أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - زهدي الداوودي - سر غياب حمه جان















المزيد.....

سر غياب حمه جان


زهدي الداوودي

الحوار المتمدن-العدد: 2401 - 2008 / 9 / 11 - 07:09
المحور: سيرة ذاتية
    


كنت إذ ذاك أقوم بمهمة تأمين الأرزاق لقاعدة أنصارنا في قرية "ق" التي كانت تبعد عن القرية التي أسكن فيها حوالي ست ساعات مشيا. وكانت هذه تبعد بدورها عن الطريق العام الذي يربط كركوك ببغداد، والذي يشكل الحدود بين المناطق المحررة والحكومية حوالي الساعتين مشيا. ولذلك كانت المنطقة، كونها شبه سهلية، معرضة دوما للهجمات العسكرية المباغتة. وكان وضعنا لا يساعدنا على القيام بأي نوع من أنواع المقاومة.
كانت هناك قرية صغيرة تحيطها المرتفعات الصخرية الجرداء من كل الجوانب وقريبة من الطريق العام. وجرت العادة، ولا أدري كيف حدث ذلك، أن تتحول هذه القرية إلى سوق حرة تجد فيها كل شئ. وكان أفراد البيشمه ركه والمهربون من العرب والكورد يسرحون فيها ويمرحون بأسلحتهم والابتسامات تعلو وجوههم. وكان بإمكان الإنسان أن يجد أحيانا أفرادا من الشرطة والجيش المجازين يتبادلون الحديث مع أفراد البيشمه ركة بكل ود واحترام. كانت القرية مسرحا لكل شئ، عدا المنازعات والقتال.
كان علي أن أجهز قاعدتنا في منطقة خورنه وه زان بأعداد كبيرة من الأكواب والصحون والملاعق وكميات من ورق اللف والزبانة والشاي والسكر والتمر ومعجون الطماطة ومواد غذائية أخرى، إذ أن مجموعة جديدة من الأنصار كانوا قد التحقوا بالموقع. وبعد الانتهاء من شراء ما نحتاجه، توجهنا ببضائعنا المحمولة على ظهور الحمير إلى قريتي، حيث سنستقبل هناك أحمال القمح والبرغل والرز والبقول، التي تبرع بها فلاحو كرميان لموقعنا في خورنه وه زان. وكان الشخص المسؤول عن عملية قيادة الحمل هو حمه جان، صاحب البيت الذي أسكن فيه.
كانت الساعة تشير إلى التاسعة مساء والظلام يلف كل شئ عندما وصلنا القرية، وكانت وطأة القيظ قد خفت. وعلمنا أن تبرعات الفلاحين قد وصلت قبلنا بقليل. أفرغنا الأحمال في إحدى غرف البيت المخصصة لحفظ التبن، على أن ننقلها إلى القاعدة في الليلة القادمة. وبعد أن تم سقي الحمير وتقديم العلف لها، جلسنا في باحة البيت نستمع إلى الراديو ونأكل البرغل مع الخبز الحار والبصل الأخضر ونرتشف الشاي. وعندما بدأ النعاس يتسلل إلى نفوسنا ببطء، فضل الكل النوم في خارج القرية، تحسبا لهجوم مباغت من جحوش فرسان صلاح الدين. وأما حمه جان وأنا ففضلنا النوم في البيت وعلى السطح، ولكنني قبل أن أذهب إلى الفراش قلت له:
"هل من الصحيح أن ننام في القرية؟"
قال بلهجة صارمة:
"أنت تستطيع أن تنام أينما تريد، أما أنا فسأبقى إلى جانب أموال القاعدة"
قلت باستخفاف ممزوج بالمزاح:
"وهل تعتقد أنك ستنقذ أموال القاعدة، إذا داهمنا الجحوش بأسلحتهم؟"
أجاب بلهجة واثقة:
"سواء استطعت إنقاذها أم لم استطع، فأنا سأنام هنا"
لففت رأسي وأنا اندس في الفراش. وسرعان ما استسلمت للنوم.
أحسست في الصباح الباكر بيد تهز كتفي بقوة. وحين فتحت عيني رأيت زوجة حمه جان وهي تصيح بانفعال:
"هيا اترك القرية بسرعة يا ملا صالح، هيا بسرعة.."
وقفزت من مكاني. كان الشفق الوردي يتهيأ لاستقبال الشمس التي كانت لا تزال تختفي وراء جبل قاجر. وكان خط طويل من السيارات العسكرية المحمولة بالجحوش تتوجه إلى القرية. كان حمه جان يقف بهدوئه المعهود في باحة البيت، يرتشف الشاي ويمضغ ببطء لقمة الخبز. قلت بارتباك:
"ما بالك لا تتحرك؟ ألا ترى السيارات العسكرية؟"
قال بهدوء:
"لا ترتبك، تناول فطورك بهدوء. ما زالت بيننا وبينهم مسافة، تكفي أن تترك خلالها القرية بهدوء. توجه نحو الوادي وأعبر النهر إلى قرية "ن".
قلت باستغراب:
"وأنت؟ ألا تريد أن تترك القرية؟"
"أنا سآتي فيما بعد، لا عليك مني. سنلتقي هناك في بيت صديقنا الحاج مولود"
قلت بارتباك:
"ولكن.."
قال وهو يتوجه إلى الغرفة التي وضعنا فيها المواد:
"الآن لا مجال للنقاش، هيا أترك القرية بسرعة"
وبعد دقائق هبطت إلى الوادي مع عدد من شباب القرية المسلحين بأسلحة رديئة. أراد قسم منهم إطلاق النار على السيارات العسكرية، ولكننا حذرناهم بأن ذلك سيعطيهم الحجة لحرق القرية وإبادة سكانها بلا رحمة. وعندما اجتزنا النهر إلى الجانب الثاني، بدأ الأعداء يمطروننا بوابل من الرصاص من فوق الجرف المطل على وادي نهر "آوه سبى"، ولكن عبثا، إذ أننا كنا قد أصبحنا خارج دائرة مرمى بنادقهم.
بقينا طيلة النهار في بيت الحاج مولود بانتظار حمه جان دون جدوى. كان يحز في قلبنا أنه لم يترك القرية معنا. وراح بعضنا يؤكد بقناعة أنهم لا شك القوا عليه القبض أو قتلوه، وتألمنا أن أموال القاعدة قد أصبحت لقمة سائغة لهؤلاء الأوباش. كنا نضرب أخماسا بأسداس حول مصير حمه جان. ومما كان يزيد من قلقنا على مصيره اعتقادنا أنهم القوا عليه القبض مع الأموال. وفي كل الأحوال لا يستطيع إنكار حقيقة كونها ملك البيشمه ركة، وفي هذه الحالة يكون الإعدام هو أقل ما يستحقه.
وغابت الشمس ولف الظلام كل شئ ولا شئ عن مصير حمه جان. قال الحاج مولود وهو يجلب مع زوجته طعام العشاء وأدوات الشاي:
"إنكم يجب أن تأكلوا أيها الإخوان. إن إضرابكم عن الطعام لا يعيد إلينا حمه جان. ثم أن حمه جان ليس أول وآخر من يموت في هذا الدرب، هذا إذا كانوا قد قتلوه فعلا. لماذا لم يترك القرية معكم؟ إنه حتى إذا عاد إلينا سليما، يجب أن ينتقد ويحاسب. والآن هيا كلوا ولا تنكسوا رؤوسكم مثل النساء، أنتم رجال"
التفت إلى وجوه الجالسين الغارقين في الصمت ثم مددت يدي إلى الأكل قائلا:
"الحاج مولود محق في كلامه، هيا لنأكل"
وفي هذه اللحظة سمعنا نباح الكلاب، مصحوبا بضجيج غير عادي. وقفز الجميع بصورة لا إرادية إلى خارج البيت. وتسمرنا في أماكننا من الدهشة حين رأينا حمه جان وهو يقود مجموعة من الحمير المحملة بالأحمال الثقيلة. كنا لا نكاد نصدق عيوننا. اندفع حمه جان نحوي مطوقا إياي بقوة، وهو يقول بفرح غريب:
"أهذا أنت حقا؟ لقد أشاعوا في القرية أنهم أصابوك بجروح بليغة"
قال الحاج مولود بلهجة جدية:
"هذه إشاعات استعمارية يا حمه جان"
واصل حمه جان كلامه قائلا:
"انظروا، لقد أنقذت أموال القاعدة كلها، لم نفقد حتى صحنا واحدا"
وتساءل الجميع:
"ولكن كيف يا حمه جان؟"
عندما اتخذنا أماكننا لنأكل هذه المرة بشراهة، قال حمه جان:
"كنت أتوقع إنهم سيداهمون القرية في أية لحظة، ولذلك أخفيت المواد تحت أكياس التبن والبعرور. وعندما وصلوا إلى القرية، ذهبت مع وجهاء القرية لاستقبالهم. وبعد أن رحبنا بهم حسب الأصول، طلبوا منا بيتا ليكون مقرا مؤقتا لهم، وبادرت فورا وتبرعت لهم ببيتي على أن يعطوني الفرصة لتفريغه من أكياس البعرور والتبن. تصوروا لو أنهم عرفوا محتوى هذه الأحمال ولمن تعود، لما تسلمتم إذ ذاك حتى جثتي".
صيف 1965 / سجن الحلة



#زهدي_الداوودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كامل شياع ، ميدالية شرف الكلمة
- لمصلحة من هذه الحملة ضد الكورد؟
- دعوة مخلصة لسياسة واقعية
- كردي فيلي يبحث عن هويته
- إلى اليسار در
- إبراهيم الداقوقي في ذمة الخلود
- حذار من توريط البيشمه ركه في القتال
- أن نكون أو لا نكون


المزيد.....




- سقط سرواله فجأة.. عمدة مدينة كولومبية يتعرض لموقف محرج أثناء ...
- -الركوب على النيازك-.. فرضية لطريقة تنقّل الكائنات الفضائية ...
- انتقادات واسعة لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بسبب تصريح ...
- عقوبات أمريكية جديدة على إيران ضد منفذي هجمات سيبرانية
- اتحاد الجزائر يطالب الـ-كاف- باعتباره فائزا أمام نهضة بركان ...
- الاتحاد الأوروبي يوافق على إنشاء قوة رد سريع مشتركة
- موقع عبري: إسرائيل لم تحقق الأهداف الأساسية بعد 200 يوم من ا ...
- رئيسي يهدد إسرائيل بأن لن يبقى منها شيء إذا ارتكبت خطأ آخر ض ...
- بريطانيا.. الاستماع لدعوى مؤسستين حقوقيتين بوقف تزويد إسرائي ...
- البنتاغون: الحزمة الجديدة من المساعدات لأوكرانيا ستغطي احتيا ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - زهدي الداوودي - سر غياب حمه جان