوبة الجاهزة حظوة ونعمة ، ومجتمع الأجوبة الجاهزة جامد وغير قابل للحراك .. مشيح عن عنت الأسئلة الهامة التي باستكناهها يطور حياته أخلاقياً واجتماعياً وتقنياً .. فالدين بنية تسليمية إيمانية وضمير شخصي ، ولابد أن يكون كذلك ، ويكف عن اقتحام الحياة السياسية وتكريس بناها ، وأن يكف عن كونه مرجعية وحيدة لكل متطلبات الحياة المعاصرة التي لن تمضي قدماً إلا بمزيد من الأسئلة والمعالجة والتوق إلى التغيير والتطور ، وهتك ستار المقدس والمحرم .
من هذا المنطلق ستكون العلمنة هي المجال الأكثر استيعاباً لكل قيم التقدم ، بما فيها المجتمع المدني والديمقراطية ، العلمانية المبنية على حراك اجتماعي يثق قبل كل شئ بموقع قدم الإنسان فوق هذا الكوكب ، وبدوره في تطوير الحياة وحل مشكلاتها بغض النظر عن لونه أو دينه أو عرقه أو رأيه مهما كان . وعملياً كانت إرهاصات الحداثة من صنع العلمانيين الذين واجهوا بالبراهين المتراكمة سلطة الإكليروس ، حتى غدت الحداثة قوة محتومة لا جدوى من مقاومتها لأنها تنبع من حاجة أساسية للإنسان في شق طريقه نحو الرقي ، ولأنها لا تنفك تثبت جدواها وحيويتها في وجه الجمود الذي فرضه الدين ، أو بالأحرى طرق التدين الشائعة ، أو كما يقول محمد أركون : (إن العلمنة هي ، أولاً ، وقبل كل شئ إحدى مكتسبات وفتوحات الروح البشرية).
العلمانية موضوع مربك ، فهي ليست محض حالة ثقافية أو تاريخية لها علاقة بآليات التفكير وممارسات العقل ، لا يمكن ضبطها كصيرورة اجتماعية بقدر ما هي إجراء تتخذه النخب السياسية لتصبح واقعا ملموساً ، تعاقدياً وإدارياً أكثر منه نسيجاً حضارياً مثل مقولات كالحداثة والعقل العلمي ، لكنها في الواقع هي تتويج دستوري لكل هذه المقولات المعقدة والمتداخلة ، والتي تحتاج إلى ترتيب تاريخي وثقافي منهجي تقوده النخب المختلفة في المجتمع ، هي ليست كالعقلانية أو النزعة الإنسانية المرتبطة بالظروف التاريخية نفسها ، إنها تقع في منطقة غامضة بين الثقافة والإجراء .. بين الفكر والسياسة ، لذلك ستكون العلمنة أقرب إلى كنه هذه المسألة ، بمعنى أنها تحتاج إضافة إلى الثقافة والتطور العلمي، ستحتاج إلى التشريع الذي يضمن وجودها وممارستها ، هي هنا مثل الديمقراطية ، التي بقدر ما هي نتاج لتطور آليات الصراع الإنساني بقدر ما تحتاج إلى تأسيس بنى إجرائية ملموسة لإيجادها وحمايتها ، تحتاج إلى تشريعات قانونية ودستور واضح يحدد معالمها، إلى مؤسسات شفافة للمجتمع المدني ، وقاعدة للتعاقد بين أطراف المجتمع ، لذلك على النخب السياسية المؤهلة لذلك أن تصوغ دساتيرها العلمانية الملزمة للموطن مؤمناً كان أو غير ذلك ، وعلينا أن نقيم مؤسساتنا التي نتدرب فيها على الأداء الديمقراطي مهما كان محدداً ، فمن الممكن أن يدرس أحدنا في أعلى الأكاديميات ولعدة سنين طرق قيادة السيارات النظرية ، ولكنه في الواقع لن يتعلم القيادة إلا بعد أن يجلس وراء المقود ..
ثمة التباسات كبيرة كرسها الخطاب الديني الذي يصف نفسه بالمتنور ، وهي أن الإسلام لا يتعارض مع العلمانية، وهي أغلوطة كبيرة نرى نتائجها على أرض الواقع ، لأنه ببساطة لا يمكن أن تنجز المستقبل عبر مرجعيات ماضوية ، ولا يمكن أن تحدد طرق الحياة المعاصرة بظلال غيبية يقينية لا تبرهن على معارفها ، وهذه الأغلوطة التي تم تكريسها أفرزت مقولات شائعة في الدول الإسلامية مثل القرآن دستورنا ، والإسلام دين الدولة وغيرها ، وهي ما حدت بالمفكرين الإسلاميين ـ في أكبر مظهر للتلفيق ـ أن يفتشوا عن مظاهر دستورية في القرآن ، مثل : الصلح عند اقتتال فئتين من المسلمين ، العدل في ممارسة الحكم ، واجب الطاعة لولي الأمر ، الردع بالمخلين بالنظام الاجتماعي ، الشورى… وهي مظاهر مبهمة تراهن على ضمير الحاكم أكثر من مراهنتها على المؤسسات التي تراقب ضميره وتحدد صلاحياته وزمن تحمله للمسؤولية ، وتضعه في قلب المساءلة أمام نظام قضائي منفصل ، وهي في المجمل لا تزيد عن كونها لافتات أبتدعها التحالف التاريخي بين السلطتين السياسية والدينية تدغدغ وجدان المجتمع وتعطي الحاكم رهبة كونه مبعوثاً من السماء ، ملهم لا يأتيه الباطل أبداً، وإن السلطان ظل الله في الأرض .
وكما يقول عياض ابن عاشور في كتابه ( الضمير والتشريع ) : ما يروج اليوم من أقوال متعلقة بآيات الشورى، مثل التي رأت فيها دعائم النظام الديمقراطي ، وبذور النظام الاشتراكي وشيئاً من حقوق الإنسان ، فهي تركيب معانينا الظرفية على المعاني الأزلية للكتاب ، وآيات الشورى لا تمت إليها بصلة ولا إلى مفهوم العدل الاستوائي) وهذا الهوس بالتصفيح هو الذي جمد حراكنا التاريخي وجعل مؤسساتنا الدينية هي المنوطة بتقييم أي اجتهاد معاصر وقياسه على النص ، وهو في النهاية الذي كان وراء إخفاق مشروعنا التنويري ، من المصادرة والنفي إلى الذبح ، لقد امتلك النص الديني بدون حقٍ حقَّ أن يكون الذخيرة اللسانية الدائمة ، يغرف منها العقل الاجتماعي رموزه ومصطلحاته ومعانيه في التغيير ، (لنجد في النهاية تاريخ ليبيا الثقافي مثلاً قبل القرن العشرين ما هو إلا تاريخ فقهاء عابرين) . إن الإسلام يتعلمن عبر من يدعون أنهم يعملون على استرجاعه إلى عهده الأول طاهراً وبريئاً من كل شائبة ، هم كلما عارضتهم الحياة يلجئون إلى حجة أن العيب في المسلمين وليس الإسلام ، وكأن الإسلام يعني في الواقع شيئاً آخر غير حركة المسلمين على الأرض منذ بدايته ، ولكن وباختصار شديد لا يمكن لمجتمع مدني أو ديمقراطية أن تكون في برلمان أو قاعة كل رؤوس نسائها مغطاة بالمحارم ، وهذا الخلط هو ما حدا بدولة علمانية عريقة أن تتخذ قراراً جريئاً بمنع ارتداء الرموز الدينية في المدارس ، لأنها لا تريد لتراثها العلماني العريق أن يدنس ، وتأكيدا لمأزقنا الحضاري كان الاعتراض الهستيري من طرف المنابر الإسلامية فقط ، وحتى المثقفون العرب تورطوا في هذه المعارضة بحجة الحرية ، في أكبر مظهر للمزايدة على تقاليد فرنسا في الحرية ، كان هذا القرار يبلور مفهوم المواطنة التي عليها أن تشارك بخصائصها الثقافية والاجتماعية في نسيج المجتمع العلماني ، وعليها أن تقيم طقوس عبادتها في الأمكنة المحددة ، ولا تشهر هذه الرموز كحدود عقائدية في ظل نظام تعليمي علماني ، يسعى إلى التجاور والتعايش في ظل الدستور والقانون فقط ، من هنا يأتي معنى المواطنة ، لأن تكوين المواطن من اصعب شروط الهوية ، فلا هوية دون دولة ولا دولة دون هوية، وفي ظل دولة تستقي كيانها وقوانينها من الدين ونخبته يغدو المواطن عبداً مؤمناً شديد الطاعة لسلطة تأخذ تفويضها من السماء ، والمآل ( مواطنة سلبية أساسها كثرة المطالبة والاستفادة والتعلق الاغترابي بالدولة وهو لب الديمقراطية الغفارية ) كما يقول عياض ابن عاشور.
الالتباس الثاني هو الذريعة التي يقول بها المراوغون كون المجتمعات المتجانسة التي لا تتشكل من أديان وطوائف وأعراق مختلفة لا تحتاج إلى نظام علماني ، وهي ذريعة قاصرة وسطحية لا تعي معنى العلمانية التي في جوهرها تمثل حالة دنيوة للوضع البشري فوق الأرض باعتبارهم أدرى بأمور دنياهم ، وباعتبار الأسئلة المعاصرة المعقدة والمركبة لا يمكن الإجابة عنها بالمعرفة الغيبية ، ولا تفسيرها باللجوء إلى الأساطير ، والعلم يحث خطاه في طريق من البحث الشاق عن إجابات مبرهنة لأزمات الإنسان في كوكبه . ومراقبة مصيره المشترك أمام عوارض الطبيعة والأوبئة والمجاعات .
ثمة التباس آخر جوهري فعل فعله في حالة رفض شبه عامة للعلمانية ، وهو ربط هذه المفردة بالكفر ، وربما من أشاع هذا التفسير المختزل هم الساسة أنفسهم والمؤسسات الدينية والسلطات السياسية التي لا يناسبها بتاتاً أن يدخل هذا المفهوم إلى عقل المسلم ،لأنه يهدد سلطاتهم ومكتسباتهم الوراثية ، العلمانية ليست ضد الدين ، لكنها في الواقع تخدمه إذ تبعده على المجال العام ، الذي يدخل به إلى معارك حتماً سيخسرها ، لأنها ليست من دور الدين ولا من طبيعته ، إن فصل العقل العلمي الذي يسميه ابن عاشور (العقل المصلحي) عن العقل الماورائي الذي يشمل الضمير الإيماني هو كنه العلمانية ، وهي عملية تشبه لدينا عملية فصل التوأم الملتصق، يقاس نجاحها بحياة الاثنين ، وكلما كان هذا الفصل مبكراً كلما زادت فرص العملية في النجاح ، ولكن هل كانت مطالب العلمنة لدينا حديثة ؟
يرجع تاريخ العلمانية إلى بداية القرن الثالث عشر في الصراع بين الكنيسة والسلطة الإمبراطورية ، وما أعقبها من صراع بين الإكليروس والعلماء ، وفي هذه الفترة كان ينهض لدينا صراع مماثل بين المعتزلة والأشاعرة ، وبين المناطقة والنحويين ، وبين أصحاب النقل وأصحاب العقل ، وبين الفلسفة والشريعة ، بل وأكثر من ذلك فإن من خاض هذا الصراع في أوروبا المثقفون الجامعيون والمنتمون إلى المدرسة الرشدية ، وكل هذه الدعاوى في الغرب والشرق ، لاقت المعارضة والتنكيل ، لكنها أثمرت نتائجها في الغرب بفعل المثابرة والمناخ المناسب ، وكانت لدينا مثل البذور في الصحراء التي تنتعش كلما أغاثها مطر متباعد الفترات ثم لا تلبث أن يتراكم عليها الرمل مجدداً ، لم يتوقف هذا الجهد لدينا لكنه كان متناثر مكانياً وزمانياً وهشاً أمام أية عاصفة .
والآن الظروف التي تهيئها ثورة الاتصالات والمعلومات والعولمة وتغير علاقات الإنتاج تجعل المناخ متاحاً لبلورة هذه المطالب التاريخية في خطوات إجرائية ، بالتأكيد لن تأتي بمعجزة سريعة في تكوين عقل اجتماعي علمي ومصلحي ، ولكنها تضع أقدامنا على الطريق لكي نبدأ ولا بد من البداية ، التي سيخدمها عصر التسارع والاتصال في اختزال مراحل طويلة . إن النخب السياسية التي استطاعت أن تفرض نظم الطوارئ ودولة الإكراه الأمنية لعقود طويلة بإمكانها أن تفرض دستوراً علمانياً ، ستولد فيه أجيال مسلمة ، لكنها لم تعرف سوى العلمانية كنظام اجتماعي مصلحي ، لقد كان هرم الأحكام التشريعية منفصلاً عن هرم السلطات السياسية ، ومع إحداث الدولة العصرية أصبحت هي مصدر التشريع ومنفذه، آخذةً في العمل على إبعاد الدين من المجال التشريعي ، ثمة شارع يتوق إلى ذلك وثمة ظرف تاريخي يسخر من فلكلورنا السياسي ، الذي أصبح صالحاً للعرض في المتاحف أكثر من كونه مشروعاً قابلاً للترميم والمداراة .. فهل علينا أن ننتظر الحتمية التاريخية ، وحالة النضج الاجتماعي التي يتحجج بها أرباب السلطة لنبدأ مشروعنا ؟ ونحن نملك تراثنا الفكري الذي علينا أن نضعه في مرجل العصر ليغلي ويُنعش كل ما تخشب من أفكار لم نستطع في أغلب الأحيان الحفاظ على عرق أخضر فيها .
بعد كل هذا هل استطعت أن أخلص لهذا العنوان الكبير وهل استطعت أن احدد تعريفاً للعلمانية وعلاقتها بالمجتمع المدني ؟ لا ادري ، فأنا أكتب بعقل هو نتاج لكل هذه الالتباسات، ربما فضيلته الوحيدة أنه يعيها .. ثمة عاهة عقلية موروثة تطاردنا ، وأنا على الأقل كمن يحاول أن يرسم لوحة بيد مقطوعة ، وإن كان ثمة إعجاب ، فلا أدري إن كان مرده إلى احترام الإرادة أم إلى الشفقة .
سالم العوكلي
درنة 3/7/2005م






#سالم_العوكلي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكتابة بالأظفار
- العلم جمالية العقل
- لغة الهيمنة: هيمنة اللغة ،
- اليوتوبيا والدكتاتورية
- من أول السطر


المزيد.....




- وفاة قيادي بارز في الحركة الإسلامية بالمغرب.. من هو؟!
- لمتابعة أغاني البيبي لطفلك..استقبل حالاً تردد قناة طيور الجن ...
- قادة الجيش الايراني يجددن العهد والبيعة لمبادىء مفجر الثورة ...
- ” نزليهم كلهم وارتاحي من زن العيال” تردد قنوات الأطفال قناة ...
- الشرطة الأسترالية تعتبر هجوم الكنيسة -عملا إرهابيا-  
- إيهود باراك: وزراء يدفعون نتنياهو لتصعيد الصراع بغية تعجيل ظ ...
- الشرطة الأسترالية: هجوم الكنيسة في سيدني إرهابي
- مصر.. عالم أزهري يعلق على حديث أمين الفتوى عن -وزن الروح-
- شاهد: هكذا بدت كاتدرائية نوتردام في باريس بعد خمس سنوات على ...
- موندويس: الجالية اليهودية الليبرالية بأميركا بدأت في التشقق ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سالم العوكلي - لا بد من الجلوس خلف المقود المجتمع المدني والعلمانية