أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عزالدّين بن عثمان - أنا القاتلة















المزيد.....



أنا القاتلة


عزالدّين بن عثمان

الحوار المتمدن-العدد: 2368 - 2008 / 8 / 9 - 05:36
المحور: الادب والفن
    


ها هي شوقيّة سيحان، في النّهاية، تسكب الدّمع، وقد طمرت رأسها في الفراش بين عدد من المخدّات والأغطية، وابنتاها، آرام وميسان، تلعبان بجانب السّرير بدمية من الفرو وبعض الخرق. إنـّـها تبكي دون أنين، من حين لآخر، ولم تعد تنتظر شيئا. أضلعها ملأى بنكبات السّنين وروحها أدمتها الخدوش. صارت بلا جوهر، هيكلا يقـفـقـف وليس فيه ذرّة من ولع أو شغف. عيناها الخضروان غارتا، وقد كانتا من قبل ساحرتين. طوّقتهما الحمرة حتـّـى أنّها لم تعد تحتمل مسحهما بمنديل مهما كان ناعما. المحن المؤلمة التي أُخضِعت إليها أصابتها بالذّهول، ولكنّ النـّـاس الذين يأتون لزيارتها وتهنئتها بالنّجاة لا يرون لحزنها من مبرّر. بقيت على تلك الحال ساعات، ثمّ راحت تقلـّـب فكرها فيما أصابها. وفيما هي تغالب الألم وتحاول أن تستلهم ممّا ألمّ بها درسا وعبرة وحكمة دخل الغرفة، راتق الصّادق، المحامي الذي خلـّـصها من الموت. أزاح الأغطية عن رأسها وشعرَها الكستنائيّ الغزير عن خدّها فنظرت في وجهه نظرة تائهة ورجفت شفتاها ففهم ما أرادت أن تقول.
ـ لا يجب أن تبقيْ طريحة الفراش، يا شوقيّة. لا تنظري إلى الوراء. كوني قويّة!
ظلـّـت عيناها تنظران في الوجه الباسم بأساريره المشجـّـعة الباعثة على الثـّـقة ولم تقل شيئا. أمسك بيدها في يده وقال لها في حنوّ:
ـ إنّ حبـّـي لك سينسيك فضاعة الأحداث التي عشت!
عادت بفكرها للحاضر فتساقطت من عينيها العبراتُ تساقط الغمام.

٭٭٭

في البداية لم تعرف شوقيّة الحبّ. دخلت معترك الحياة وهي طفلة. وُجدت عندما لم يكن هناك شيء موجود من حواليها فلم ترى أباها، مذ ولدت، ولو مرّة واحدة، ثمّ تركتها أمـّـها عند خالتها ورحلت دون رجعة. لم تشاهد، كلـّـما تحسّست طريقها، سوى الفراغ. حياتها كانت بلا شكل. لم تفهم الأسباب والعلل. وعندما كبرت كانت دوما تبحث عن الذّريعة لتتقرّب من النّاس ولا تحاول أن تفهم الدّوافع التي تجعل البعض مهتمّا بأمرها. ظلـّـت وحيدة مغتربة في مدينتها المسمّاة "جسيدة" . بقيت على حالها ضعيفة الإرادة، ميّالة إلى كلّ من يحيطها بشيء من العطف والرّعاية. كانت في صباها جميلة يملأ حسنها القلبَ سعادة. وعندما بلغت السّـابعة عشرة باتت في ذروة الرّوعة والسّحر. ولم يكن زوج خالتها، وهو رجل في الخمسين، بغافل عن براعة جسمها التي تشدّ عينيه بكلّ قوّة. تابع حركاتها من بعيد، لأيّام عدّة، وهي تعمل في بيته دون كلل. آه! إنّها فاتنة! لقد أوقضت فيه مشاعر الصّبا فصبا إليها وفكّر في حيلة خسيسة. نهض ذات صباح وتوجّه إلى السّوق فاقتنى لها فستانا جميلا وعاد به إليها. ناداها إلى غرفته فجاءت مهرولة لتساعده كعادتها على خلغ معطفه ثمّ الحذاء. وحين امتدّتا يداها إلى رقبته لنزع المعطف استدار نحوها وطوّق خصرها بيديه وراح يشرح لها بأنّه سيقدّم إليها هديّة ثمينة. شعرت بيديه تتحسّس جسمها. أطلقت صرخات استغاثة وهي تحاول التـّـملـّـص من ذراعيه الحديديّتين. هرعت إليها خالتها جمامة. زعقت في وجهه طويلا، وهي في سورة الغضب تختلج، وأغلظت له القول، وهو باهت من فرط الحياء، ثمّ أقسمت أنّها لتريحنّه من شوقيّة في التـّـوّ.

جمعت جمامة بعض الثـّـياب في حقيبة، ثمّ انحدرت لشوقيّة التي لاذت بغرفتها، وهي غرفة حقيرة في الطـّـابق السّفليّ، فأنـّـبتها واتـّـهمتها بأنّها هي التي أزهفت عقله. ذرفت شوقيّة الدّمع وأقسمت على أنّها بريئة لكنّ الخالة جمامة أمرتها بأن تتبعها وشرحت بأنّهما سيلوذان ببيت ابنتها، الواقع في ناحية من المدينة، إلى أن يستعيد زوجها رشده، وأنّها لا بدّ أن تفرّ بشوقيّة قبل أن تحصل الفضيحة. لم تهدأ جمامة طوال الطـّـريق وآمنت بأنّها كشفت عن نيّة فاسدة ونفس مريضة لدى شوقيّة، ومنذ ذلك اليوم جدّت في البحث، سرّا، عن زوج يتزوّج شوقيّة دون مهر ويأخذها إلى بيته في الملابس التي عليها دون تأخير، وأمعنت في التـّـفتيش. وجدت ضالـّـتها في رجل، في الأربعين من العمر، قدم من مدينة أخرى ليعمل نادلا في إحدى الحانات. رأى شوقيّة في السّوق فاجتاحته رغبة عنيفة في الفوز بها. وذات يوم، سأل جمامة عن شوقيّة، بدافع الفضول، كما قال. عبّرت له جمامة عن إيمانها بأنّ شوقيّة ابنة حلال، خدوم، مطواع، وأوضحت بأنّه أهل لها وهي أهل له، إن كان يرغب في الزّواج منها. خفق قلبه فرحا فبيّن لها بمنطق سلس أنّه راغب فيها وأنّ بقلبه حرقة ووجد إذ تقدّمت به السّنّ ولم يعثر على من تقاسمه أيّامه.

عقدت جمامة اتـّـفاقات، في السّرّ، مع النّادل، يوسف الأسطم. ولم تمضي أيّام حتـّـى جاء يخطب شوقيّة. لم يرق لشوقيّة شكله إذ هو متكرّش وقصير ولكنّه غليظ، ولم تعجبها هيئته إذ هو رثّ الثـّـياب، ولكنّها فكـّـرت كثيرا في أمرها وأمره. مارست عليها خالتها جمامة ضغوطا وقالت إنّ الأنثى إذا ما كبرت فإمّا أن تـُـزوّج وإمّا أن يُحفر لها قبر لكي تـُـدفن فيه لأنّها بطبعها ستقترف زلـّـة وتلصق بأهلها عارا لا يمّحي إذا ما بقيت بلا زوج. لم تقل شوقيّة شيئا لأنّها لا تريد أن تحاجّ خالتها فيما ذهبت إليه فانتبذت بها جمامة ناحية من الغرفة وعمدت إلى تذكيرها بما فعلت بزوجها وهدّدت بأن تفضح أمرها لئن لم تذعن. وعندما عادت إلى مجلسها، وقد وافقت شوقيّة خوفا، نفخ يوسف الأسطم شدقيه وقال لها:
ـ يا شوقيّة، أنا رجل متواضع ولكنّي جمعت مالا كثيرا لأغرقك به في النّعيم. سأشتري منزلا فسيحا نعيش فيه وسأجعل لك قلبي بساطا تمشين عليه لأنّي أحبّك فلا تمانعي.
أجابت جمامة عوضا عن شوقيّة التي عقلت لسانها الكآبة مذ وقعت تلك الواقعة وتسبّبت في مجيئها إلى هذا البيت:
ـ لقد وافقتْ فتجهّز للعرس. أنا لا أريد منك مهرا وشوقيّة لا تريد شيئا، لا ذهبا ولا فضّة. بالله عليك، يا سي الأسطم، أين ستجد فتاة مثلها شخصا راشدا طيّب الضّمير مثلك يتزوّجها وهي يتيمة ولا أحد يعلم أين أمّها وأين أبوها؟
ـ لا فائدة في ذكر هذا، يا خالتي جمامة. سأجعل شوقيّة تحبّني بإحساني إليها وسأقدّم لها مهرا وسأشتري لها ذهبا فذلك من تعاليم ديننا. وإن شئت حدّدنا موعد العرس الآن فأنا متهيّئ له منذ سنين.

تمّ العرس بعد أسبوعين من الخطبة وأُخذت شوقيّة إلى دار الأسطم في سيّارة مرسيدس تعود لصاحب الحانة التي بها يعمل وتبع سيّارة العروسين الفخمة طابور من السّيّارات المختلفة الأشكال والألوان. قطعت السّيـّـارات شوارع "جسيدة" وشوقيّة تحلم. رأت نفسها في حديقة جميلة ملؤها الدّفء والرّفاهة ونسيم عليل يعبق بالرّوائح العذبة التي تملأ النّفس نشوة وسرورا. وفي وقت ما، وعندما أمر يوسف الأسطم سائق المرسيدس بأن يتخذ منعطفا يوصل إلى منزله، وجد السّائق أمامه جنازة محمولة على الأعناق، محاطة بجموع غفيرة من المشيّعين تهلـّـل وتكبّر فالطّريق المؤدّية إلى الجبّانة يمرّ أمام منزل الأسطم الجديد الكائن في حيّ يسمّى حيّ الأمانة. استفاقت شوقيّة من حلمها ورأت، من خلال الزّجاج الأماميّ للسّيـّـارة، أنّ غيوما داكنة قد حجبت الشـّـمس المائلة للمغيب. راحت تستذكر طفولتها وتبدّى لها بأنّها ستجد شيئا من السّكينة. سار المحتفلون بعرس شوقيّة وراء الجنازة على مهل وعندما بلغوا دار الأسطم قال لهم إنّه لا يريد أن يقيم احتفالا وذلك احتراما منه لأهل الميّت الذي شيّع إلى ضريحه قبل قليل. استاء النّاس وتهامس بعضهم بأنّه، دون شكّ، لا يريد أن يفتضح أمر شوقيّة، وأكـّـد أخرون أنّه كان على علاقة بها من قبل أن يُرغم على الزّواج منها. أصاب شوقيّة خوف ووجل ولكنّها حدّثت النّفس بأنّها ليست كهؤلاء النّاس ولن تعير اهتماما لما قد يتقوّلون به عليها وقالت إنّ زواجها سيغيّر شيئا ما من طبيعة وجودها. آه! إنّ الفضيلة نسبيّة والتـّـسامح ادّعاء والشـّـفقة قناع! آه! إنّ الصّراع ضدّ العقول المتحجّرة يكاد يكون عقيما!

مرّت الأيّام على شوقيّة، رتيبة، بطيئة، خانقة، لأنّ زوجها منشغل بعمله ويعود إليها في ساعة متأخّرة من اللـّـيل. وبين فترة وأخرى يسافر إلى مدينته البعيدة ويمكث فيها شهرا أو شهرين، ويستدعي قبل سفره جمامة لتقيم مع شوقيّة في غيابه. تحمّلت واصطبرت، وشيئا فشيئا أقامت صداقات مع نساء كثيرات تقطنّ حيّ الأمانة لعلمها أنّهنّ لم تستسغن زواجها من الأسطم ولأنّها تسعى إلى أن تجد لنفسها مكانا بين جماعات حيّها تستمتع فيه بشيء من المودّة والأنس. ولكنّ الخضوع من أجل أن تنال شيئا من الحبّ جعلها تثق في أناس هم في الحقيقة يبغضونها. وأمّا الأسطم فقد أخلصت له وصادقته الحبّ بالرّغم من أنّه لم يغرقها في النّعيم كما وعد ولم يغمرها بعطفه كما أكّد ولم يسبغ عليها من إحسانه شيئا، وإنّما أرادها أن تكون سجينة في بيت شيّد جدرانه من حبّ وهميّ. ولن يتضرّر لئن حجب عنها الشّمس. وحتـّـى المنزل الذي اشترى لم يكن فسيحا وإنّما هو منزل قديم مكوّن من ججرتين وحوشا ضيّقا، بيت لا يعرف رقـّـة ولا شاعريّة ولا عاطفة مترفـّـقة. اتـّـضح لشوقيّة أنّه متملـّـق، اللـّـؤم والشـّـحّ ملء ضلوعه، غير أنّها تفطـّـنت إلى أنّها حامل. وجدت في حملها ذريعة لكي تغضّ الطـّـرف عن إهماله لها وقالت إنّه سيتغيّر ما إن تضع مولودها. ولمّا أزفت ساعة المخاض لم تجد الأسطم حولها فسارت إلى المستشفى مشيا. وكان المولود أنثى. أسمتها شوقيّة "آرام"، وعندما عادت والرّضيعة إلى البيت لم يبدي الأسطم احتفاء أو شيئا من الابتهاج. أنّى له أن يكون محبورا بأنثى؟

وذات يوم همستْ لشوقيّة جارة لها بأنّ الأسطم متزوّج من أمرأة أخرى. أذهلها الخبر ولكنّها حين استفاقت لم تصدّق فأكـّـدت الجارة أنّها تعرف زوجته معرفة دقيقة وأنّ له منها ثلاث أبناء. أصطلى قلبها حزنا وفاضت نفسها ترحا. بكت ندما وأسفا ولم تفهم كيف كتم عنها كلّ النّاس الذين حضروا الخطبة أمرا خطيرا كهذا. همّت بأن تترك البيت وتذهب إلى منزل خالتها. ثمّ تذكـّـرت زوج خالتها فاجتاحتها كآبة خانقة. وبعد ردهة من الزّمن قالت لابدّ لها أن تنتظر الأسطم حتّى يعود من عمله لتستجلي منه الأمر، ثمّ تتصرّف. وانتظرت عودته على أحرّ من الجمر. وجدها تسكب الدّمع في صمت وتتضوّر ألما والرّضيعة في سريرها ترغو رغاء عاليا. وقف قبالتها محاولا أن يستفهم منها ما يبكيها فلمّا خبّرته بالأمر أنكر بإصرار. وحين أعلمته بأنّها تعرف أين تقطن زوجته وأنّها ما إن يكون الصّباح حتّى تستقلّ القطار للذّهاب إليها لكي تتأكّد من الأمر، تضاحك وقال لها:
ـ سامحيني يا شوقيّة، لقد خبّأت عليك كيلا ترفضي الزّواج منّي! وإنّي والله سأطلـّـقها قريبا.
آه! لمن تشتكي وبمن تستجير وليس لها من معوّل ولا سند؟ من يؤوي أمّا ورضيعتها في زمن صارت فيه العلاقات البشريّة مصالح؟

تجرّعت غصّة لا ينفع معها الصّبر. أبهمتها الخديعة فلم تغادر البيت وحبست نفسها فيه ولم تعد تفكـّـر وكأنّما أصابها الخرق. نبذها النّاس وقالوا إنّ وراء زواجها من رجل في الأربعين علـّـة سوف تـُستبان. وأمّا يوسف الأسطم فقد وجد في ضعفها وافتقارها إلى الثـّـقة بالنّفس وسائل لكي يطغى عليها فقال لها يوما حين تذمّرت من خديعته:
ـ اسمعي يا شوقيّة، أنا رجل معقـّـد! والله لألويّن رقبتك كفرخ دجاج!
اصطبرت على مضض ولم تكاشح عن نفسها. وذات يوم سافر الأسطم كعادته إلى مدينته ثمّ عاد بعد أسبوع مرفوقا بزوجته الأولى وأبنائه الثـّـلاث. انفضح أمر شوقيّة وعلم سكّان الحيّ أنّها تزوّجت الأسطم على ضرّة ووجدوا في ذلك مدعاة للإستغراب والاستنقاص وراحوا يبحثون عن الأسباب. أصبحت شوقيّة واعية بأنّ المحيط الذي تعيش فيه متجمّد، تلفـّـه الظـّـلال، ولا يستنير بنور، وإنّما يسير في الظـّـلمة الدّهماء متحسّـسا. تلك الظـّـلمة مساوية لمحنتها، اجتاحت حياتها، خنقت أحلامها، كسرتها شظايا. رضخت مرّة أخرى وقبلت أن تعيش وضرّتها، المسمّاة تفّاحة، تحت سقف واحد. تعلـّـمت أنّها تعيش وحيدة في حاضر أبديّ هو امتداد لضياعها الأوّل. لم تعد تفكـّـر في المستقبل، في نظام يصنعه التـّـعلـّـق من دون امتهان ولا جور. إنّها مجرّد ظلّ لأشكال بلا مستقبل. وتوصّلت إلى أنّ الحماية التي يوفـّـرها الرّجل مبنيّة على الغشّ والاستعباد والتـّـحكـّـم العشوائيّ.

ظلـّـت شوقيّة تحسّ برغبة عارمة في إطفاء النّار المستعرة في أحشائها، رغبة في الحبّ اللاّمشروط الذي يمنحها قوّة وأمنا. وبإمكانها أن تسبي قلوب الرّجال بنظرة واحدة من عينيها الخضراوين إلاّ أنّ نفسها تمقت الرّذالة. حملت مرّة أخرى وولدت أنثى، مرّة أخرى، أسمتها ميسان، وقد عدّ الأسطم قدومها كربة أخرى. وفيما كانت شوقيّة تقاوم نفسها الجامحة واجهت تعقيدات أخرى فقد سعت ضرّتها، تفـّـاحة، وهي تكبر زوجها الأسطم بعشر سنين، إلى الهيمنة عليها، وكانت تحرق قلبَها نار الغيرة وشعور بالنّقص والمهانة. عملت شوقيّة على أن توجد شيئا من الوئام عبر الرّضوخ حتـّـى صار وجودها مأساة مستديمة. بالرّغم من ذلك يرى النّاس أنّ شوقيّة كانت هي المخطئة. هذا الجمود الضـّـارب كيف يتغيّر من اللاّهدف إلى الإمساك بزمام القدر وتوجيهه؟ لم تجد شوقيّة لهذا السّؤال من جواب. وحين تفاقم الأمر وبلغ الألم حدّا لا يطاق تخلـّـصت من البراءة ومن الأدب وصارت تخاصم وتزعق وتجادل وتكاشح حتـّـى كاد الأسطم يفقد عقله.

وفي حيّ الأمانة سئم النّاس الشـّـجار المتواصل وتحمّلوا، كارهين، الصّراخ والزّعيق الذين ينبعثان من دار الأسطم، في الصّبح والعشيّ، وخلال النّهار، وعند القيلولة، وفي أيّام الآحاد والعطل الوطنيّة، وخلال الأعياد والمواسم الدّينيّة. وكانت القلاقل التي تجدّ، في أوقات مختلفة من النّهار واللـّـيل، تثيرها تفـّـاحة. ويندلع الخصام، على حين غرّة، لأتفه الأسباب، أحيانا، ولأسباب معقولة، أحيانا أخرى، بين تفّاحة وشوقيّة، أسواء كان الأسطم حاضرا في البيت أم متغيّبا عنه. وتبادر تفـّـاحة، دائما، إلى المشاحنة واللـّـداد كلـّـما أسرفت شوقيّة، في استعمال الماء. وتشيط تفـّـاحة غضبا فتطلق العنان للسانها وحنجرتها، كلـّـما أفرطت شوقيّة في إنارة المصباح الكهربائيّ الوحيد الموجود بالغرفة التي تتقاسمها مع بنتيها. وفي أحد الأيّام قسمت تفـّـاحة الحوش إلى شطرين غير متساووين برسم خطّ مستقيم، بالطـّـبشور الأحمر، يبدأ من تحت الميزاب الموجود بجانب باب الغرفة التي تسكنها شوقيّة وينتهي في جانب من باب الحوش، وحرّمت على شوقيّة وبنتيها، آرام وميسان، تعدّي ذلك الخطّّ. وتتخاصم تفـّـاحة وشوقيّة حول استعمال حبل الغسيل، إذ تنشر عليه كلّ منهما غسيلها لأيّام ثلاث في الأسبوع ويبقى شاغرا في اليوم المتبقـّـي، وتختلفان حول تنظيف الحوش، إذ تقوم به كلّ يوم إحداهما، لكنّ تفـّـاحة لا يعجبها تنظيف شوقيّة له.

وتتعاركان حول الهرّة وحول رغاء الأطفال وحول غلق الأبواب بقوّة وحول الشـّخير عند النّوم وحول كلّ شيء. أعـْـنَتَ شوقيّة الخصام وخذلتها تطلـّـعاتها وضاق الأسطم ضرعا. وممّا زاد الوضع تعقيدا أنّ الأسطم فـُـصل من عمله بسبب خصومة مع أحد الزّبائن السّكارى فاتـّـهمه صاحب الحانة بأنّه متصعّب في معاملة الحرفاء. ظلّ بلا عمل يتسكـّـع نهارا ويعود إلى البيت عند الفجر. عانت تفـّـاحة وشوقيّة من الفقر وكابدتا الجوع. وفي صبيحة يوم قارس نهض الأسطم من النّوم ونادى تفـّـاحة وسألها إن كان هناك كوب من القهوة يحتسيه. جاءته مهتاجة، وفي عينيها ضراوة تراكمت على مرّ الأيّام بسبب الجوع وراحت تصيح في وجهه ساخطة:
ـ تحمـّـلت منك الظـّـلم والإحتقار. جوّعتني وأبنائي. ليس لي سوى كساء واحد مللت ترقيعه كلّما تفتـّـق. وفوق ذلك أكابد من زوجتك الشـّـراسة والفظاظة والبذاءة. نفذ منـّـي الصّبر. والله لأقتلنّ نفسي اليوم!
أحنقه ما قالت فصاح فيها بدوره:
ـ والله لئن لم تذهبي من قدّامي الآن لأتركنّ البيت لك ولشوقيّة.
لم تتزحزح تفـّـاحة وظلـّـت ترعد وتتوعّد. خرج الأسطم وغادر البيت وقد أومضت في ذهنه فكرة جهنّميّة. ليخلصنّ من تفـّـاحة وشوقيّة في نفس الوقت! ارتأى أنّ حياته من دونهما ستكون أفضل. الخطأ كان خطؤه: سيعيد إلى حياته شيئا من الدّعة وسيخلّص نفسه ممّا يقاسي ثمّ يحيا وكأنّ شيئا لم يكن. لن يهرب ولن يبحث عن مكان يختبئ فيه. أطلق العنان لخياله وتشكـّـلت في ذهنه خطـّـة بشعة. قصد واحدا من أصدقائه فاستلف مبلغا من المال وتوجّه على الفور إلى محطـّـة القطار.

عاد من سفرته، بعد أيّام، على السّاعة التـّـاسعة والنّصف صباحا، تعصف به فكرة واحدة: أن يخلـّـص نفسه ويقوّم ما اعوجّ في حياته. توجّه إلى غرفة شوقيّة فقد سمع تفـّـاحة في غرفتها تلعن أيّامها وحظـّـها التـّـعس تارة وهي ثائرة وتولول وتعول عويلا تارة أخرى. وجد شوقيّة شاحبة مهمومة فأطنب في استرضائها وطلب منها بأن تتوجّه إلى خالتها لتستلف له شيئا من المال. رفضت شوقيّة ولكنّه ظلّ يتزلـّـف إليها ويستحثـّـها على الاستجابة لما طلب منها إلى أن قبلت فاقتادت بنتيها وغادرتْ متوجّهة إلى منزل جمامة. لبس قفـّـازتين وبقي ينتظر إذ يعلم أنّ تفـّـاحة ستجيئه بلا شكّ لغرفة شوقيّة لتسائلة عن سفرته وما كان الغرض منها. لم تنقضي دقائق على ذهاب شوقيّة حتـّـى جاءت تفـّـاحة وقالت له:
ـ قد سمعتك تقول لها إنّ في نفسي حزازة وفي قلبي غيرة منها. هل نسيت يوم كنت تقبّل قدمي لتقنعني بالزّواج منك؟
تبدّلت سحنته وغارتا عيناه. تقدّم منها، وفي لمح البصر استلّ خنجرا فظيعا من تحت معطفه وطعنها طعنة في القلب. لم تطلق صرخة واحدة وظلـّـت واقفة تتلوّى. استلّ الخنجر من بين ضلوعها ففار الدّم وترشّش. زادها طعنة أخرى فسقطت على الأرض في بطء. خلع القفـّـازين ووضعهما في كيس. تركها غارقة في مستنقع من الدّم وغادر المنزل وهو يفحص ثيابه علّ بها قطرات من دمها. لا يجب أن يغفل عن أمر كهذا! لم يتلطـّـخ بدمها سوى القـفـّـاز الذي كان بيده اليمنى. توجّه إلى أحد الأحياء البعيدة، وهو يسرع السّير ويسابق الزّمن، ليرمي بالقفـّـازين في إحدى حاويات القمامة، ثمّ عاد ليقصد جارا له يعمل إماما بأحد المساجد فطرق بابه. تظاهر بالحزن الشّديد، وكان يرتجف بسبب الفعلة التي أقدم عليها، وتصنّع ترحا وجزعا لانهائيّين لمّا فتح له الجار الباب. راح يتباكى وحين لم يقدر على سفح دمعة واحدة قال للإمام بصوت متهدّج:
ـ يا سي محفوظ، رجوتك بالله أن تساعدني. انخرب بيتي. فاجعة نكراء حلـّـت بي. كارثة عظمى. أسعفني برأيك. ما قصدتك إلاّ لعلمي أنّك رجل تقيّ...
ـ لا حول ولا قوّة إلاّ بالله. قل يا أسطم، ماذا حدث.
ـ تعال معي إلى بيتي، يا سي محفوظ، لتقف على الكارثة بنفسك. لقد قـُـتـلتْ تفـّـاحة. عدت هذا الصّباح من السّفر فوجدتها مقتولة.

لم يطق محفوظ مرأى الجثـّـة وكاد يغمى عليه. أسنده يوسف الأسطم وخرج به إلى الحوش وهو يقول:
ـ أرأيت، يا سي محفوظ؟ لقد قتلتها شوقيّة وفرّت وفي ظنـّـها أنّ الشـّـرطة ستلبسني الجريمة فقل لي كيف أتصرّف؟
ـ أين يا ترى ذهبت شوقيّة؟ كيف تتوهّم أمرا كالذي ذكرتَ؟ ولماذا أقترفت جريمة شنعاء كهذه؟
ـ أه! يا سي محفوظ، إنّها الغيرة. أنت تعلم أنّها وتفـّـاحة كثيرتا الخصام. أمّا المكان الذي فرّت إليه فلا علم لي به. وليس لها سوى خالتها جمامة وأبناء خالتها.
قال ذلك وراح يتفجّع ويتحسّر ويتأوّه ويتضوّر. خاطبه محفوظ قائلا:
ـ أنتظرني هنا. سأرجع إلى البيت لأستدعيَ رجال الأمن بالهاتف، وسأعود إليك في الحال.
حضر رجال الشّرطة مصحوبين بطبيب شرعيّ وعدد من المختصّين في الإجرام ليفحصوا مكان الجريمة. تنصّل يوسف الأسطم من الجريمة التي اقترفتا يداه بلباقة وأظهر حزنا وحسرة لا مثيل لهما ممّا أقنع بعض رجال الأمن بصدقه، لكنّ مفتـّـشا سأله:
ـ كيف لم تسمع شيئا لمّا كانتا تتخاصمان؟ لا شكّ في أنّ شوقيّة أجهزت عليها خلال مخاصمة شديدة، فلما لم تتدخّل لتضع حدّا لعراكهما وبذلك تمنع الجريمة؟
ابتلع ريقة بمشقـّـة ليبلـّـل حلقه الجافّ وقال:
ـ لم أكن موجودا، سيّدي. لقد عدت هذا الصّباح من العاصمة فوجدتها مقتولة. وهذه تذكرة القطار دليل على صدقي.
تناول منه المفتـّـش تذكرة القطار ودسّها في جيبه ثمّ التفت لمحفوظ ليسأله عمّا يعلم عن الجريمة. أدلى محفوظ بشهادته فقال إنّ صياح الضّرّتين المتواصل تكاد تنشقّ منه السّماء وأعرب عن يقينه من أنّ شوقيّة هي القاتلة. وشهد الجيران بأنّ شوقيّة تزوّجت الأسطم على علمها من أنّه متزوّج وله أبناء، ووصفوا خصامها المتواصل مع تفـّـاحة، والبغضاء التي بينهما والتـّـشاجر الذي لا ينقطع ليلا نهارا. وأجمع الجيران على أنّهم سمعوا القتيلة ذلك الصّباح تصرخ وتلعن وتسبّ تارة وتبكي بكاء عاليا وتعول تارة أخرى. علـّـق أحد الحضور بأنّ شوقيّة لا شكّ تغلـّـبت على تفـّـاحة أثناء العراك لأنّها لم تتجاوز الثّالثة والعشرين من العمر وقويّة، ولذلك كانت تفـّـاحة تولول وتنتحب، ثمّ لم تكتفي شوقيّة بالنّصر فأجهزت عليها وذلك من فرط النّقمة عليها.

ألقي القبض يومها على شوقيّة في بيت جمامة وسيقت إلى التـّـحقيق. كانت خلال التـّـحقيق منذهلة ولم تجب سوى بهمهمات على بعض الأسئلة أو بعبراتها السّخيّة الحرّى عن البعض الآخر. وفي زنزانتها ظلـّـت طوال اللـّـيل قابعة، متجمّدة، وكأنّها تمثال حجريّ. أعيد التـّـحقيق في اليوم الموالي ولكنّ شوقيّة لم تفد رجال المباحث بشيء يدرأ عنها التـّـهمة فاقتيدت إلى زنزانتها بسرعة. وخلال اللـّـيل، استفاقت من ذهولها وتبيّنت أنّها قابعة في زنزانة تنتظر المثول أمام محكمة الجنايات وقد يـُـحكم عليها بالإعدام. حاولت التـّـفكير في طريقة تثبت بها براءتها وفيما قد تقول في الدّفاع عن نفسها ثمّ تساءلت فجأة: "أيـّـة حياة سأحيا وكلّ النّاس في جسيدة آمنوا بأنّي القاتلة؟ لقد قـُـتـلت ألف مرّة، من قبل، دون قتل، فهل لئن قـُـتلتُ هذه المرّة ستتوقـّـف الحياة من بعدي؟ آه! يا ويحتي! ما يقطـّـع أحشائي هو أنّي سأترك بنتيّا، آرام وميسان، ليعيشا يتيمتين من بعدي. ولئن أثبتّ براءتي وغادرت السّجن أين سأقيم؟ خالتي لا شكّ تبرّأت منّي. أأظلّ هائمة على وجهي في جسيدة وبنتاي تتبعان؟ لا! لن أخرج! عليّ أن أموت! الموت أهون من عيشة التسكـّـع والتـّـسوّل. بنتاي ستعيشان كما اتـّـفق وستكبران كما اتـّـفق وهما تعلمان أنّي لم أقتل تفـّـاحة. لن أعيش بسيرة ملوّثة وسمعة مشوّهة". لم تحسّ بالرّاحة عندما توصّلت إلى هذا القرار ولم تعرف طمأنينة. وعند الفجر غلبها النّعاس فنامت.

وحضر يوم المحاكمة فنقلت شوقيّة إلى قصر العدالة. وجاء الشـّـهود وزوجها الأسطم وإمام المسجد، الشـّيخ محفوظ، وعدد من جاراتها وأناس كثر من حيّ الأمانة. وقفت شوقيّة في قفص الإتـّـهام في رباطة جأش برغم الضّعف والشـّـحوب، تعلو وجهها ابتسامة باهتة. حملقت في الوجوه المغبرّة وفي الأعين ترمقها في تشفّ فأحسّت بالغثيان. تلك الأشكال المظلمة التي تـَـعرفُ كائناتٌ حيويّة في عالمها ولكنّها قبيحة جدّا حتـّـى أنّها لا تريدها أن تكون نماذج لأحلامها. المحاكم تحوّلت إلى معابد تـُصلب فيها الأحلام رغما عن أصحابها فأنّى لها أن تدافع فيها عن نفسها؟

ابتدأت الجلسة فعرض القاضي ملابسات الجريمة كما أثبتها ودوّنها محضر الشـّـرطة ثمّ سألها:
ـ هل قتلت ضرّتك، المسمّاة تفـّـاحة، بسبب الغيرة ولأنـّـك تكنّين لها كرها شديدا وبغضاء؟
ـ قتلتها، سيّدي القاضي، ولا أعلم لماذا.
ـ بماذا قتلتها؟
ـ هشـّـمت رأسها بهراوة.
ـ ولكنّ المجنيّ عليها قتلت بمدية؟
ـ بمدية؟!
ـ نعم. هل قتلتها بمدية أم لا؟
ـ نعم.
ـ من أين جئت بالمدية؟
ـ كانت عندي في البيت مذ تزوّجت يوسف الأسطم.
نادى القاضي على الأسطم فتمسـّـك بأقواله وأضاف أنّ شوقيّة تعتريها حالات ذهول وتغرق في حالات من الغياب التـّـامّ عن الوعي ولعلـّـها قتلت تفـّـاحة وهي لا تعلم. ونادى القاضي على إمام المسجد، الشـّـيخ محفوط، فلم يغيّر شيئا ممّا قاله للشـّـرطة سابقا، ونادى على شهود أخرين فأجمعوا كلـّـهم على أنّ شوقيّة منحطـّـة ومخاصمة وعدوانيّة. وقد بلغ عدد النّساء اللاّتي قدمن من حيّ الأمانة وأدنّ شوقيّة إحدى وعشرين امرأة. زاد ذلك شوقيّة تشبـّـثا بالموت. التفت إليها القاضي وسألها مرّة أخرى:
ـ هل تدركين أنّه قد يـُـحكم عليك بالإعدام شنقا؟
ـ نعم.
ـ هل تقرّين بأنّك القاتلة؟
ـ نعم. كم مرّة قلت لكم، سيّدي القاضي، إنّي القاتلة؟
دبّت حركة استياء في المحكمة بين جموع المتفرّجين إذ اعتبروا أنّ الكيفيّة التي بها خاطبت شوقيّة القاضي ليس فيها مثقال ذرّة من ندم أو أسف على ما اقترفتا يداها. في تلك الأونة تقدّم من منصّة القضاة محام شابّ وقال للقاضي إنّ المتـّـهمة كلـّـفته بالدّفاع عنها. تلقـّـى منه القاضي أوراقا ثمّ أشار إليه بأن يقول ما يريد قوله. حدّقت شوقيّة في وجه المحامي الشـّـابّ المشرق محاولة أن تستذكر من يكون إذ هي لم تكلـّـف أحدا بالدّفاع عنها. وسرعان ما عرفته. إنّه راتق الصّادق الذي يقيم والداه بجوار خالتها جمامة، ووالده يملك حانوت بقالة في ناحية من جسيدة. أعادها مرآه إلى أيّام الصّبا... وارتفع صوته عاليا وهو يقول بنبرة صافية:
ـ سيّدي القاضي، من الواضح أنّ شوقيّة لم تكن تعلم شيئا عن مقتل تفـّـاحة فقد قالت إنّها قتلتها بهراوة في حين أنّ المجنيّ عليها قتلت طعنا بخنجر. ذلك دليل على أنّ شوقيّة لا تعلم. لقد قمت بفحص الخنجر فوجدت أنـّـه مستورد ولا يُُصنَع في بلادنا. وقد تمكـّـنت من الوصول لصاحبه الحقيقيّ، يوسف الأسطم، فقد اشتراه من بائع يتاجر في الأدوات الحديديّة، محلـّـه في العاصمة، قبل تنفيذ جريمته بيوم واحد. وشوقيّة لا تعرف العاصمة ولم تسافر إليها أبدا. وهذا التـّـاجر مستعدّ لأن يشهد أمام المحكمة، وبإمكانه التـّـعرّف على الجاني، ولديه نسخة من وصل الشـّـراء تحمل أسم القاتل الحقيقيّ يوسف الأسطم. وهذه نسخة منه. ثمّ إنّ البنتين، آرام وميسان، أكـّـدتا لي أنّ أمـّـهما لم تقتل تفـّـاحة، فكيف غفلت التـّـحرّيات الأوّليّة عن سؤالهما، وهما بريئتان ولا تحسنان الكذب؟
ـ المحكمة لا تؤمن ببراءة الأطفال ولذلك لن تستمع للطـّـفلتين، آرام وميسان. الأمر الذي يجب أن تقف عليه المحكمة، في الوقت الحاضر، هو دافع الجريمة وليس شيئا آخر.
ـ سيّدي القاضي، أنا أعرف سبب الجريمة! نحن أشباح تتزوّج لتتوالد ولا تحاول أن ترتقي بتلك الوظيفة. كلّ واحد مرغم على المشاركة في هذه اللـّـعبة: لعبة التـّـوالد! وكلّ واحد يتعلـّـم لغة الظـّـلـْـمة ما إن يولد والنـّـتيجة حياة كلّها أسف وحيرة وتشاؤم. كلّ شيء من حولنا يغرس ويكرّس لغة الظـّـلـْـمة. والجريمة جاءت كنتيجة حتميّة لتلك الحالة. عندما تزوّج الأسطم امرأتين، لم يفعل ذلك بدافع الحبّ فوجد نفسه في مأزق. عمد إلى القتل لأنـّـه أحسّ بأنّه يحتضر. وقد استعمل إمام المسجد، الشـّـيخ محفوظ، في إبعاد الشبهة عنه لأنّ الشـّـيخ محفوظ يتمتـّـع بسلطة يمكن أن تنير الطـّـريق ويمكن أن تمنعنا من عبور السّرداب المظلم إذا ما أسيء استعمالها. الجريمة، بكلّ تأكيد، سببها ضياع الوعي وتلاشي الضـّـمير. ولو أنّنا فعلا نريد أن نعالج هذه المأساة وما تسبّبه من ترح لوجّهنا سهامنا إلى السّماء!

مكثت شوقيّة في السّجن ستّ أشهر ثمّ أثبت المحامي براءتها فأطلق سراحها. سارت في الشـّـارع الطـّـويل الفسيح بين السّيقان المسرعة يلفـّـها صباح يوم دافئ. همهمت في مرارة: "آه! هذه المدينة لم تسمّى "جسيدة" عبثا! ليس فيها سوى الظـّـلم والعوز". وبالرّغم ممّا قاست لم تكن شوقيّة بخاسرة: في زنزانتها تعلـّـمت المشي. وعندما يتعانق الإنسان والوعي تبدأ دفـّـة عالمنا في التـّـحرّك.

شرح لتسمية جسيدة: المتجمّدة أو الجامدة وهي صفة تطلق على الأرض.
عزالدّين بن عثمان



#عزالدّين_بن_عثمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- علاقات السّلطة في المجتمع: فصل من كتاب في علم الإجتماع
- معنى استقلاليّة القضاء وشروط المحاكمة العادلة
- حكم الحزب الواحد والتّعدّدية المزيّفة في البلدان العربيّة ود ...
- حكم الحزب الواحد والتّعدّدية المزيّفة في البلدان العربيّة ود ...
- حقوق الإنسان ومضمون نظريّات حقوق الإنسان:


المزيد.....




- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...
- عبر -المنتدى-.. جمال سليمان مشتاق للدراما السورية ويكشف عمّا ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- يتصدر السينما السعودية.. موعد عرض فيلم شباب البومب 2024 وتصر ...
- -مفاعل ديمونا تعرض لإصابة-..-معاريف- تقدم رواية جديدة للهجوم ...
- منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عزالدّين بن عثمان - أنا القاتلة