أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عزالدّين بن عثمان - خرّب العرّاف بيتي: قصّة















المزيد.....


خرّب العرّاف بيتي: قصّة


عزالدّين بن عثمان

الحوار المتمدن-العدد: 2398 - 2008 / 9 / 8 - 05:22
المحور: الادب والفن
    


لم يتعلـّـم وهيانُ الفـَـديَانُ صناعة في صغره، وعندما كبر وتزوّج بقي عاطلا ولم يفكـّـر أبدا في تعاطي مهنة يتكسـّـب منها. ويقضـّـي أيّامه الفارغة في صيد العصافير بالدّبق وبالحبال وفي صناعة الأقفاص من أعواد الدّفلى والخيزران، وهي هواية كان يمارسها منذ صغره. وفي الحقيقة يتعيّش وهيان الفـَـديانُ ممّا يعطيه أخوه الأكبر، حازم، من منتوج أرض خلـّـفها أبوهما الذي مات منذ سنتين. أوصاهما، قبل مماته، بأن يبقيا معا، من بعده، في البيت وألاّ يفترقا وترجـّـى ابنه الأكبر، حازما، أن يعتنيَ بأخيه الأصغر، وهيانَ، وبعياله وألاّ يجبره على العمل في الأرض وأن يقتسم وإيّاه محصولها مناصفة. لكنّ حازما أصبح يستأثر بالقسم الأكبر من المحصول ولذلك نهش الفقرُ وهيانَ وآلم زوجته، دلـّـوعة، العوزُ. شاهدت دلـّـوعة حازما لا يدّخر جهدا عن خدمة الأرض ولا يضيّع فرصة في جمع المال وزيادة ممتلكاته ورأت زوجتـَـه ترفل في النـّـعيم وأبناءه ينعمون برغد العيش فانتابتها الغيرة وتملـّـكها الغضب من زوجها العاجز المتواني.

تزوّج وهيان من دلـّـوعة لمّا بلغ الثـّـلاثين، وهي أبنة زبّال فقير يكنس شوارع قحطانة تثقل كاهله خمس بنات أخريات. ولطيبة قلبه جلب وهيان أثنتين من البنات الخمس المتبقـّـيات لتعيشا في بيته لكنّ دلـّـوعة أعماها الفقر عمّا فيه من مشاعر متسامية فلم تعد ترى فيه سوى عقلا طفوليّا لا نباهة فيه ورجلا خانعا راضيا بالوصاية لا تقلقه الفاقة. وقد ظلـمته كما ظلمه أخوه لأنّ وهيان شاعر متفـنـّـن يجيد السـّـجع والغزل وله إلمام بالأدب الشـّـعبيّ وقلبه يفيض رقـّـة وعطفا. وقد ظلمه كلّ النـّـاس أيضا إذ يعتبرونه أحمق أرعن ويتحلـّـقـون حوله كلّ مساء لتقضية الوقت والضـّـحك على ما يرويه لهم من أشعار عامّية وقصص شعبيّة أو يجيئون إلى بيته ليتفرّجوا على أنواع الطـّـيور التي صادها والأقفاص التي صنعها وتفنّن في صناعتها فإذا ما انصرفوا قالوا إنّه متبلـّـد وخامل وتابع لزوجته. ولم يقدّم حازم لأخيه وهيان المعتمد عليه اعتمادا كلـّـيّا سوى كلمات تطفح شفقة، من حين لآخر، لكي يبقيه تحت جناحه ويمنعه من المطالبة بحقـّـه. ولقد ضجرت دلـّـوعة بالطـّـيور التي علـّـق وهيان أقفاصها في كلّ ركن من البيت وفي كلّ ناحية منه. أمّا ولداه، إيّاد ومنير، فكانا يحبّان العصافير والطـّـيور مثله ويقضّيان أوقاتهما أمام الأقفاص يحادثان العصافير ويطعمانها.

ورغم كلّ شيء، يُمضي وهيان الكثير من الوقت في إخراج الدّيدان من تحت الأرض لكي يُطعم بها العصافير وفي صناعة الطـّـائرات الورقيّة يقدّمها لأبناء الجيران مجّانا مدفوعا في ذلك بما يتحلـّى به من كرم. إنّ الأقفاص المصنوعة يدويّا تحتاج إلى كثير من الوقت وكثير من العناية ولذلك يقضّي وهيان لياليه في تهذيب عيدان الدّفلى والخيزران ونسج الأسلاك الحديديّة، وهذا الإنفاق لطاقاته وأوقاته لم يكن مفيدا من وجهة نظر زوجته. ظلـّـت تزنّ على أذنيه وتقول إنّها لم تعثر على أيّه فرحة في بيتها وتطرح عليه الأسئلة التي يعجز عن الإجابة عليها: لماذا يكون منزل سلفتها، أمينة، ممتلئا بكلّ أسباب التـّـرف في حين يبقى منزلها مجرّدا من شيئ قليل من الثـّـراء؟ لماذا تملك أمينة كلّ تلك الحليّ التي تتزيّن بها؟ لماذا تتمتـّـع أمينة بشخصيّة قويّة وتتـّـبع أسلوبا في الحديث يجعل زوجها، حازما، يستجيب لكلّ طلباتها؟ ما يعلمه وهيان هو أنّ كلّ الأشياء المتوفـّـرة في عائلة حازم وفي بيته لم تكن في متناوله على الإطلاق ممّا جعله يشعر بأنـّـه فاشل في حياته. وكلـّـما سمع ذلك الحديث من زوجته كلـّـما ازدرى أيّامه أكثر. إنّ منزله لا تزيّنه سوى الأقفاص والعصافير المختلفة الأشكال والألوان ولذلك كرهته دلـّـوعة.


۞


تمطـّـى وهيان في فراشه ثمّ نهض متثاقلا وفي نيّته أن يخرج إلى الوادي كعادته ليجمع أعواد الدّفلى يصنع منها قفصا لهدهد صاده أمس لكنّ زوجته أمسكت به من تلابيبه وقالت له:
ـ هل ستقضـّـي عمرك متعطـّـلا راضيا بالتـّـخلـّـف؟ لماذا لا تطالب بنصيبك في الأرض؟ ألا ترى أنـّـنا نعاني من الخصاصة؟
ـ فليفعل أخي بأرضي ما يشاء. إنّه أخى، يا دلـّـوعة، ولن تمتدّ إليه يدي مهما فعل. نحن فرعان من شجرة واحدة؛ كيف أطالبه بالأرض وأنا لا أعلم شيئا عن فلاحة الأرض؟ ماذا سأفعل بنصيبي لئن اقتسمنا الأرض؟ أأتركها بورا أم ماذا؟
ـ سأفلحها بنفسي إن كنت لا تقدر على فلاحتها ولا تخجل من البطالة.
ـ إنّي راض بحالي قانع بما يقدّمه لي أخي من محصول الأرض وأكره الغنى والمال.
ـ اسمع يا وهيان، لا أريدك أن تكون واحدا من سواد النّاس وأحقرهم بل أريدك أن تصبح غنيّا موقـّـرا، مخدوما لا خادما، رفيعا لا وضيعا، قاسيا تملأ القلوب رهبة وإجلالا لا ناكسا مستهانا.
ـ لم أرى امرأة سوداء القلب مثلك يا دلـّـوعة. تريدين بذر العداوة والشـّـحناء بيني وبين أخي بشتـّـى الطـّـرق وذلك شرّ، يا دلـّـوعة؛ ذلك شرّ عظيم.
كشـّـرت دلـّـوعة عن أنيابها وقالت له وهي ساخطة متكلـّـحة:
ـ والله إنّك لسخيف، يا وهيان؛ أتعيّرني وتصفني بالشـّـرّيرة جهارا وأنا لا أبغي سوى تحفيزك؟ أنا لا أريد أن نكون عالة على أحد؛ هل في هذا شرّ أو فساد نيّة؟
شعر وهيان أنّه أخطأ عندما رماها بالشـّـرّ فاعتذر لها وقبّل خدّها وقال لها وهو يقصد أن يليّن قلبها وأن يثنيها عن مخاطبته في هذا الأمر نهائيّا:
ـ افهمي يا دلـّـوعة؛ ليست لديّ الشـّـجاعة لكي أخاطب أخي في قسمة الأرض. إنّه يحبّني ويشفق عليّ وعلى ولديّا، وأنا أحبّه وأشفق عليه. لئن دبّ الخلاف بيننا ضحك علينا النّاس يا دلـّـوعة فأرجو ألاّ تحدّثيني بهذا مرّة أخرى.
لم يكن لما قال أيّ أثر على دلـّـوعة التي تحترق غيرة وتريد أن تناطح السّماء فقالت له في غضب:
ـ أنت لست كفؤا لأخيك. قل لي: لماذا لا يتعلـّـق قلبك بأرفع الغايات؟ لماذا لا تدافع عن حقـّـك الذي استلبه أخوك؟ لماذا لا تعمل على ضمان مستقبل لولديك؟ لماذا لا تسابق غيرك في الدّأب وتحصيل الرّزق؟ إلى متى ستظلّ عاطلا؟ إنّ أخاك يوهمنا بأنّه يتمزّى علينا ويخدمنا لكنّه في الحقيقة لا يقسم محاصيل الأرض قسمة عادلة ويدّخر المال لأبنائه ويعيش وعائلته في بذخ من أرضك. أفق يا رجل؛ لقد استحقرتك النّاس وقالت إنّك من المستغفلين.
ـ دعيني، يا امرأة، في حالي. إنّ ذلك الهدهد وضعته في نفس القفص مع تلك الحجلة فاتركيني أخرج لأصنع له قفصا خاصّا به.
ـ والله لئن لم تستمع لأفتحنّ كلّ الأقفاص ولأطيّرنّ تلك العصافير والطـّـيور كلـّـها ثمّ أهشّم بعد ذلك الأقفاص.
ـ أرجوك، يا دلـّـوعتي، لا تفعلي، وعندما أعود نتباحث في الأمر مجدّدا ونتـّـخذ قرارا.

تلك الصّبيحة، وبنعمة من الله، كما اعتقدت دلـّـوعة، حلّ بمنزلها شيخ من شيوخ قحطانة يعتاش من الدّروشة والسـّـحر وقراءة الأبراج ورؤية الكنوز المدفونة تحت الأرض وطلب منها أن تقدّم له طعاما، وهو رجل فات السـّـتـّـين يضرب في القرى والأرياف عارضا مواهبه مقابل الطـّـعام. أومض في ذهن دلـّـوعة وميض البرق اعتقاد بأنّ مجيئ ذلك الدّرويش له معنى، وشيئا فشيئا رأت فيه ثراء وازدهارا سيحلاّن بها في القريب فرحـّـبت به بكلمات كثيرة فيها كثير من التـّـحبّب وقدّمت له إفطارا لائقا بمقامه. وبينما كان يأكل حدّثها عن منزل معروض للبيع، يقع على ضفـّـة النـّـهر، في مدينة قريبة تسمّى نعيسة، وأكـّـد لها أنّ فيه كنزا مدفونا في أسّـه. أحسّت بغبطة عارمة وعلى الفور صارت ترى الأشياء من حولها ذهبا يشعّ إشعاعا، كالمعلول المصاب بالصّفار يرى كلّ شيء من حوله أصفر. وبعد الإفطار دعته إلى المكوث في بيتها حتـّـى يعود زوجها من الوادي وقالت له إنّه سيشتري المنزل المعروض للبيع. لم يصدّق الدّرويش ما قالت لعلمه بأنّ وهيان يعيش في فقر مؤلم فقالت له إنّ لها اليد الطـّـولى وستجعله يشتري المنزل خلال أسبوع أو أسبوعين. لم يردّ عليها الدّرويش وبقي، ذلك اليوم، في البيت، شاغلا نفسه مع الطـّـفلين، إيّاد ومنير، بتأمـّـل العصافير والطـّـيور ومحادثتها وإطعامها.

وعند المساء عاد وهيانُ من الوادي بحزمة من أعواد الدّفلى على ظهره وفي يده عصفورتان من عصافير الدّوريّ الأرجوانيّة. لم يشأ أن يدخل المنزل لكيلا تحدّثة دلـّـوعة كعادتها في قسمة الأرض وإنـّـما وضع الفرخين في قفص مع عدد من الحساسين ثمّ تربّع في الحديقة، رغم رياح الخريف، وانهمك في صقل أعواد الدّفلى بموساه. لكنّ دلـّـوعة جاءته بوجه متهلـّـل وقالت له إنّ ضيفا قد نزل ببيتهم. ترك وهيان أعواد الدّفلى كارها ونهض ليرى من قدم إلى بيته. وجد الدّرويش، عيثوما، يتأمـّـل الطـّـيور فسلـّـم عليه وقال له معرّفا إيّاه بثروته:
ـ هذا الطـّـائر اسمه الشـّـنقـب وهذا الحسّون الأزرق وهذا الحسّون الأصفر المغرّد وهذا حمام الغاب وهو حمام زاجل مثل حمام البيوت وهذا الطـّـائر يسمّى الغوّاص لأنـّـه يعيش على الأسماك وهذان بطـّـتان برّيتان وهذا كروان وهذه قبـّـرة...
ـ ماذا تفعل بهم؟ لما لا تبيعهم؟
ـ إنّي أحبـّـهم، يا شـيخ عيثوم. هل ثمّة في الدّنيا أعذب من تغريد العصافير؟
ـ قصدت أنّ عندك الكثير منهم. بإمكانك أن تبيعهم وتصيد عصافير أخرى وهكذا تنتفع بالمال الذي تحصـّـله.
ـ أنت لا تعلم كم يسرّني مرآهم وكم أودّ أن أمسك بطائر من طيور الوقواق.
دعاه إلى الجلوس ليتدفـّـأ على النـّـار التي أشعلتها دلـّـوعة في المدخنة. بقي الرّجلان صامتين إلى أن تكلــّـمت دلـّـوعة فأخبرت زوجها بما قاله عيثوم عن المنزل المعروض للبيع وعن الكنز المدفون في أسـّـه. لم يصدّق وهيان وظلّ ينظر إلى ألسنة النـّـار في صمت فقال له الدّرويش:
ـ إنّ الكنز رأيته بعينيّا هاتين والله؛ مائة وثمانون صفيحة من الذّهب الخالص موضوعة في صندوق ضخم مرصـّـع بالياقوت والزّمرّد، كلّ صفيحة تزن رطلين.
ـ لماذا لم تستخرجه إن كنت قد رأيته؟
ـ أنا رجل متزهـّـد لا تعشق نفسي المال ثمّ إنّ المنزل ليس ملكا لي.
لم يعر وهيان للدّرويش أذنا صاغية لكنّه نظرا لكرمه أبقاه في بيته ثلاث أيام وليال ثمّ ودّعه. في تلك الأيّام الثـّـلاث حرمت دلـّـوعة ولديها من الطـّـعام لكي تحسن إلى الدّرويش ولم تلقي بالا لبكاهما وتشكـّـيهما. وفي تلك الأيـّـام الثـّـلاثة أعيق وهيان عن الخروج لصيد العصافير وعن صناعة الأقفاص ولذلك ارتاح عندما رحل ضيفه.

لكنّ دلـّـوعة لم تعرف عيناها النـّـوم مذ جاء ذلك الدّرويش وازداد تحريضها لزوجها على أن يقسم الأرض ثمّ يبيع نصيبه ويشتري به المنزل. ظلّ وهيان متمسّكا بموقفه و ظلـّـت دلـّـوعة ترميه بالسـّـخافة وتقبّح أفعاله تارة وترغـّـبه فيما سيحصّل من مجد وعزّة لئن عثر على الكنز تارة أخرى. قالت له بعد رحيل الدّرويس وعيناها تشعـّـان في وهج من السـّـعادة:
ـ أنظر يا وهيان. إنّ منزلك ينبئ بأنّه منزل رجل فقير ومرآه يجعل الدّموع تطفر من الأعين.
ـ قلت لك إنّي راض به وبحياتي فيه، يا دلـّـوعة.
ـ النّاس تقول إنّ أخاك من غطاريف قحطانة وإنّك من رعائها. زوجة أخيك تتنفـّـخ بمالك وتتبجح بأنّهم يعيلون أبناءك؛ ألا تملّ المذلـّـة؟
ـ لا أصدّق، يا دلـّـوعة، بوجود كنز في المنزل الذي عنه تتحدّثين.
ـ بل فيه كنز. إفهم، يا رجل؛ عندما تشتري المنزل وتعثر على الكنز تقفز إلى ذروة المجتمع قفزة واحدة وتحصـّـل رفعة وعزّة لا تضاهى وتتقمّص قدرا وهمّة لا يُدركان. إلى متى ستظلّ ضعيف النّفس متخاذلا قانعا بنصيب دنيئ؟
ولئن لم يعر وهيان لأقوالها بالا فقد كان يتألـّـم وهي تعيّره بالخمول وعدم الفهم ولم يجرؤ على مفاتحة أخيه في قسمة الأرض فاتـّـخذت دلـّـوعة تلك المهمّة على عاتقها لعلمها أنّ وهيان لن يفعل مهما حاولت دفعه إلى ذلك. وحين علم بأنـّـها كلـّـمت أخاه وطلبت منه أن يقسم الأرض غضب فراحت دلـّـوعة نتتحب قائلة:
ـ ويحي! هل فعلا ألفتَ الفقر ورضيتَ بالدّون؟ إلى متى شتظلّ قاعدا عمّا تتوق إليه الأنفس؟
أشفق عليها وهيان فعانقها لكنـّـها منذ ذلك اليوم صارت تقول له كلـّـما أبدى رأيه في أمر من أمور البيت:
ـ كلّ النـّـاس يعلمون أنـّـك ذكيّ للغاية حتـّـى أنـّـك لا تريد أن تشتري منزلا فيه كنز حقيقيّ شاهده العرّاف عيثوم وأكـّـد أنّه حقيقيّ.
مثل هذه الأقوال طحنت قلبه طحنا.


۞



احتار وهيان فيما يفعل. يظلّ هائما على وجهه في الأحراش المجاورة طوال اليوم ثمّ يعود إلى البيت ليلا فيظلّ يتقلـّـب في فراشه كانّه نائم على الأشواك والمسامير. رغم ذلك كان يسعى دوما إلى استرضاء دلـّـوعة لأنـّـه يعلم أنـّـها غاضبة منه. ولكي يطيّب خاطرها جاءها ذات يوم بهديّة لكنـّـها رفضت فتح اللـّـفافة فأخذها من يدها ليفتحها بنفسه. أمضى وقتا طويلا في حلّ عقدة الشـّـريط الأحمر الذي يربط اللـّـفافة ثمّ أزاح غطاء الصـّـندوق ليعرض على دلـّـوعة سفينة صنعها بنفسه من خشب الصـّـنوبر وجعل لها صارية وشراعا من القماش الأبيض وعلما من الكتـّـان الأحمر ودفـّـة ومجدافين. أظهر وهيان بذلك العمل قدرا كبيرا من العناية والدّراية الفنـّـية لكنّ دلـّـوعة أشاحت بوجهها عنه وقالت له:
ـ ماذا أفعل بقطعة من الخشب لا قيمة لها؟ ضعها بجانب سريرك كي تحدّق فيها كلّ ليلة.
كيف تفرح بهديّة من خشب، ليست عقدا من ذهب أو سوارا أو فستانا ساتانيّا، وعلاوة على ذلك، لم تكلـّـفه شيئا وإنـّـما صنعها بيديه؟ آمن بأنّ الأقدار قد حرمته من القدرة على إرضاء النـّـساء. صارت دلـّـوعة تتردّد على العرّافين والمنجّمين لكي يتنبّأوا لها ما إذا كانت حياتها ستتغيّر فتنبـّـأوا كلـّـهم بنهاية سعيدة لها وقالوا لها كلـّـهم إنّ مصادفة حميلة تنتظرها لكنّ فضولها لم يُـشبَـعْ. وذات يوم عاد عيثوم من جديد فاستضافه وهيان مرّة أخرى، وقبل رجيله أكـّـد لدلـّـوعة أنّ زوجها سيعثر على الكنز وإن لم يعثر عليه خلال شهرين ليحرقنّ كتبه كلـّـها وليقلعنّ عن العرافة وقراءة الأبراج. هذا القول جعل حياة وهيان تؤول إلى تعاسة مطلقة لأنّ زوجته أصبحت تخاصمه خصاما شديدا وتقول له إنّها لم ترى دماغا معبّأة بالرّوث كدماغه. وكلّ مساء يشاهد وهيان النـّـاس عائدين من المدينة في معاطفهم الصـّـينيّة العازلة للمطر وفي سلالهم كلّ أنواع الخضر والفواكه وفي أيديهم ثياب لأبنائهم ولفافات فيها عطور ومطريّات وأشياء جميلة لزوجاتهم. كلّ مساء يشعر بالخزي لأنـّـه لا يقتني أيّ شيء لزوجته وولديه. قارن منزله المليئ بالهمّ والغمّ بمئات المنازل المليئة بالمتعة ولم يكن بوسعه سوى أن يتنهـّـد ويعرب عن أسفه من أنّ قسمته جعلت منه رجلا عديم الفائدة.

مصى الخريف كضحكة عابرة في وجه وهيان وحلّ الشـّـتاء أسود كالح وحال زوجته لم تتغيّر فلم يجد بدّا إلاّ أن يأخذ نصيبه من الأرض وأن يبيعه. وعندما قبض الثـّـمن توجّه به إلى عيثوم ليدلـّـه على مالك المنزل الذي يحتوي على الكنز فمني بمفاجاءة لم تخطر له ببال إذ أنّ مالك المنزل هو عيثوم نفسه. لم يشأ وهيان أن يشتري المنزل فعمل عيثوم على إقناعه ووعده بأن يحدّد له المكان الذي توجد فيه صفائح الذّهب بكلّ دقـّـة. وبعد عمليّة الشـّـراء رفضت دلـّـوعة أن تغادر وإيـّـاه إلى نعيسة وحثـّـته على أن يمضي إلى ذلك المنزل بنفسه وأن يعود إليها ما إن يعثر على الكنز؛ ذلك ما أشار به عليها العرّاف عيثوم. لم يغادر وهيان منزله من قبل ولم يعش في بيت منعزل لوحده أبدا ولذلك حزن أشدّ الحزن لفراق زوجته وولديه. وأشدّ ما يحزّ في نفسه تركه لعصافيره وطيوره. باعت دلـّـوعة حليّها الفضّية التي ورثتها عن أمـّـها وقدّمت له المال الذي حصلت عليه لكي يصرفه على نفسه إلى أن يجد الكنز. أحسّ وهيان بأنـّـه ذاهب إلى ذلك المنزل ليموت فيه وليس لينقـّـب عن كنز مردوم في أسـّـه. عانق ولديه وقبـّـلهما طويلا ثمّ خرج والدّمع يترقرق من عينيه.

أقام وهيان في نعيسة ولم يحسس بالطـّـمأنينة أبدا وبقي يترقـّـب قدوم عيثوم ليحدّد له مكان الكنز لكنّ عيثوما لم يأت. وكلّ ليلة يشعل مصباحا نفطيّا ويستلقي على البلاط البارد بثيابه، في المنزل الفارغ، ثمّ يغطـّـي نفسه بملحفة ويبقى على تلك الحال يترقـّـب أن يأخذه النـّـوم لكنّ إيمانه بأنـّـه جاء إلى ذلك المنزل المهجور ليموت فيه وتفكيره في الطـّـريقة التي بها سيموت يؤرّقان جفنيه. وذات ليلة، عندما خمد كلّ شيء، سمع وهيان ضجيجا قادما من مكان ما في المنزل؛ ضجيج منخفض ولكنّه واضح كما لو كان قادما من تحت المنزل حيث يعدّ حافظ الكنز القطع النـّـقديّة الذّهبيّة. حمل المصباح النـّـفطيّّ وانتقل من غرفة إلى غرفة وقد تملـّـكه الخوف. قضـّـى تلك اللـّـيلة متنقـّـلا من غرفة إلى غرفة وعند الفجر اختلط ذلك الضـّـجيج بضوضاء المدينة ففـُـقد. وعندما يهجع كلّ شيء ليلا يسمع وهيان ذلك الضـّـجيج لكنّه لم يتعرّف على مأتاه ولذلك ظلّ قلقا للغاية.

مرّت الأيام وهو غير متيقـّـن من كنه الضـّـجيج الذي يسمع. جعل الأرق والأمل الكاذب والقلق تجاعيد تظهر على وجهه. وذات صباح، تناول هراوة غليظة وأخد يضرب بها أرضيّة الدّار وقد فكـّـر في أنّه لئن كان هناك دهليز تحت المنزل فإنـّـه قد يتعرّف عليه من خلال الصـّـوت الذي تحدثه الهراوة. لم يكن مخطئا في لجوئه إلى سبر المكان بتلك الطـّـريقة فقد وجد فراغا تحت الغرفة التي ينام فيها. جاء بمعول ثمّ راح يحفر الأرضيّة، وعند منتصف اللـّـيل انتهى من الحفر ووجد شيئا شبيها بالسـّـرداب مبنيّا تحت المنزل. لم يكن بإمكانه أن ينحدر إلى ذلك السـّـرداب في تلك السـّـاعة المظلمة من اللـّـيل وأرجأ ذلك إلى أن يطلع النـّـهار.


۞


أنصت وهيان للضـّـجيج وتبيّن جريان مياه وقرقعة بدت له ناتجة عن اصطكاك معادن. أحضر سلـّـما ثمّ انحدر في السـّـرداب المظلم وفي يده مصباح جيب. وجد نفسه واقفا في مياه عكرة بلغت منه حدّ الخصر. تقدّم على ضوء المصباح داخل القبو ثمّ أدخل يده في الماء وراح يتحسّس قاع القبو. وجد شيئا ضخما ملفوفا في بطانية ومربوطا بحبال. حاول رفعه لكنّ الشيئ الملفوف في البطانية كان ثقيلا جدّا. تصارع معه وهيان إلى أن تمكـّـن من رفعه فوق كتفه ثمّ الصـّـعود به إلى الغرفة. قطع الحبال بموساه ليخرج ما وجد من البطـّانية. ما إن أزاح طرفا من البطـّـانيّة حتـّـى أصيب بالذّهول والغثيان إذ برز له رأس امرأة مقسوم إلى نصفين. راح يقفز في الغرفة كالمجنون ولا يدري ماذا يفعل. أزاح الطـّـرف الآخر من البطـّـانية فرأى جثـّـة متعفـّـنة مقطـّـعة إلى ستّ أجزاء: الرّاس والجذع واليدين والرّجلين. خرج منذعرا وثيابة ملطـّـخة بالوحل وتوجـّـه إلى أقرب نقطة للبوليس جريا.

أوقفه رجال البوليس وأخضعوه للتـّـحقيق ولم تنقذه سوى التـّـحاليل المخبريّة التي أستطاعت أن تثبت هويّة المرأة المقتولة؛ إنـّـها زوجة العرّاف عيثوم. جدّت السـّـلط في البحث عن عيثوم حتـّـى أوقفته وزجـّـت به في السـّـجن. وما إن أطلق سراح وهيان حتـّـى استقلّ القطار عائدا إلى زوجته وولديه وعصافيره وفي حسبانه أن يعود للعيش كما كان يعيش كلّ أيّامه. بلغ بيته ليلا فجلس أمام المدخنة واجما ثمّ راح يصقل أعوادا من الدّفلى وهو غير عابئ بدلـّـوعة التي لم تنقطع أسئلتها عن الكنز. أقلقته بالأسئلة فعضّض شفتيه في غضب وتشاؤم من تغيّرها. ظلـّـت تلحّ عليه طوال اللـّـيل بأن يخبّرها عن الكنز فانتفض واقفا، عند الفجر، وغادر البيت ليقف في الحديقة تحت المطر. لم تلحق دلـّـوعة بزوجها المعذّب الحزين وإنـّـما آوت إلى فراشها وقد يئست منه. وفي الصـّـباح بحثت عنه فلم تجده في البيت. انتظرته وفي ظنـّـها أنـّـه سيعود لكنـّـه لم يرجع. قال لها حازم عندما حدّثته بالسـّـبب الذي جعله يترك البيت:
ـ أنت امرأة فاسدة الطـّـويّة. لقد فرّ لأنـّـه تجرّع منك الغصص.
انتحبت دلـّـوعة بصوت يفتـّـت الأكباد: "ويحي خرّب بيتي العرّاف. ويحي، تيتـّـم ولداي...". تلهـّـفت وتحسّرت وتندّمت ولات وقتَ تلهـّـف أو تحسّر أو تندّم.



#عزالدّين_بن_عثمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حبّ صنعته القسوة: قصّة
- العولمة والبروبغندا الأمريكيّة وجهان للهيمنة على العالم:
- تعطّل وظيفيّ: قصّة
- أنا القاتلة
- علاقات السّلطة في المجتمع: فصل من كتاب في علم الإجتماع
- معنى استقلاليّة القضاء وشروط المحاكمة العادلة
- حكم الحزب الواحد والتّعدّدية المزيّفة في البلدان العربيّة ود ...
- حكم الحزب الواحد والتّعدّدية المزيّفة في البلدان العربيّة ود ...
- حقوق الإنسان ومضمون نظريّات حقوق الإنسان:


المزيد.....




- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عزالدّين بن عثمان - خرّب العرّاف بيتي: قصّة