محمد بن سعيد الفطيسي
الحوار المتمدن-العدد: 2456 - 2008 / 11 / 5 - 08:16
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مما لا شك فيه بان الولايات المتحدة الاميركية قد استطاعت بشكل او بآخر , ان تتسيد الجزء الأكبر من سنوات القرن العشرون , فكانت فيها كل شي وبكل ما تعنيه الكلمة من معنى , وخصوصا تلك السنوات التي تلت سقوط العملاق الشيوعي الأحمر – او - الاتحاد السوفيتي , والتي كانت من خلالها مركز العالم ومحوره المتفرد الذي تدور حوله معظم الأجرام الدولية , فالنظام الدولي منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا ليس مبنيا على توازن القوى العالمية , بل انه يدور في فلك الهيمنة الاميريكية , ( فما من بلد بمفرده عبر التاريخ امتلك قوة أعظم مما تملكه الولايات المتحدة الاميركية حاليا , وقلة من البلدان او الإمبراطوريات حظيت بميزات على البلدان المعاصرة لها , كالتي تتمتع بها الولايات المتحدة الآن ) 0
ولكن الى متى سيستمر هذا التفرد وتلك الهيمنة والقوة المطلقة ؟ والى أي مدى ستستطيع الامبراطورية الاميركية ان تحافظ على قوتها المركزية الجاذبة ؟ تلك هي الأسئلة التي طالما أقلقت أميركا ولا زالت حتى يومنا هذا , حيث تمسك عدد من الباحثين والمراقبين والمؤرخين الدوليين بفكرة ان ذلك التفوق التاريخي للقطب الاميركي , لم يكن سوى غفوة عالمية طال أمدها نتيجة انهيار الاتحاد السوفيتي , وان لحظة القطب الاميركي الواحد ستكون قصيرة , وان عالم القوة العظمى الوحيدة لن يستمر - انظر مقالنا – التحولات القادمة في بنية النظام الجيوسياسي العالمي , بينما أكد آخرون بان القوة الاميركية من الضخامة والتجذر في الأعماق , بحيث ستظل لعشرات السنين المقبلة من القرن الحادي والعشرون كما هي , - وبمعنى آخر – بان الامبراطورية الاميركية ليست كما يقال عنها ببساطة , بأنها قوة مؤقتة وقد برزت بسبب ظروف تاريخية استثنائية , بل الواقع والمعطيات يؤكدان على أنها ستمتد طويلا خلال السنوات القادمة وبنفس القوة الجيواستراتيجية والجيوبوليتيكة التي عهدها العالم منها خلال القرن العشرون 0
وبين امتداد القوة المطلقة والمتفردة للقطب الاميركي كما يؤكد البعض , ولحظات الانهيار والتلاشي التاريخي الى الأبد , كما يشير البعض الآخر , نرى – شخصيا – بان الولايات المتحدة الاميركية ستتمكن من الاستمرار على المدى القصير بنفس القوة والمكانة الجيوسياسية العالمية , مع مراعاة ان تلك الهيمنة ستكون خلال هذه الفترة مشوبة بالمنغصات والمطبات على مختلف المستويات والجوانب الدولية وخصوصا الاقتصادي منها , فعلى سبيل المثال لا الحصر ستتراجع الثقة بالاقتصاد الاميركي شيئا فشيء , وذلك نتيجة للمشاكل والتحولات الاقتصادية والتجارية السلبية التي يمر بها الاقتصاد العالمي عموما والأميركي على وجه الخصوص , كما ان مكانتها الجيوسياسية ستتراجع مع مرور الوقت في ظل بروز عدد من التحديات التاريخية والعالمية التي بدأت بالظهور سريعا , فمن جهة لا شيء يدوم في الى الأبد في عالم السياسة الدولية , وخصوصا فكرة القوة الخارقة , والتي لا نعرف كيف ستتعامل معها الحكومات الاميركية المتتالية ؟, والتي ستتعايش بشكل قريب بداية أفول تلك العظمة التي استمرت لأكثر من قرن , وهل ستجد بين أطنان السيناريوهات المعدة مسبقا طريقة محكمة لاسترجاع تلك المكانة الجيواستراتيجية التي بدأت بالتهالك والتآكل 0
وهنا نود ان نؤكد على حقيقة أثبتها التاريخ ولا زال , وهي صعوبة التنبؤ بصعود الأمم وسقوطها , لذا فان الذي يدفعنا لتبني الاعتقاد القائل بان الولايات المتحدة الاميركية تعايش اليوم فترة الحمل الكاذب لهيمنتها الجيواستراتيجية والجيوبوليتيكية هي تلك المعطيات الواقعية التي نشاهدها أمامنا , ولكن – وللأمانة – فقد مرت هذه الامبراطورية بمثل هذه المراحل من التهالك والتراجع الحضاري كثيرا , ولكنها نجحت في تخطيها والقفز فوقها بكل جدارة وتفوق , ( ففي فبراير من العام 1941م أعلن الناشر البارز هنري لوس بشجاعة وجرأة عما اسماه القرن الاميركي , - ومع ذلك كما يقول عميد معهد كندي لأنظمة الحكم في جامعة هارفرد ومساعد وزير الدفاع في إدارة كلينتون جوزيف 0س0 ناي , - فقد اعتقد كثير من المحللين عند حلول ثمانينات القرن العشرين ان رؤية لوس قد أنهت شوطها , وسقطت ضحية عوامل مثل فيتنام والاقتصاد الآخذ في التباطؤ والتمدد الاستعماري الزائد عن اللازم ) , ولكن أثبتت الولايات المتحدة الاميركية قدرتها على تخطي ذلك بإتقان وتفوق , فعكست ذلك التصور بشكل كبير , بل وعلى العكس من ذلك فقد كانت سنوات الثمانينات والتسعينات من السنوات الذهبية التي عاشتها الامبراطورية الاميركية 0
أما من جهة أخرى فهناك قوى جديدة وأخرى متربصة قد بدأت تقض مضجع العملاق الاميركي وسيادته , كالتنين الصيني والدب الروسي واليابان والهند , وهي قوى لن تقبل مطلقا ان تنحشر في الزاوية الحضارية او تبقى كرسوم كرتونية لا أكثر , وخصوصا في حال ظلت الولايات المتحدة الاميركية على طبيعتها التي اعتادتها تلك الدول خلال الفترة الماضية تجاهها , - ونقصد – حالة التهميش والتقزيم والتجاهل السياسي الذي تعاملت به هذه الأخيرة معها طويلا , وهو ما لن تستسيغه تلك القوى خلال الفترة المقبلة , وبحسب تعبير الخبير والعالم السياسي كينيث والتز , فان ( الأصدقاء والأعداء على حد سواء سوف يتصرفون كما تصرفت البلدان دائما إزاء تعرضها لتفوق احدها او التهديد بتفوقه : أي أنهم سيعملون معا على تصحيح الميزان , والحالة الراهنة للسياسة الدولية غير طبيعية ) , لذا فإننا لا نتصور بان تلك القوى سالفة الذكر ستركب الموجة الاميركية كما فعلت ذلك خلال القرن الماضي , فأميركا القرن الحادي والعشرون ليست هي أميركا القرنين التاسع عشر او القرن العشرون 0
وهنا نشير الى نقطة هامة , وهي ان الولايات المتحدة الاميركية ربما توقعت بروز التنين الصيني والعملاق الياباني خلال هذه المرحلة , كما أكد ذلك عدد من خبراء التاريخ والسياسة الخارجية الاميركية , كزبغينيو بريجنسكي وهنري كيسينجر وفرانسيس فوكوياما على سبيل المثال , فلقد دأب جميع المعلقين والمراقبين الدوليين تقريبا وعلى مدى سنوات , على اعتبار ان الصين ستكون اقوي احتمال مشكوك به في السعي الى مكانة الند المنافس للولايات المتحدة الاميركية في المستقبل , ( وأظهرت اغلب استطلاعات الرأي ان نصف الجمهور الاميركي يعتقد ان الصين ستمثل اكبر تحد لمكانة أميركا كقوة عالمية في السنوات المائة المقبلة بالمقارنة مع 8% لليابان , و6% لروسيا وأوربا ) , ولكن ما لم تتصور حدوثه الولايات المتحدة الاميركية هو عودة روسيا من جديد مع مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرون الى الواجهة , وبروزها بشكل مقلق جدا , وخصوصا في ظل وجود رجل قومي وطني متعاطف مع الفترة السوفيتية كفلاديمير بوتين , يحاول جاهدا بناء روسيا من جديد , وإعادتها قدر المستطاع الى سالف عهدها , وتحديدا في هذا الوقت الذي تعاني فيه أميركا من روماتزم المفاصل الذي يمنعها في كثير من الأحيان من الوقوف في وجه بعض المتنمرين الجدد على سيادتها وهيمنتها , انظر مقالنا – رسائل روسية ولكن ليست من ورق 0
المهم في الأمر بان الولايات المتحدة الاميركية وبالرغم من كونها حتى اللحظة الراهنة القوة الامبراطورية الوحيدة في العالم , وإنها الدولة الوحيدة التي لا زالت تملك رقعة الشطرنج الجيواستراتيجية والجيوبوليتيكية بشكل شبه مطلق , وإنها ستظل كذلك الى فترة قصيرة مقبلة , إلا ان الحقائق اليوم تشير الى ان هذه الأخيرة تشعر بغربة مكانية كبيرة , في ظلال قرن لم تتوقع ان ينقلب عليها بهذا الشكل الدرامي المحزن , لذا فإنها تعيش خلال هذه الفترة على أمل الحيلولة دون فقدان ذاتها وكيانها الذي لم تعد متأكدة من بقائه كما كان خلال الفترة السابقة من القرن العشرون , فالشعور بالقلق والخوف على تلك الهيمنة والمكانة العالمية قد بدا يأكل الروح الاميركية من الداخل , كما راح يزيد من أخطائها الخارجية ويبعدها عن أصدقائها وحلفائها الاستراتيجيين, وقد كانت هذه المشاعر النفسية وكثرة الأخطاء دائما تسبق مراحل التراجع والترهل الحضاري لكل الأمم والحضارات السابقة , وهو ما يدفعنا للاعتقاد بان فترة القطب الاميركي ستتلاشى تدريجيا خلال العقدين القادمين على ابعد تقدير 0
وان السنوات المقبلة ستدفع بعدد كبير من الدول الناقمة على الهيمنة الاميركية وتلك المتربصة بها وأخرى متنمرة عليها الى البحث هي الأخرى عن ذاتها , وعن مكان لها في قطار هذا القرن الذي لن يقف سوى في محطة واحدة فقط , ستكون هي الوحيدة التي ستفصل بين من سيستمر ومن سيتقوقع ويتراجع حضاريا , ولو كان ذلك بخلق تحالفات فضفاضة وليس تكتلات محكمة , وكما بينا في أطروحات سابقة بان المتوقع ان يكون هذا القرن هو قرن استثنائي , تعمه الفوضى وتنتشر فيه الخصومات والنزاعات الدولية في كل شي , بحيث ستنتشر فيه أعداد كبيرة من الأنماط الدولية الفاعلة , والأطياف الواسعة من التحالفات المقنعة , ( حيث تبين النظرة الى السياسة العالمية المعاصرة ان النظام العالمي الراهن , والدائب على التطور , نظام هجين , يجمع بين نظامي الأحادية القطبية الفضفاضة وحكم الكثرة ) – او - البولياركي
#محمد_بن_سعيد_الفطيسي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟