أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - محمد البدري - رأسماليتنا بين ثقافة مشلولة ومركزية عرجاء وسلطة من خارج التاريخ















المزيد.....


رأسماليتنا بين ثقافة مشلولة ومركزية عرجاء وسلطة من خارج التاريخ


محمد البدري

الحوار المتمدن-العدد: 737 - 2004 / 2 / 7 - 05:29
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


أثرتنا جريدة الأهرام بثلاث حلقات متتالية، بتاريخ 29، 31 أكتوبر والأول من نوفمبر الماضيين، عن الرأسمالية في نشأتها وسياق تطورها وهوامشها التي نحتلها بجدارة. وأتت الكتابة عنها من الدكتور إسماعيل صبري عبد الله وزير التخطيط الأسبق بهدف بيان الصورة منذ النشأة وبعد تغيرات عصفت بالعالم وبنا وفي إطار معركة حضارية نحن جزء منها وفيما نحن فيه متورطون. ما كتب هو فضيلة تحلي ويفخر بها كل المثقفون والمناضلون طوال التاريخ. وعامة فالدكتور لا يناضل في زمن سلام لان الزمن والواقع هو الذي يجر شكلنا رغما عنا طالبا منا التناغم معه لنشارك في صنعه بمواصفات جيده بدلا من تركه للعشوائيين كما تركنا لهم أشياء أخري كثيرة.

الحوار أتي من العارفين بالرأسمالية وعوراتها بأكثر مما يعرفه من هم ما زالوا في الخنادق ومعركة الإنتاج يحاربون علي المكشوف دون غطاء معرفي حقيقي إنما بتوهم أنهم في حمي أقوي القوي في الكون ومنشغلون بأعداء وأصدقاء لا وجود لهم. كذلك ممن يلهون معها بإستهلاكات مريحة لكل شهواتهم وأيضا لمن ما زالوا يتفرجون دون آيه مساهمة علي طريقة صندوق الدنيا أو البيانولا، يقدمون نصائح الفضيلة الدينية وغير مدركين علي أي بساط يمشون. الماضي الذي عرفناه رؤى العين وليس من كتب الإخباريين يقول بان اليسار كان مشاركا ولم ينعزل وقت سرقة الفكر منه وتلفيق اشتراكية عربية بمواصفات " كل واشكر" وفي قول آخر " كل واهتف ". نشر المقالات جعله طرفا فاعلا الي كونه اللاعب الأول زمن السلطة ومع مثقفين وفي زمن انفتاح حواري وتحولات للعالم ونحن فيه حاضرون وأصبحت ساحة المعركة علي أرضنا.


مثقفي اليسار يعدون اختراقا للمجتمع الشرقي، فهم منتج للمجتمع الرأسمالي، بعد أن تناولوا الوجبات المعرفية كاملة الدسم في مائدة الفكر العالمي. لكن الفارق بين مثقفينا وبين مثقفي الغرب يظهر بوضوح في التعامل وتناول النقد للمجتمعين كل علي حده. هناك ينخرطون في أحداث مجتمعهم ليحولوه من الداخل. وهو ما يعيدنا الي مسالة العزوف عن أن يكون طرفا بالاشتباك، وأعتقد جازما بان حجم النقد كما وكيفا للمجتمعات الرأسمالية من قبل المثقفين عندنا لم يكن عادلا ولم يكن متوازنا مقارنة بالنقد للداخل لدينا والتي هي معركته الحقيقة. هكذا أُخرجنا من ميزان التقييم والحكم باعتبارنا ضحايا وزادوا في جرعات الاتهام للمجتمعات الرأسمالية والليبرالية كونه متهما. عندها تنفض اليد وتختتم الصلاة شافية كافية بينما يبقي الحال ليعاد الحديث نقدا مجددا مع كل نداء جديد وفي مواقيت تحددها إمساكية العالم من حولنا. الآن وبعد عودة الاستعمار أصبح الحج إلى العقل ولو مرة واحدة فرض عين علي الجميع لان هناك من نفخ في الصور من البيت الأبيض.


يبدأ د. صبري عبد الله المقال بسرده الأسباب الثلاث الجوهرية في قضية الرأسمالية تاريخيا بالتراكم المالي والتراكم المعرفي والغزو الاستعماري. وهي أسباب بلا شك وجيه وواقعية وحقيقية لكن ما سكت عنه الدكتور حتى لا يصطدم بساحة المعركة الأساسية ويلتحم في خنادق القتال ويستريح إلى موقعه الدافئ خلف الخطوط هو أن الشرق سبق الغرب وارتكب تلك الموبقات ( مع التحفظ علي المعني ) الثلاث بدرجات مختلفة وربما أفدح في بعضها، ولم ينتج رأسمالية بل وعادي الاشتراكية عند ولادتها. فمنذ الاجتياح العربي شرقا وغربا وضموا كل البلاد وهياكل إنتاجها وقواها البشرية وأصبحت تصب في مركزية دولة الخلافة الإسلامية لم تشهد العاصمتين الأوليتين في المدينة ودمشق أية تراكم معرفي لحوالي 150 عاما. أما العصر العباسي الذي ورث معارف من سبقوه في مصر وفارس واليونان والهند فلم ينتج ما يمكن مقارنته بحجم الموروث كماً ولم يجاوز ما ورثه كيفا. وأصبحت بغداد هي عاصمة الثروة تشهد لها أساطير العصر العباسي يناظرها عند بعضنا الآن فوائض مالية لم يشهد العالم مثيلا لها في التاريخ ولم تنتج شيئا أيضا. كلا من الثروتين لم تكن من إنتاج من استمتع ويستمتع بها. بل ولم تنتج ليبرالية ماضيا وحاضرا. حديثا وبعد أن نشرنا أمهات الكتب في الثقافة والمعرفة الغربية نستعصي عن التلاحم مع الغرب ونصدر الإرهاب الملتحف بما في رحم ثقافتنا.

فالقضية الحقيقية والتي علينا مناقشتها بلا أدني تقاعس هو كيف صاغت تلك المفردات الثلاث العقل الأوروبي وأعاد هو تدويرها في الواقع بجدية العلم وبشجاعة العارف مع إضافة لما سكت عنه د. عبد الله وهو إعادة تقسيم العمل المنتج للثروة أساسا والتي صاحبت ظهور العقلانية التي لم يظهر بوادر الحمل أو الولادة لها في ثقافتنا. وأضحت الحرية عنصرا جوهريا لنشأة العلوم. فجدل العلم المحرر من الحاجات صاحبته الحاجة لتقييد السلطة لمزيد من الحريات الاجتماعية. بينما ثقافتنا المستمرئة للجهل والامية تسعي لتكريس السلطة وتعويضها عما فقدته من جراء هضم الخارجين عن القانون المشرقي للوجبات كاملة الدسم. والاستعمار أتانا بأيدلوجيات سابقة الطهي والتجهيز في معامل الفكر الغربي وأعجب بها في الشرق كل الليبراليين واليساريين بأمل في تنقية ثقافتنا مما يعوق تقدمها. وبعناء شديد أمسك عليها اليسار كالماسك علي الجمر وبرفض أشد قاومته السلطة لبقائها حرة . ثقافة اليسار ترفض الغرب في صورته الاستعمارية وتتبنى فكره في خلاصته النكتارية. والمجتمع التحتي مع السلطة عندنا – رغم عدائهما المزمن - يشتهي منجزات الغرب الاستعماري المادية ويرفض فكره الحر بكل أطيافه. هذا تناقض داخلي بين نخبنا المثقفة وعامتنا التحتية.


فالقضية برمتها ليست في ميكانيكية القوي والأدوات المادية وتطورها إنما تعود إلى تصور العقل عند كل فئة وطبقة وجماعة للكون بما فيه من الـ " نحن " والـ "هم ". وكيف يمكن تفكيكه وإعادة تركيبه لصالح تلك الطبقات القديمة الساعية للتغيير بكل تنوعانها والتي ستجد الخلاص إذن في التصميم والجرأة علي إعمال العقل من غير معونة لنصوص سابقة التجهيز تشرح لنا العالم علي هواها وليس كما نريده أو نبتغيه. الكسل العقلي لدينا والجبن المعرفي والتخويف الإرهابي بالمقدس ثم إعادة التربح في إدانة تشكيلات وأبنية العمل الجديدة عادلة كانت أم ظالمة جعلنا نرفض منجزات العالم المعرفية عقليا مع استهلاك مسرف وبشراهة في منتجاته المادية. بينما أصحاب تشكيلات العمل القديمة لدينا لم تشعر بوخز أي ضمير للمظالم التاريخية الوارثة لها وليس لديها أي حس معرفي عن التحولات الواجبة لما يتقدم به العالم من حولنا. كانت تلك أزمة معظم الرأسمالية المصرية قبل يوليو أما بعدها فتلك قصة أخري ربما حل زمن القول الفصل فيها دون نفاق أو مواربة. قتل ما وصل إليه الآخرون يشارك فيه الجميع بدرجات متفاوتة ورجال الدين دون استثناء كل علي طريقته وأنغامه. وتكون الضحية دوما هي الطبقة الوسطي عقليا واجتماعيا لإعاقتها من الوصول إلى مرافئ معرفية وبناء هياكلها الثقافية والإنتاجية علي أنماط مغايرة لما سبق وعرفوه أو أجبروا علي معرفته. المثقفون لدينا تعايشوا علي المن والسلوى ورحيق المعرفة التي أنتجها الغرب. أما رجال الدين عندنا وعلي نفس الوتيرة يقضوا مضاجع البشر بتكرار ترديدي للمعارف في العصور ألما قبل عقلية. والقول بان التاريخ لا يمكنه تكرار نفسه صادقة لمن يعيد رؤية ماضية بعين نقدية شجاعة. لكنه سيتكرر مرات عده لو ظللنا نكذب علي أنفسنا ونغازل التاريخ الذي أنتجنا نحن حاليا بحجم التخلف الظاهر والباطن في حياتنا وندخل في مقايضات مثل النفط مقابل الدماغ. بينما كان العقل في الغرب هو قدس أقداسها الجديد. كان يقايض في السلع والخام ويدفع أبخس الأسعار كتجارة رابحة لكنه لم يساوم علي العقل أبدا ودفع أغلي الأثمان لتربية افضل العقول. أوروبا التي ارتكبت " الموبقات " الثلاث كانت تتناقض مع ماضيها المعرفي والقائل بالأرض المسطحة المنتهية فيما وراء الاوقيانوس ( بحر الظلمات عند العرب ). بعثت برجال كانوا مغامرين أساسا ومبشرين فيما بعد وتحولوا إلى راصدين للثقافات الأخرى كنواة لعلم الأنثروبولوجي مع عصور الاستعمار التقليدي. وأتضح انهم علماء في حملة بونابرت بعد أن استقر الحال علي العقلانية ونشر الحداثة ضمن حملات الاستعمار في جدل واضح لنشر الحداثة عن طريق قهر المتخلفين. لم تكن صدفة إذن أن يخرج العرب من الأندلس في نفس عام تجهيز حملة كولومبس لتناقض البحث عن التغيير ولو كان خطأ مع الثبات علي المعلوم ولو كان يقينيا وإيمانا. خرج من ظل يحبذ حرق الكتب وتهديد العقول وبقي من بدأ المغامرة في قراءة جديدة للكون معرفيا وماديا لأول مرة قبل الإبحار علي سفن لا تعرف أمانا لرحلاتها.


الموبقات الثلاث أفسحت المجال للتصحيح المستمر للماضي والنظر الواعد للمستقبل. فلأن المساحة المهيمنة للمطلق في عقل الفرد والجماعة، والتعلق الشديد بالماضي، برغم تخلفه الشديد، لا يفي بحد ادني للتفكر في المستقبل والحاضر إنما يؤدي للثورة عليه لصالح مؤسسة الماضي مجددا بما هو موثق، أي إعادة إنتاج التخلف. نفس الشيء إذا ما حاولنا اللحاق بالمراحل بالبدء من نفس نقطة البداية في الغرب بما يسمي الإصلاح ثم التنوير فهو لن يسعد سوي من يريد لنا التخلف لان اللحاق بمن سبقنا بالجري بنفس وتيرة وسرعة السباق يبقي الفجوة بنفس الاتساع بل ولسوف تزداد لان قوي المعرفة والحداثة عندهم همها تزويد مرجلها بمزيد من الوقود بينما قوي المحافظة عندنا ما فتئت تزرع الغام الحكمة المطلقة كعقبة أمام فهم ما هو نسبي ومتغير، معتبرة المستقبل ليس سوي مجرد استمرار للماضي، بل أنّ أفضل مستقبل عندها هو ما يتقيد بأعمق ما في الماضي، وكأن الزمن لا يفعل سوي إعادة إنتاج نفسه في نموذج مثالي سرمدي ذو صلاحية أبدية له وإبقاء التخلف من نصيبنا. ومن ثم فإنّ الركود الممتد لأكثر من ألفى عام له أساس قوي في ثقافتنا، والتحرر منه مرهون بتغيير وتجديد نظرتنا للماضي قبل المستقبل وعندها ستزول الكثير من هموم اليسار واليمين ونكون علي الطريق الصحيح. مثقفنا الشجاع لم يولد بعد وعقولنا المتحررة لم تنشأ لدينا.


العقلانية التي نفتقدها موجودة في الكون وفي قلب مادتها الطبيعية التي لا تقبل الفوائض الغير عاملة والعوادم الغير مجدية. الرأسمالية وتوزيعها للفوائض، بغض النظر عن العدالة، وتمكينها من إعادة تنميط قوي العمل قدمت للحضارة منجزات في العلوم وفي السلع ما لم تحلم به البشرية طوال عمرها. قانون التكلفة بالحد الأدنى والعوائد بحدها الأقصى والفاقد الممكن إعادة تدويره مشروط بقانون الإنتاج بأقل تكلفة وأعلي مردود وبجودة فائقة للمنافسة. تلك هي الرأسمالية. ويبقي فضلها الأساسي في أنها أنتجت فهما جديدا للعدالة وللحرية نتعاطي رحيقه ووسائل المطالبة به بعد أن كنا رعايا نتكالب علي فتات السماء وفضلات الخليفة. الأساس الثقافي لدينا لم يعرف الطريق إلى العقل بعد آلاف السنين من الحضارة بل أخرجت منجزاتها بازدياد سكاني وفائض بشري استهلاكي مفرط، وحالة عقلية لتموين تنظيم إرهابي دولي حاليا بزعماء ورجال الصف الثاني منه ومشاركة بفرد من تسعة عشر في أبشع عمل إرهابي في التاريخ. فطوال زمن بناء الرأسمالية لذاتها كانت هناك طبقة - ربما نختلف أو نتفق علي طبيعتها وأدائها المتعرج وأمراضها المصاحبة لها - لكنها كانت تقود عندهم بالعلم والعمل وهو ما افتقدناه علي الأقل منذ زمن التحرر الوطني و زمن العروبة العرجاء. شغلنا أنفسنا بقضية العدل عندنا قولا ولم نحققها أبدا وطالبنا بها الغير كعورة في ثقافته الرأسمالية، بين أن ما تحقق هو أن بقاؤنا نحن أصبح موضع حديث.

ولنفترض جدلا أننا الذين أصبنا بجنون الموبقات الثلاث وخضنا تجارب أوروبا ومرت بنا أحداثها، فهل كنا سننتج شيئا آخر غير الرأسمالية في هذه المرحلة الآنية؟ إذا كان الجواب بــ " لا " فما هو النموذج النقيض والقابل للتطبيق و الذي يمكنه أن يفي بمطالبنا ولا يعرضنا لخطر التصادم مع باقي العالم الذي يزداد اقترابا من بعضه؟ وإذا كانت الإجابة بــ " نعم " فلماذا نتقاعس وعلي أي شئ نحافظ بالتلكؤ علي نواصي التاريخ؟!!


كانت نقاط الانطلاق التي ارتكزت عليها الطبقات الحاكمة عندنا، في سياق نموهم التاريخي، مختلفة تمام الاختلاف عن مثيلتها في الغرب ولا اعتقد أن أحدا من أهل الرأسمالية المعاصرة لدينا على علم بذلك الأمر. فهم جميعا متواجدون في الساحة أي السوق، بقواهم المالية وليس الرأسمالية، بالضرورة وليس بالإبداع . فالقاعدة الأساسية هي منطلقات القانون الأول الذي ارتكزت عليه الرأسمالية الغربية في إنشاء ليبراليتها وهو قانون " دعه يعمل دعه يمر ". وهو ما لم نسمع عنه شيئا في ثقافتنا. فالسحابة المارة مازال يفخر مثقفينا بأن خراجها سيأتي للخليفة أينما ذهبت باعتبار أنها ستعطي دون جهد ولا عائد إلا لمن لم يعمل وهو علي كرسي الحكم بعد إدرارها للمطر. تلك هي ثقافتنا المشرقية التي رسب " ماركس " في تشخيصها بجدارة وشرحها " كارل فوتفوجل" علي أنها دولة الشرق الاستبدادية قانونها الأول والأخير " دعه يعمل ولا يمر أبدا " النصف الأول من القاعدة في الغرب يقوم آليا بتكريس وعمل التراكم في جميع المجالات مدركين أن العمل هو المصدر الوحيد للثروة. والنصف الثاني من الشعار معناه قيام كل من يساهم في العملية الإنتاجية بالمرور أي الحق في القول والفعل والممارسة لأي نشاط مدني اجتماعي ثقافي سياسي ……الخ أي الديمقراطية التي يحاول الجميع اكتسابها الآن في ظل عمل هزيل ومعاق من ثقافتنا المحلية. وبالقطع لم يكن هذا متاحا من اللحظة الأولى لإبداعات الرأسمالية ولكنه أخذ أيضا الكثير من الجهد والدم لترسيخه وسار متوازيا مع تراكم الثروة وحجم الإبداع العلمي والمعرفي والتكنولوجي … فمعركتنا الآن ليس في تقويض الرأسمالية، كما يحلو لبعض من اليساريين، لأنها ابنه جهدها وثقافتها بينما الأجدى بنا أن ننزع في تربة تحدد لها ولنا شروطا أفضل لضمان جزء من كعكة العمل في الداخل والخارج قبل البحث عن الفوائض. مناخاتنا التي هي من خصوصياتنا الثقافية المدمرة لن تضمن لنا أية مساهمة في أية شئ. بل وستتآكل مع أي هزة كما حدث في يونيو الهزيمة وعودة الاحتلال إلي عاصمة الجباية البغدادية.

جريمة الزمالك الأخيرة، بطلها نموذج أصحاب الأموال وليس الرأسماليين في الشرق، تكرر مأساة قيادات المجتمع بنهاية عمر التنمية المركزية في الستينات ونتائجها في يونيو 1967. كلاهما استمرار لمنظومة الاستبداد الشرقي الممثلة في ثقافتنا الحية بدولة الخلافة. الاستمتاع بالجواري قديما ثم الراقصات والفنانات حديثا، والسحابة التي ستأتيه خراجها تطورت الي بنوك أتته بأموالها. كل هذا في غيبة من الديموقراطية الكاشفة للألغام قبل انفجارها. البيئة الثقافية الحاضنة لكل منهما قديما وحديثا لم تتغير وتدعمها مؤسسات كاملة تتعيش علي ريع الغيب دون إضافة للواقع. تقف ضد المبدعين ونقدهم وتصادر أعمالهم لتمرير خلفاء جدد عبروا المحيط للتدمير.

السموم الفكرية والسدود العقلية التي يقيمها ويزرعها علماء الأمة ونظم تعليمهم الرثة لن تسمح بامتصاص العلوم والمعارف بقدر معقول لكنها تؤهلنا لان نكون سوقا لكل منتجات العالم من حولنا. مستغلين الوعي المفقود لقوي العمل الممتنعة علي النمو بنصوص مقدسة كما لو كانوا يعملوا مجانا عند الاستعمار.الغرب أنتج معرفة وسلع ونحن نستعصي علي المعرفة ونتهالك علي السلع. مقولة الخليفة الذي أعتبر الأرض وما عليها والسماء وسحابها من الممتلكات لم تكن ازدهارا بل كانت نزحا للفوائض كما قدم لها د. سمير أمين في تقدمته لكتاب د. فوزي منصور " العالم العربي " لخدمة العسكرة والنزوات. مر زمن طويل ولم يعد للعرب في الفتح والنهب من مأرب بينما ظلت العسكرة بأطول مما ينبغي. مصر بعد يوليو عسكرت مشروع التنمية بكل أوجهه. حتي حصص الألعاب تحولت الي حصة للفتوة بزي عسكري وكان هناك سلالحليك في كل مدرسة ثانوية. وسقط كل شئ عندما سقطت المؤسسة العسكرية أمام اسرائيل وبتنا عرايا من أية غطاء ليبرالي أو اشتراكي. البلاشفة في روسيا والنازية في ألمانيا وعسكريات القومية العربية كلها ألغت مبدأ الاقتصاد من الأساس واشتطوا الي حد عسكرة كل شيء. ولان الإنتاج العسكري لا يمر بقانون الإدارة الاقتصادية فقد اصطبغ الإنتاج المدني بنفس الوصمة. لذا لم تجد الدولة أية فوائض في العام 1965 من أجل خطة خمسية أخري. فرغم أن الخطة تمت بالتعاون مع الرأسمالية العالمية دون البوح بها صراحة، إلا أنها لم تحصل عوائد الرأسمالية بل ولم تنتج طبقة لها مواصفات حقيقية كملاك لهياكل الإنتاج. مصانع النصر للسيارات الإيطالية أول صناعة تجارية لسيارات جاهزة للتسويق، لصالح فئة معينة، كانت تخدم الليرة الإيطالية والتي هي مقومة في السوق العالمي أمام الدولار الأمريكي، تنحاز له وتنزاح أمامه في توزيع للأسواق. أعادا استثمار طاقتهما منها كانت الصناعة المحلية باشتراكيتها تعمل في السر لحساب الرأسمالية العالمية دون أخذ محتسباتها الاجتماعية والمدنية لطوائف العمل وقوي الإنتاج. إنه نفي منطق " دعه يعمل " لصالح من نشتمه في الخطب الشعبية النارية. مبدأ الاشتراكية العربية إذن يمكن صياغته في " دعه يعمل سرا ولا تدعه يفهم حتي لا يمر" تلك كانت سمة كل الفاشيات العسكرية في العالم الثالث والتي كانت تغازل الاتحاد السوفيتي علنا بينما هي تمارس النازية وعسكرة الرأسمال سرا. لذا كانت من أشد النظم عداوة للثقافة وللمفكرين وشجعت الآلة الغيبية التي تفرز المضادات الفكرية للعقل كما عبر عنها كارل بوبر، فالجهل عنده ليس في نقص المعلومة داخل الجهاز المعرفي وإنما إفراز وحفظ نوع من المعلومات تمنع العقل من الفهم والإدراك . عندها يسقط الجميع في مستنقع الإفقار ماديا وفكريا.

وعلي الجانب الآخر من المعادلة السوسيوإكونومية فلم تنتج الهيكلة اليوليوية القومية طبقة عاملة مؤهلة ومدربة بشكل جيد لتنافس أقرانها في المجتمعين الرأسمالي والاشتراكي الواضحي الملامح الثقافية والأيديولوجية. لهذا وقفت هاتين الطبقتين تشهد أسواقها وبيئتها تنتزع لصالح الآخرين ولا تملك فكرا لتساهم من جديد في تشكيل المناخات الجديدة في العقد الأخير من القرن العشرين فرضيت بالتبعية العلنية بدلا من التبعية المتآمرة بالصمت. وحتى تظل بوابات المرور مسدودة بأقفال صدئة جديدة تحولت اللغة المتداولة بعد السقوط القومي بكاملها إلى خانة الغيبيات الدينية حيث تنغلق الافهام علي الإطلاق وحيث لا ينفع مال ولا بنون ولا تنوير ولا ديموقراطية. عندها صعد شعار الإسلام هو الحل لكن رافع الشارع لم يحدد ما هي المشكلة حتى يقترح حلولا . فعما يتساءلون إذن كل من السلطة والعوام؟ ولماذا لا يتحاور أحد عما هم عنه مهمومون؟

التحولات التاريخية التي تعاق لحظة النضج المعرفي وترتد به إلى كهوف الماضي علي أنه تجديد تجعل من مقولة كبلنج حقا وصدقا، فالشرق شرق والغرب غرب. الفاصل بينهما قدر يسير تلخصها الشجاعة الفكرية بينما الفارق بينهما علي أرض الواقع فراسخ وعصور.


اليسار المصري منذ ولادته علي يد مثقفين من صلب الثقافة الأوروبية الأكثر نضجا، انقسموا مبكرا إلي جناحين بعدما استهلكوا منتجات الغرب الأيديولوجية. أولاهما أيد الدخول بقوة في الرأسمالية العالمية والاعتراف بإسرائيل علي اعتبار أن المعركة ليست علي العنصر والدين. والفصيل الآخر وقع ضحية النضال لتدمير الرأسمالية ومن ثم فقد تحالف مع قوي الاستبداد العربي لأنها كانت تعزف نفس الألحان ثم انتهي الأمر بالاثنين كضحية للأصولية وإما بالتحالف معها لأنها الأكثر ديماجوجية وعاد بفضلهم وفضلها الاستعمار إلينا. مناخنا الحاضر لم يعد دافئا للتجريب أو للتناطح أو للاستمتاع برفاهية الاختيارلانه لا بدائل مطروحة بل الحاجة الي الشجاعة لنري الخشبه التي في أعيننا قبل إدانة الآخرين بالقشة التي استخرجها الغرب منذ زمن طويل. المشروع المطروح لا يختلف عن أولئك الثوريين الراديكاليين القدامى واليساريين لزمن الكفاح المسلح ممن يعلموا أن العالم قد تغير وأن الأنظمة التي رفعت هذه الشعارات الثورية جاءت بالوبال على نفسها. وهذا قابل للتكرار إذا ما توفرت نفس الشروط القديمة وهي غائبة لاختلاف الأزمنة. عجز العرب قديما في دفع ثمن التحولات ضد تاريخهم الخاص بهم قبل قوي الضغط الخارجي. عامة، فعند مقاومة قوة هائلة، فإن تلك القوة لن تكون طيعة وتسمح بالمقاومة، وشواهد التاريخ كثيرة على ذلك وهي حالة تشبه حالة العبيد الذين يسعون إلى الانعتاق من سطوة مستعبديهم، إذا حاولوا الفكاك فسيعانون من تبعات استلامهم الحرية، وإذا ما أعفوا أنفسهم من دفع أثمان الانعتاق فسيظلون عبيدا، يعتمد الأمر إذن على ما سيتم اختياره، هل سيكون البقاء في الاستعباد أم اختيارالانعتاق وهذه خيارات تقف أمامها البشرية طوال تاريخها، والأمر في النهاية متروك للإنسان أن يختار ما يريد، وكم من الناس مستعد للإقدام على وقفة شجاعة نبيلة وتحمله فك القيود، ودفع ثمنها الحقيقي هو في أحوج الناس لها ولكنهم لا يعلمون. ويبدو أن توفير أثمان التحول الاجتماعي و الثقافي زمن الثورة والتحرر بات غير مجدي لأنه كان مجاني، هكذا عدنا للمربع الأول وما زالت دولتنا المركزية عاجزة والمثقفين علي أمل برفاهية الخيارات.



#محمد_البدري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- موسكو: أوروبا تحرض كييف على الإرهاب
- ماكرون يضع إكليلاً من الزهور على قبر الجندي المجهول
- عاصفة ثلجية في نهاية الربيع.. الثلوج الكثيفة تغطي موسكو
- شاهد.. المقاتلة الوحيدة من الحرب العالمية الثانية تنفذ تحليق ...
- بعد تعليق تسليم الذخائر الثقيلة لإسرائيل.. الخارجية الأمريكي ...
- شاهد.. غرق سفينة معادية خلال التدريبات الأمريكية والفلبينية ...
- الجيش الإسرائيلي ينشر لقطات لوحدات مدرعة تتوغل في رفح
- زوجة زيلينسكي تتعرض لحملة انتقادات واسعة بعد منشور لها عن ال ...
- زاخاروفا: روسيا لم توجه دعوة إلى سفراء ومسؤولي الدول غير الص ...
- مشاهد مروعة لرجل يسقط من الطابق الـ20 أثناء محاولته اليائسة ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - محمد البدري - رأسماليتنا بين ثقافة مشلولة ومركزية عرجاء وسلطة من خارج التاريخ