أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نبيل علي صالح - نظرية الحركة الجوهرية والتكامل النفسي-القسم 2 والاخير















المزيد.....



نظرية الحركة الجوهرية والتكامل النفسي-القسم 2 والاخير


نبيل علي صالح

الحوار المتمدن-العدد: 2479 - 2008 / 11 / 28 - 09:44
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ثالثاً– الحركة الجوهرية ومسألة التجرّد
ذكرت معاجم اللغة، أنّ كلمة المجرَّد والتي هي اسم المفعول من "التجريد"، تعني ما نزع عنه شيء، لكن في المسائل الفلسفية اصطلح على استعمال كلمة المجرد فيما يقابل المعنى المادي (الجسماني) الذي له أبعاد مكانية وآخر زماني.. بمعنى آخر: المجرد مفهوم منتزع يطلق على الأشياء التي لا تخضع للمدركات الحسّية المادية في مستوى ارتباطها مع الواقع الخارجي، بحيث لا يتحقق لها أي مصداق مادي ما، كونها –الأشياء المجردة– فاقدة تماماً لخصائص ومميّزات الحالة المادية.. وبهذا المعنى لا يقبل الموجود المجرّد الانقسام، وبالتالي فنسبة المكان والزمان إليه تكون مختلفة (عند حديثنا عن روح الإنسان مثلاً).
وقد أظهرت نظرية الحركة الجوهرية عمق العلاقة العضوية بين الحركة والمادة والتجرّد، وخاصة فيما يتصل بواقع عمق الأنا الذاتية للموجود الإنساني مثلاً، على أساس أنّها تشكّل الأساس لتحقق حركة المصداق الوجودي لها، من خلال مجموعة من الشروط والمقدمات الأساسية للوصول إلى كمال فاقد للماديات الأولية، وداخل في مستوى بعدي جديد متجرد، وبصفات وشروط وخصائص أخرى جديدة تتناسب والمستوى الجديد.
والروح –كما أثبتت نظرية الحركة الجوهرية– ليست إلاّ نتاج الحركة الجوهرية الاشتدادية في عمق المادة حيث أن المادة تنتقل وتتبدل من وضع أوّلي إلى أوضاع أخرى. ونتيجةً لتأثير الحركة الجوهرية فيها تتكامل وتصعد في مستويات تدريجية انتقالية متتابعة حتى تصل إلى مرحلة تفقد فيها (هذه المادة) خصائصها المادية وشروطها الجسمانية فتدخل في بعد جديد، يحتويها –مفهوماً وليس وقعاً– وتتركز في طاقة حيوية تحرك وتوجه في مستوى تصعيد وتركيز أعلى نحو الأمام..
أي أن المادة في مسيرة تطورها وتكاملها، تمتد، فضلاً عن أبعادها الثلاثة التي نسميها بالأبعاد المكانية، وفضلاً عن البعد الزماني الذي يمثل مقدار الحركة الذاتية الجوهرية، إلى بعد جديد، وهو بعد جديد مستقل عن الأبعاد الأربعة المكانية والزمانية، ونحن إذ نسمي هذا الامتداد بعداً فليس لأنه نوع من أنواع الامتدادات، أو لأنه مثل سائر الكميات (الأشياء ذات المقدار) قابل للتجزئة العقلية، بل المقصود هنا هو أنّ المادة تعثر على اتجاه جديد تمتد فيه، ذلك الاتجاه الذي تفقد فيه كل خصائص المادة كلياً"(9).
صحيح أنّنا لا نرى إلاّ المادة، ولم نستطيع حتى الآن أن نمتلك وسائل وأدوات عينية لاستكناه حقائقها كاملةً أو لتفسير ظواهرها، حيث يقتصر تعاملنا مع المحسوسات والماديات.. الخ، لكنّ هناك فرقاً بين أن نلاحظ الشيء لنقف عنده، وأنْ نلاحظه بغية ملاحقته قبلاً وبعداً، لنفكر فيه، ونعي حقيقة ما ورائه، وماذا هناك بعده.. فالمادة البسيطة –التي هي عنصر وحيد– معدومة الحياة، لكنّها في مرحلة لاحقة عندما تتحوّل إلى مركبات عديدة ذات عناصر مختلفة، تتفاعل فيما بينها (أجزائها) وتتكامل في حركتها، فتصبح على أثر ذلك، مستعدة –كما أسلفنا– لتقبل وظهور الطاقة الحيوية الحياتية الأصلية، وبالتالي حدوث الحياة، وظهور خصائصها وشرائطها.. يقول كريسي موريسن في كتابه سر الخليقة: "إنّ المادة لا تؤدي عملاً إلاّ إذا كان هذا العمل ضمن قانونها ونطاقها.. فالذرات تقع تحت سيطرة قوانين جاذبية الأرض والتفاعلات الكيماوية وتأثيرات الهواء والكهرباء، لا تبتكر المادة شيئاً بذاتها، إنّما الحياة هي وحدها التي تبتكر شيئاً جديداً في كل لحظة وتعرض بدائعها إلى عالم الوجود.." و "ليس للمادة قدرة على الابتكار بحد ذاتها إنّما الحياة هي التي تبتدع في كل لحظة خطة جديدة بديعة"(10).
قال تعالى: "ما لكم لا ترجون لله وقاراً وقد خلقكم أطواراً" (نوح: 14).. إذن هل هناك مانع يمنع من إمكانية تجرّد المادة من مراحل تكاملها، وتحوّلها إلى كائن آخر جديد له خصوصية ذاتية ومستوى حركي محدد ومعين؟.. وهل هناك حدود فاصلة بين المستويين؟..
في الواقع: إنّ الحركة -التي هي في الأساس سير تدريجي من القوة إلى الفعل كما يقول الفلاسفة- تؤسس من خلال حركة التكامل الممنوحة في الذات الجوهرية، لحركات عارضة أخرى، الأمر الذي يؤدّي إلى ظهور مختلف أنواع الأجسام وتكوّنها على أساس هذا القانون (أي الحركة الجوهرية).. من هنا نجد أنّ الروح هي أيضاً من حاصلات قانون الحركة. إنّ مبدأ تكون المادة نفسها جسماني، وللمادة القدرة على أن تربي في أحضانها كائناً يتوافق مع ما وراء الطبيعة، بل ليس هناك حائل أو جدار بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، فليس ثمة ما يمنع أنْ يتحول كائن مادي في مراحل تطوره وتكامله، إلى كائن غير مادي.. إنّ علاقة الروح بالجسد أشبه بعلاقة بعد ما بسائر الأبعاد.. يقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر في هذا الصدد: ".. وهذه الحركة الجوهرية هي الجسر الذي كشفه الشيرازي بين المادة والروح، فإنّ المادة في حركتها الجوهرية تتكامل في وجودها وتستمر في تكاملها حتى تتجرّد عن ماديتها ضمن شروط معينة وتصبح كائناً غير مادي. أي تصبح كائناً روحياً، فليس بين المادي والروحي حدود فاصلة بل هما درجتان من درجات الوجود والروح بالرغم من أنّها ليست مادية ذات نِسَب مادية لأنّها المرحلة العليا لتكامل المادة في حركتها الجوهرية(11). لكنّنا نتساءل، كيف يمكن إظهار طبيعة العلاقة الكائنة بين متحركية البعدين المادي والروحي؟.
إنّ الروح ليست من خصائص المادة وآثارها، وإنّما هي كمال جوهري يتحقق للمادة، وتكون هي بدورها منشأ المزيد من آثار المادة وتنّوع تلك الآثار. وبديهي أنّ هذا لا يقتصر على الإنسان أو الحيوان بل هو عام ومطلق في كل حياة. بمعنى أنّ الحركة الجوهرية لا تنشأ أصلاً من نفس المادة، لأنّ الحركة (كل حركة) خروج الشيء من القوة إلى الفعل (والقوة لا تصنع الفعل– الإمكان لا يصنع الوجود).. ولهذه الحركة الجوهرية سببها خارج نطاق المادة المتحرّكة، والروح التي هي الجانب غير المادي في الإنسان نتيجة لهذه الحركة والحركة نفسها هي الجسر بين المادية والروحية.
بتلخيص ما تقدم نقول: إنّ الوجود واحد لا يتجزأ ولا يتعدد، بل هناك انتقال لحركة الموجود في عمق وجوده من وضع إلى آخر، بحيث أنه عندما تتكامل المادة في ذاتها تتكوّن في داخلها درجة معينة من الوجود، تكون أكمل من سابقتها، بحيث تفقد خصائص ومزايا المادة والجسمية، وتتحول عندئذ إلى لا مادية ولا جسمانية فتكون الخصائص الروحية وآثارها متعلقة بتلك الدرجة من الوجود(12). أي أنّ المادة فاقدة للحياة (للطاقة الحياتية) بذاتها، ثم تظهر حركة الحياة وتدب الروح في المادة عندما تظهر في داخلها استعدادات وقابليات لهذا الطور الجديد.
والآن يمكن أن نتساءل الآن: طالما أنّ الحركة الجوهرية تسبب عملية الحدوث والتغيّر التدريجي في خط التكامل، فما هي العلاقة بينها وبين مسألة أصالة الحياة والطاقة الحياتية؟ هل تمثل الطاقة الحياتية البعد الآخر في مستوى أعلى متقدم فيما يتصل بتكامل المادة بالذات؟ أم أنّها هي الحياة في استقلالها بذاتها بعيداً عن تأثيرات الداخل والخارج؟ إذن نحن الآن أمام ثلاثة احتمالات تساؤلية:
الأوّل: هل يمكن اعتبار الطاقة الحياتية مجرد طاقة تتميز بخصائص وسمات محددة، تماماً كبقية الطاقات الأخرى المعروفة (ضوئية، نووية،.. ) وهي التي تعطي الحياة في حركة الإنسان والوجود؟.
الثاني: هل هناك فرق وتمايز بين طاقة الحياة وبين الشيء الذي هو يمتاز بالحياة..؟!. أي هل هناك استقلالية بين الطاقة وبين الشيء الذي أضيفت إليه في بعد معنوي روحي متقدم؟.
الثالث: هل الطاقة هي فقط الحياة كمقدار ثابت وكمية مادية انتقالية تكاملية؟.
في الواقع، إنّ الكائنات الحيّة التي ظهرت، بل تدرّجت في ظهورها، منذ الآماد البعيدة، امتازت بخاصية التكيف مع البيئة التي عاشت فيها، هذا التكيّف الذي هو في الواقع مجموعة من الآثار والخاصيات والفاعليات المتعددة التي يقوم بها الكائن الحي تجاه التغيّرات الحاصلة في المستوى الخارجي، وهذه "الفاعليات" لا تحدث إلاّ في الكائن الحي الذي يتمتع بخاصية الحياة "الحركة".. وهذه الخصائص الفعلية الموجودة في الكائن الحي والتي يفقدها الكائن الميت، هي السبب الكامن وراء تجدده وتكامله، حيث يزيد الكائن من طاقته، حتى يصل إلى مرحلة للإبقاء على النوع عن طريق زواله هو وبقائه في الجيل الذي ينتجه.. وهذا الشيء –بظروفه وامتداداته– ينبئ عن وجود هدف وغاية متقدمين في الحياة، على أساس إرادة الحياة لهذه الكائنات التي تعرف طريق حركتها ووجهة سيرها نحو هدف التكامل اللازم والخاص بها.. كل حسب إمكانياته وقابلياته في قاموس الحياة.
ضمن هذا الإطار، أجرى الباحثون والعلماء تجارب مختلفة لإدراك حقيقة أصالة الحياة والطاقة النفسية، وظهر ذلك من خلال تجليات بحوثهم "أنّ طاقة الحياة تضاف على المادة خلال مسيرة الطبيعة، وإنْ آثار الحياة تنشأ عن هذه الطاقة، ولكن ليست هي كل العلة لتركيب أجزاء المادة وجمعها وتحليلها وتأليفها، فتركيب أجزاء المادة وجمعها وتحليلها وتأليفها شرط لازم من شروط ظهور آثار الحياة ولكنّه ليس شرطاً كافياً(13).. حتى أنّنا نتصور أنّ نظرية داروين النوعية تثبت هذه الأصالة للطاقة الحياتية كونها أبرزت ظاهرة الانتقاء والاصطفاء الطبيعي، وأظهرت التكيف (تكيف الكائن مع بيئته ومجاله الحيوي الطبيعي) كقوة ذات فعالية وهدفية في الحياة الحيّة.. وكأنّ هناك منهجاً تكاملياً للإنسان وللطبيعة يسيران في وحدة للتحقق والتجسيد. وقد يتساءل البعض: كيف ولماذا تسير هذه الكائنات في هذا الاتجاه المتحرك، وكأنّه مسبق في الوجود بالفعل؟. إنّنا نعتقد أنّ أصالة طاقة الحياة (حيث أن الحركة مظهر أساسي فعال من مظاهر الطاقة)، تتميز بوجود بعدين متكاملين:
الأوّل: البعد المادي: من خلال تركيز خصائص المادة في مرحلة أدنى ثم حدوث التطور والتكامل في مراحل متقدمة أعلى.
الثاني: البعد المعنوي (الروحي): فيما وراء الطبيعة والمعرفة المادية، باعتبار أنّها –المعنوية– ليست من خصائص المادة، بل هي تظهر الحياة في المادة لاحقاً. أي تتركز طاقة الحياة الممنوحة في مرحلة عليا، في المادة، لتظهر آثار الحياة عندما تستعد لتقبل ذلك .. قال تعالى: "ربنا الذي أعطى كل شيء خَلْقَه ثم هدى" [طه: 50].
وقال تعالى: "الذي خلق فسوّى والذي قدّر فهدى" [الأعلى: 3].
... نأتي الآن بعد هذا الاستعراض للإجابة عن تلك التساؤلات المطروحة بالإجمال، حيث نجد أنّ الفصل بين المادة من جهة وطاقة الحياة في مظهرها الأعلى من جهة الأخرى، سيوقعنا في قضايا فلسفية وطروحات خاطئة قال بها بعض الفلاسفة (كما ظهر لدى أفلاطون في نظريته المسماة بنظرية الاستذكار وهبوط النفس من عالم المجردات والمثل والتحاقها بالمادة).. ثم إنّ العلم الحديث قد وصل إلى حد التأكيد على استحالة الوصول إلى حالة الخلق في المادة غير الحيّة، وتحويلها إلى مادة حيّة متحركة من قبل البشر. حيث كان ظهور الإنسان العاقل المفكر بين الحيوانات أمراً أخطر وأشد غموضاً من أن نتصوره على أنّه نتيجة لما يطرأ من تحوّلات، وأنّ ليس لخالق يد في الأمر، وإلاّ فإنّ الإنسان لا بدّ أن يكون آلة ميكانيكية تديره يد أخرى، فلنَر من الذي يدير هذه الآلة؟ وأي يد هذه التي تديره؟!.. "فالعلم التجريبي الحسي لم يستطع حتى الآن أن يصل إلى معرفة هذه اليد المدبرة والقوة المحركة الأولى، ولكن الذي يسلم به العلم هو أن هذا المدير والمدبر والقوي ليس تركيباً مادياً بالمعنى الذي نعرفه"(14)..
نعم يمكن للعلماء أن يوصلوا قابلية المادة إلى مستوى الاستعداد لتقبل إفاضة الحياة، وارتفاعها إلى درجة الكمال.. فالإنسان كما قيل: "فاعل الحركة لكنّه ليس فائضاً للوجود"، يقول تعالى: "أفرأيتم ما تمنون أنتم تخلقونه أم نحن الخالقون" [الواقعة: 59].. أي أن إفاضة الحياة وقبضها بيد الله، وقد يستطيع الإنسان أن يكتشف قوانين إفاضة الحياة وقبضها، وبها يستطيع أن يهيئ في المادة القابلية والاستعداد لاستقبال الحياة أو طردها.. لكن هذا الأمر لا يعني –كما ذكرنا– أنّ هناك حجماً ومقداراً تشغله طاقة الحياة بخصائصها المختلفة، في خط التكامل عبر النقل والانتقال في الطاقات..الخ، لأنّ الحياة منذ أن نشأت على الأرض آخذة في التصاعد والازدياد..
ولاشك أنّ الحياة والموت نوع من البسط والقبض، ولكنّه بسط وقبض ينبع مما هو فوق درجة وجود الطبيعة. إنّه قبض يأتي من الغيب ويعود إلى الغيب كما يقول العلامة مطهري.. فالله تعالى هو منشئ الحركة ومانح الحياة ومبدأ الوجود وخالق المادة، قال تعالى: "ربي الذي يحي ويميت" [البقرة: 258].
وقال تعالى: "الذي خلق الموت والحياة" [الملك: 2].
هذا وبالرغم من التطور الكبير والفتح الفلسفي والعلمي الواسع الذي تجلت مظاهره وآثاره المتعددة أمامنا من خلال إبداع نظرية الحركة الجوهرية، تبقى هناك جملة أسئلة متعددة تراود الذهن الإنساني من موقع الفطرة التي جبل الإنسان من خلالها على البحث والتأمل والتدبر في ذاته وفي آفاق الحياة والوجود، قد نتمكن من الإجابة عليها عبر ما قد يتوافر بين أيدينا من فكر ومعرفة وحب للاستكشاف والاستطلاع، في مستوى معرفتنا المحدودة، والتي لها ارتباط بالمستوى المادي أكثر من ارتباطها بالمستوى الروحي، على أساس ما نختزنه وما نعيه من حقائق الوجود والحياة التي تعرفنا عليها أو وصلنا إليها باستخدام ما نملكه من حواس وطاقات ومدركات.. فيا ترى، ما هي حقيقة هذه الشروط المعينة اللازمة لحدوث حركة التحوّل والتجرّد في مستوى عملية الخلق والإبداع، والتي أوجزها تعالى في قوله: "يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه"؟!! وما هي الكيفية المعقدة لوضع أصل الحركة في الجوهر في البداية؟! هل يمكن أن يصل العلم من خلال عمليات البحث والاستكشاف -في مراحل مقبلة من حركة تطوره- إلى اكتشاف الأبعاد المختلفة التي يثبتها الدين والفلسفة؟! هل نستطيع أن نفهم ذلك من خلال حركة التجربة والمادة فحسب، على الرغم من محدوديتها كونها عاجزة عن إثبات صحة نفسها –أو غيرها- من دون الاعتماد على البديهيات والمقدمات عقلية الضرورية؟! أم أنّ الأمر متروك للفكر الإلهي من خلال جملة المفاهيم الكلية التي يختزنها في مضمونه الداخلي؟!! أو أنّ المسألة بحاجة إلى اتباع سلوكية معينة لتزكية النفس (وسلوك طريق المجاهدة والعرفان) ومحاولة الوصول إلى مرحلة أو مستوى متقدم في صنع الشخصية الإنسانية وتزكية النفس التي قاعدتها الاتصاف بصفات الله تعالى والتخلق بأخلاقه، كما جاء في الأحاديث والمأثورات الشريفة.
إنّنا نتصور أنّه يجب أن يكون هناك تعاون وثيق بين مختلف تيارات الفكر الإنساني، لأنّني أزعم أنّ هناك فرقاً بين تناول المفاهيم الكلية وتحديدها وتقييدها في أصل ما، وبين إطلاقها وانفتاحها على مستويات أوسع وأعلى خدمة للإنسانية، لأنّنا وإن كنا على بينة من بعض الحقائق التي يمكن الإجابة من خلالها أو على الأقل تفسير بعض التساؤلات المجهولة المختلفة لتضعنا أمام أفكار كلية عامة، فإن هذا لا يمنع من الاطلاع على معارف وأفكار الآخرين، خصوصاً تلك الأفكار التي تدخل في نطاق العلاقة المتبادلة بين العلم والفلسفة..
إنّنا نعتقد، أنّه ما دام الإنسان إنساناً، محباً للبحث والاستطلاع في عمق حركية ذاته وجبلّته الطبيعية التي خلقه وفطره الله عليها، ستبقى هناك مجالات واسعة لإثارة وطرح مثل هذه التساؤلات المختلفة.. كيف..؟ لماذا..؟ ما هي؟ مما يتكون؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تتوارد على الذهن وتضغط على العقل للتفكر والتأمل واستخلاص العبر والدروس والنتائج العملية.. لذلك سيتحرك الفكر، وبالتالي سيكبر الواقع، وتتضخم المشاكل وتتعقد المواقع الحياتية، وتطرح الحلول، وفي النهاية هناك كلمتان يراد لهما أن تجسِّدا عملياً –من قبل الإنسان– هدف الوجود وحركة الحياة، الحب والعدالة.. فالأصل هو الحب.. والله تعالى هو مبدأ وأصل وأساس الحب الدافق المعطاء في مسيرة الإنسانية كلها منذ فجر الخليقة وحتى نهايتها.

رابعاً– بين العلم والفلسفة
تشكّل القضايا والبديهيات العقلية أحد أهم الأسس التي يقوم عليها البناء الفلسفي، فيما تمثله تلك الأفكار من مبادئ مطلقة قبلية ثابتة، لا تخضع للتجربة والحّس، كونها هي التي تعطي الواقع التجريبي بعداً تصديقياً حقيقياً من حيث اشتمالها على حركة الكليات وثبوتها في مستوى الزمان، بحيث يصبح من المحتم عدم تغيّرها تبعاً لحركة العلم وتطوره.. وتعتبر الفلسفة مصدراً أساسياً لحركة المعرفة الإنسانية، لأنّ الإنسان سيظل –في عمق فطرته وكينونته الذاتية– متواصلاً مع حركة المظهر الخارجي للوجود، ليسأل: كيف، لماذا، مِمَ جاء، ومن أين جاء، ومم يتكون، وإلى أين المسير، وما هو المصير..؟! إلى آخر هذه التساؤلات الأساسية التي يمكن أن نسميها بأسئلة الخلق الأولى..
ولذلك لا سبيل لمعرفة الحقائق الكونية وبداية تلمس طريق الإجابة على تلك "الأسئلة-الإشكالية" إلاّ من خلال الرؤية الكونية الفلسفية، كونها تشكل محوراً عملياً للاستخدام العقلي في التفكير في مستويات الوجود المختلفة، وبالتالي يمكن –عبر ذلك– الوصول إلى نظرة عامة تمثل المادة الخام للارتكاز عليها في بناء الكمال الإنساني وتحقيق السعادة الفردية والمجتمعية.
نعم إنّ طبيعة القداسة والحرمة التي تحظى بها أصل المفردات الدينية –والتي تعطيها النظرة الدينية لطبيعة التفكير الفلسفي المنسجم معها– يعتبر معياراً أساسياً في حركة الإنسان نحو كماله الخاص، لذلك لا تكون الرؤية الكونية أساساً للأيديولوجية إلاّ في حالة واحدة، وهي تلك الحالة التي تجمع فيها بين سعة التفكير الفلسفي وعمقه، وحرمة الأصول الدينية وقداستها كما يقول العلامة مطهري.
أمّا العلم فيعتمد في منهجه وسلوكيته على الملاحظة والتجربة، حيث تتميز نتائجه بالدقة، وبكونها جزئية ومحدودة، بما يمكنه ويجعله قادراً على منح الإنسان آلاف المعلومات التي تدور حول موجود جزئي واحد. أي يمكن للعلم أن يملأ كتاباً من المعارف والمعلومات التي تدور كلها حول ورقة شجر معينة مثلاً، لكن حركة العلم التجريبي عاجزة تماماً عن إعطاء إجابات شافية وكافية عن الأسئلة المتعلقة بطبيعة حركة الكون وأصل الوجود والحياة، بشكل كلي عميق وشامل، لذلك فهي معرفة مؤقتة رهينة ومرهونة ومشروطة بمعايير وضوابط ونظم محددة.. وهي يمكنها أن تعطي كشفاً معيناً عن واقع جزئي ومحدود في دائرة صغيرة.. بمعنى أنّ للعلم قيمة نظرية كاشفة وليس له قيمة عملية فنية واقعة واسعة.. ونحن لو دققنا النظر قليلاً، فإننا سنلاحظ كيف أنّ العلم يعتمد أساساً على جملة من المفاهيم العقلية والمقدمات الفلسفية لإثبات جميع قضاياه وقوانينه، التي تفقد قيمتها وصحتها وتسقط من حقيقة المصداق الواقعي، في حال إنكار دورها –دور المقدمات العقلية– وعملها البرهاني الكلي.
لكن المسألة الأساسية التي نجد ضرورة بحثها هنا، أو بالأحرى الدعوة إلى ملاحقتها في واقعنا العربي والإسلامي عموماً، ترتبط بماهية هذه العلاقة الكائنة بين العلم والفلسفة، وهي علاقة تكاملية، وكيفي يمكن ممارستها بناء على ما أنتجته تطورات الواقع العالمي الإنساني في العصور القليلة الماضية، من مجريات وأحداث، بدأت تنطلق خطواتها بصورة متسارعة نحو مزيد من الاستثمار والاستخدام الأمثل والأفعل لموضوعة العلم والتطور العلمي التقني والصناعي، بما يمكن أن يحقق للإنسانية مراتب متقدمة على مستوى زيادة رفاهيتها وسعادتها أو مزيد من الاستغراق في المادية والانفلات الشهواني الغرائزي.. فكيف يمكننا هنا أن نوفّق عملياً بين حركة الواقع الفلسفي ببنيته النظرية القيمية المفاهيمية المتينة (فيما نتبناه من قضايا ومبادئ) وبين حركة العلم التقني الحديث المتطور والمتغير باستمرار، لنخلص من خلال ذلك إلى إمكانية تحقيق مستوى متقدم لشعوبنا ومجتمعاتنا، بعد أن أصبحنا نعيش في وضع مأساوي خطير، لا تزال تسيطر عليه مفاهيم التخلف وقيم القهر والاستبداد والانكسار الحضاري.
إنّنا لا نستطيع أن ننطلق في هذا الاتجاه –ولو على المستوى النظري– من دون معرفة الأسس التي تقوم عليها العلاقة بين الفلسفة والعلم.. لأنّنا نتصور أنّه كلما بيّنا طبيعة تلك العلاقة، بل قوة العلاقة الكائنة بين حركة العلم والفلسفة، كلما استطعنا أن نحقّق للفكر الإسلامي قفزات نوعية في علاقاته الخارجية والداخلية، وليس المقصود من ذلك أنّ الإسلام بحاجة إلى عامل مساعد خارجي حتى ينهض ويواجه وينطلق فقط، بل إنّنا نتصور أنّ المسألة أعمق من ذلك بكثير بسبب طبيعة هذا التلازم بين النظرة الفلسفية والعلمية وبين حرمة وقداسة المبادئ والقيم الدينية المحركة للإنسان في خط إقامة العدل وتحقيق التكامل الخاص للإنسانية.
من هنا إنّنا لا نؤيد كثيراً بعض المحاولات الفكرية التفسيرية التي قام أصحابها باختزال معرفة الإسلام والقرآن في مستوى حركة العلم المادية، مما أدى إلى نتيجة عكسية ظهرت في محاولة تحجيم نطاق الإسلام في علاقاته واتجاهاته المتعددة في مجموعة من التفاسير والأقوال العلمية. مع العلم أن القرآن كتاب هداية وليس كتاب علم أو اقتصاد أو سياسة. نعم تحدث القرآن عن العلم والحياة والاقتصاد والسياسة الاجتماعية وغيرها مما يتصل بدور الإنسان في الحياة في علاقاته الخاصة والعامة. كما وتحدث القرآن في آيات كثيرة عن بعض القضايا والقوانين والحقائق العلمية التي لم تكن معروفة في زمن نزول الوحي والرسالة، ولكنها اكتشفت وعرفت لاحقاً، وقد أراد الله بذلك أن يصدم مجتمع الوحي ببعض حقائق الوجود، وأن يدلل ويشير –ولو بصورة جزئية بسيطة- إلى وجود إعجاز علمي في كتاب الله. ولكنه لم يتوسع في الحديث أو في ذكر كل النظم والقوانين العلمية. فهو –في البداية والنهاية- كتاب هداية وحمال أوجه وهو يفسر مع الزمن وبمرور العهود والدهور.
وبالعودة بعد هذا الاستطراد الموجز إلى التأكيد على أهمية العلاقة بين العلم والفلسفة، نعتقد أنّ للمسألة أبعاداً أعمق من ذلك، لأنّنا قد بدأنا نلحظ بوادر الانفتاح في الواقع في علاقة العلم بالفلسفة من خلال حركة العلماء في مختلف الاتجاهات والميادين، لكنّها لا تزال بسيطة وخجولة، وبحاجة ماسة إلى ثوابت وركائز تستند عليها، حتى تؤسس لنفسها جذوراً وامتداداً راسخاً في حركة الواقع، ثم لتنطلق بعد ذلك في الاتجاه الأعمق الذي يستطيع أن يربط الجزء بالكل والكل بالجزء خدمة للإنسانية على طريق تطورها وتحقيقها لكمالها الممكن لها.
طبعاً نحن لا نقصد، من خلال التأكيد على فهم أساسيات هذا أو ذاك، أن نحدث قطعاً معرفياً عملياً بين الفلسفة والعلم بل إنّ العلاقة بينهما عضوية شديدة، أعمق من أن يختزلها أحد ويخترقها في كلمة أو جملة، على أساس ما يقدمه العلم (في بعض ميادينه) من حقائق معينة تحتاجها الفلسفة كي تستطيع أن تقوم بعملية التوازي وتطبيق المبادئ العقلية المطلقة عليها، فيما يمكن لهكذا عمل أن يعطينا نتائج وقوانين فلسفية جديدة.. فمثلاً نلاحظ أنّ العلم أثبت إمكانية تحويل العناصر البسيطة (غير المركبة) بعضها إلى بعض.. وهذه حقيقة علمية تتناولها الفلسفة كمادة لبحثها، وتطبق عليها القانون العقلي القائل بأنّ الوصف الذاتي لا يتخلق عن الشيء، فنستنتج أنّ صورة العنصر البسيط –كالصورة الذهنية– ليست ذاتية لمادة الذهب، وإلاّ لما زالت عنها وإنّما هي صفة عارضة.. وهنا تنطلق الفلسفة لتعطينا نتيجة فلسفية من خلال تمهيد تجريبي وتقول: إنّ الصفة حتى تتحقق على المادة، فهي تحتاج إلى مسبب خارج عنها.. كذلك تعطي الفلسفة –كما ذكرنا– العلم صحته وقيمته ومصداقيته من خلال مبادئها العقلية المطلقة من قبيل:
1- قانون العلة والمعلول وضرورته وتناسبه.
2- مبدأ الانسجام بين العلة والمعلول.
3- مبدأ عدم التناقض الذي يحكم باستحالة اجتماع النفي والإثبات معاً.
فالعالم التجريبي الذي يشتغل على الطاقة النووية –مثلاً- لا يستطيع أن يحكم بصدق القانون العلمي القائل "الطاقة النووية تولد الطاقة الكهربائية" الذي توصل إليه من خلال التجربة والبحث المخبري، إلاّ بعد توافر مجموعة من المقدمات اللازمة لإضفاء صفة الكلية واليقين العلمي الحقيقي من قبيل "حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد". وذلك حتى لو كرر تجربته آلاف المرات..
من هنا نجد عدم وجود حواجز كبيرة تفصل بين قوانين الفلسفة وقوانين العلم، على العكس هناك اتصال وثيق فيما بينهما كما أظهرنا.. وكل ما في المسألة أنّ العلم محتاج في كل قوانينه إلى الحّس والتجربة، ثم في مستوى أعلى إلى المقدمات الفلسفية التي تعطيه إيّاها الفلسفة لإثبات صحته، بينما توجد عند الفلسفة مجموعة حقائق كلية ثابتة وجاهزة ليست بحاجة إلى مادة خام حسية على حد تعبير الشهيد الصدر تستعيرها من التجربة.. فالفلسفة بالرغم من ذلك قد لا تحتاج في بعض الأحيان إلى تجربة إطلاقاً بل تستخلص النظرية الفلسفية من المعارف العقلية القبلية، "ولأجل هذا قلنا ليس من الحتم أن يتغيّر المستوى الفلسفي باستمرار تبعاً للتجربة، ولا من الضروري أن يواكب الكل الفلسفي قطار العلم في سيره المتدرج"(15).
والفلسفة كذلك لا تحتاج أبداً حتى تقرر صحة القانون التالي: "إنّ الأشياء لا تتصاعد إلى غير نهاية" إلى تجربة علمية لإثباته، بل تستخرجه من خلال مقدماتها العقلية بصورة مباشرة.
لذلك إنّنا ندعو جميع القّيمين على جامعاتنا ومراكز البحث العالي إلى ضرورة البحث عن إمكانات عملية للعلاقة القائمة بين العلوم والفلسفة، وربط العلوم بشبكة أمان منطقية فلسفية، توفر للطالب أو الدارس مساحة واسعة للتدبر والتأمل والبحث الواعي، بما يعود بالنفع والفائدة على الأمّة وأجيالها، في مستوى العلاقة بين الإنسان وحركة العلم والفلسفة، فلا ضير أن تدرّس بعض العلوم التجريبية المختلفة في المدارس أو المعاهد الدينية، لأنّ هذه العلوم تشكل دعماً قوياً، ودعوة عميقة للتفكر والإيمان بالله تعالى، بمعنى أنّ التفكير بالطبيعة وبالتالي معرفة سننها ونواميسها وتسخيرها للإنسان، هو مقدمة للوصول إلى معرفة الله، والاستفادة من سننه ونواميسه الكونية..
من هنا نجد أهمية تغيير مسار التدريس قليلاً وذلك على قاعدة الوعي والفهم الدقيق لكل حركة تجديد منشودة، وعلى أساس أنّ الفكر الفلسفي هو القادر وحده على أن يعصم النتائج العلمية التجريبية من الوقوع في مسالك الخطأ والزلل، بما يمنعها من الشطط أو العبث واللامعقول الفكري والعلمي.. ولا تزال هناك قضايا علمية كثيرة معلقة في هذا المجال، فيما يتعلق بأصل المادة بالذات لا بالعرض. حيث توصل بعض العلماء مثل هاينزبرغ إلى أنّ بنية الكون وأساسه حقيقة غير مادية.. وهذه الفكرة بلا شك هي فكرة وقضية وإشكالية فلسفية عقلية بامتياز.. كما وهناك قضايا أخرى من قبيل الزمن الفزيائي والزمن الفلسفي وحقيقتها وتأثيراتهما.
والبحث والتجارب العلمية لا تزال تتحرك من أجل تحقيق مزيد من الكشوفات العلمية في المستويين الكبيرين (مستوى بنية الذرة-مستوى المجرات والعوالم الكونية الأخرى). أي مستوى حركة عمق المادة وبنيتها ومكوناتها، ومستوى حركة الكون السحيق بامتداداته الرحبة علمياً وفلسفياً..
بعض الخطوات المقترحة في هذا المجال:
1- وضع مناهج تدريسية اختصاصية، تناقش حقيقة العلم والفلسفة، وطبيعة العلاقة بينهما، بحيث تدور حول "فلسفة العلوم" بشكل مبسط سهل التناول والتأثير الإيجابي على الطالب الدارس في المعاهد الدينية أو المدنية.
2- توفير الكادر التدريسي المؤهل للقيام بهذه المهمة الشاقة.
3- إدخال المناهج الدراسية العلمية في صلب الدراسة الدينية. فلا يكفي أن تخرج المدارس والمعاهد الدينية -المنتشرة بكثافة في معظم دول عالمنا العربي والإسلامي-علماء حديث وفقه وأصول وسير وتاريخ وغيرها، بل يجب أن تخرج عقولاً منطقية وفلسفية قادرة على استخدام فكرها العملي الرياضي والفلسفي في الحياة بما يحفز طاقات الفرد على العمل والإنتاج والإبداع.
إنّ قوة البحث الفلسفي ورسوخ جذره الفكري وأدائه المعرفي الكلي، إضافة إلى توافر مجموعة من الضوابط والمقاييس العلمية، قد تشكّل دعماً كبيراً لمواجهة نتائج دخول هكذا دراسات تجريبية علمية إلى جامعاتنا ومعاهدنا الإسلامية.
وبالنظر إلى ما تقدم نستطيع القول -وبعد استقراء واقع العلم التجريبي المتبادل مع العلوم الفلسفية في جامعاتنا- أنّنا نعاني من قصور في طريقة فهم أهمية العلاقة الهامة بين كلا الجانبين، على أساس أنّنا لا زلنا –حتى الآن– تقليديين في ممارسة ذلك، بل لقد انتقلنا إلى حالة جديدة فيها الكثير من التجنّي والظلم على حقائق باتت تشكّل الأساس في التعامل مع حركة واقعنا ووجودنا.. إنّنا نتصور أنّ طريقة تدريس هذه العلوم الإنسانية وتبيان ارتباطاتها ما بين أخذ ورد، لا تزال تمر بتعقيدات كثيرة، إنْ على صعيد التعمق في طرح طريقة ممارستها معرفياً وذاتياً، أو على صعيد الاستفادة من ذلك على مستوى النتائج على صعيد الإنسانية وصولاً إلى الواقع المنشود.. ونحن لن نضع أحداً في مقابل خط التشاؤم، إذا ما قلنا أنّ التقدم الكبير الحاصل في العلوم التجريبية وحركة التقنية الحديثة -التي تسير بأقصى سرعتها لتختزل حتى الإنسان في فكره ووجوده وحياته- قد يؤدّي إلى استباق مفاهيمنا وطروحاتنا وعلاقاتنا الذاتية والموضوعية على مستوى حركة الوجود والكون والحياة، وبالتالي قد تنتج هذه الحالة في العمق –عن وعي أو عن عبث– واقعاً تشكيكياً معقداً، فيما نتمثله من إيديولوجيا ومنظومة فكرية برامجية حياتية وعقائدية، وذلك إنْ لم نساهم في رفع الحالة الفكرية والثقافية المعرفية العامة لإنساننا ومجتمعاتنا، ودفع حركة الوعي لطبيعة هذه العلاقة الثنائية بين العلوم التجريبية والعلوم التجريبية والعلوم الدينية والفلسفية. فالمعرفة على تنوعها أساس بناء المجتمعات والأمم والحضارات. والعالم قائم على هذه المفردة السحرية "المعرفة"، ونحن –في عالمنا العربي والإسلامي- ما زلنا نتعيش على فتات موائد الآخرين، وما نزال نتخبط في الأيديولوجيات، تذهب أيديولوجيا لتحل أخرى مكانها، وماذا هناك بعد ذلك؟ لا شيء سوى التخبط والعبثية واللاهدفية. مع العلم أن تراثنا وحضارتنا وقيمنا تحضنا على العلم والمعرفة وعلى إنتاج المعرفة والمشاركة فيها.
ونحن هنا لا حاجة لنا إلى التذكير بهذا الفتح الكبير الهائل الذي سبق أن قام به علماؤنا الأوائل في هذا الاتجاه، على أساس اهتمامهم بحركة العلم والفلسفة في المستوى العلمي أولاً. فقد كانوا علماء طبيعة في مختلف العلوم المعروفة (طب-رياضيات-كيمياء-فلك-..الخ) يتقنون فنون التجارب العلمية، ويكتشفون النظم والقوانين الطبيعية التي أودعها الله في الكون، وكانوا في الوقت نفسه علماء دين وفقهاء وداعة إلى الله.. أجل لقد كان لعلمائنا الأوائل فهم واقعي أوسع في المستوى النظري والعملي لطبيعة العلاقة بين العلم والفلسفة.. ويكفي أن نضرب على ذلك الخواجه الطوسي الذي بنى مرصداً له في مراغه والبيروني وابن سينا وغيره كثر. وكانت النتيجة أن جهود هؤلاء العلماء صبت في اتجاه تأسيس حضارة إسلامية عظيمة امتدت من حدود السند والهند حتى وصلت إلى حدود أوروبا الغربية.
إنّنا ونحن نختم بحثنا لا يسهنا إلاّ أن نثمّن عالياً تلك الجهود الكبيرة والعظيمة التي بذلها كبار علمائنا كالسيد الشهيد الصدر والشهيد مطهري والمفكر الإسلامي الكبير مالك بن نبي والسيد المرحوم الطباطبائي وغيرهم.. ممن كانت لهم أياد بيضاء ومساع حميدة وعلامات فارقة مضيئة في خدمة الثقافة الإسلامية والفكر العربي والإسلامي المستنير والعقلاني، في المستوى الذي يدعم ويثبت جوهر وأساس وجود وهدفية الإنسان في الحياة عبر إبراز وتوضيح المفاهيم الإسلامية الأصيلة التي ترتبط بقضايا العلم والفلسفة.
إنّنا نعتقد أنّ عملنا –أيّاً كان هذا العمل– طالما أنّه ينطلق في حركة الحياة من موقع الوعي والهدفية، ويتحرك على طريق محبة الله ونيل رضاه، فلا بد أن يكون له كبير الأثر والنتيجة الإيجابية، بالقدر الذي نستطيع أن نحقق فيه عمق الانفتاح على الله تعالى أكثر فأكثر.. لأنّ ها هنا المحور وبيت القصيد.. وهو الأساس في كل حركتنا وإحساسنا بواقعنا.
إنّها البداية المرجوة من عمق حركة الإنسان نفسه، ليكون الله هو الأساس والمحور الذي يحكم كل وجودنا الروحي والعملي، عبوديةً، وحريةً، وانفتاحاً، لأن الإنسان من خلال عمق عبوديته لله تعالى، يستطيع أن ينطلق إلى كل الآفاق والامتدادات العالية والبعيدة بكل حرية.. فأنت –كإنسان- حر وسيد لهذا الكون، صانع التاريخ بسنن التاريخ، بإرادة الله تعالى..

الحواشي والتعليقات:
9. مطهري، مرتضى، أصالة الروح، محاضرات في الدين والاجتماع، ص: 11، منظمة الإعلان الإسلامي–إيران-1992م.
10. أصالة الروح، مصدر سابق، ص: 24-25.
11. فلسفتنا، م.س، ص: 326.
12. أصالة الروح، م.س، ص: 25.
13. أصالة الروح، م. سابق نفسه، ص: 29.
14. أصالة الروح، م.سابق، ص31.
15. فلسفتنا، م.س، ص: 92-93.

أهم المصادر والمراجع
1- القرآن الكريم.
2- باقر الصدر، محمد.. فلسفتنا، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، 1990م.
3- الشيرازي، صدر الدين.. الأسفار العقلية الأربعة، 9مجلدات، مطبوع في إيران (طبعة قديمة). 1984م.
4- مصباح، محمد تقي.. المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، دار التعارف، بيروت– لبنان1998م.
5- مطهري، مرتضى.. أصالة الروح، سلسلة محاضرات في الدين والاجتماع منظمة الإعلان الإسلامي–إيران-1992م.








#نبيل_علي_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العقل وماهية الإدراك العقلي
- ضرورة الانتظام العربي والإسلامي في عالم الحداثة والتنوير
- المفاعل النووي السوري بين الحقيقة والوهم..
- المقاومة الوطنية والإسلامية.. ومعادلة الصراع الاستراتيجي ضد ...
- محنة الاستبداد السياسي والاجتماعي في العالم العربي - القسم ا ...
- الفساد في العالم العربي معناه، دوافعه وأسبابه، نتائجه وعلاجه
- إلى الصدر الصغير: العراق بين الدولة المدنية أو الدولة الطائف ...
- محنة الاستبداد السياسي والاجتماعي في العالم العربي 1/2
- الإعلام العربي بين واقع التضليل وطموح التغيير


المزيد.....




- زرقاء اليمامة: قصة عرّافة جسدتها أول أوبرا سعودية
- دعوات لمسيرة في باريس للإفراج عن مغني راب إيراني يواجه حكما ...
- الصين تستضيف محادثات مصالحة بين حماس وفتح
- شهيدان برصاص الاحتلال في جنين واستمرار الاقتحامات بالضفة
- اليمين الألماني وخطة تهجير ملايين المجنّسين.. التحضيرات بلسا ...
- بعد الجامعات الأميركية.. كيف اتسعت احتجاجات أوروبا ضد حرب إس ...
- إدارة بايدن تتخلى عن خطة حظر سجائر المنثول
- دعوة لمسيرة في باريس تطالب بإلإفراج مغني راب إيراني محكوم با ...
- مصدر يعلق لـCNNعلى تحطم مسيرة أمريكية في اليمن
- هل ستفكر أمريكا في عدم تزويد إسرائيل بالسلاح بعد احتجاجات ال ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نبيل علي صالح - نظرية الحركة الجوهرية والتكامل النفسي-القسم 2 والاخير