أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - عبد الكاظم العبودي - البعد الايديولوجي لليسار الاوربي التقليدي















المزيد.....



البعد الايديولوجي لليسار الاوربي التقليدي


عبد الكاظم العبودي

الحوار المتمدن-العدد: 2386 - 2008 / 8 / 27 - 09:56
المحور: في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
    


البعد الايديولوجي لليسار الاوربي التقليدي
من قضايا ألثقافة و العنصرية في العالم الثالث

الاوربي لم يستطع ان يكون انسانا الا من خلال خلق العبيد والوحوش

" جان بول سارتر".


ا.د. عبد الكاظم العبودي
جامعة وهران/كلية العلوم

عندما تقترن ثقافة ما بالعنصرية في ممارساتها فلابد من البحث المعمق في الجانب الايديولوجي المؤسس لها وإكتشاف البعد الساعي لدوافعها الكامنة والمعلنة التي تتكامل من خلال انجاز المهمة الاساسية للدافع الاستعماري الا وهو الاستعباد الاقتصادي للاستعمار وفي ممارسة سياساتة التي تتسم بالنهب والاستغلال اللذان لايتوقفان عند حدود معينة، ولا تتوانى تلك الممارسات عن الاقدام نحو تنفيذ الجرائم المنظمة وتطبيق سياسات الاقصاء والالغاء للآخر" الشعب المضطهد" بما فيه ابادته بدنيا وانهائه من الوجود الانساني أو وضعه على هامش التطور الانساني والتاريخي للعصر من خلال " ... توالي عمليات النهب والاستغلال والتعذيب والعنصرية والتصفية الجماعية والقمع العقلي، على مستويات مختلفة لتجعل من الشعب"المضطهد" شيئا جامدا بين ايدي الامة المحتلة"، وكما وصف "فرانتز فانون" الحروب الاستعمارية بأنها"عملية تجارية ضخمة" [فرانتز فانون، مرجع سابق، ص 16]، وهو بذلك يؤكد ذات الرؤية الماركسية القائلة " ان استغلال الانسان للانسان هو اساس النظام الاستعماري الرأسمالي".
وفي جميع التجارب الاستعمارية الماضية، وخاصة تلك المقترنة بالاستيطان البشري،[الجزائر، فلسطين وجنوب أفريقيا] التي هي صورة من صور تطور اشكال الاستغلال الاستعماري، في محاولة اجتثاث الآخر من ارضه أوموطن رزقه أومصادر ثرواته ليتم التمهيد لتلك التصفية الاستعمارية بأبشع صورها اللاحقة من خلال انكار وجود تلك التجمعات البشرية المتمايزة في امم وشعوب وأقوام وعشائر وتبرير نظريات التبشير الفكري والتنظير الايديولوجي لمحو الآخر وبالانكار المتعمد المطلق للشخصية الوطنية وثقافتها وتأريخها والاعتراف بحضارتها أو حتى مساهمتها في الثقافة والحضارة الانسانية.
لقد اندفعت النخب الفكرية والثقافية والعلمية المرتبطة بالسياسات الاستعمارية نحو طرح النظريات الاستعمارية والتشبث بالمقولات الانثروبولوجية ذات البعد الثقافي العنصري لانكار اصول الشعوب المضطهدة وتشويه اصولها الاثنية والقومية واللغوية وانتمائاتها الحضارية وحتى تبرير عدم جدوى وجودها الانساني والعضوي على الكرة الارضية.
لقد اشار الى ذلك مبكرا "فرانتز فانون"، من دون توسع، باشارته الى بنيات ثقافية وفكرية استعمارية حاولت الحديث والاشارة الى وجود "بعض الثقافات المفروزة بكيفية انفرادية"، والى محاولات البعض في الاشارة ضمن سياقات معينة الى الاعتراف بـ "وجود تكتلات بشرية دون ثقافة" او تناول البعض لملامح ورؤى وصفت بوجود " تحديد ثقافات متدرجة" او الحديث عن "نظرية النسبية الثقافية" تمهيدا لطرح منظور استعماري يبشر ويمهد لعملية القضاء على الشخصية الثقافية للآخر ممثلة للجوانب السلبية له.[من كلمة فرانتز فانون في أول مؤتمر للكتاب والفنانين السود الذي انعقد بباريس في شهر سبتمبر 1956، ونشرت في العدد الخاص لمجلة "الحضور الافريقي" الصادر عن الفترة ما بين جوان/حزيران و نوفمبر/تشرين ثاني 1956. انظر ايضا فرانتز فانون،" من أجل افريقيا" ترجمة محمد الميلي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع،ط 2، الجزائر،1980، ص 13].
ومع احتضار تباشير ما بعد الحداثة في اعقاب التحولات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة بعد سقوط الدول الشيوعية والتحولات الراديكالية التي تلت سقوط جدار برلين والتوجه نحو رأسمالية السوق بدأت عودة وظهور الافكار الكوزموبوليتانيةcosmopolitm [][نزعة ظهرت مع صعود الراسمالية تدعو الى نبذ المشاعر الوطنية والثقافات والتقاليد القومية باسم "وحدة البشرية" او "العولمة"، وتعكس هذه النزعة طموح النظم الراسمالية الصاعدة بقيادة الولايات المتحدة في تحقيق السيطرة على العالم ولو بشن الحروب والوعود بتوزيع المغانم الاستعمارية للحلفاء المتشاركين في الحرب تمويلا او بقوات عسكرية] والكونية universal ، وتتجدد ذات الرؤى الايديولوجية الاستعمارية القديمة عندما يتعلق الامر بالبعد العنصري للثقافة الاستعمارية المعاصرة في ظل العولمة، ولكن بمصطلحات ومفاهيم جديدة تتم اشاعتها بوسائل ووسائط جديدة.
لم تنشأ او تنبثق الكثير من مفاهيم الثقافة الاستعمارية عن فراغ؛ بل استمد الكثير منها مفاهيمه من مناهل الافكار العنصرية السابقة، وخصوصا من مصادر الدراسات والمراكز الاستشراقية القديمة التي تعصرنت هي بدورها وتسلحت بمفاهيم وادوات معرفية جديدة، لكنها لم تقطع صلتها عن رحم سابقاتها التي رافقت واستكشفت آفاق الحملات الاستعمارية وحروب الغزو الاستعمارية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
ان العديد من افكار ومقولات ما بعد الحداثة ظلت موسومة في موقفها المتحيز ضد الخصوصية الثقافية والمحلية للشعوب من خارج المركز العولمي الجديد" أي الولايات المتحدة" وخاصة في مظاهر "أمركة الحياة والثقافة المعاصرة" في العالم والتي طرحت شعارات التحول الى الكونية كتعبير عن صعود نزعة ما بعد العولمة"الكوكبية" او عولمية "كوكبية" ما بعد القومياتpost or Transnationalist Globalism [انظر Jeffry C.Alexander,Fin de Siecle Social Theory,Relativism,Reduction,and the Problem of Reasom,New York, 1995 ] .

التصفية الاستعمارية للشعوب الافريقية والعالم ثالثية:
توصف افريقيا شكلا هي "القارة ـ الكتلة" هي جذع بلا أطراف، بما يعني ذلك من طبيعة ساحلية غير مضيافة، لن لم تكن طاردة، وطبيعة قارية داخلية سحيقة معا. واذا كانت أوربا هي"شبه جزيرة من أشباه الجزر" كما قيل [المرجع 1 ص 13 جمال حمدان]، فان افريقيا "شبه جزيرة بلا اشباه جزر"، وهي بعد هذا "القارة ـ الهضبة" بما تحمل من ملامح الوعورة ومن نظم نهرية أسيرة أو حبيسة تضاعف كلها من العزلة عن الخارج والعزلة في الداخل.
وهي موقعا وطبيعة"القارة المدارية" فهي بين المداريات الثلاث تحتل موقع القلب. ومساحة المداريات فيها تبلغ 75 بالمئة وتنوع مناخها ومساحتها تعادل مساحة استراليا وامريكا الجنوبية ، أي 7ر11 مليون ميل مربع. اما تاريخا وجنسا فافريقيا هي "القارة السوداء" وهي "القارة المظلمة" لان هذا المركب الطبيعي السابق قد ساعد على قطعها عن العالم طويلا وجعلها قارة التصريف الطبيعي الداخلي، جعلها نوعا من"نهاية الأرض"lands end ولقرون طويلة اعتبرت عقبة لا عتبة وعائق في طريق آسيا. لذلك ظلت طويلا نوعا ما الأرض المجهولة .
ورغم أن الكتابة عن تواريخ وقضايا شعوب القارات الثلاث من قبل النخب الفكرية الغربية ظل حسب تعبير"روبرت يونج" هو عبارة عن "كتابة عن هفوات التاريخ" وخاصة أن الاهتمامات انحصرت بالجدالات الفكرية المرتبطة لقضايا الاستعمار والكفاح ضد الكولينيالية وما بعدها.
كما أن فضاءات الجدل طمسها" البياض القاسي" من دون رحمة، حسب تعبير " روبرت يونج" في "أساطير بيضاء"عن كتابة التأريخ والغرب.
ولعل العينة الأقرب لمناقشة مثر تلك الجدالات وما ارتبط بها من مواقف "فرانتز فانون" هو موقف اليسار من الاستعمار وشعوب المستعمرات والتكوينات السياسية والحركات الاجتماعية الجديدة التي واجهت مستويات مختلفة من الكفاح وطرحت رؤى متباينة عكست في جوهرها مواقف لم تتسم بموقف إنساني حاسم خال من الجذور العنصرية وتلويثات الفكر الاستعماري ومصالح الفئات والقوى المرتبطة بالمسائل الفكرية المطروحة في خلوة الفكر الغربي. حتى الماركسية تلوثت في أطروحاتها من قضايا النضال الأممي فكانت هناك تيارات ماركسية أوربية تقليدية كانت في حد ذاتها إشكالية كما شكلت نفسها بناءا على نماذج إرشادية وأشكال غير سائدة للفعالية السياسية خلقت داخل الكفاح المناهض للكولونيالية بصورة عامة .
ولا تخفي وثائق الجدل المتوفرة محاولات صبغة الماركسية بصبغة بيضاء ويبدو حسب تعبير "جيلروي" أن الكفاح على مستوى العرق أو النوع تحدى الأنماط السياسية والفكرية السائدة ومنها الفكر اليساري التقليدي .
لقد جوبهت الأنماط التقليدية لليسار الأوربي بوجود أطروحات وتجارب ذات أصول ثقافية وقومية أفرزتها تجارب الثورات في بلدان العالم الثالث .
ظهر كتاب أساطير بيضاء عام 1990 واستلهم أفكاره من مضامين الصراعات في أمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا والجزائر كتبه "روبرت يانج" على هدى توجيه "آلتوسير"[...بأن النظرية شكل من أشكال السياسة ] إن يانج عاد لدراسة ما سماه (نظرية القارات الثلاث باعتبارها نظرية، وباعتبارها شكلا ممن أشكال المعرفة، وليس مجرد إنتاج فرعي هامشي للصراعات يمكن اختزاله "إلى قومي" ) . ومثل تلك الإشكالية النظرية بالنسبة إلى يانج كانت تلح عليه (كيفية كشف سياسة ما ، تقوم رواية للتاريخ غايتها موجهة على الدوام نحو خاتمة لا ترحم ، من أجل الاختلاف ).
ان يانج وغيره ومنهم فانون عملوا على "استهداف الماركسية خارج الغرب كي تلبي حاجات شعوب الأرض التابعة التي جرت العادة أن تهملها الماركسية الأنجلو أوربية ، او تقلل منى أهميتها ".
لا بد من التذكير أنه في ذلك الوقت ، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية وصعود ثورات الشعوب في الفيتنام ومن ثم في سنوات الثورة الجزائرية أن الماركسية كانت هي التكوين السياسي لنخب اليسار الأوربي . ويمكن اعتبارها هي نظرية اليسار . وان إخفاق هذا اليسار الماركسي في معالجة قضايا العالم الثالث وثوراته ضد الكولونيالية خلق أزمة في الماركسية نفسها ثم انهيار للهيمنة الفكرية للماركسية سبق انهيار هيمنت الاتحاد السوفياتي .
يتسائل الكاتب "جريجوري اليوت Gregory Elliott" في عام 1987 (... ذلك أنه ثبت عدم صمود الماركسية على وجه التحديد في مواجهة المسائل والاختبارات الصعبة التي طرحها عليها القرن العشرين ، فهل تطرح النظرية ويقر التاريخ المصير؟ ليس الأمر كذلك على وجه الدقة [المرجع 12 ص14 يانج] .لكن "آلتوسير " يحفف من مثل هذا الطرح ويرى أنه لم تكن النظرية الماركسية مسئولة عن التاريخ لكنه يرى أنها كانت قادرة على تقديم تفسير للانحرافات التاريخية الخاصة بالتطليق السياسي للماركسية .
ولا شك أن تأثير الحركات الجماهيرية والانتفاضات خارج أوربا كانت تلح ، وستبقى كذلك ، على ضرورة إعادة تصور العالمين الكولونيالي والكولونيالي الجديد لأطروحاتهما على ضوء ما طرحه الناشطون المناهضون للكولونيالية .
إن مثل هذه الموضوعات حسمها الباحث الراحل ادوارد سعيد في سلسلة متعاقبة للكتب نشرها منذ 1978 أوضح فيها الافتراضات المركزية العرقية التي كان يقوم عليها جزء كبير من المعرفة السياسية والثقافية الأوربية وما تبعها من آثار على السياسات والممارسات التاريخية والسياسية المعاصرة (ادوارد سعيد، 1978 ،1981، 1985 ) . ان صعوبة كتاب الاستشراق الحقيقية ، من نواحي عديدة ، هو ان نقده كان موافقا للخطاب النقدي لليسار داخل اوربا ، مثل ما هو موافق لخطاب اليمين . ويقول ادوارد سعيد : ان ماركس نفسه كان كامنا "في الرؤية الاستشراقية الرومنسية التي يناقشها كتاب الاستشراق مناقشة نقدية "[اددوارد سعيد ، 1978، ص 154وبهذا الاتجاه يذهب أيضا "برايان تيرنر Bryan Turner" في كتابه "مارس ونهاية الاستشراق" Marx and the of Orientalism وهو كتاب نشر في نفس عام نشر كتاب ادوارد سعيد الاستشراق ]
يقول "تيرنر" بهذا الصدد (... انه من الضروري الآن احداث " نقض كولونيالية " التراث الماركسي الأوربي [ Turner , 1985] ، كان نقد ادوارد سعيد نقطة بدايته للتاريخانية من خلال قوله : ( ... فيما يتعلق بالاستشراق بصورة خاصة والمعرفة الأوربية بصورة عامة ، كانت التاريخانية تعني تاريخا إنسانيا واحدا يجمع البشرية ، اما بلغ الذروة أو كان يراقب من موقع الهيمنة الخاص بأوربا أو الغرب ... ان ما ... لم يحدث هو النقد الابستومولوجيا على المستوى الأساسي جدا للصلة بين تطور تاريخانية امتدت وتطورت بما يكفي لأن تشمل مواقف متضادة مثل أيديولوجيات الامبريالية ونقد الامبريالية من ناحية ، والتطبيق الحقيقي للامبريالية التي يتم بها استدامة تراكم الأراضي والسكان والسيطرة على الاقتصاديات ، وادماج التواريخ ومجانستها من ناحية أخرى ).[ادوارد سعيد ، 1985 ، ص22] .
يرى "روبرت يانج" إن موضوع "أساطير بيضاء "هو إيجاد نقد إبستيمولوجي لأعظم أساطير الغرب ، وهو التاريخ ثم يستمر يانج في مشروعه في البحث عن الطرق التي بحث بها المنظرون اللا أوربيون التي يطمح فيها إعادة تنظير التاريخ باعتباره متعددا ، داخل التواءات وتوترات الرؤى والقصص المختلفة وغير المتوافقة أحيانا . إن يانج يذهب إلى مقابلة ذالك "التاريخ الأوربي" للعالم بالروايات اللا أوربية التي لا يفهم فيها التاريخ على أنه سرد سائد، بل على أنه شبكات من التواريخ المميزة المتعددة ، التي لا يمكن احتوائها داخل أي ترسيمة غربية واحدة .
لقد واجهت الأقلام الماركسية التقليدية بشراسة خصومها واتهمتهم بالخروج عن الماركسية عندما يتعلق الأمر بنقد النظرية ما بعد الكولونيالية وخاصة داخل اوساط المجتمع الأكاديمي الماركسي الأنجلوسكسوني المشار اليه اختصارا ماما MAMA الذي كان يسعى الى الدفاع عن أفكار التاريخانية الماركسية ، وفي ذات الوقت ظهرت كتابات للعديد من الكتاب انتقدت مثل تلك الأولوية السياسية ذات المنحى العنصري الذي يحاول تجاهل الصراع العرقي والنوعي ويقدم روايات مختزلة له . نشير بهذا الصدد الى كتاب " بول جيلروي" Paul Gillory " 1987،المعنون [لا وجود للون الأسود في علم المملكة المتحدة There Aint No Black in the Union Jack ] الى ان الكفاح على مستوى العرق أو النوع "يتحدى الحكمة الماركسية التقليدية" وهو يعتبر أحد بدايات الاصلاح السياسي الخاص باليسار في اتجاه السياسة والتكوينات السياسية لما أطلق عليه فيما بعد "الحركات الاجتماعية الجديدة " التي فتحت حدود اليسار لاحقا في أوربا نحو حركات مثل : حركة المرأة ، الكفاح ضد العنصرية ،كراهة المثليين ، قضايا الحفاظ على البيئة .
لقد انطلق فكر جديد أوربي يتجاوز منظورات ماما شديدة المحدودية في رؤية العالم رغم أن الأخيرة كانت تعبر بانتظام عن التعاطف والتضامن مع كفاح الشعوب خارج الغرب، لكن ذلك التعاطف والتضامن لم يكن يراعى في التفكير السياسي لها على المستوى النظري أو الفلسفي . حيث ظلت المناقشات النظرية مركزة بإصرار على القضايا الغربية، والظروف الغربية ، والمنظرين الغربيين الذين كانو ينظرون الى الأشكال الأخرى من الماركسية"حيثما كان يعترف بها " نظرة دونية وفي الغلب مرفوضة باعتبارها قوميات ماركسية غي أصيلة . نشيربهذا الصدد الى مواقف المجلة البريطانية أخبار اليسار الجديد The New Left Review التي كانت تنظر لمشروعها الأصلي هو اتاحة الفرصة للماركسية البريطانية للعمل النظري على المستوى الاوربي . ورغم انها كانت تنشر في بعض الأحيان مقالات عن الكفاح خارج أوربا، لكنها ظلت باصرار تطرح موقفها النظري من منظور ماركسية غربية رغم أنها كانت تدرك وتطلع على الاصلاحات النظرية الماركسية التي نفذها وطرحها قادة مناهضون للكولونيالية مثل كابرال وفانون وموندلاني ونيتو.
ومن هنا يبدو لنا أن النظرية الماركسية في الغرب لم تراعي الأشكال الأخرى من المواقف الأخرى اتجاه قضايا الاستغلال او القمع او المقاومة، ولم تتعامل بجدية مع الأطروحات الأخرى حول قضايا تصفية الاستعمار بل ظلت رهينة لمركزيتها الأوربية والأمريكية الشمالية ، وعند استراض عدد كبير من الكتب الماركسية الأوربية نجد الكثير من التجاهل لأطروحات الماركسيين من غير الأوربين ، وفي مقال "جيران ثيربورن Goran Therborn" جدل الحداثة : عن النظرية النقدية وميراث ماركسية القرن العشرين المنشور في مجلة The New Left Review سنة 1996 قدم مسحا وتقييما لمنجزات الماركسية في القرن العشرين وأشار في سياق المقالة بعنوان فرعي "الماركسية في العوالم الجديدة" مانحا إياها تسمية كولونيالية لتاريخ الماركسية في القارات الثلاث ، إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية لكنه كان يرفض على الفور مساهمة كل ماركسية هذه البلدان في المنجزات التي ركزت علة الماركسية الغربية ومنحتها تلك الأبيوية الراعية . إن هذا البحث وغيره يعيد للذاكرة مرة اخرى تجاوز وتجاهل الماركسية الأوربية لمساهمات كثيرة جاءت من العالم الثالث ومنها أعمال فرانز فانون وفي هذا المجال نجد أن إسهاماته وغيره غير معترف بها داخل الخطاب اليساري السائد في أوربا .
في حين ان منظورات "ما بعد البنيوية" [منظورات شملت أعمال آلتوسير، فوكو، دريدا، ديلوز] ( نشير بهذا الصدد بأن آلتوسير ذاته ابن عائلة فرنسية استوطنت في الجزائر)،قدمت طرق تفكير بشأن العديد من المشكلات التي كانت خارج الإطار المفاهيمي لليسار التقليدي . وبالطبع فان "ما بعد البنيوية" ظلت مرفوضة عموما من ماما ، كما أن مساهمات "ما بعد البنيوية" وجهود آلتوسير مكنت رؤى العالم الثالث الى حد كبير من الوصول الى بعض أوساط اليسار الأوربي وتعترف لها من خلال قناعتها أن الماركسية خارج الغرب تلبي حاجات شعوب الأرض التابعة، والتي جرت العادة ان اهملتها الماركسية الأنجلو أوربية أو قلت من اهميتها .
وعند الحديث عن ازدياد اهمال ماما واليسار الأوربي لقضايا العالم الثالث على ضوء أطروحات مركسي العالم الثالث ومنهم فانون مع الاستثناء الملحوظ لموقف جان بول سارتر.
يمكن القول أن النظرية ما بعد الكولونيالية نتجت عن تجارب ذات أصول ثقافية وقومية شتى ، والطرق التي يؤثر بها لون البشرة على أي شخص في العالم كما الطرق التي يحدد بها مسقط راس الانسان لنوع الحياة التي سينعم بها في هذا العالم أي ان الحياة وفق تلك الظروف ستتميز ان كانت مبهجة ام مكبوتة أم مستغلة من هذا المنطلق أدرك المنظرون ما بعد الكولونياليين فداحة سابقيهم بتجاوزهم لقراءة التاريخ خارج المركزية الأوربية فاتجهوا نحو إعادة الصياغة والى قراءة خطابات المعارضة التي وضعها أشخاص مثل سيزير،فانون، ميمي، وكابرال، بالإضافة إلى العمل النظري لليسار الأوربي .
وبينما يرفض ماما ما بعد الكولونيالية في الغالب على أساس انحرافتها السياسية النظرية ولجرأتها على شغل نفسها من الناحية النظرية وكذلك العملية بمشكلات الشعوب المحرومة المعاصرة او الشعوب التي أضرتها الهجرة الجبرية، والاستغلال ، والقمع بكل أشكاله ...
ان السؤال اللافت للانتباه هو لماذا وجد المنظرون ما بعد الكولونياليين في "ما بعد البنيوية "شيئا لم تتمكن الماركسية التقليدية من تقديمه لابد من الاشارة هنا الى حقيقة بان كثيرين ممن يوصفون بانهم "ما بعد بنيويين" بدأوا بعيدا عن اصلهم الفرنسي الباريسي بل أنه من الخارق للعادة ان نسبة كثيرة منهم خرجت من الجزائر (كما هو الحال مع دريدا والتوسير) ومنهم من تمكن من ربط جوانب بعينها "ما بعد البنيوية" بالرؤى السياسية الخاصة بالجزائريين المستعمرين .
ويستحسن هنا "روبرت يانج" تسمية "ما بعد البنيوية" بالنظرية الفرانكو مغربية [يانج 2001 أ ص 411] ، فقد لاحظ يانج :(... أن أي شخص كان يقاتل من أجل الاستقلال في الجزائر الفرنسية خلال الخمسينيات والستينيات، أو حتى أي شخص متعاطف مع القضية الجزائرية مثل سارتر كانت تربطه بالضرورة بالماركسية في ذلك الوقت بما ان الأحزاب الماركسية الجزائرية والفرنسية "وان لم تكن الايطالية" كانت تدعم استمرار حكم فرنسا للجزائر، وهو السبب الذي كان وراء حضر بن بلة للحزب الشيوعي الجزائري فور الاستقلال .
وهذه الأنواع من التفاصيل المحددة الخاصة بالتواطؤ الكولونيالي للماركسية التقليدية وفي تاريخ التطبيق السياسي للشيوعية، خلق ردود أفعال ظلت واضحة في تراث التيارات القومية وحركات التحرر الساعية نحو الاستقلال والتي طمعت بتأييد التيار المار كسي التقليدي .
كما ان ورد الفعل المعقد بالضرورة انعكس نتيجة لذلك بين الناشطين المناهضين للكولونيالية على اليسار نفسه، لم يعالجها قط من يهاجمون النظرية ما بعد الكولونيالية من منظور الماركسية الأوربية التقليدية.
ويذهب "يانج" الى أبعد من ذلك بالتذكير الى أن كل حركات التحرير، وحتى الاشتراكية منها ، كما في الجزائر لم تحظ بدعم أحزاب اليسار في الحاضرة الامبريالية أو في المستعمرات نفسها . ويعيد "يانج" الى الذاكرة مثالا عن الموقف الشائن لزعيم الحزب الشيوعي البوليفي"ماريو مونهي Mario Monje"الذي رفض التعاون مع جيفارا عام 1966 في شن حرب عصابات على البر الأمريكي اللاتيني مما حرم جيفارا من دعم شبكة لوجستية لأنصاره وبات موقفه ضعيفا في جبال بوليفيا حتى تم أسره على يد الجيش البوليفي ووكلاء الاستخبارات المركزية الأمريكية وانتهت حياة جيفارا بإعدامه. في حين كان الموقف مختلفا نسبيا في تجربة جنوب افريقيا حين وفر الحزب الشيوعي فضاء سياسيا هاما تمكن أن يغطي به نشاط الرفاق البيض من الحزب ليتخذوا مواقف مضادة بشكل مطلق من قضية الفصل العنصري ، وكان الحزب الشيوعي في جنوب أفريقيا مصرا على الموقف غير العنصري تجاه كفاح السود من اجل الاستقلال وتصفية الابارتهايد وكان مساهما الى حد كبير مع المؤتمر الوطني الافريقي في صنع الاستقلال في جنوب أفريقيا.
لقد تمايزت التجربة الجنوب الأفريقية عن مثيلاتها الأمريكية والأوربية، لكن النخب الأنجلو سكسونية الماركسية في جنوب افريقيا لم تخف ميلها للارتباط بأوربا والغرب وليس بالعالم الثالث وتجاربه الماركسية .
ان يونج وغيره تمايزوا واختلفوا عن اليسار الاوربي الرسمي وغير الرسمي"أي الاحزاب الشيوعية والماركسية التقليدية وحتى مع الجماعات التروتسكية العديدة مثل"عصبة العمال الاشتراكيين"Sicialist Labour League والاشتراكيون الامميونInternational Socialists اللذين ظلوا، رغم تطرفهما الايديولوجي المعروف، شديدوا التمسك بالاطروحات التقليدية الماركسية. وهم وان تباينوا في بعض المواقف، الا انهم ظلوا أسيري نفس الإطار الإبستمولوجي الذي كان يرفض الاشكال المعاصرة الخاصة بالعالم الثالث، ومشروعية الحركات السياسية مثل تجارب "الاشتراكية الافريقية". كما ان تلك الجماعات التي اختلفت حول كيفية إحداث الثورة في العالم، ولكن العالم الذي كانت تراه، وحدود ذلك العالم، كان واحدا في المقام الاول.
و رغم الهزات التي حدثت في منظومة واطروحات الاحزاب الشيوعية الحاكمة والتقليدية الدائرة في فلك السياسات السوفيتية منذ النقد الخروتشوفي للستالينية في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي عام 1956 وما اتبعه من هزات فكرية في اعقاب التدخل السوفيتي في المجر في نفس العام بعودة مظاهر التشدد الستاليني إزاء ماسمي بالثورة المضادة في المجر ظل الحزب الشيوعي الفرنسي وغيره من الاحزاب الشيوعية الاوربية أسير الاطروحات الماركسية التقليدية مع محاولات أوربة التجارب الماركسية بما سمي التزام الماركسية الانسانية او بدعوى التمسك بماركس القديم. ان التناقض الذي ساد أوربا في الخمسينيات هو الممارسة المزدوجة للسوفيت من خلال طرح أفكار تدعو الى التحرر الوطني لشعوب العالم الثالث بما فيها الدعوة الى الثورة ، وفي ذات الوقت كانت الدعوة الى إدخال مبدأ التعايش السلمي ومراعاة العلاقة مع الغرب على اساس مبدأ التسوية السلمية للحفاظ على ما سمي بالسلام العالمي.
كان الموقف الانساني الماركسي بين المفكرين اليساريين قد تمثل قويا بموقف سارتر في فرنسا و"إي بي طومسون" E.P. Thomson و"ريموند وليامز"Raymond Williams في بريطانيا، وان الاخير كان قد قدم بدائل قوية للاشكال المعاصرة المختزلة عن الماركسية الاقتصادية لكن عمله كان ضمن توجهات التراث اليساري للقومية الانجليزية الذي يعود الى موريسMorris ورسكينRuskin وهذا التراث لم يرتق الى العالمية والشمولية كونه كان خاصا بالمجتمع العضوي الانجليزي او الويلزي المحلي. كما ان "طومسون" كان من أكثر المعارضين صوتا في بريطانيا لماركسية "التوسير" المناهضة للتأريخانية.
.يمكن القول ان الماركسية الانجليزية ان لم تكن محافظة فقد كانت مقاومة للتطورات التي شهدتها التطورات الماركسية الغربية والعالم خارج أوربا.
كان سارتر هو المفكر اليساري البارز الوحيد الذي أمكن رؤيته في الشارع عام 1968. كشف سارتر من الناحية التاريخية الاشكالية كلها في سياسته المناهضة للكولونيالية،" خاصة دعمه لجبهة التحرير الوطني وصداقته لفانون وتوجالياتيTogaliatti " وقد أشار اليها بقوة في كتابه [نقد العقل الجدلي Critique of Dialectical Raeason ] ومقدمته لكتاب معذبوا الارضThe Wretched of the Earth ] وكتاباته الاخرى المناهضة للكولونيالية.
ورغم ان سارتر طور نفسه لسياسته فيما وراء الاشكالية الاوربية، لكنه لم يفعل ذلك على المستوى النظرية، حسب رأي يانج، أي انه ظل داخل حدود النموذج الاوربي. وما تجاهل الكتابات الاكاديمية عن سارتر باهتماماته بالعالم الثالث لانهم يرون ان سارتر لم يطور ماركسيته قط من الناحية النظرية ردا على الماركسيات اللاغربية؛ بل يرى "روبرت يانج" إن "فانون" هو الذي طور سارتر من الاطار الايديولوجي لجبهة التحرير الوطني من اجل ماركسية العالم الثالث. وبينما أدمج سارتر نسخته الخاصة بتحليل فانون للعنف في كتاب [النقد]، فقد ظل الحال هو انه لم يكن مستعدا قط للتضحية بالتزامه نحو وحدة التاريخ الجدلية[يانج ص 19].
يعترف بالفضل لسارتر بسبب سياسته وكتاباته المناهضة للكولونيالية وبسبب اتاحة الفرصة الاولية الموجودة في كتابه [النقد] بفضل تأثير "فانون" عليه.
لقد انتقد سارتر المثقفين الذين تمسكوا بما اسماه"الشمولية الزائفة الكاذبة" باشارته: [... لقد رأيت بأم عيني مثقفين أدانوا خلال حرب الجزائر الاعمال الارهابية الجزائرية بنفس الشدة التي كانوا يدينون بها القمع الفرنسي، وذلك لانهم كانوا يتعجلون الوصول الى ما هو عام وشمولي. وهذا بالضبط نموذج الشمولية أو العمومية البورجوازية، الزائفة الكاذبة، فقد كان عليهم أن يفهموا، على العكس، ان انتفاضة الجزائر، انتفاضة الفقراء العزل من السلاح، الذين كان النظام السياسي يضيق عليهم الخناق ويسد عليهم المنافذ، ما كان في وسعها ان تختار سوى حرب الانصار والقنبلة.] [جان بول سارتر، دفاع عن المثقفين، المحاضرة الثانية، وظيفة المثقف،1975، دارالاداب، بيروت، ص 40] واورد امثلة عن نماذج واقوال المثقفين المزيفين بصدد الحرب في الهند الصينية والجزائر على سبيل المثال قال احدهم:[... ليست طرائقنا الاستعمارية على ما ينبغي ان تكون عليه، وهناك قدر أكبر مما ينبغي من التفاوتات والتباينات في أقاليمنا فيما وراء البحار. ولكني ضد كل عنف أنى يكن مصدره، وليس بودي لا أن أكون جلادا ولا ضحية، ولهذا أعارض تمرد الوطنيين على المعمرين][سارتر، المرجع السابق، ص 44].ومثل هذا النص يكشف الى أي مدى كانت مساهمة ما اسماه سارتر"المثقف المزيف" في خدمة المستعمرين وادانتهم ضمنيا "العنف الثوري" الذي أقره سارتر واعاب على اصحاب "العام والشمولي" بكونهم مثقفين مزيفين.
لم يكتف سارتر الى هذا الحد؛ بل دعى ايضا الى ادانة الحرب ادانة اخلاقية ووجوب الوقوف مع المضطهدين في جميع تلك المنازعات والمصادمات التي سببتها الحروب الكولونيالية. كما انتقد اليسار الفرنسي "الذي لم يكن في مأمن من العنصرية والنزعة القومية والامبريالية...الخ"، وقال اننا نطلق في بلادنا اسم "اليسار المحترم" على يسار يحترم القيم اليمينية حتى في حال وعيه وادراكه بانه لايأخذ بها ولا يتبناها، وهذا بالتحديد ما كان عليه "يسارنا" في زمن حرب الجزائر".
ادان سارتر النزعات المثيلة لهذه المواقف كما هو الحال مع النزعة الابوية للبيض المثقفين والمناهضين للعنصرية، واشار الى اشمئزاز الزنوج الامريكان من امثال تلك المواقف الخالية من الصدق والجذرية.[سارتر، ص 57].
يرتبط عنوان أهم كتب"فانون" وهو [معذبوا الارضLes Damnes de la terre 1961 ] باهتمامات الكفاح الاساسي لجماهير تعاني من القمع بمختلف وسائطه اضافة الى العنصرية وغيرها من اشكال التمييز وممن لم يأخذوا نصيبهم من اهتمامات موضوعات"الماركسية التقليدية" الا بالقدر المتعلق بالاستغلال والجانب الاقتصادي والموقف من صراع الطبقات.
ان النزعة الاقتصادية للتفسير الماركسي إختزلت كل الظواهر الانسانية من خلال مفهوم الحتمية الاقتصادية والتي من خلالها ركز الماركسيون التقليديون على مقولات اعتبرت كل الحياة والتاريخ الانسانيين، وكل جوانب الثقافة، والايديولوجيا مجرد انعكاس للعلاقات الاقتصادية السائدة في المجتمعات.
ولم يؤخذ البعد الثقافي كعامل تحدي ونشط في مواجهة القمع والاستغلال الاقتصادي. ان الرؤى الماركسية التقليدية تغافلت عن ابراز هذا العامل وركزت على صراع الطبقات، ولهذا ارتهن الشيوعيون المحليون مصير تحرير بلدانهم بتحرير الطبقة العاملة في البلاد المستعمرة و منهم من رفع شعارات مثل:[فليتحد عمال العالم من اجل جنوب افريقيا بيضاء] ،وكذلك هو الحال مع موقف الحزب الشيوعي الجزائري الذي لم يخف موقفه من الاندماج وقبوله باطروحات فقدت من مصداقيته الثورية ولموقفه الالحاقي بموقف الحزب الشيوعي الفرنسي.
وفي الوقت الذي تحولت تجارب حركات التحرر في العالم الى بؤرة ثورية تواجه الامبريالية وحلفائها كانت الحركات الشيوعية في الغرب واليسار التقليدي تنتهج نهجا اصلاحيا يتوافق مع توجهات السوفيت في فترة الحرب الباردة ومنظومة افكار ما يسمى "التعايش السلمي" رغم اطلاق بعض الشعارات الثورية من لدن ممثلي هذه الاحزاب في المؤتمرات الحزبية وعند تبادل البرقيات في المناسبات .
كشف عام 1968 مدى عجز الحركة الشيوعية في فرنسا واوربا من امكانية احتواء او ادارة حركة الطلاب الاحتجاجية التي وسمتها الاحزاب الشيوعية بصفة "اللاثورية" أو حتى "الفوضوية" وتعاملت معها البيروقراطيات الحزبية المترهلة فكريا انها مجرد فورات غضب مؤقتة سرعان ما تزول.
وبعد منتصف الستينيات تقدمت قضية الكفاح المناهض للكولونيالية التي تميزت بطرح رؤية جديدة عرفت داخل فرنسا باسم "العالمثالثية"tiersmondalisme وهو افتراض عام يقر بان المرحلة الثورية قد انتقلت العالم الثالث، وان الثورة لم تعد تصنع في باريس او روما او برلين، وانما في جوهانسبورغ او هانوي او سانتياغو.
ولاول مرة بعد ثورة اكتوبر الروسية 1917 بدأت تتصادم النظرية والسياسة المعاصرة الاوربية والامريكية الشمالية مع الحركات المناهضة للكولونيالية في العالم الثالث. ولم تعد الثقافات الابوية الغربية وحتى السوفيتية تفرض مفاهيمها على الحركات الراديكالية في العالم الثالث. حتى الماوية انتعشت في ظلال هذا التمرد على الابويات التقليدية لليسار التقليدي في العالم، وخاصة الاوربي السوفيتي.
لم تبق الطبقة العاملة هي الطبقة الثورية، حتى السوفيت عدلوا من اطروحاتهم بطرح مفهوم "التطور اللارأسمالي" الذي يعترف بدور هام للفلاحين والمثقفين وحتى العسكريين الثوريين بامكانية السير بالثورة الى بناء الاشتراكية. وهكذا طرح مفهوم الحرب الشعبية من هذه الزاوية المحدودة.
من هناك طرح"روجيه دوبريه"، تلميذ التوسير اطروحاته بعنوان "الثورة في الثورة". كانت الثورة في ذلك الوقت تعني الثورة المناهضة للامبريالية من قبل شعوب العالم الثالث المقموعة. كانت ملهمة تلك الثورة في نظر دوبريه الصين وكوبا وهي تركيبة رمزت لها كلمة ارنستو تشي جيفارا الشهيرة عام 1965 حين انتقد موقف الاتحاد السوفيتي من الكفاح المناهض للامبريالية وفضل عليه الصين الماوية، وكما حدث لماو و"مارياتيجوي"Mariategui وفانون من قبله تخلى جيفارا عن العقيدة الماركسية التقليدية بشأن الموقف من دور الفلاحين في صنع الثورة مؤكدا: "ان مقاتل حرب العصابات أعلى قدرا من أي ثوري زراعي".
ان معذبي الارض اتجهوا للكفاح مع سائر المحرومين والمقموعين على الارض وقد صاغ قادتهم الجزء الاساسي لسياسة ما "بعد الكولونيالية"، واصبح الموقف من تحرير الارض والانسان شعارا تتبناه الحركات الثورية؛ بل اخذ البعض يعيدون النظر في ماركسيتهم ويسارهم التقليدي الاوربي ويعترف بماركسية العالم الثالث المناهضة للامبريالية التي فرضت على منظري الحقبة إعادة النظر بمسلمات الفكر الفلسفي الماركسي لما بات يسمى "مابعد البنيوية".
وبطبيعة الحال كان التوسير سباقا لقبول الماوية واجهة فكرية دون تبنيها رسميا رغم انها كانت مفتقدة في مقولات الماركسية التقليدية وافكار الحزب الشيوعي الفرنسي.
ان ماركسية القارات الثلاث باتت متداولة وتعرف العالم من خلالها الى اسماء لم يكن يعرفها من قبل من بين الاسماء الماركسية الغربية المعروفة في العالم. لم تخف العديد من الاجنحة داخل الحزب الشيوعي الفرنسي واليسار انها تمثل تيارات جديدة نواتاتها من الطلبة الراديكاليين ومنهم من كانوا ضمن ادارة التوسير نفسه رغم احتفاظ التوسير موقفا انتهازيا بعدم اعلانه التعاطف السياسي مع الماوية المتغلغلة في تيارات اليسار الجديد، لكنه ادمج مادية ماو الراديكالية بطريقة اكثر انتاجية واكتمال في كتاباته النظرية.
كان عمل التوسير، وخاصة نقده للتاريخانية، بمثابة الاساس النظري الاولي لكتاب"روبرت يانج" المعنون [اساطير بيضاء] . كما دفع من جوانب معينة عمل تلاميذ التوسير وبالاخص فوكو ودريدا، ومكن بذلك من توسيع دريدا لمفهوم التوسير الخاص بالاختلاف ضمن مثل هذا السياق الماوي بصورة عامة.
ظل التوسير نفسه يعمل في حدود الامكانيات ضمن وداخل مؤسسة الماركسية نفسها، أي الحزب الشيوعي، وقد دفع فوكو، الذي ظل وثيق الصلة بألتوسير حتى النهاية، الى التمسك بآثار التوسير من وراء حافة الماركسية المعترف بها الى داخل نقد علاقة القوة والمعرفة في تاريخ المؤسسات موضحا البنية المحددة للخطاب وقيوده على المعرفة العلمية في الاكاديمية الغربية؛ وهي الخطوة الممكنة لتحليل ادوارد سعيد للاستشراق.
لقد سمحت قراءة التوسير لماركس من خلال ماو لاول مرة في النظرية الماركسية اعلانه بصراحة بامكانية التواريخ التفاضلية، وليس افتراض وجود سرد واحد يقوم على اساس اوربي. يقول التوسير بهذا الصدد : "انه بينما تعمل التواريخ بطريقة تعاقبية، في نفس الوقت، فهي لا تتفق بالضرورة مع نفس الديناميكيات الداخلية لكل مجتمع". و قال ايضا : " ان الغزو الكولونيالي على وجه الخصوص أفرز أزمنة منفصلة، ولذلك شكَلَ"بضم الشين" التاريخ الكولونيالي من فترات متقطعة ذا زمانيات مختلفة".
[[ ومن الواضح ان [حدث الغزو الكولونيالي]جزء من تعاقب تلك المجتمعات، حيث تم ـبطريقة وحشية تقريباـ تحويل أنماط انتاجه؛ إلا انه ليس جزء من ديناميكيات هذه المجتمعات. وينتج هذا الحدث داخل تاريخها في وقت تعاقبها، دون ان ينتج في وقت ديناميكيتها؛ انها حالة تحدث الاختلاف المفاهيمي بين الزمنين وضرورة تصور تمفصلهما]][Althusser and Bailbar,1970,301] .
يعزى الى التوسير من خلال رده على ماو انه قدم تطورا نظريا ضخما لاول مرة للنظرية الماركسية اللاغربية، وخاصة مفاهيم الاختلاف وعدم التساوي الاساسية في التيار العام الغربي. وكان نقده الماوي للبنية التحتية الايديولوجية، الذي تطور الى جانب التفسيرات الاقتصادية مثل مركز الاهتمام بالتطبيق الثوري احد العوامل التي اعطت قوة دفع لـ "الاتجاه الثقافي" الذي اتخذته الكثير من العلوم الاكاديمية في العقود الاخيرة من القرن العشرين.[يانج، مرجع سابق، ص 33].
ان التوسير الذي كان مستعدا للاعتراف بكفاح العالم الثالث ورغم كتاباته النقدية للنزعة الانسانية والتاريخانية، من حيث اصدائها بحق الكفاح السياسي الذي يخوضه الناس في العالم الثالث للدفاع عن استقلالهم السياسي والانطلاق نحو ما اسماه في طريق الاشتراكية وتسليمه النظري بالكفاح الثوري بحق العالم الثالث ظل ينتقد سارتر لتعاطفه مع تبني فرانتز فانون لقضية معذبي الارض.
وطبقا لما قاله التوسير حول موقف سارتر: " فلم يكن هذا التعاطف سوى وسيلة كي يتغلب على تناقضات موقفه هو":[... ربما كانت هي اشد مشكلات سارتر، فهي حاضرة حضورا تاما في افتراضه المزدوج بان الماركسية" فلسفة عصرنا التي لا يمكن تجاوزها"، ومع ذلك فلا يستحق أي عمل ادبي فلسفي جهد ساعة بالمقارنة بمعاناة بائس فقير اوصله الاستغلال الامبريالي الى ما هو عليه من جوع وأسى].
يرى التوسير حول اعلان سارتر المزدوج للعقيدة "أي من ناحية فكرة الماركسية من ناحية و قضية المستغلين كافة من ناحية اخرى"، انما هو تناقض بين. وبهذا يوضح التوسير ان ماركسيته كانت معارضة مباشرة لالتزام سارتر وفانون الاعم بتحرير شعوب العالم الثالث من الاستغلال والقمع.
يرى يونج في ادعاءات التوسير وتعاطفه المتناقض ظاهريا الى حد ما في ما يتعلق بكفاح العالم الثالث بشكل مباشر، وفي مناقشته للتاريخ، رغم معارضته للتاريخانية، انه يرفض التاريخ في حد ذاته كما يفترض البعض بسذاجة، فالواقع انه يقول ان انجاز ماركس العظيم هو فتح "القارة العلمية" الثالثةـ بعد قارات الرياضيات والفيزياءـ وهي قارة التاريخ. وبعد استعانته بهذا المجاز، يصف التوسير علم التاريخ الخاص بماركس بأنه القارة التي يشغلها المستعمرون المستوطنون غير الشرعيين.
و آلتوسير صور توسع هذا المجاز، حول قارة التاريخ، بقوله: " ما يشعرنا بالخزي هو ان المفكرين لا يشكون حتى في وجود هذه المستعمرة، إلا لكي يضموها ويستغلوها باعتبارها مستعمرة مشاعا". ويضيف: "لابد أن نعترف بهذه القارة ونستكشفها ولكي نقرأها يكفينا إتباع من سبقونا قبل مائة عام. وهم مناضلوا الصراع الطبقي الثوريين" ، ويقصد به ما قام به ماركس وأعلنه عام 1845، أي الاكتشافات التي لا تساعد على "تأويل" العالم بل تغييره.".[التوسير1972، 166].
حول هذه المقولة لالتوسير، يعلق يانج: "أصبح هذا مجازا غريبا للتحرير، فلا بد للماركسية من تحرير القارة من شاغليها غير الشرعيين، إتباعا لخطى الناشطين الثوريين الذين ذهبوا مع ماركس باعتبارهم مجموعة طليعية قبل مائة عام، ويبدو أن قياس التمثيل الواضح في خلفية آلتوسير هو الجزائر التي غزاها الفرنسيون قبل 15 عاما فقط من1845." .
ويرى يانج أن نص آلتوسير لا يتطلب اقل من القراءة المتعاطفة "التي تبني الإشكالية، أو العقل اللاواعي للنص" كون أن آلتوسير من عائلة"جزائرية على حد تعبيره" مستوطنة وانضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي عام1948 وظل يحمل ولاء كبيرا له، ورغم أن لألتوسير تاريخ في مقاومة الكفاح الثوري في الهند الصينية حين كان في السلطة، ولكنه كان يؤيد فكرة" الجزائر فرنسية" طوال فترة حرب التحرير. وكان هذا هو سبب عزوف سارتر عن الانضمام للحزب الشيوعي. اقر ألتوسير الكفاح المناهض للكولونيالية والامبريالية في الهند الصينية على أساس طابعه الاشتراكي، إلا انه ظل مشغولا بطريقة خيالية حول إعادة بناء الجزائر، ولكن ليس من اجل الجزائريين أنفسهم؛ بل من اجل جماعة جديدة من المستوطنين.
إن سردنا لموقف ألتوسير وسارتر لأجل طرح مثل هذه المتناقضات في إشكالية تصورات الماركسية الخاصة بالتوسير فيما يتعلق بصلته بالعالم الثالث. إن آلتوسير الذي كان يؤيد الأفكار الماوية الشعبوية الراديكالية في النزعة النخبوية لليسار الفرنسي والماركسي بخطاب نظري معروف وهو ينحاز إلى تاريخ "الثورات الاشتراكية"و"الكفاح الثوري" في أنحاء العالم، لكنه كان يرفض من ناحية أخرى ارتباطات سارتر الإنسانية بمعذبي الأرض والعلاقة بفانون، ويحاول إن يختزل الكفاح المناهض للامبريالية الخاص بالمفكرين والطلبة إلى دور ثانوي كما هو موقف الحزب الشيوعي الفرنسي من أحداث 1968.
في عام 1977 وفي محاضرة شديدة الصراحة والانفتاح في مؤتمر بفينيسيا اعترف آلتوسير بوجود أزمة في الماركسية دلت عليها جملة من التطورات الأوربية والعالمية ولم يعترف الآباء الجدد عن أبوياتهم المفلسة فعادوا يطرحون مقولات جديدة متفائلة من جديد تتبنى الاعتماد على قوة المنظمات والحركات الاجتماعية الجماهيرية الجديدة الناشئة خارج التنظيمات الحزبية التقليدية وتوعد من جديد بتحرير وتجديد... الخ يعترف بانهيار الحركات الاجتماعية القديمة، لكن مجمل الحقائق ظلت تشير إلى تمسك رجل الغرب بأساطيره البيضاء وهو على الدوام سيتحدث عن عقلانية التنوير ويكرر نفس العمليات التي انتقدها، ولا احد يتجرأ من هؤلاء للإعلان عن موت الماركسية التقليدية النظرية، وتحجر ما استجد منها عند عتبة العقل الأوربي الذي يحاول ان يحقق أبويته من جديد بفرض العولمة بدل الأممية والتآخي بين الشعوب بدل الصراع الحضاري السلمي.
ان الجدل المعرفي المعاصر مدين باسهامات كتاب كثيرون منهم من ينتسب الى العالم الثالث، منهم ادوارد سعيد، فهو رغم تنشئته العلمية وانضباطه الاكاديمي الصارم فان كتاباته ظلت تشي باهمية مشروعه، وربما كان توقعه بموت الماركسية التقليدية من اهم انجازاته ، حيث ان جملة من الحقائق القديمة قد اختفت وتجبر سياسة "ما بعد البنيوية" على الاعتراف بان المعرفة كافة قد تكون ملوثة بدرجات متفاوتة ومتضمنة في بناها الشكلية او"الموضوعية" ذاتها.
يعني هذا على وجه الخصوص ان تحليل الخطاب الكولونيالي ليس تابعا هامشيا لدراسات اكثر جماعية او نشاطا متخصصا مقصورا على الاقليات او مؤرخي الامبريالية والكولونيالية وحسب؛ بل انه يمثل تشكيكا في فئات المعرفة الاوربية وافتراضاتها.[يانج، ص 69].
وبنفس الطريقة أشار فانون الى انه على المستوى السياسي يشكل ما يسمى "العالم الثالث" المصطلح الذي يربك الجدل السياسي الاوربي الخاص بالرأسمالية والاشتراكية. وان هذا العالم الذي لم يتشكل بعد في وحدة حقيقية بات يشكل وجودة ازمة عالمية بما يعيشه من ويلات الفقر وتخلف التنمية وتراجع الحياة واستمرار الحروب الاهلية والطائفية وظهور وتشكل الكثير من الاصوليات المتطرفة سيعيد النظر في مصير العالم وتشكل وحدته من جديد.
انه الاخر غير المكتشف ببعده الانساني وازماته المتتالية بسبب عقود من النهب الاستعماري والعنف الثقافي وسياسات الالغاء او الاقصاء للآخر.
كانت الحرب ولا زالت شكل آخر من اشكال الاستيلاء على الاخر وان دعاة العقلانية كانوا يمارسون الكثير من العنف الضمني واشكال من نفي الاخر وعدم الاعتراف به كائنا بشريا على الاقل.
لقد ساهمت منظمات ومجتمعات وافراد بتنظير حالة التاريخ مرة اخرى من منظور المركزية الغربية، فحتى الديمقراطية الممارسة اليوم تخضع لاشكال من القهر الكولونيالي، تماما كما كانت تتم ادارة البلدان المحتلة قبل ذلك، من خلال ادوات وشخصيات محلية مسلوبة الارادة يمكنها الاستعمار من السلطة ويحميها ويؤسم لها سياساتها ويفرض عليها نمط التنمية وفق الارادات الاستعمارية ومخططاتها.
ان النظرية الامبريالية لم تزل تحفظ ملامح صورتها العتيدة داخل زمن التاريخ الكلي، ولا زال التاريخ هو مجال الحرب والعنف والضم وتفكيك الدول وانتزاع الامم من تاريخها.[العراق ويوغسلافيا وفلسطين والصومال ومحاولات تفسيم السودان أمثلة].
ان اوربا الموحدة لازالت تحتفظ بنرجسية الغرب التي تتسم بالاستيلاء على الغير وتتطلع الى مستعمراتها القديمة في صورة الجائع والمستلب والمتناحر ومن هذه الصورة يعود الحنين الى ماض استعماري باخراج متجدد على حساب انتحار قيم الحرية.
ان الغرب رغم مقولاته حول الاختلاف يريد فرض تمايزه وحده، ولا مجال لنسبية المساواة في الذاكرة التاريخية بعيدا عن المركزية العرقية الاوربية والغربية .
وحول التاريخ والتأويل والتاريخية يرى يانج ص 157 في كتابه [اساطير بيضاء] انه منذ سارتر والتوسير لم يسع احد وضع تنظير جديد للتاريخ الماركسي ولم يكرر تلامذتهما مثل دريدا وفوكو تكرار مشروعات سارتر والتوسير؛ بل تعلموا منها درسا من التاريخ حين توقفوا عن السؤال عن عدم ترابط تلك النظريات الشاملة ببعضها البعض.
وبدلا من استبعاد التاريخ في كثير من الاحيان فانهم غالبا ما يبدأون بطريقة اكثر تقليدية من المنظورين المضادين للتاريخانية الخاصين بسارتر والتوسير. ويفيد المصطلح العام "ما بعد بنيوي"، باعتباره مجرد اختزال لوصف هؤلاء الكتاب المعاصرين الذين لا يشتركون في عداء للتاريخ بحد ذاته؛ وانما في عدم الثقة في التاريخانيات الساذجة حيث يشتهر "ليوتار" على سبيل المثال بشكه في السرد الكلي التاريخاني بينما يدافع عن امكانية تعددية التواريخ المتضاربة غير القابلة للقياس، وينطلق فوكو في الفلسفة وتاريخ العلوم على وجه التحديد من نفس التراث الذي انطلق منه التوسير.
ولم يكن دريدا مهتما بصياغة فلسفة تاريخ جديدة؛ بل حاول من خلال وصف نفسه بانه "شديد الحذر من مفهوم التاريخ" إبعاد المشكلات عن التحليل المفاهيمي للتاريخ باعتباره " فكرة" اثبتت، ربما اكثر من أي شئ آخر، انها ميراث هيجل الاكثر ثباتا تجاه تحليل الفواصل الموجودة في النسق العام الذي تعمل في إطاره لذلك، فدريدا لايركز في المقام الاول على التاريخ في حد ذاته، وانما على مشكلة التأويل والفهم التاريخي المتصلة به.
وهنا يصبح التاريخ لدى دريدا مجرد مشكل دلالة وتأويل؛" والعصر الذي بات بالفعل من الماضي يشكل في واقع الامر في وجه من الوجوه باعتباره نصا". ويرى يانج : " كان اسهام دريدا الاساسي هو اصراره على ان التاريخ مفهوم ميتافيزيقي تتساوى بناء عليه دلالة التاريخ دائما مع تاريخ الدلالة".
وعند تناول موضوعات الكولونيالية والنزعة الانسانية يطرح السؤال من جديد : كيف نكتب تاريخا جديدا؟ ومتى يكون التاريخ ابيضا؟ على حد تعبير "سيزير".
ويبدو ان نقد البنى الكولونيالية غالبا ما يرتبط بالتاريخ الكولونيالي ويلبي فقط احتياجات الاقليات، او ذوى الاهتمام المتخصص بالتاريخ الكولونيالي. وغالبا ما اهتم هؤلاء بالهوامش الجغرافية للثقافة الاوربية المركزية، ومن هنا لا يمكن تخيل تاريخ العالم منذ عصر النهضة بدون تأثيرات هذه الاوربة. كما لا يمكن، من هذه الزاوية، نزع التفكير الكولونيالي من الفكر الاوربي أ تطهيره، كما هو الحلم الحالي الخاص بـ "اجتثاث " العنصرية.
وباتت مسألة اعادة موضعة الانساق الاوربية من اجل بيان التاريخ الطويل لعملها باعتباره أثر الآخر الكولونيالي الخاص بها، تعبر عنه بايجاز ملاحظة فرانز فانون: [... ان اوربا بالمعنى الحرفي للكلمة من خلق العالم الثالث"]. ولا ينبغي لنا افتراض ان معاداة الكولونيالية قصرت على عصرنا؛ فالتعاطف مع الاخر المقموع، والضغط من اجل نقض الكولونيالية هي مسألة قديمة، قدم الكولونيالية الاوربية ذاتها.
أما الأمر الجديد في السنوات منذ الحرب العالمية الثانية التي حدث خلالها نقض الكولينيالية، فهي تلك المحاولة المصاحبة لنقض كولونيالية الفكر الأوربي وأشكال تاريخه كذلك، وهي بذلك تميز التحول الأساسي والأزمة الثقافية التي توصف الآن بأنها "ما بعد الحداثة".
ومن الممكن القول بأن هذا المشروع بدأه فرانز فانون عام 1961 من خلال كتاب "معذبو الأرض" Wretched of the Earth والكتاب برنامج ثوري لنقض الكولينيالية وتأسيس تحليل آثار الكولينيالية على الشعوب المستعمرة وثقافاتها. ووضع العالم الثالث في الصدارة باعتباره البديل الأساسي للنظام المعاصر الخاص بالنفوذ العالمي والأيديولوجيتين المتنافستين له وهما الرأسمالية والاشتراكية.
ورغم تأثير سارتر، فقد كان لدى "فانون" القليل من الوقت الذي يمنحه للفرضية الأساسية الخاصة بكتاب "نقد العقل الجدلي" الذي نشر في العام السابق، وهي أن البشر، باعتبارهم أدوات واعية بذاتها تخلق واقع التاريخ. وهو يشير على عجل إلى ما يعنيه ذلك حين يوضع في سياق كولونيالي:
[يصنع المستوطن التاريخ ويكون واعيا به، ولأنه يرجع باستمرار إلى تاريخ البلد الأم، فهو يشير بوضوح إلى انه نفسه امتداد لذلك البلد الأم. وهكذا فان التاريخ الذي يكتبه ليس تاريخ البلد الذي يستولي عليه وإنما تاريخ أمته، فيما يتعلق بكل ما تنتقيه وكل ما تنتهكه وتذيقه الجوع] [المرجع 40 يانج ص 260].
وإذا كان البشر يصنعون التاريخ، فان فانون يبين هنا كيف إن الرجال والنساء الذين هم موضوعات ذلك التاريخ محكوم عليهم بالجمود والصمت. وكتابه [معذبو الأرض] موجه إلى هؤلاء الرجال والنساء. ولا يتوقف نقده لأوربا عند التاريخ العنيف الخاص بالاستيلاء الكولونيالي. فهو يشير إلى اثر الكولينيالية هو نقض إنسانية السكان الأصليين، وهي عملية من المفارقة انها تجد لها مبررا في قيم النزعة الإنسانية الغربية.
وهذه النزعة الإنسانية يهاجمها فانون باستمرار ويسخر منها. وهو على سبيل المثال يحث قراءه في الخاتمة قائلا: [اتركوا أوربا هذه التي لا يتوقفون فيها عن الحديث عن الإنسان، ومع ذلك يقتلون البشر أينما وجدوهم، على ناصية كل شارع من شوارعهم، وفي كل ركن من أركان المعمورة. إنهم يجثمون منذ قرون على صدر البشرية كلها تقريبا باسم ما يسمونه التجربة الروحية...][يانج ص 261].
" تلك هي نفسها اوربا التي لا يتوقفون فيها عن الحديث عن الانسان ولم يتوقفوا قط عن الاعلان فيها عن انهم مهمومون فقط برفاهية الانسان. والان نعرف ما اشكال المعاناة التي تحملتها البشرية مقابل كل انتصار حققته من انتصارات العقل"[ فانون ،ص 261 عن يانج].[Orientalism,46,266,246,328,267,It is characteristic of Said s identification with the values of humanism that he always opposes ,human,, never materialist,history to idealist history].
وكما قد يكون متوقعا، كان ذلك الجانب من نقد "فانون" هو ما أثر على سارتر تأثيرا خاصا. ففي [نقد العقل الجدلي] يرفض سارتر الفكرة الانسانية التي تقول ان هناك ماهية غير تاريخية للانسان، مع ان الكتاب يقوم، رغم ذلك، على محاولة وضع "الانسان" الاوربي نفسه في مركز التاريخ. ولا شك في امكانية اضافة تدخل فانون الى قائمة اسباب انهيار مشروع سارتر نفسه.
يقول"فانون" ان (... نقض الكولونيالية الذي يعتزم تغيير نظام العالم هو بكل وضوح برنامج للفوضى التامة )[The world,the Text,the Critic,175].، ولا يزيد هذا على ما هو في الفوضى التي تحدثها القيم المتصلة بالنزعة الانسانية الاوربية.
وفي المقابل يحدد التقييم الرائع الذي قدمه سارتر لكتاب"معذبو الارض" الموجه على وجه الخصوص للقارئ الاوربي، الخطوة الاولى التي يقوم بها اوربي في نقد الثقافة الاوربية من منظور مشاركتها في الاشتراكية. ولم يحاول سارتر تقبل التاريخ المعاصر بالنوح على انهيار الغرب، كما انه لا يعترف وحسب بعنف تاريخ الهيمنة الاوربية .
وتنبع اهمية مقال سارتر من حقيقة انه يعترف، رغم قضائه السنوات القليلة الاخيرة محاولا تحويل النزعة الاقتصادية الماركسية الى نزعة انسانية، بأن النزعة الانسانية ذاتها،التي كثيرا ما يشار اليها، باعتبارها ضمن أسمى قيم الحضارة الاوربية، ظلت متواطئة تواطؤا شديدا مع سلبية عنف الكولونيالية، وكان لها دور مهم في ايديولوجيتها.
وقد جرى تشكيل افكار الطبيعة الانسانية، والانسانية، والصفات الكلية للعقل الانساني باعتبارها الصالح العام للحضارة الاخلاقية في نفس القرون شديدة العنف في العالم التي تعرف الآن باسم حقبة الكولونيالية الغربية.
وكان أثر ذلك نقض انسانية العديد من الشعوب الذوات؛ وهو ما يسميه سارتر"محو تقاليدها، واحلال لغتنا محل لغتها، وتقويض ثقافتها دون ان نمنحها ثقافتنا".
يقول "يانج" الا ان هذه الفوضى يجري عكسها الآن. ويعلن سارتر"ذلك اننا في اوربا يجري تحريرنا من الكولونيالية كذلك":
[يعني هذا المستوطن الموجود داخل كل منا يجري اجتثاثه بوحشية. ولننظر الى انفسنا ـ ان كنا نتحمل ذلك ـ ونرى كيف اصبحنا. لابد لنا في البداية من مواجهة الكشف غير المتوقع، وذلك العري الخاص بنزعتنا الانسانية. وهناك ترونها عارية تماما، وهو لا يعد منظرا جميلا، فهي لم تكن سوى ايديولوجيا من الاكاذيب، وتبرير مثالي للسلب والنهب. ولم تكن كلماتها المعسولة وتظاهرها بالحساسية سوى تبريرات لاعتداءاتنا][Orientalism,246,211,238].
كان هذا الاعتراف باستغلال "الانساني"، باعتباره نسقا على قدر كبير من التسييس ادى الى النقد المستدام لـ "الانسان" من قبل مجموعة كبيرة من مفكري ما بعد الحرب في حركة تعرف باسم " معاداة الانسانيةanti humanism القليل من المشروعات السياسية الفكرية ولذلك القدر من الخلاف والعداء وعدم التسامح بشكل ينطوي على المفارقة، ولكن ربما بشكل عارض.
المدهش هو ان قليلين ممن يدافعون عن النزعة الانسانية يسألون بعد كل هذا عن مصدر معاداة النزعة الانسانية ايضا ومن داخل الاوساط الاوربية. يشير التعريف الدارج الى انها نبعت من نقد النزعة الانسانية الماركسية الذي بدأه ستراوس والتوسير ضد سارتر وغيره مثل جارودي Garaudy والحزب الشيوعي الفرنسي.
الجدير بالذكر هنا ان المحاولة الانسانية الماركسية التي قام بها لوكاش وسارتر وآخرون لتأسيس "نزعة انسانية جديدة" تحل، بسب مفهوم التنوير الخاص بطبيعة الانسان الثابتة، محل"النزعة الانسانية التاريخية"، التي قد ترى "الانسان على انه نتاج نفسه ونشاطه داخل التاريخ".
إلا أن هذا النشاط التاريخي نفسه شكل اساس نقد الخاص بكلا النوعين من النزعة الانسانية من قبل الكتاب غير الاوربيين مثل "سيزير" و"فانون". وتبدأ هذه الصورة من معاداة النزعة الانسانية بتورط النزعة الانسانية في تاريخ الكولونيالية، وهو ما يبين ان الاثنتين لا يمكن فصلهما عن بعضهما بسهولة كبيرة، فقد بدأت النزعة الانسانية من منظور الكولونيالية، باعتبارها شكلا من اشكال إعطاء المشروعية الذي يقدمه المستعمرون كنوع من التبرير الذاتي لشعبهم، الا انه في وقت لاحق،عندما تحول عرفه عبدول جان محمدAbdul Jan Muhammad بانه مرحلة الكولونيالية"المهيمنة" الى مرحلة متجانسة من الكولونيالية الجديدة، استغلت النزعة الانسانية ، بصفتها شكلا من اشكال السيطرة الايديولوجية الخاصة بالشعوب المستعمرة.
ووضع هذا بدوره بنى الكولونيالية الجديدة في موضعها المناسب استعدادا لنقض الكولونيالية. يصف "فانون" الامر كما يلي:
"كانت البرجوازية الكولونيالية في واقع الامر قد زرعت بعمق في عقل المفكر المستعمَر في حوارها النرجسي الذي يفسره اعضاء جامعاتها، ان الصفات الماهيويةـ التي هي الصفات الماهيوية الخاصة بالغرب بطبيعة الحال ـ تظل خالدة رغم كل الاخطاء التي قد يرتكبها البشر".
وهكذا فان تلك الملامح الماهيوية الكلية التي تحدد الانساني تغطي على تشبيه الانساني نفسه بالقيم الاوربية؛ وهو ربط قد يكون اكثر وضوحا في التعريف الماركسي للتاريخ الذي يعلن: انه اذا كان التاريخ نتاج الافعال الانسانية، فحينئذ لا يمكن ان يقال سوى انه يبدأ على وجه الدقة حين تفسح المجتمعات"البدائية" الطريق للحضارة الاوربية.
ان مفاهيم مثل"عائلة الانسان الكبرى" وغيرها، التي عبر عنها "رولان بارت"
تتجاوز التنوع في هذه العائلة المنشودة وتوحي كما لو كانت تلك المستويات من التنوع تبدو امام نظرة "رولان بارت" كما لو كانت متطابقة ومتقاربة رغم الفروق الثقافية والتاريخية الشاسعة، ذلك، لان تحتها طبيعة انسانية واحدة وبالتالي ماهية انسانية مشتركة.
يقول بارت: ان مثل هذه النزعة الانسانية التي تبعث الى حد كبير الطمأنينة على المستوى العاطفي، تعمل فقط للقضاء على الفروق" التي سوف نسميها اجحافا وحسب". ان مقولات مثل هذه لن تقنع المعدمين السود وما يتعرضون له يوميا انهم والبيض ينتسبون الى "عائلة الانسان الكبرى" وان نشرمجلة" باري ماتش" Paris Match على غلافها صورة لجندي اسود شاب في زي عسكري فرنسي وهو يحي العلم الفرنسي التي رأى فيها " رولان بارت" انها تمثل مقدار بدلالة تلك الصورة الفوتوغرافية، وهي تعزيز الايديولوجيا الكولونيالية، وعائلة الامبراطورية الفرنسية، "ذلك ان كل ابنائها يخدمون باخلاص في ظل علمها، دون اي تمييز لوني، وانه ليس هناك رد أفضل من ذلك على من يعيبون في الكولونيالية المزعومة من ذلك الحماس الذي يبديه هذا الزنجي في خدمة من يسمون قامعيه".
ان تحليلات "رولان بارت" تشير الى النقد الفرنسي الخاص بالنزعة الانسانية من حيث انه يدار من البداية على انه جزء من النقد السياسي الخاص بالكولونيالية. ولذلك يبين تحليل الخطاب الكولونيالي السبب في ان " معاداة النزعة الانسانية" لم تكن مجرد مشروع فلسفي. ويقول المعادون للنزعة الانسانية إن نسق الانساني، مهما علا مفهومه، كان يستعان به في اغلب الاحيان فقط من اجل وضع الذكر قبل الانثى، او لتصنيف"الاجناس" الاخرى على انها دون البشر، وبالتالي لاتخضع للقواعد الاخلاقية المطبقة على الانسانية بصورة عامة.
وكما يقول سارتر، فإن"النزعة الانسانية هي نظير العنصرية؛ ذلك،أنها ممارسة الاستبداد" وطبقا لما يقوله "فانون" فقد حل هذا التناقض كما يلي:
[ الاحكام المسبقة العنصرية البرجوازية الغربية فيما يتعلق بالزنوج والعرب هي عنصرية الازدراء والاحتقار؛ أي انها العنصرية التي تحط من شأن من تكرهه. الا ان الايديولوجيا البرجوازية التي هي اعلان لصفة جوهرية بين البشر تنجح في ان تبدو منطقية في عيون انفسها بدعوة من هم دون البشر لأن يصبحوا بشرا، وان يتخذوا الانسانية الغربية مجسدة في البرجوازية الغربية نموذجا اوليا لهم].
وقد يكون من الامثلة المعتادة لهذا المنطق المزدوج إقامة "جون ستيوارت ميل" John Stuart Mill مقولته الخاصة بالحرية على التقسيم السابق للعالم الى ثقافتي الحضارة والبربرية، او على مستوى علم الجمال، إفراغ فكرة "كانط" الخاصة بالادعاء الكلي في مسائل الذوق في قالب انثروبولوجي لتصبح اساسا لادعاءات النقاد الاوربيين لتحقق وضع الحقائق الانسانية الكونية، دون اية معرفة فيما يتعلق بما إذا كان من الممكن ان يكون هذا كذلك ام لا.
لا يعنى السكان المحليين من الافارقة منظومة "القيم الانسانية" التي يتحدث عنها الانجليز او الفرنسيين وهم يحتفلون بمناسبة اليوبيل الفضي او الذهبي لذكرى الاحتلال والغزو لبلدانهم؟ وتعليقا على مثل هذه الحوادث يقدم فانون الاجابة:
انه [يعني العنف الذي يؤكد به تفوق القيم البيضاء، والعدوانية التي استشعرت في انتصار تلك القيم على اساليب حياة السكان الاصليين وفكرهم، ان السكان الاصليين يضحكون ساخرين من باب الانتقام حين تذكر القيم الغربية أمامهم].
لابد من القول ان النقد الادبي والاخلاقي للثقافة الغربية من منظور اوربي غالبا ما يتواطأ مع العنف المتأصل في الثقافة الغربية والتاريخ الغربي. ومع فقدان الغرب التدريجي لسلطانه في عالمين يندمجا في منظومتين جديدتين هي اوربا والولايات المتحدة، فان مقولة العالم الثالث يمكن تجديدها بذلك العالم خارج القارتين الاوربية والامريكية الشمالية اللذان شهدا اشكالا من العنف المتأصل عرض عن طريق الفاشية والهولوكوست في كثير من الاحيان، وكأنهما انحراف فريد من نوعه او سوء استغلال او اثر خاص من الثقافة الالمانية .
وهنا كانت الفروق بين الفرنسيين ومدرسة فرانكفورت التي ظلت غافلة بشكل غريب عن مشكلة الكولونيالية برمتها، اكثر وضوحا، انها تتخذ "سيزير" و "فانون" مثالا لبيان ان الفاشية لم تكن سوى الكولونيالية وقد اعيدت الى اوربا. ويوضح سارتر آثار هذه المقولة بالقول:
[الحرية والمساواة والاخاء والحب والشرف والوطنية وكل ما يمكن ان تضيفوه. كل هذا لا يمنعنا من إلقاء كلمات معادية للاجناس عن الزنوج الاقذار، واليهود الاوساخ، والعرب الانجاس. ويحتج اصحاب الاخلاق النبيلة او الليبراليون او حتى اصحاب القلوب الرحيمة على ما اصابهم من صدمة من جراء عدم التساوق هذا. ولكنهم كانوا اما مخطئين او مخادعين، ذلك انه بالنسبة لنا ليس هناك ما هو اكثر تساوقا من النزعة الانسانية العنصرية، ذلك ان الاوربي لم يستطع ان يكون انسانا الا من خلال خلق العبيد والوحوش].
لقد اسهم فانون بفضح سياسات التمييز في "النزعة الانسانية" التي طرحتها النواحي النقدية للفكر الغربي ضمن ما يسمى "بثقافة التنوير" وقابلها فانون"بالنزعة الانسانية الجديدة" الخاصة به ومعه العديد من الكتاب اللاغربيين، وقد اشار الى ذات السياق ادوارد سعيد الذي كشف بعمق ان "تناقضات النزعة الانسانية تربك الفكر المناهض للكولونيالية".
ان تحديات فانون وادوارد سعيد لحدود المركزية العرقية الاوربية احدثت أثرا في نقض المركزية وازاحة معايير المعرفة الغربية ومنها ذلك التشكيك في افتراضات التاريخ التاريخاني الغربي باعتباره كلا منظما ذا دلالة واحدة، او افتراضات الخطاب القومي الغربي الذي كان يقول عنه "هومي بابا: انه "يطبع تاريخه الخاص بالتوسع والاستغلال بكتابة تاريخ الآخر بتراتب ثابت للتقدم المدني".
واضافة الى اعادة كتابة تاريخ التواريخ والثقافات غير الاوربية يتحول تحليل الكولونيالية بالتالي الى منظور التاريخ والثقافة الاوربيين لبحث البنى والافتراضات الاساسية الخاصة بالمعرفة الغربية، ويمثل ميراث الكولونيالية مشكلة للغرب بنفس القدر الذي يمثله للدول المجروحة في العالم خارجه.
يرى "يانج " : ( ان الكولونيالية تعرف بانها الخطاب الذي يكشف الخلاف الضمني داخل المعرفة الغربية وتمثل مقالات "هومي بابا" اللاحقة كلها تمحيصا للموقف... في "اختلاف الكولونيالية وتمييزها وخطابها")، هذا الكاتب الهندي الذي تلقى تعليمه بالانجليزية وعمل في الخدمة المدنية الهندية وسيطا بين القوة الامبريالية والشعب الهندي المستعمر. وفي تقديمه لكتاب "فانون" [البشرة السوداءBlack Skin ] كتب عن "بحث فانون عن شكل مفاهيمي يتناسب مع تضاد العلاقة الكولونيالية" وعن "الظرف الكولونيالي الذي قاد فانون من ترسيمة مفاهيمية الى أخرى".
ان "هومي بابا"، الذي يبدو انه استفاد من نظريات التحليل النفسي للتركيب المتناقض ظاهريا للذات التي تنكر بالفعل المطالبة بان يكون هذا التناقض الظاهري خاصا بالموقف الكولونيالي وليس لديه سوابق اكثر وثوقا من تجربة فانون لكي يوظفها ويستفيد منها في التحليل، وخاصة كتابه[بشرة سوداء واقنعة بيضاءBlack Skin and White Masks]الذي يدرك من عنوانه ازدواجية الخيال وانكار الفرق الذي يشكل نمط "هومي بابا" المقولب.
يؤدي تأكيد "هومي بابا" على التناقض الظاهري، باعتباره مكونا للظرف الكولونيالي الى نظرية فانون الخاصة بالثنائية المانوية باعتبارها علم نفسي مرضي ولده موقف الحكم الكولونيالي الذي يمكنه المحافظة على تماسك المجتمع فقط من خلال العنف الذي يعطونه صفة الشرعية. كما ناقش "هومي بابا" بعض القضايا التي تثيرها الاستفادة من التحليل النفسي في تقديمه لكتاب فانون [بشرة سوداء واقنعة بيضاء] ، ويبدو انهما كانا مختلفان في مسألة الاستفادة من التحليل النفسي؛ فبينما استفاد فانون من التحليل النفسي استفادة واضحة الى حد كبير في سياق إكلينيكي، نجد ان " هومي بابا" كان اكثر ترددا الى حد كبير بشأن ما اذا كانت بنى الخطاب الكولونيالي"مشابهة" لتلك التي ابرزها فرويد ام لا، أو ما اذا كانت، كما يوحون ايضا، تنطوي بالفعل على الانساق النفسية ، كما وصفها فرويد ام لا.
ان اختلاف الاثتين من مسألة التحليل النفسي تنعكس ايضا من خلال نص المقدمة التي كتبها "هومي بابا" لكتاب فانون ، انه لم يركز على مشكلة تناقض فانون الظاهري بين اوصاف التحليل النفسي والضرورات الثورية في علم النفس المرضي الخاص بالثورة، او رفضه للنظريات الاقتصادية الخاصة بالثورة لمصلحة نظريات سيكولوجية؛ بل ان "هومي بابا" ينتقد فانون لكونه على قدر كبير من التناقض الظاهري بشأن التحليل النفسي، وهو بذلك يمضي الى حد وصف تحليلات فانون السياسية بشكل اكثر وضوحا بانها: لحظات انسانية يكون فيها "خائفا" من اكثر حكمه الراديكالية فيكتب: [... يمكن ان يعوق فانون، ففي نمطه الاكثر تحليلا استكشاف هذه المسائل غير المؤكدة المتناقضة ظاهريا الخاصة بالرغبة الكولونيالية. وتقتضي حالة الطوارئ التي ينطلق منها في كتابته إجابات اكثر تمردا، والى تماهيات اكثر مباشرة... وكما يقول فانون فان هذه المحاولات لاعادة الحلم الى زمنه السياسي وفضائه الثقافي الصحيح يمكن ان تقلل في بعض الاحيان من حدة توضيحات فانون النابهة الخاصة بالتعقيد والاسقاطات النفسية في العلاقة الكولونيالية المرضية].
ان فانون من خلال كتابه [جلد اسود وقناع ابيض] يصف مشروعه بانه:
" لايقصر في شئ من اجل تحرير المرء الملون من نفسه وتبادل الذاتية العرقية بالذاتية الانسانية".





#عبد_الكاظم_العبودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دارفور الشجرة التي تخفي ورائها كل ضباع الغابة الافريقية
- منظمات المجتمع المدني مساحيق بشعة على وجه ديمقراطي امريكي زا ...
- تقاطعات الرحيل الى الازهر الغافي والمرجع المتعافي لا يصلح ال ...
- رمضان وتكريس البغض الطائفي في العراق
- بوش في الانبار يعيد لي ذكرى حكاية جدتي
- القادمون على ظهر الدبابات الامريكية لا تمنحوهم -شرفا-... او ...


المزيد.....




- ماذا قالت إسرائيل و-حماس-عن الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين ف ...
- صنع في روسيا.. منتدى تحتضنه دبي
- -الاتحاد الأوروبي وسيادة القانون-.. 7 مرشحين يتنافسون في انت ...
- روسيا: تقديم المساعدات الإنسانية لقطاع غزة مستحيل في ظل استم ...
- -بوليتيكو-: البيت الأبيض يشكك بعد تسلم حزمة المساعدات في قدر ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من رمايات صاروخية ضد أهداف إسرائيلية م ...
- تونس.. سجن نائب سابق وآخر نقابي أمني معزول
- البيت الأبيض يزعم أن روسيا تطور قمرا صناعيا قادرا على حمل رأ ...
- -بلومبرغ-: فرنسا تطلب من الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات جديدة ض ...
- علماء: 25% من المصابين بعدم انتظام ضربات القلب أعمارهم تقل ع ...


المزيد.....

- عندما تنقلب السلحفاة على ظهرها / عبدالرزاق دحنون
- إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا ) / ترجمة سعيد العليمى
- معركة من أجل الدولة ومحاولة الانقلاب على جورج حاوي / محمد علي مقلد
- الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة ... / فارس كمال نظمي
- التوتاليتاريا مرض الأحزاب العربية / محمد علي مقلد
- الطريق الروسى الى الاشتراكية / يوجين فارغا
- الشيوعيون في مصر المعاصرة / طارق المهدوي
- الطبقة الجديدة – ميلوفان ديلاس , مهداة إلى -روح- -الرفيق- في ... / مازن كم الماز
- نحو أساس فلسفي للنظام الاقتصادي الإسلامي / د.عمار مجيد كاظم
- في نقد الحاجة الى ماركس / دكتور سالم حميش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - عبد الكاظم العبودي - البعد الايديولوجي لليسار الاوربي التقليدي