أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ماهر فرغلى - رواية الشيخ عبادة للمؤلف ماهر فرغلى















المزيد.....



رواية الشيخ عبادة للمؤلف ماهر فرغلى


ماهر فرغلى

الحوار المتمدن-العدد: 2377 - 2008 / 8 / 18 - 10:19
المحور: الادب والفن
    


هذه الرواية كتبها مؤلفها فى سجن الوادي الجديد واستكمل كتابتها في معتقل سجن الفيوم العمومي أثناء اعتقاله الذى دام ثلاث عشرة عاماً .
تتطرق الرواية للأقباط والعلاقة بينهم وبين الجماعات الإسلامية فى إحدى القرى المصرية وهى قرية الشيخ عبادة فى الصعيد كما تتكلم عن حقوقهم وتتكلم عن أقباط المهجركما تتطرق لمشكلة العشق والدين وأيهما يقدم على الآخر فى العلاقة بين المسيحي وابنة العمدة كما تتحدث عن الجماعات من الداخل والصراعات بين التيار المعتدل والمتشدد فيها .
الرواية صدرت عن دار مصر المحروسة بالقاهرة وعقدت لها أكثر من ندوة .

*****************************************************************************************************
الحاجة مريانة
طلع الصباح وأشرقت الشمس على قمة الجبل الذى يحتضن قرية الشيخ عبادة والتى تقع على الناحية الشرقية من نهر النيل فى مدينة ملوى بأقصى جنوب محافظة المنيا تكون الحاجة مريانه كما يحلو للمسلمين أن يلقبونها هناك فى بقعه بالقرب من الجبانة ومدافن المسلمين يقال إن بعضاً من الرهبان الأوائل قد دفنوا فيها ومازالت الأيام تدفع بأهل القرية حتى جعلوها مكاناً للمتدينين المسيحيين يتعبدون فيها ويشاركهم الذهاب إليها بعض المسلمين .
بجوارها تتقلص المساحات المزروعة وتطغى مساحات الرمال وتمتد الجبانة فى شكل طولى مرعب بنفس طول الجبل الذى يحيط بالقرية .. على مرمى البصر ستجد المساحات الخضراء الواسعة يحيط بها جسر بشكل شبه دائرى لا يخلو من وجوه أهل القرية المبذورين فوقه ماشين هنا أو قاعدين هناك يتسامرون عليه أثناء الليل أو فى النهار يستظلون بشجر الصفصاف والتوت أمام بيوتهم الطيينية المليئة بأكوام القش وحظائر الماشية .
من بعيد ستبدو لك مئذنة الجامع ومنارة الكنيسة ينبعث منهما ضوء يشق بحر الظلام ويلعب فوق سطح النهر ليصبحا العلامة الوحيدة على أن هناك حياة بالناحية الشرقية .
وإذا اقتحمت محيط الدائرة التى بها الجسر ستبدو أبنية الطوب اللبن صغيرة ومنزوعة الظل وشىء فى الناحية القبلية يستقطب عينيك إنه بيت الحاجة مريانه والعمدة عبد الحميد الناغى كنجمين غريبين بين البيوت متشابهين فى الجمال والروعة يفصل بينهما بيت الحاج عبد السلام مثل كرنبة صغيرة غائمة الملامح ، إحساس يتسرب إليك أن بيت العمدة ومريانة يحجبان هذا البيت ويلقيانه خلفهما تحت الجبل المرتفع .
الحاجة مريانه تملك مئات الأفدنة وعشرات المزارع التى يعمل بها أهل القرية ورثتها عن والدها أحد الأثرياء ، تعلمت فى المدارس ولم يكن أحد فى القرية يعرف رسم الكتابة ولا شكل القراءة ، تشارك الناس أفراحهم وأحزانهم وحتى أعيادهم كأنها على دينهم واعترافاً من أهل القرية بحسن خلقها ومعاشرتها يلقبونها بالحاجة لشىء مترسب فى نفوسهم ومحبوس داخلهم أنها جزء من كيانهم وهويتهم حتى فى أغلى الاشياء عندهم ألا وهو الدين .
وللحاجة مريانه ثلاثة من الأولاد غالب ورأفت وغريان وابنة واحدة هى نرمين ، وغالب هو أكبر أولادها بدين أصلع ، يشاع عنه أنه خنثى غير قادر على الزواج وقد بلغ الرابعة والخمسين من عمره ولكن أهل القرية لا يدرون أن الحاجة قالت لأولادها منذ عدة أيام أنها تريد أن تكمل رسالتها فى الحياة وتسوى بين أولادها فى كل شىء حتى فى الزواج .
شقت الحاجة مريانه الطريق بخطى وئيدة تصحبها مريم بنت نسيم , تلمع من وجهها ابتسامة لكل من قابلها من أهل الشيخ عبادة الذين يجهزون السرداقات استعداداً للاحتفال بليلة المولد التى قارب وقت إقامتها وبقى عليه عشرة أيام .
صعدت إلى الصالة الرحبة المليئة بالمقاعد التى لم تبرح مكانها منذ زمن بعيد .. تتوسط أولادها الذين زحموا المكان كالعادة يوم الأحد يحيطون بمنضدة صغيرة موضوع فوقها زهرية مليئة بالورود الصناعية ويلقون نظراتهم إلى تلفاز فى أحد الأركان يعلو منضدة أخرى لاتبعد سوى خطوة واحدة عن النافذة التى تطل على الجسر وبجذوة سرور قالت لهم :
- كنت عاوزة أتفق معاكم على يوم فرح غالب
سرى وجوم فى وجوههم إلا غريان انفجر قائلاً :
- انا قلت لك ياأمى من يوم مافاتحتينى فى الأمر ده انى موش موافق على زواج غالب من الأصل فليه بتصرى علي كدا ؟!
فقالت له بحدة وغضب :
- إيه ؟!
ازدرد ريقه وقال بتردد واضح :
- ياأمى الرأى رأيك ولكن البت دى .. البت دى ..
- مالها ؟ .. جميلة ومؤدبة ومتدينة وبتروح معى كل يوم لدير الرهبان
قال رأفت :
- ياأمى بتضحك عليك .. والمسيح بتطمع فى أموالنا هى وأبوها
فقال غريان على الفور :
- انا غير مصدق انها متدينة .. مريم بتضحك علينا هى وأخوها حكيم
فردت عليه زوجته حالفة :
- والعدراء ما فى واحد فى بلدنا زى حكيم.. هو فيه واحد هياخد دكتوراه ياغريان فى البلد غيره ؟
- اسكتى انا موش عايزه ولاعاوز الدكتوراه بتاعته فهمت ؟
قامت ابنته مارى بعد كلامه عن حكيم واستأذنت جدتها فى الذهاب إلى حجرتها وتبعتها أختها مادلين
قالت زوجة غريان :
- كده يرضيك ؟ البت عاوزه حكيم
الحاجة التى كانت ترقب ما يجرى بعينين فاحصتين :
- وأنا موافقة على حكيم شاب أخلاقه أحسن أخلاق وأخته أحسن منه ولكن لما ياخد الدكتوراه نشوف الموضوع .
غالب بصوت متلجلج كأنه يصارع الصمت:
- مريم قلبها أبيض.
بحدة قاطعه غريان :
- والمسيح أنت ماتعرف حاجة .
على التو قامت نيرمين من مجلسها وجلست بجواره وأحاطته بيديها وهى تضحك وتقول :
- الرأى رأى غالب خلاص ..
فرمقها غريان ببعض نظرات حانقة وأخرج سيجارا وأخذ منه نفساً طويلاً وجلس يستمع إلى رأفت الذى قال لأمه :
- أنا موش موافق على الحكاية دى أنت عاوزه ياأمى تخلينا حديث الناس فى البلد
وهمس قائلا ً:
ياأمى أنت موش عارفه إيه بيقوله الناس على إبنك إلا بقى إذا كان له قدرة على الجواز واللى سامعينه كدب فى كدب .
فردت عليه أمه بنفس هدوئها :
- ياولدى إياك تاخد الأمور على ظاهرها .
فقال لها :
- المنطق يقول الأمور بالظاهر والرب يعرف السرائر
لم يقدرغريان أن يصمت أكثر من ذلك فقال لها :
- دى من أسرة صغيرة معدمة ياريت تدورى على واحدة غيرها
فألجمته بكلمات شديدة قائلةً :
- زمان كنت باحترم فيك رأيك ولكن كلامك يثبت لى أن الفلوس عندك كل شىء طول عمرك
على الفور قال لها :
- سؤال واحد يحيرنى إيه السبب اللى يخلى بنت فى سن مريم توافق على الجواز من رجل فى عمر والدها وإيه هو السبب اللى يخليك تجوزيه وانت عارفه حاله ؟!
فقالت له بعد أن حدجته بنظرة حادة جعلته يتحول بعينيه بعيدا الى زوجته القاهرية الفائقة الجمال :
- وأنا سؤال واحد يحيرنى فين ابنك سامى ؟
- لسه فى المدرسة
سامى طالب فى مدرسة قرية الروضة الثانوية على الناحية الأخرى من النهر وهى المدرسة الثانوية الوحيدة الموجودة فى هذا القطاع من القرى والأرياف المجاورة للشيخ عبادة .
فقالت له :
- قل له يلم نفسه فهو كبر خلاص وريحته فاحت ، رايح جاى مع شادية بنت العمدة .
فقال لها رأفت :
- ياأمى ماتشغليش بالك .. أهل البلد عارفين إن الأولاد إتربوا مع بعض كأنهم فى بيت واحد
فقالت فى فزع :
- أنا خايفة من الموضوع ده يا رأفت .

******-******-******
إعتاد سامى وشادية على أن يمشيا أمام المدرسة قبل أن يعبرا بالمركب الشراعى إلى قريتهما ، كانا يشعران بالسعادة الجارفة حينما يصبحان بعيدين عن عيون أهل الشيخ عبادة ، يرنو كل منها إلى الآخر كأى طفل صغير يقبل على أبيه وأمه فى لحظات التيه ، يحيطهما حب متبادل لم يستطيعا أن يفصحا عنه ؛ بسبب اختلاف دينهما , ولكنهما مضيا يتمردان على حياتهما والحب ينمو بين ضلوعهما يؤرقهما بالأنين والخوف من المجهول .
كان سامى يتأبط شادية فى الشارع الموازى للمدرسة حتى وقفا أمام بائع متجول يبيع التمر هندى فقالت له :
- أنا تأخرت جدا وأخويا محمود بدأ يراقب كل حركة لى وأنا بدأت أخاف منه
- وإيه الحل ؟
- الحل الوحيد هو أننا نجتهد فى المذاكرة علشان ندخل الجامعة ونبعد عن الجو دا .. بص لحكيم رغم ظروفه الصعبة حصل على الماجستير
سألها :
- هل عرفت أن حكيم يجهز أوراقه للسفر لأمريكا ؟
- ماعرفتش ولاسمعت عن كدا أبداً ولكنى سمعت أنه تقدم لخطبة أختك مارى .
- ماكنش عنده الجرأة على خطبتها ولكنه لمح لجدتى لأنه عارف ان والدى هيرفضه بشدة لفارق المال والأطيان
فقالت :
- وهو انتم فى حاجة لأموال وأطيان ؟!
- أبو سامى بيقول انه لازم للجواز من التشابه فى الغنى والفقر .
فمصمصت شفتيها وقالت :
- أنت بتصدق الكلام ده ؟!
فقال :
- لا بس بأكد وجهة نظر أبويا فى حكيم فهو غير مناسب لمارى وأنا لا أقتنع به لأنه متزمت ومتعصب دينياً وموش منفتح دينياً على الآخرين رغم اعتقادي أن مارى قريبة منه فى نفس الشيء إلى حد ما , وبيتهيأ لى أن واقع أمريكا ممكن يغيره .
ثم قال لها :
- قد إيه أتمنى أسافر لأمريكا
ناول بائع التمر القروش , قالت له :
- وليه ماتعملهاش وتسافر فى يوم من الأيام ؟
فقال :
- أنت السبب
- قوللى إزاى أكون أنا مانع أمام أمانيك ؟
- شادية أنت متأكدة من الحقيقة ولكنك تدارى دايماً ، شاديه أنا مقدرش أستغنى عنك لحظة .
غاصت بعينيها فى الطريق وبعد برهة صمت:
- سامى كل حاجة بيعملها محمود معايا دفعتنى للتفكير فى الحقيقة المرة بأن الفراق هو مصيرنا المحتوم
- مصيرنا المحتوم أزاى ؟ ومعقول انك ترضي بالأمر ده ؟
- وأعمل إيه وأنت تعرف أن اللى بينى وبينك سور عال
ثم تساءلت بأسى وقالت :
- إزاى نبقى مع بعض؟ إزاى ؟ وإزاى يرضى الناس عنا ؟ وازاى يوافق أبويا العمدة على الأقل بأنى أروح الجامعه وازاى وازاى ؟ أسئلة كثيرة عايزه إجابة ، عاوزين نفوق ياسامى من أحلامنا
- لا يا شادية ... العظيم أن يكون لنا حلم والأعظم اننا نكافح علشانه .
- هه نكافح ؟! هتهدم الدين يعنى ؟ أقصى ما نعمله أنا وانت اننا نمشى من الشيخ عبادة
- ياريت دا أمنيتى .
- وأنا كمان ولعلمك دى أكبر أمنياتي أنى أكون فى عالم من غير قيود ولا أسوار عالية
- يبقى الهروب ياشادية
- تقصد إيه ؟!
- الهروب من الشيخ عباده وعن مصر كلها
رفعت عينيها وكأنها تحدق فى الشمس التى فى كبد السماء وغاصت فى وجوم وتفكير عميق
*****-*****-*****
المولد
فى ليلة المولد توحدت القرية جمالاً وخيالاً كفتاة جميلة فى ليلة عرسها وطبع البهاء عليها والضياء ثوباً فاتناً .. صارت كبستان فوقه تلال خضراء وفى ربوعه ألوان الطيف الجميل فاليوم مولد الشيخ عبادة الجد الأكبر للقرية حيث يدعى أهل البلد أنه من سلالته الشريفة من نسل العرب الفاتحين الأوائل الذين جاء معهم الصحابى الجليل عبادة حتى قتل فى هذه البقعة من شاطىء النيل الشرقى ولا يعرف صحة هذا النسب المهم أن مولد الصحابى عبادة أو الشيخ عبادة كما يحلو لأهل البلدة أن تذكره أصبح عيداً كبيراً وذكرى تلون وجه القرية بالبهجة والغبطة فالأراجيح وألعاب النار وكبار المقرئين وفرق المديح وسرادقات الذكر والذين يتمايلون فى غيبوبة مع ألحان المزامير ودقات الطبول وتردد الأناشيد مظاهر على بوابة الضريح لمقام الشيخ .
يحلق فى الليلة للأطفال رؤوسهم كى تطرح فيها البركة والحريم يجتمعن والبنات يدرن حول المقام عل عريساً يفتح الشيخ قلبه للزواج من أحداهن أو لعل أمرأةً عقيماً ترزق بمولود .
المولد مناسبة للسعادة وأيضاً للحزن فى كل عام حيث تحدث مشكلة بين كبار العائلات حول أحقية كل منهم فى وضع الكسوة فوق المقام فكل منهم يدعى النسب الأصيل والعام الماضى قامت معركة بين عائلتى الجبالى والأشراف قتل على إثرها عدد من العائلتين وأصيب آخرون ولا يزال لظى الثأر قابع فى صدور العائلتبن ينتظر من يشعله .
هذا العام قررت مديرية الأمن ألا تقف عاجزة فأوفدت ثلاث من العربات محملة بالجنود والهراوات إلى القرية وهم قابعون فى ناحية بعيدة يرمقون الناس وينتظرون .
على الناحية الأخرى قعد كامل فى ساحة المولد بين أصدقائه ولم يتفوه بكلمة بينما عاشور يكمل ضحكة معهودة حينما رأى محمود ابن العمدة بالقرب من الضريح يلهث فى الزحام عله يصطدم بإحدى الحريم التى جاءت تتبرك بالضريح فيلتصق بها فإن خنعت ولم تقاوم سحبها فى زاوية مظلمة فيضمها ويقبلها فلا تستطيع منه فكاكاً ففى ليلة المولد كل شىء مباح .
عاد محمود يلهث وجلس بجوار غالب .. تنبه أن كامل ابن الحاج عبد السلام حزين صامت :
- مالك يا كامل ؟
- مفيش حاجة غير إن سفر أخويا عادل للعراق خوفنى وقلقنى وهمنى .
لم يكمل الكلمة إلا ولمح زبيده ابنة عمه وزوجة أخيه عادل وهى تخطو إلى المقام فى زحمة المولد فقام مسرعاً إليها وترك الرفاق يأكلون النابت وهو طعام مفضل فى تلك الليلة كالعادة بينما صوت المديح يعلو ويرتفع ويملأ القرية .
جرى كامل وراءها حتى لحقها وهى تتهادى فى طريقها إلى المقام :
- إيه إللى خرجك فى زحمة المولد يابنة عمى ؟
- هى عادة تعودت عليها ومقدرش أقطعها
- وفين أخوك على ... وليه ماخرجش معاك ؟
فهزت رأسها بأسى وقالت :
- على اتغير يا كامل من يوم وفاة أبويا .. طول اليوم ماسك صورته ويعيط ولكنه من أيام خرج وبدأ يروح على الجامع .
- مسكين فعمى يستحق الزعل عليه ، والله مانسيت أبدا يوم كان بيشترى لنا الفول السوداني والحلاوة الحمصية فيملأ لنا جيوبنا وياخدنا معه لمزرعة الحاجة مريانه نلعب حوليه طوال اليوم .. رحمة الله عليه .
- والله انا كمان ما نسيت الأيام الحلوة ياكامل .. ولكن عادل نسى كل حاجة وسافر وتركنا انا وابنه أحمد
- لا والله ما نسى ولكنه عاوز يكون أحسن واحد فى البلد ويجعلنا أغنى الناس .
- وإيه أعمل بالغنى والفلوس وهو بعيد عنا ؟
كانا فى هذه اللحظة قد وصلا إلى عتبة المسجد فتركها ووعدها أن يجىء إليها حين تفرغ من طوافها وعاد إلى مجلس رفاقه الذين أفاقوا من غفوة المخدرات وإغمائة ووجد المدائح وتطرق حديثهم معاً حول العراق ورئيسها الذي ينزل إلى الشارع بنفسه كما قال عاشور ويركب دراجته ويسلم على الناس, ويدخل البيوت , ويحمل للفقراء ما يكفيهم من طعام ودواء ومتطلبات منازلهم .
قال غالب :
- أنا غير مصدق
فقال له محمود:
- اسكت يا غبي ، وأنت مين تصدق ولاَ ماتصدق ؟
أكد كامل :
- والله كلامه صحيح لأنه يدخل البيوت ويسأل العيال علشان يتأكد إن أهاليهم يحبوه ولايكرهوه والويل طبعاً للصنف التانى
رد عاشور :
- ابن عمى خليل شاف الرئيس العراقي بنفسه
وهو يضحك قال محمود :
- ابن عمك مالمح حد كده غير الرئيس العراقي ؟ .. يعنى حريم العراق مثلاً ؟
فضحكوا جميعا وقال شعبان :
- جميلات ولكن الواحدة لما تتكلم تفقد نص جمالها ولما تأكل تفقد النص التانى
تغير وجه محمود غضباً وقال :
- مين اللى بيتكلم ؟!
ونظر إلية بعينين تشتعلان بالغضب وأردف قائلا :
- إحنا حذرناك من قبل كدا إنك ماتقعدش في مجالسنا وإذا شفتنا في طريق تمشى في طريق غيره صح ؟
قال ذلك ثم دفعة برجلة وقام عاشور فضربه على قفاه و أمسكة من رقبته لو لا أن كامل أنقذه من بين يدية وهو يقول :
- سيبوه يا جماعة , اليوم مولد وعيد , حرام عليكم ولا لأنه فقير ومسكين تعملوا معاه كدا ؟!!
وأخذه في يده وفى منتصف الساحة تركه يبكى وذهب إلى ابنة عمه وهو يرنو بعينيه إلى حلقة من الناس يلعبون لعبة التحطيب .
لم تمض لحظات حتى حدث ما يتوقع فى كل عام صراع عند مقام الشيخ انتهى بمعركة كبيرة استخدمت فيها الأسلحة اليدوية والعصى !!
تدخلت قوات الأمن لأول مرة بلا رحمة ولا هوادة .. أحاط الجند بساحة المولد وأغلقوا جميع المنافذ إلا منفذاً واحداً , وقطعت الكهرباء وضربت القنابل المسيلة للدموع , ودخل الجند إلى الساحة يسلحون كل من يقابلونه فى مشهد دموي .
تحول المولد إلى جنازة يسودها الهرج والمرج والصراخ .. عويل النساء يملأ الساحة والأطفال الذين لايعرفون طريق النجاة .
تم تفتيش الذين يخرجون من المنفذ وألقى القبض على مجموعة كبيرة كان منهم عاشور وشعبان وكامل ابن الحاج عبد السلام .
******-******-******
أظهرغالب وشم الصليب للضابط ونجح فى الإفلات من الحصار المضروب حول المولد .. لم يتجاوز معدية صغيرة فوق ترعة الساحلية التى لا تبتعد كثيرا عن بيتهم إلا وانهالت الطعنات عليه فأصابته فى جنبه وشجت وجهه وقبل أن يدفع الجانى بيده عاجله بضربة أخرى فصرخ صرخة رهيبة ارتجت لها المعدية فعدل الجانى رجلية إلى الاتجاه المعاكس وجرى فى طريق مجاور للترعة ولكن غالب لمحه وهو يصارع الوجع والطعنات .
وأثناء غيبة من أهل القرية المشغولين بما حدث فى المولد ارتاب حكيم وانزعج حينما تردد إلى سمعه صوت الصرخة فأسرع ناحية الرجل الملقى فعرفه من الوهلة الإولى ووضع كفيه على الجرح النافذ ثم نادى أحد الخفراء الحارسين ديوان العمدة فحملاه معاً وأدخلاه سيارة العمدة .
انتهبت السيارة الطريق الترابى بالجريح قبل أن يشرف على الهلاك وقطعت المسافة الطويلة كى تصل الى الناحية الأخرى حتى يأخذاه معاً ويضعاه فى سيارة أخرى الى مستشفى مركز مدينة ملوى .
طفق الغضب يطارد حكيم لطول المسافة الطويلة فأخذ يسب الحكومة التى لم تبن لهم كوبرى على النيل رغم عهود مرشحى مجلس الشعب وأخذ حكيم يغالب نفسه ويصدها أن تغرق فى بحر الغضب .. سرح في مصير صاحبه المصاب وماذا يقول في المستشفى .. تساءل عن اليد الآثمة التى فعلت ذلك وردد :
- آه لو قدرنا نخرج من الشيخ عبادة لديرالملاك أو دير أبو حنس أو أى بلد تانى وهناك هنلاقى الأمن ولكن ده محال فمين يوافقني على كدا ؟!
رمق غالب والطعنات بعينيه وقال :
- مطواه مغموسة بالحقد والضغينة
تنهد مرة أخرى ناظراً للخفير :
- ليه غالب بالذات ؟! طبعاً لأنه مسيحى
قال الخفير :
- يا أخى لا داعى معين لظنونك
أفاق غالب على الحديث الذى يدور حولة فاهتز وهو يصارع الغيبوبة .. رفع عينية الى حكيم وبلسان متثاقل بطئ :
- حكيم .. أنا أعرف اللى حاول قتلى .. أنا شوفته
- قل لى مين ؟
- صدقنى أنا شوفته .. أخويا غريان ياحكيم .. والعدرا غريان
******-******-******
المربعة
( المربعة ) منطقة للمصريين فى بغداد , تجمعوا وملأوا كل شبر فيها .. أصبحت منطقة مصرية مطبوعة بعاداتها وتقاليدها ونمط حياتها اليومية .. فرض المصريون في المربعة نظامهم وسطوتهم علي العراقيين الذين اعتبرهم المصريون أنهم من هشموهم في تلك الغربة وقهر العمل بعيداً عن المربعة ، فإن الحرب العراقية الإيرانية واحتياج العراق للعمالة المصرية بكثافة كانت كفيلة أن تحول أماكن كثيرة الى أحياء مصرية خالصة .. المارة والباعة الذين يروحون ويجيئون .. المطاعم التي تقدم الأطعمة والأشربة المصرية .. الأطباء الذين يعملون فى المستشفيات .. المقاهي المزروعة هنا وهناك وملامح الجالسين عليها كلها مصرية خالصة . . حتى الأعياد و الأفراح لا فرق .
خمسة عشرة يوماً مرت عليه وها هو في المربعة يجيل بصره والليل يحتضن أسوارها وشوارعها , أخذ يطوف هنا وهناك يبحث عن قريبه وزميل الدراسة خليل , بساتين الضؤ تناثرت فوق عينيه من لوحات معدنية مضيئة , ملامح الصور والأمكنة المتشابهة مع بلدته ذكرته بالشيخ عبادة فانسابت ذكريات الأهل والأحباب واستوعبته تماماً .. والده الحاج عبد السلام وأخاه كامل وابنه احمد الذي بلغ زهاء الثانية عشرة , ثم تذكر زوجتة زبيدة .. لم يحبها ولم يكرهها ولكنه لم يفكر يوماً أن تكون له زوجة , وكلما كان يذكره أحد أنها محجوزة له كان يزمجر غاضباً أو يستنكر ذلك هادئاً ولكنها ضغوط والده الحاج عبد السلام الذي كان يؤمن أن هناك فروقاً بينهما أهمها التعليم الذي لم ترتق فيه زبيدة إلا الى الصف الخامس الابتدائي ورغم ذلك كان يراهن علي جمالها بأنه سيعشعش فى قلب عادل ويشطب كل ما يعتوره من تفكير في أي امرأة .. عيناها السوداوان وشعرها الطويل المسترسل وجسمها الممشوق الأبيض ووجها المختلط بحمرة يسخو بالحلاوة والجمال وشفتان مكتنزتان ترسمان دائماً ابتسامةً تتألق على محياها كل ذلك سوف يتعلق بروحه وقلبه , وحين ينهل من كأسه مرةً واحدةً سوف يتيه فى أفانين من المتعة تنعكس على صفحة قلبه وتجعله يذوب فيها حباً وينسى كل الأوهام ونسى الحاج عبد السلام أن الإحباط الذي أصاب ابنه بسبب سفره وعمله المتواصل للإنفاق على أسرته الفقيرة كل ذلك جعله عاجزاً على أن يكمل تعليمه على الوجه الذى يرضيه ولأنه لم يحقق ما تمنى أصبح منكسراً ومحبطاً ومتقلباً يفر اليوم إلى العراق .. إلى عالم جديد يروى منه مساحة الطموح فى قلبه ويحاول أن يحقق فيه بعض ما عجز عنه .
أفاق عادل من أفكاره وطاف برأسه فرأى صورة الرئيس العراقي تطارد كل شبر وتماثيله تملأ حدود المربعة فعبر اليأس على وجهه وقت وصل إلى عنوان قريبه خليل .
قال له خليل :
- يا عزيزى الكون فسيح إحنا اللى نضيقه , واليأس أحيانا ممكن يقتلنا لأننا نعطيه الفرصة ..
اتكأ :
- يقول مثل أجنبى لاتأكل عظامك أو تجعل الفراشات الجميلة تصبح أمامك كأسراب الجراد , ياعادل إحنا جينا للعراق علشان نجمع فلوس وبس , دى هى فلسفة الحياة اللى أنا تعلمتها هنا , ياريتنى تعلمتها فى بلدى .
وتنهد وقال :
- لكننا كنا بنقعد فى أرض الجبالى ونضيع أوقاتنا في اللى مالوش فايدة .
ومد له يده ببعض الدنانير وقال له :
- دى لك لغاية ما تلاقى عمل , على كده جرت العادة , اليوم تاخد وبكره آخد منك .
وضعها عادل فى جيبه وسأله :
- آه فين ناصر ؟
ابتسم خليل ابتسامةً باهتةً وقال :
- هو ساكن معايا هنا , ولكن الشرطة العراقية تجند بعض المصريين بمرتبات مجزية علشان يعملوا معها مرشدين أو علشان يجندوهم في جبهة الحرب , هو مشغول يا سيدي وممكن يرجع نص الليل .
- وهم في حاجه لمرشدين ؟!
- ياحبيبى هم موش هيخسروا حاجة
- وطبعا في الجبهة يشتغلوا مرتزقه وبعدين يرجعوا جثث محملة في الصناديق وده هو سر الصناديق !!
- من زمان أقول ان مخك زكي , فهم يخرجون لهم بطاقات العضوية في حزب البعث وبالبطاقة قدرناصر يفرض سطوته علي أهل بلده ولقى في نفسه اللى كان يتمناه من مكانة ومنظره وبقت مكانته هنا هى كل شئ فى حياته
- وهل هو يفهم إيه مبادىء البعث ؟!
- مايهمش.. الملايين هنا ينتسبوا لحزب البعث وهم مابيفهموش .
حتي منتصف الليل فهم عادل كل شئ عن طبيعة العراق , وشعر أن حدود الكون الفسيح قد ضاقت وأن ما رسمه لنفسه أضحي سراباً فلا فرق كبير بين هنا أو هناك وفي هذا الوقت رجع ناصر وانتحي بمجرد وصوله بعادل جانباً وقال له :
- لو كنت عاوز يكون لك مستقبل وردي وحلو فانتسب لحزب البعث , وإلا اللى هاتحصله من شغلك مايزيد عن اللى بيحصله أي مصري .
قال له عادل :
- أنا جيت علشان أرجع لأهلي بشنتطين مليانين ملابس وهدايا وشوية فلوس أسدد بها ديونهم وماجيت علشان أورط نفسي فى أحزاب وجماعات .
فنظر له ناصر بامتعاض وقال :
- أنت بتظن إنى أقدم لهم حاجة غير فتات أضحك به عليهم .. دول شوية مغفلين
قال خليل الذي كان مسترخياً علي سرير خشبى في ركن الحجرة :
- وليه مانعيش زى غيرنا ونرجع زى غيرنا ؟!
لم يشأ أن يرد عليه ناصر وقال هامسا :
- سيبك منه , أنا علي العموم أقدرأساعدك
وقدم لعادل كوباً من الشاي وقال:
- فيه محل للأجهزة الكهربية في شارع حيفا تملكه شابة ًورثته عن أبيها ويديره لها زوجها , أنا هآخدك لتعمل فيه , وأنا عارف بأنه بيحصل علي بضائع مهربة من الكويت ولكن مايهمش .
فرأي عادل متعجبا فقال له :
- أيوه الكويت تدعم السلع المستوردة زى مابتدعم مصر رغيف العيش عندنا وعلشان كده هي أرخص من العراق
- أكيد عمل ثروة كبيرة ؟!!
- دا رجل بيعرف مصلحته .. أنت عاوزه يعيش زيك أنت وخليل !!
ثم أحاطة بنظراته وقال :
إيه رأيك ؟
لم يجبه عادل سوي بالصمت فقال له ناصر علي الفور :
- يبقى ادينى جواز سفرك
******-******-******
وقف غريان أمام امه كطائر مذعور وهى تمسك بتلابيبه :
- أنا ماسمعت أى واحد عمل عملتك الشنيعة اللى فضحتنا كلنا .
دفعته بعيداً عنها وهو لا يتفوه بكلمة واحدة وقالت:
- موش هتكلم معك إلا في حضور عمك ميخائيل .
المقدس ميخائيل الذى تقدره الحاجة وتحترمه .. بلغ زهاء التسعين من عمره .. دخل بخطاه المتثاقلة الوئيدة وجسده المنحني الهرم واستكملت العائلة حضورها بما فيها ماري العائدة من الجامعة لتوها .
قال غريان :
- العفو يا أمى .. الرب أمرنا .. الرب أمرنا بالعفو
أمه :
- وفين كان الرب منك يوم ماخططت لقتل غالب وسافرت لمصر علشان مايظن فيك حد
- كان الشيطان معايا
خاطبه المقدس ميخائيل :
- قل لي يابني بصراحة مين اللى أغراك بالخطيئة ؟ قل لي ولا لتف ولا تدور
- أمي عاوزه تزوجه ؟ وعاوزه تدى أموالنا لنسيم
- يبقى هو الجشع والطمع في الميراث ..
قال ذلك ونظر إلي مريانة وابنها رأفت وأردف :
- الرب يأولاد امتحنه بالنعمة
أوضح غريان :
- موش الميراث بس
كانت زوجته وابنه سامي يحبسان أنفاسها والمقدس ميخائيل يستطرد :
- موش الميراث بس امال إيه ؟!! تكلم يا ولدي
قاطعته أم سامى :
- إتكلم ياغريان
غريان تهاوي رقة وضعفا وكلما لمحت عيناه أحداً ينظر إليه يطرق صامتاً ورأسه تنحني إلي الأرض
انتفض رأفت مخاطباً أمه :
- اوعى تصدقيه يا أمي .. اللى يخذلك في لحظة يمكن يخذلك فى جميع اللحظات واللى يمكر في وقت يمكن يمكر في كل وقت وأنا شخصياً ماصدقتوش ومتأكد أن مراته هي اللى دفعته لكده
عاتبته أم سامى :
- ربنا يسامحك يا رأفت .. أنا .. أنا يا رأفت .
وسكتت تكفكف دمعها
المقدس ميخائيل :
- أنت يامريانه شجعت أولادك على اللى بيعملوه .. ضحكت عليك نفسك وكلما انحنى لك الناس ظننت يا مقدسة ان فلوسك تقدر تعمل أى شئ حتى جواز ابنك وأنت عارفة انه إنسان ميت .
لأول مرة يراها أولادها وهى تبكى فازدادوا حنقاً على غريان ونظروا له نظرات تشتعل بالغضب
رددت الحاجة مريانه في أسى :
- غالب إنسان حي ليه قلب بيحب ويكره ليه عاوزين تقتلوه … أنا اخترت له إنسانه متدينة علشان تخدمه بعد موتى .. إنسانة وافقت على الرهبنه معاه بإرادتها بدل الدير وللأسف ده ياريت أرضاكم
حدثتها ابنتها نرمين :
- والمسيح هى تستاهل كل خير وهانشيلها فوق رؤوسنا
تابعت الحاجة مريانه :
- يا مقدس مين قال إن فلوسى ضحكت على ولكن أنا أعمل اللى أمر به المسيح وأنت سمعت أبونا في وعظة إمبارح بيقول اللى ليه ثوب فليعط من لا ثوب له .
وأكملت قائلة :
- أنا عملت لأولادي كل شئ وفي نهاية رحلة حياتي عاوزين يحرمونى من فلذة كبدي .. أنت ذئب ووحش ياغربان
تدخل رأفت :
- صدقت , ولما تدى للوحش أصبعك يبلع دراعك كلها , والعدراء كان هيقتل غالب وبعد كده يقتلني علشان يخلو له الجو .
فقال له غريان وهو ينتحب :
- ليه يا رأفت , حرام عليك , صدقني , الشيطان غلبني
فعاد ميخائيل للكلام مرةً أخري وقال :
- اسمعوا , الرب .. الرب يقول اغتسلوا وكفوا عن فعل الشر , وتعلموا فعل الخير , واطلبوا الحق وإقضوا لليتيم ومفيش أحلي من العفو والشكر للرب أنه أنقذ غالب من الموت
ردت الحاجة بحدة :
- إيه اللى بتقوله يا مقدس ؟ ! لابد انه ياخد جزاؤه
لم تستطع دموع غريان أن تقهر أمه العجوز , ولم يقدرالانكسار والأسي البادي علي وجوه أولاده والمطبوع في عيونهم أن يثنيها عن الرجوع عما عزمت عليه بعدما انتحت بالمقدس ميخائيل لحظات ثم قالت لابنها :
- عليك انك تختار ما بين السجن أو النفي
وكان النفي في عادتهم وتقاليدهم هو المقاطعة والحرمان من الميراث , ولكنها استثنت من قرارها قطعة من الأرض في ناحية بعيدة يبني عليها بيتاً ويزرع ماتبقى منها , وقالت له :
- دى علشان أولادك .
قعدت مادلين لم تستطع أقدامها أن تحملها وأما ماري حينما صافح حكم جدتها مسمعها أسبلت أهدابها وتهدج صوتها واختنق بالدموع هي وأمها , وجلس سامي يتذكر حلاوة الأيام الماضية التي ستذهب وجمود الأيام وعذاب الحياة الذى سيتحرك وينتفض إليهم قادماً وقال بصوت تمتزج به نبرات البكاء :
- لا يا جدتي أبويا موش قاتل محترف أبويا زى البشر ومفيش بشر لا يخطئ .. أبويا مظلوم .. المسيح قال من منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر .. فكري في الأمر كويس أكيد فيه أمر غلط .. تكلم ياوالدى .. تكلم ياوالدى .. تكلم أرجوك انطق بالحقيقة
******-******-******
شعبان
و تحلقت دائرة كبيرة حول شعبان وهو مستند الى شجرة جميز يحكي لكومة من الناس ما رآه في حجز مركز الشرطة حين احتجز مع من احتجزوا في ليلة المولد منذ خمسة عشر يوماً , نور باهت من لمبة سهارى فى منتصف الدائرة التى تحيط به اختلط مع ما يبعثه القمر من نور مضيئ فرش جانب الجسر المظلم في ليلة شتاء دافئة .
يد شعبان أخذت تمسك با المسبحة في حركة شبه دائمة ويده الأخرى تعبث بذقنه التي نبت فيها شعر لحيتة
بدأ شعبان حديثه واصفاً :
- أنا ما شوفتش أشجع منهم
قال له على :
- مين هم ؟!
- الجدعان بتوع الجماعة الإسلامية كانوا يعاملون الضباط معاملة الند وكأن المسجون يا ناس بقى سجان أما إحنا كانت بترتعد ركبنا لما نشوف مخبر أو شاويش أما هم فكان لهم مجند مكلف بخدمتهم يجيب لهم الجرائد اليومية والطعام أو أى شى يحتاجونه .
اندهش أحد أقربائه وهو مأخوذ بما يسمع لأول مرة :
- أنا موش مصدق !!
شعبان:
- اسأل كامل ابن عم علي وهويحكي لك لما كان يتأخر الشاويش إيه اللى كانوا يعملوه .
وأردف قائلا:
- كانوا يخبطون الأبواب بعنف برجليهم ويهتفوا بهتافات معادية , والضباط بسرعة ينفذوا لهم اللى يطلبوه
فقال علي :
- وإيه طلباتهم ؟
- يخلوهم يصلوا في مسجد مركز الشرطه .
فقال رجل يجلس في آخر الحلقة :
- إزاى يصلوا وهم محجوزين ؟!
فقال شعبان :
- ماحدش يقدر يرفض لهم طلب .
مصمص الجالسون شفاههم وغمغم آخرون قائلين شيء غريب .
- فين هو الشيء الغريب , فالشيء الطبيعي أن يعامل الضباط الناس معاملة حسنة وطيبة, طالما لم تثبت إدانتهم .
شعبان وهو يطوح رأسه يمنة ويسرة :
- يا علي يا أخويا الضباط كانوا يعاملوننا معاملة قاسية , والغريب أن شباب الجماعات الإسلامية كانوا يدافعون عنا ويتصدون للضباط
وارتفع صوت شعبان فجأة قائلا :
- أشهدوا ياناس أني بقيت واحد منهم .
فانزوي علي بشعبان جانبا وقال :
- هم تكلموا معك ؟
قال :
- كتيرجداً في ركن الحجز, قدموا لي أكل وعصائر كانت معهم , وكلموني عن كل أفكارهم .
فاندفع علي قائلاً :
- وإيه هي أفكارهم ؟
- تغيير المنكر والوصول للحكم .
مكث حوار شعبان يتكررعن قوتهم وشجاعتهم ولكن علي شعر بأن ما يقوله شعبان هو صورة مهزوزة عنهم لقد رأى بعضهم فى مدرسته وأعجبه فيهم حسن خلقهم ومواظبتهم علي آداء موعظة في مصلي المدرسة لم تخل من كلام في السياسة وان كان هذا لم يعجبه .
ولم يكن هو الشخص الوحيد الذي يحترمهم , فقد كان أساتذته يقدرونهم والطلبة يتحلقون حولهم , وكانوا كل يوم يزدادون عدداً , ولكنه مثل غيره يراهم من بعيد وعيونه مملوءة بالإعجاب بهم ولا يشغل باله يوماً أن يكن واحداً منهم , إنه يصعب عليه أشياء كثيرة ويرفض أخرى ويستنكرها مثل ضربهم لبعض الطلاب الذين يدخنون السجائر أو يعاكسون البنات , أو عدم تحيتهم للعلم في طابور الصباح , ولكنه علي كل حال معجب بتدينهم وطريقة كلامهم وملابسهم .
قال لشعبان :
- سيبنا من شغل الفتونة أنا فاهمك أنت عاوز تكون زيهم علشان تعمل لك البلد ألف حساب وتحاسب محمود وعاشور على اللى بيعملوه معك .
شعبان وقد ارتسمت فوق وجهه ثقة زائدة بنفسه :
- وما المشكلة في كده ؟ الإسلام ياأخويا على عزة وجهاد
ابتسم علي ابتسامة باهتة وقال :
- وهتتكلم كمان باسم الإسلام !! .
هم بالمشي إلى مسجد الشيخ عبادة بعد أن قال ذلك .
بصوت مرتفع قال شعبان :
- قاللى واحد منهم إنهم جايين للبلد هنا في قافلة طبية تكشف على المرضي وتوزع عليهم الدوا مجاناً
******-******-******
بعد أيام وصلت القافلة الطبية وتزاحم الناس و تلاطموا وهم يلقون بأنفسهم في أحضانها ومن أول لحظة ظهرت الجماعة الإسلامية جذابة رائقة في عيني علي الذي جلس فى ركن احتواه بالقرب من المسجد يسترق النظرات اليها وظهر له أن هيبة اللحي الكثيفة والجلاليب البيضاء الناصعة زادت هذه الجماعة وأفرادها إجلالاً وإكباراً فأخذت رأسه تروح وتجيء ترقب القافلة من بعيد .
واحد منهم فقط كان يلبس زياً إفرنجياً ويعلق السماعة فى رقبته ويمسك بجهاز قياس الضغط في يده يبدو أنه هو الطبيب الوحيد فى القافلة رغم أنه أصغرهم والآخرون منهم من يرتب الصفوف ومنهم من يوزع العلاج المجاني وآخرون يرقبون أي شاب كي يتعرفوا عليه ويقدمونه لشيخ بدا من سحنته وملامحه أنه كبيرهم والغريب أن شعبان كان مصلوباً بجواره طوال الوقت .
لحظات عابرة أحس على فيها بتزاحم الأسئلة وزمجرتها في ذهنه وهو ما زال ينظر إلي هذه الفئة من الناس الذين لا تخلو برامج التلفاز من التحذير منهم ومن تطرفهم في الدين فلماذا يفعلون ما يفعلون من مشاريع خدمية فى قرية نائية ؟! وتذكر حين كان يذهب قبل وفاة والده إلى المجلس المحلى للقرية يشاهد التلفاز الوحيد الذى يتزاحم عليه فقراء القرية , وكيف كانت البرامج عنهم وكيف كان الناس يمقتونهم و يبغضونهم , وهاهم اليوم يتزاحمون عليهم , فهل هؤلاء غيرما سمع عنهم ؟ وهل هم بعينهم مشايخ زملائه فى المدرسة أم هؤلاء فصيل آخر ؟ إن أشياءً غريبةً عن لغة العقل والمنطق وعما سمع فى التلفاز تحدث أمام عينيه.. لقد تحول السفهاء والمتطرفون إلى أبطال , والغارقون فى الرزيلة إلى أصحاب قداسة , ومن يشقون جيوب الناس ليسرقونهم ويضحكون عليهم إلى أناس طيبين يقدمون لهم الولائم ويعالجونهم من أمراضهم , وتشابكت الأسئلة فى ذهنه وأدرك أن ما انطبع فى ذهنه عنهم ناقصاً , وحتى شعبان نفسه فإن الصورة الموجودة فى عقلة مهتزة ومشوشة وتحولت تلك الأسئلة إلي هاجس بينما لا تزال رأسة تذهب معهم وتجيء وعينه تنظر إلى كل شئ صغيراً كان أو كبيراً , ومن بعيد لمح كبيرهم وهو يربت على ظهر امرأة مسنة بعدما قدم لها العلاج وهم أن يوصلها بنفسه إلى أول الطريق فاهتز فؤاده ورويداً رويداً .. شعر بأن الشيء الذى كان يبعده عن تفكيره ورغباته وهو فى مدرسته بدأ يحتل كيانه ويتحول إلى إعجاب ومودة , ولما تلاشى الناس من حولهم وجد نفسه ينادي علي شعبان ويقول له :
- ممكن ياشعبان أجلس مع شيخهم الكبير علشان أعرف عنهم كل شيء بنفسى ؟
- صعب , خصوصا ان العمدة وشيخ البلد كل واحد يتنافس علي استضافتهم وتقديم العشا لهم , وبعد كده هايروحوا لمسجد البلد ليعطوا درس ديني لأهل البلد .
بعد برهة تدارك شعبان الأمر وقال :
- ممكن نروح لهم فى مسجدهم بمركز ملوى
قال له :
- أنت تعرف إنه صعب إنى أسيب البلد في الأيام دى
- وإيه الصعب في كده ؟! حتى إحنا في أجازة نصف العام نتفسح هناك وندخل السينما وبعد كده نروح للشيخ .
قال ذلك وعيناه تبرق مع الابتسامة التى ولدت علي شفتيه لأنهما لم يذهبا إلي السينما مرة واحدة في حياتهما كما لم يركبا قطاراً ويسافرا بعيداً عن بلدهما إلا حينما ذهبا إلي المحافظة لاستكمال إجراءات التقديم في المدرسة .
وبعد ما أدرك ما انطوي فى نفس صاحبه أعاد شعبان عليه الأمر وقال :
- هه , إيه رأيك ؟
قال علي :
- ولوعرف عمى بالأمر أو كامل ؟
- ومين اللى يقول له ؟
ودفع يده فى يده وقال :
- متشغلش بالك , تعالى نروح الدرس فى الجامع , وبعد كده نرتب الأمر .
ولمحا من بعيد غريب سأل واحداً من أهل البلد عن شيئ كتبه فى كراسٍ صغيرٍ , فذهب علىّ إلى الرجل وسلم عليه ثم قال:
- عن إيه سألك الغريب يا عم ؟ !
قال :
- سأل عن اسمك واسم شعبان
******-******-******
وهو جالس أمامهما يرتشف كوباً من الشاي قال حكيم :
- أنا لا أصدق ماجرى, دى مؤامرة وقع فيها ابنك غريان
- ياابنى هو كل حاجة عندكم مؤامرة ؟
حكيم :
- أنا متأكد أن الأيام هتلف وتثبت لك كلامى , المهم أنى جئت علشان اطلب منك أن ننقل غالب لعيادة الدكتور مينا علشان يستكمل علاجه فهو رجل نعرفه ونثق فيه ثقة عمياء فهو على ديننا
- حتى ولو كان فيه من هو أشطر منه ؟!
هكذا قالت له وهى متكأة على عكازها وتلقى نظرة إلى عينيه
- مفيش هناك من هو أشطر منه , وحتى لو كان فأهل الثقة أفضل من أهل الخبرة وبالذات فى موضوع الحياة والموت
فتنهدت الحاجة مريانه وأخرجت من جيبها مبلغاً من المال وقالت :
- أنت تعرف لمين الفلوس دى ؟ .. أنا هأضعها في صندوق نذور الشيخ عبادة .
فنظر اليها مبهوتاً , فقالت له :
- يا حكيم يابني , علي أيامنا ماكنا نفرق بين حكيم مسلم ومسيحي تقولون أنتم عنه الأيام دى دكتور , وماكناش نفرق بين جامع وكنيسة , أما علي أيامكم أنتم دى فكل شيئ تغير لأن الضمائر تغيرت .
رد مستنكراً :
- وليه ماتديش الفلوس لفقراء الكنيسة , ليه ماتحاوليش تبني لها جداراً بعد الشقوق اللى شرختها ؟!
- ومين قال إني نسيت ده ؟ ولكن كل شيء بأوانه , وسيبنى أسالك ليه أنت قلق ؟ أنت نسيت إن الشيخ عبادة أغلب أهلها مسلمين وإن سني قرب على الثمانين وما شعرتش بالغربة فيها .
لم يعطها حكيم فرصة ًأن تتفوه وأخذ يتكلم بضيق وغضب قائلاً :
- أنت موش عارفه اللى بيحصل الأيام دى , الغضب والكره الظاهر في العيون , أنت موش عارفه أني كلما رحت لأرض الجبالي علشان ألعب مع شباب القرية قدموا علي زملائهم المسلمين , وامبارح بس طلب مدرس الفصل من أخويا يسقيه ولما عرف أنه مسيحي رفض أن يشرب منه , شوفى مدي الذلة اللي نشعر بها .
وأخرج نفساً عميقاً ثم قال :
- ولكنى أؤمن أن أحزاننا هى لوقت قصير وهتزول في يوم من الأيام , يا خالتى مريانة لابد إننا نكون يد واحدة فمتضحكيش علينا أى إنسان , سامحينى , أنا ابنك الصغير وفي الأيام المقبلة مسافر وسايبكم فمتكونيش قاسية على ابنك غريان بالشكل ده وتخلي أهل القرية كلهم يقاطعونه .. وقولى لى كيف هانت عليك ماري ومادلين وسامي كمان ؟ وإزاى كنت بتظني انهم هايسيبوا والدهم ويعيشون معاك ؟!! أنا عارف أن غريان مخطيء ولكن مين منا موش بيغلط .
إنسالت دمعتان علي خدها :
- دا اللى أصابني بالهم والمر وجعل حياتى عذاب وسواد زى ظلام الليل .
- الأمور كلها بيديك فخليها تعود لمجاريها .
تشبثت بالصمت فنظر إليها بعين متوسلة فقالت له :
- أنا وعدت العمدة والحاج عبد السلام إنى موش هحرم غريان من الميراث .
فقال لها :
- وأنا .. موش هتلبي لى أى طلب ؟!
فقالت :
- أنا عاوزه أقول لك سر يا حكيم أرجو أنك ماتقوله لحد .. غريان كان ينوي قتل زوجته بعد مايقتل غالب .. عارف ليه ؟ لأنه بيحب أختك مريم وعاوز يتزوجها , وموش لاقى حل فى ديننا إلا كده , أنا آسفه ياابني إنى قلت لك الأمر دا .. ولكنك إنسان متعلم .. فقل لي إيه أعمل غير ما عملت ؟!!
******-******-******
الجمال المسروق
رأي عادل رغدة صاحبه المحل بعد مرور شهر ونصف من عمله , كانت عائدة من سهرة لإحدى المسرحيات المصرية التي تعرض قي بغداد كل حين .
دلفت إلي المحل بفستانها الأسود ومعطفها المزركش بألوان الطيف الذي خلع جمالها البديع عليه حسناً وضياءً وبعد ما راحت وجاءت رمقت عادل بنظرة عميقة وهى تنظر إلي البضائع الجديدة التي وصلت بالأمس القريب .
تعجب عادل من لكنة المرأة العراقية ولهجتها التي لا تتناسب مع حجم جمالها , وتعجب أكثر من زوجها جعفر الذي وقف مصلوباً أمامها ولكنه كان يتمرد عليها سراً ويضاجع الحريم حتى وصلت به الجرأة أن يراه عادل مع أحداهن وهي تخلع له ملابسها قطعة قطعة في مخزن البضائع ، كانت عيناها تنبعث منها الجرأة ودمها يفور من الرغبة , فلم يملك إلا أن ينسحب تاركاً لهما المكان وجعفر ينظر إليه وهو يقهقه بصوته الغليظ , ويومها عاد لعادل وقال له:
- هل تدري أنها زوجة واحد من الضباط الكبار ولكنه هناك علي الجبهة ومابيعود إلا بعد شهور طويلة , إنك تقدر تحصل على واحدة من زوجاتهم بيسر وسهولة وصدقني أنا معذور فما تقدر تقف قدام رغبة جارفة لحرمة قطعوها عن راجلها شوط طويل .
وأردف قائلا :
شهوة الحرمة جبارة تقدر تقتلك أو توضعك فى حشاويها
والرجل يتكلم وعادل صامت جامد يسمع بقية كلامه .
- الحرمه اللى انقطعت عن زوجها تساوى أرض أصابتها الشقوق من قلة المىّ فكثربها الشوك ومع أول ٌقطرة من المىّ ترتوي وتصبح رخوة ولينة .
ورنت منه ضحكة ملأت أجواء المحل ثم قال :
صدقنى يا رفيقى فى يوم هتتأكد من صحة كلامي
وسحب عادل من يده ووقف به أمام المحل وقال له :
- انظر لها المدرسة !!
وكان الطلاب خارجين بعد انتهاء اليوم الدراسي فقال لعادل :
- مين انتصر فى الحرب العراقيين ولا إيران ؟
- وإيه علاقة المدرسة بالحرب ؟
- بالله جاوبني .
- أنتم انتصرتم .
- لا .. إيران , والدليل على قولى هاالمدرسة , فإننا لو أحصينا عدد الطالبات إلى الطلبة لوجدنا الطالبات الضعف خمس مرات , أتدري ليش ؟ .. لأن شبابنا مجبورون على الحرب , وهذه هى ضريبة حرب اشتعلت وانتهت وماعلقت شارات المجد والانتصار على صدر أحد .
قال عادل :
- انت موش خايف من كلامك
- جعفر يامصرى مو بيخاف إلا من ربه
زاغ عادل فى كلام الرجل وتفاصيل زوجته مرة أخرى , وتعجب كيف يترك هذا الجمال ويفعل ما يفعل وانثنى وأعطى ظهره لجعفر كى يناول مروحةً لأحد الزبائن وهومازال غارقاً فى استنكاره , بينما جعفر يشاهد فيلماً لوحش الشاشة ويعيد تسجيله , فقال له عادل :
- ليه بتعيد تسجيل الفيلم ؟
- أنا معجب جداً , أنا وزوجتى بالمصريين , انهم فراعنة وكل شيء المصرى يسويه وسأظل يم زوجتى فى البيت حتى نشاهد الفيلم مرة ثانى وأعرفها بالأماكن اللى رأيتها فى الفيلم بعد ماتخبرنى أنت بها .
- أنا مالى إهتمامات كبيرة بالأفلام والمسلسلات ومعلوماتي ضئيلة .
- أنا علمت إنك من أقصى الصعيد
- أيوه
- إن ما أعرفه عن الرجل منكم إنه خوش ولد .
- أشكرك .
لم يكمل الكلمة إلا ودخلت المرأة زوجة الضابط والتى بدأت تترد كثيرا على المحل .
كانت المرأة شبه عارية , شعرها يتهدل فوق كتفها الذى يلمع من بريق أنوار المحل .
بخطوات متلاحقة قام جعفر إليها مسرعاً وهو يختلس النظر الى كل تفاصيل جسمها ثم انحنى برأسه وبكل المعانى اعتذر لها عما بدر منه ليلة امس فابتلت شفتا المرأة بالابتسامة ، فامسك يديها وضغط عليهما فقالت له :
- موهنا ياجعفر .
ضحكت وتراجعت الى الوراء
قال جعفر وهو يشير بأصبعه الى عادل :
- روح وعرفها طريق المخزن لغاية ماأجىء
لكن عادل ازداد خمولاً وتمادى في صمت مشحون بالغثيان مما يحدث وقال بغيظ :
- نسيت المكان .
تأكد جعفر أن عادل لن يستجيب له ، فوفر على نفسه المعركة الكلامية وعض على شفتيه ونار الغضب تلمع من عينيه ثم عبر برأسه إلى المرأة وغمز لها وهما يسابقان الخطى في الباحة المواجهة للمحل حتى ابتلعهما الشارع .
لم يبرح عادل مكانه وفجأة هب واقفاً واتصل برغدة واعتذر لها عن الاستمرار فى العمل فقالت له :
- كنت من نصف ساعة بالمحل وما خبرتنى بشىء .
قال :
- خجلت من حضرتك .
فطلبت منه أن يتريث حتى تجىء إليه
لم يعرف لماذا اتصل بها ولماذا لم ينتظر جعفر حتى ينهى معه كل متعلقاته بالعمل ، ولكن يبدو أن حالتا الغثيان والملل قد تسربتا إلى نفسه ، فلم يتمالك ما يحدث منه .
الآن بدأ يتأكد أنه لن يحتمل الطباع الغريبة لهذا الرجل ، إنه يريده أن يعمل قوداً ويتستر على جرائمه وفضائحه أمام زوجته .. هل ظن أن الدنيا جميعاً تلطخها الرذائل كما تلطخه ؟ أم تمنى فى قرارة نفسه أن يجعل الناس كلهم يرتكبون الرذائل مثله حتى لا يصبح هو حقيرا ً أمام نفسه ؟ شىء آخر تأكد منه ألا وهو كلام خليل بأن العمل مع العراقيين يحتاج الى شخصية فولاذية حديدية وأن العمل الحر هنا أفضل ، فكيف يدفن نفسه بيديه هكذا فى هذا المحل ؟ وكيف يخاطر ويغامر وراء ناصر الذى يعمل مع البعثيين ؟ انه يستطيع أن يلقيه فى بئر لا يخرج منه أبداً .. أنسى ما كان يفعله ناصر فى أرض الجبالى حتى مع أعز اصدقائه وابن عمه محمود ابن العمدة ؟!
استرد عادل وعيه الشارد حين رأى جعفر قد عاد وعيناه يطير منهما الشرر من شدة الغضب .
أخذ جعفر يذفر أنفاساً ثقيله ثم جلس ولم يقم من مكانه .. مكبل بالصمت والغضب .. بين اللحظة والأخرى يختلس النظرات إلي عادل وفجأةً انفجر قائلا :
- أنت يا مصرى أماتفتهم إن مهمتك فى المحل أن تخدم وتنفذ كل ماأطلبه منك ؟
- إن عملى فى المحل محاسب وأتطوع أحيانا علشان أبيع للزبائن ، ولكنى موش بعمل قواد ، فدى جريمة كبرى فى بلدى
- اخرس ياابن الزمال ياقز القرد ، كلكم عبيد وقوادين للرذيلة فى بلادنا جئتم تنزحوا خيراتها وتتركوها خراباً
- دا أنت العبد الحقير اللى غرقان فى الرذيلة ومايساوى شيئ , ولولا بلدى مصر لعشتم فى جهلكم طول العمر .
تشابكت أصواتهما واحتدتا , وكاد الرجل أن يلطم عادل على وجهة إلا أن زوجته جاءت فى الوقت المناسب وقالت :
- إيش جرى ياجعفر ، إيش يجرى فى داخل المتجر ؟
قال لها زوجها على عجل :
- هذا المصرى أرسلته مع عميل لنا ليعرفه طريق المخزن ولكن رفض يروح وقال عملى هنا بالداخل
وصرخ فى وجهها وقال :
- نعل على اللى جز المصريين علينا .
قالت له بحدة :
- كفى ياجعفر كلام كل يوم تصير منك فشلة
واتسعت عيونها ناحية عادل فقال لها :
- سيدتى .. مفيش حاجه .. زوجك محق فى كلامه ولكنه كابوس ضغط على صدرى وجعلنى اتضايق من كل شىء وأنا عاوز أستريح شويه وآخد أجازة .
قالت له :
عادل .. إني أتوسم فيك انك انسان زين ويبدو أنك ابن ناس طيبين ، وأنا امنيتى أنك تستمر فى العمل
فقال لها وهو مطرق رأسه :
- عاوز أجازة بس
- هل أنت مصمم ؟
- لأيام قليلة
- أنا موافقة ولكن بشرط انك تعود مرة أخرى
فأومأ برأسه صامتاً ، وسارت هى فى المحل وزوجها راكض خلفها ، تستوقفه وتسأله عن كل شىء
ثم التفتت الى عادل فجأءه وقالت :
- أجازة لأيام .. هه .
فهز رأسه موافقاً وعبر إلى الباحة ولكنه كان عازماً ألا يعود
******-******-******
أمن الدولة
بعد أن مر أسبوعان على يوم القافلة ولم يرتب شعبان وعلى للقاء الشيخ فوجىء على أنه استدعى الى مباحث أمن الدولة ، وبانت رهبة الموقف عليه وعلى عمه عبد السلام وهما يسيران معاً إلى هناك .. حاول أن يتغلب على ما فى نفسه من وجل بالتفكير فى أسباب استدعائه وفى ميعاد مقابله الشيخ الذى ضاع عليه ولكنه لم يستطع ، وبعد أن شمل عمه الصمت طوال الطريق قال له الحاج عبد السلام :
- قل لى ياابن أخويا إيه هو اللى عملته بالضبط ؟
- والله ياعمى معرفش اللى حصل وليه استدعونى ..
ومكث برهة يكلم نفسه قائلاً :
أنا حتى مشكلة المولد ماحضرتها
قال له عمه بعد أن ندب حظه :
- انا سألت العمده الناغى وقال لى إن علىّ له نشاط مع الجماعات
فأخذته الدهشة :
- والله انا معرفش أى واحد منهم ياعمى
قال ذلك وشعر ببعض الأمان .. حين وصل إلى مقر أمن الدولة فوجدها شقة فى دور سفلى يقف على بابها مجند واحد وحين خطا إلى داخلها شعر أنه فى زيارة لأحد أصدقائه .
على الفور تم عمل بطاقتى تعارف كتب فى كل منهما الاسم والسن والعنوان وأقارب الدرجة الأولى والثانية فعاد يتملك قلبه الخوف وبالأحرى عندما رأى وجوهاً تروح وتجىء كأنها أسراب النحل ورأى كأن المكان بداية لأماكن سرية كثيره ممتدة بلا نهاية ومنتشرة بلا حدود رغم أن الشقه لا تزيد عن غرفتين لثلاث ضباط مسئولين عن فرع أمن الدولة وغرفة للأعمال الكتابية وأخرى للملفات والوثائق .
أدخل على وعمه للضابط الذى فرغ لتوه من الصلاة وانهمك فى التسبيح وهو يلم سجادته ، وحينما رآهما قعد الى مكتبه بكل هدوء وتركهما دقائق يقلب فى أوراق أمامه ثم ضغط على زر الجرس واستدعى الضابط عصام الجندى فدخل على الفور وجلس فى أنتريه مقابل للمكتب .. والحاج عبد السلام يتفصد عرقاً وهو فى عز الشتاء .
بصوت خافت ونظرة حادة قال الضابط للحاج :
- تفضل
وأشار لعلى وقال له :
- وأما أنت اوعى تقعد وهقولك السبب ..
ثم قال
أنا مسلم وده مصحف قدامى ورب الكعبة أنا بصلى فرض ربنا وزوجتى محجبة وإحنا رحنا للعمره تلات مرات ولكن على بيه ورفيقه شعبان بيكفرونى .
الحاج على الفور :
- حاشا لله ياحضرة الضابط إن حد يقول الكلام ده
الضابط عصام النجدى وهو يوزع نظراته الحاده بينها :
- ياحاج ابن اخيك بيمشى مع شباب فاشل وعاطل منهم اللى بيعمل على الموقف شيال أو بياع بطاطا ، وانا موش بعيب عملهم ولكنَى عاوزه يتخير أصحابه كويس .. دول ناس ميفهموش أى حاجة ، وأكيد سمعهم وهم بيقولوا على المعلقه والشوكة بدعة
- وعاوزين الناس ماتركبش سيارات وتركب الجمال وبيقولوا إن النبى صلى الله عليه وسلم كان بيركب الجمل .
علق الضابط عصام النجدى
فقال الحاج عبد السلام وهو لا يزال يرتعش :
- صدقت ياسعادة الباشا ، الولد بيرفض الأكل عطبلية وبياكل على الارض !!
قال على :
- ماحصلش إنى قلت على الشوكة والمعلقه بدعة ، وآكل على الأرض لأنى قرأت فى كتاب إن ده من السنة
فقال له الضابط :
- طبعا قرأت ده فى كتاب من اللى يتوزع على الأرصفة .. قل لى من اللى إدى لك الكتاب ؟
جاوبه على بالصمت فقال له الضابط الآخر بشفقةٍ :
- اجلس ياعلى يابنى .. أنا خايف على مصلحتك ، أنت متعرفش أى حاجة وفى بداية الطريق .. أرجوك متقرأش أى شىء بنفسك ومتخليش أى واحد ياابنى يعطيك أى كتاب وخلاص تقرأه
- أنا موش بآخد أى كتاب من أى إنسان ولكنى كنت أقضى وقت فراغى فى الجامع وأخدت الكتاب منه .
لم يكن على كاذباً فيما قال ، لقد عاش فتره حرمان لم يعشها أحد فى سنه وشعر بمرارة الفقر واليتم بموت أبيه وأمه فى عام واحد فأسبغ عليه الحزن نفساً تواقة للصلاة حتى هدأت نفسه قليلاً ولذا كان يقضى أغلب وقته فى المسجد لأن ثمة أشياء مفقودة وجدها حين واظب على أدائها ، فهل هى جريمة أن يواظب على الصلاة أو يقرأ كتاباً دينياً من مكتبة الجامع ؟!
تابع نفس الضابط :
- يابنى هل منعناكم من الصوم أو الزكاة وفروض ربنا .. أنت شاب صغير ماتفهمش فى الدين إزاى تسيب أرض عمك واختك اليتيمة وتقعد فى المسجد ، ومن أيام واقف عند القافلة الطبية وما شى مع شعبان
انتفض الضابط الآخر :
- والمصحف اللى قدام الباشا لولا عمك الغلبان لاعتقلناك .. ولكن فى المرة الجايه هاتكون ورا الشمس .
فطفقت كلمات الحاج تخرج من فمه متتابعة كأنها نوبات من الهياج :
- ربنا يخليكم لنا ياسعادة الباشا .. ربنا يطيل فى أعماركم ويعلى فى مراتبكم .
غاب على عما يجرى من حديث برهة يفكر فى ذهول فيما يحدث معه بدون سبب غير أنه تردد على مسجد القريه وقرأ فى كتاب دينى ثم وقف يتفرج على القافله الطبية .. ماالذى يجعله يقف هذا الموقف ؟!!
قال الضابط :
- انت قرأت الميثاق طبعاً ؟
- أى ميثاق ؟
- ميثاق العمل الاسلامى .
- طولة عمرى ماسمعت عنه
- آه أنا كنت عارف إجابتك
وأمسك القلم وأخذ يكتب فى ورقه أمامه وترك الضابط عصام النجدى يقول لعلى .
- على .. هل تتعاون معنا ؟
- يعنى إيه ؟ أنا طالب فهل بتوظفوا الطلبة ؟!
- على العموم براحتك
وقام الضابط أسامه النجدى من وراء المكتب وربت على كتف على وقال له :
- انا خايف عليك ، ولكن عليك إنك تعرف بأنك متابع انت وشعبان
وقال للحاج عبد السلام :
- ممكن تاخده الليلة بس تخليه يقابلنى لوحده الأسبوع الجاى .
وضغط على زر الجرس وطلب الضابط خالد يسرى ثم رمقهما بعينيه الرصاصتين وهما يمشيان وهمس لزميله عصام :
- ياباشا ليه هددته كده ؟!
- أنا أظن إن الجماعه دول ماينفعش معاهم غير القوة وتجفيف المنابع
- الولد مالوش علاقه بأى جماعة والشيخ عبادة مفيش بها أى جماعات
- فليه استدعيته بق ياباشا ؟!!
- أنا أقوم بدورى كويس وده واجبى انى أنصح شاب فى بداية الطريق إلى جماعة متطرفة تناهض الدولة .
- وأما أنا سعادتك فمصمم على رأيى اللى قلته لك من قبل كده إن الجماعات دول زى السرطان بينتشر ويتوغل ، والسرطان علاجه البتر ، وأنت شايف اللى عملوه ، قتلوا رئيس مجلس الشعب ، وكل اللى عملتموه معاهم مانفعش والحوارات ماجبتش أى نتيجة .
فقال الضابط خالد يسرى وكان قد دخل على التو :
- واما أنا فرأيى فى المسأله دى يوافق الريدى باشا
فقال له الضابط النجدى :
- أنت مهمتك هنا انك تتعلم منا وبعدين إحنا ماطلبناش رأيك !!
******-******-******
مشى حكيم الى بيت غريان والتهمت أقدامه شارع الزاوية والذى يصل إلى الجسر الدائرى من ناحية غربية ثم مرق إلى أرض الجبالى التى تكون سوقاً فى الصباح مليئاً بالباعة وعربات الكارو المحملة بالعسل الأسود لبيعه أو نقله إلى أماكن أخرى وفى العصر ملعباً للشبان .
ستصبح مفاجأة لغريان أن يزوره حكيم بعد أن قاطعه أقرب المقربين , وتنكبت له القريه كلها بحواريها وأزقتها الملتويه حتى شعر غريان أن عيون الناس وألسنتها باردة وساكنه لا تنظر ولاتتكلم وإن نظرت كانت كسهام حارقة وإن تكلمت كانت كصخرة عاتية تهوى على صدره بالعذاب وحتى نخيل القرية وأشجارها وتلك الشوارع والحوارى قد لفظته وناوئته ، ولكنه كان يقاوم كدرة المقاطعة وعذاب الضمير بذهابه إلى الكنيسة ، فأصبح نصف يومه فى عمله فى الأرض والنصف الآخر فى الأعمال الخيرية كمحو الأمية ومراعاة بعض الفقراء .
كان يحاول أن يقفز على المقاطعة وكره الناس له بأى شكل ، وأما سامى فلم يختلف عن أبيه كثيراً غير أنه كان شديد الحساسية من كلام الناس الذى لا يكف عن تذكيره بفعلة أبيه ، وكلما اقتحم أذنيه هذا الكلام عاد الى البيت وبركان الجحيم يغلى فى صدره فيصيبه ذلك بالهم والأرق, وكانت مصيبة المصائب أنه فقد جيرة العمدة ولم يستطع أن يتردد على زيارتهم كما كان .
وأما مادلين فقد قبعت لا تخرج إلا للضرورة والدراسة بخلاف مارى التى استلهمت مما حدث روحاً جديدةً أشرقت عليها بالمواظبة على الصلاة فى الكنيسة حيث تذهب مع أبيها كل يوم .
سلم حكيم على غريان وابنه وتنبهت عيناه الى جرح فوق هامة الرجل فقال له :
- إيه اللى جرى ياعم غريان ؟ أنا شايف آثار معركة على وشك .
انفجر الرجل يحكى :
- العربات الكارو دلوقت استقرت وانغرست قدام البيت .. يمكن ماتصدق لو قلت لك إن بناتى مايقدروش يطلوا من الشباك ؟ رجوناهم وكلمناهم والكلام ياريت نفع .. غرقنا قدام الدوار بالميه .. فرفعوا أصواتهم بالسب والشتيمة وبعدين نزلواعلى أنا وابنى بالضرب .. تخيل محدش رحمنا حتى رأفت أخويا كان بيبص علينا وكأنه مايعرفنا ..
ثم احتد صوته بأسى وحيرة وقال :
- أنا غريان اللى كانت تقف قدامه الطوابير علشان يوزع عليهم عطايا المقدسة !!!
فقال حكيم:
- إيه اللى حصل بعد كده ؟!
- رحنا كلنا للعمدة ولكنه دفعنا للصلح .
فبصق حكيم على الأرض بعنف وقال :
- مجرمون وخونه ياريتنى ماعرفت ، ولكن نعمل إيه فى الظلم اللى إحنا عايشين فيه ياريتنى أقدر أساعدكم ، والمسيح أنا كرهت المجتمع دا .
أيقظ صوته المرتفع رغبة مارى فى لقائه ولكنها تراجعت قاعدة مكانها حياءاً ، فقالت لها أختها مادلين :
- هو زيهم ، قطيع واحد ، نفس الكلمات ونفس الألحان .. وأنت مصيرك النفى وياريت تفهمى
فقالت مارى :
- كلامك معناه عدم الفهم لأنه موش زيهم
وذهبت إليه تعاند أختها وفى يدها كوب من العصير .
فجر حكيم الكلام فى صمت الجالسين :
- أنا مسافر ، جتنى البعثه لأمريكا ودى هى أسمى أمنياتى ، قد إيه كنت أتمنى أعبر الأسوار لمجتمع ودولة أحس فيها بحريتى
فردت عليه مادلين :
- الدولة اللى موش حاسس فيها بحريتك هى اللى شربت من نيلها وتعلمت فى مدارسها وترعرعت فوق أرضها ولكن كلكم متزمتون
قالت ذلك ومشت الى حجرتها ، ولكن أختها مارى كانت غيرها ، فى داخلها زلزال وبركان يتكلم " ياريتنى اقدر أسافر معك الى المجهول وحتى للسراب أنا زيك كرهت العالم ده ولكن إزاى الخلاص ؟! " .
قال غريان :
- صحبتك السلامة يا حكيم ، العلم هو النجاة وإلاهيكون مكانك قفص النسانيس زينا منفيين ومقاطعين فى بلدنا ، بص وشوف حالنا، ده بسبب الجهل والخطية .
فقال له حكيم :
- أنتم ممكن تهاجروا .. فيه مكاتب كتيرة بتساعد على الهجرة
قال هذا الكلام وهو يدارى ما انطوى فى قلبه .. حاول أن يختفى بين الكلمات ولكن نظرات عينيه وخطوط وجهه تشى بأنه يريد مارى وحدها معه ليصنعا معاً عالمهما الذى يحبانه بعيداً عن البلاد المزروعة بالشوك والصبار كما يتصوران .
قالت له مارى :
- أنا ممكن ألحق بك
ونظرت الى أبيها لترى رد فعله فقال لها :
- اجتهدى ولكل مجتهد نصيب
بسرعة قال حكيم :
- المهم إنى موش هسافر قبل ما أصلح موضوعكم ، وأنا عندى اقتراح فى الأمر دا .
******-******-******
حين بعث فى نفسه الإصرار وأخذ العهد على نفسه أن يجد عملاً أفضل من محل جعفر ، ذهب الى سوق شلال حيث هناك مكان مخصص لطالبى العمل ، مئات مرصوصة هناك وأكوام من البشر تفوح منها رائحة الرغبة فى العمل .. إن جاءت عربة تدافعوا إليها جميعاً فلا يجد سائقها إلا أن يركلهم بقدميه ويبعثرهم ثم يسحب أحدهم فيستسلموا لمصيرهم ويعودوا منكسرين ينتظرون عربة أخرى .. هكذا كان حال المصريين فى سوق العمل فى بغداد
إنزوى عادل بعيداً .. لم يتحمل أن يفعل به ما يحدث لهم حتى رمقه من بعيد رجل من داخل سيارة فارهة لم يشأ أن يذهب حيث جموع طالبى العمل
أشار الرجل لعادل وقال له :
- أنا بريد لباخ ، وأنتم يامصريون تعرفون كل شىء
طوقه الرجل بكلمات المديح ، فدهمت عادل لحظة من الاعتزاز والثقة وقال له : - أيوه أنا لباخ .
فى ثوان معدودات ركب عادل مع الرجل سيارته وذهبا معاً الى بيته الواسع الذى تحيط به حديقة كبيرة تمتلىء بالأشجار وتتلألأ فيها الورود والأزهار ، وما إن وقفت السيارة أمام البيت حتى انفتقت حديقة البيت عن فتاة فى سن العشرين وبجوارها صبى يندفعان ناحية الرجل الذى ضمهما بشوق وحنان .
حين لمحت الفتاة الضيف جرت واختفت فى البيت الواسع الزجاجى والذى كانت جدرانه البيضاء وأعمدته الرخامية تؤكد على رفاهية صاحبه وغناه .
من نظرة واحدة وفى إيقاع سريع استطاع عادل أن يضم صورة الفتاة بين جفنيه .. الجمال العربى البديع والوجه المنقوش بالسمرة وتلك الوجنة التى تقف عليها حبة سوداء كقنديل الضوء .
شعور غريب اكتنف عادل لأول مره يشعر به فى حياته .. تمنى لورجعت فرآها مرة أخرى .. فأمسك بالفرشاة وطوح بها على النافذة والرجل يرقبه من بعيد وكأنه لم ير شاباً مصرياً أبيض البشرة ذا عينين زرقاوين .. وفجأة قبض الرجل على يده وقال :
- هااليد تمسك القلم وما تمسك الفرشاة .
جاوبه عادل بصمته المعتاد وحاول أن يشد يده ولكن الرجل تشبث بها وقال :
- الظاهر إن الأيام غصبتك على مسك الفرشاة .
قال :
- أيوه
بضحكة موتورة قال له :
- زين جداً أنا عندى عمل يناسبك وهوإنك تراجع لابنى دروسه ولكن بشرط إنك تحضر لى اللى يشتغل لباخ ويصلح مافسدته ، فإيش رأيك ؟
وافق عادل فى خجل وقال :
- أنا تحت أمرك ياسيدى
أكمل الرجل ضحكته وعادل يجمع حبات العرق من فوق جبهته .
تواعد عادل مع رشيد أن يذهب الى بيته بعد الساعة الرابعة يومياً فيراجع للصغير مازن دروسه وحتى الساعه الخامسة يكون قد فرغ من عمله فيذهب إلى زملائه وأصدقائه المصريين الذين يقضى معهم بقية اليوم .
لم يكن هناك عمل أسهل وأفضل من الذى وجده عادل عند هذا الرجل ، ومشى عادل وهو يشكر الصدفة التى جعلته يلتقى برشيد ويذهب الى بيته ويرى تلك الفتاه السمراء التى رآها من لحظات وسيراها بعد ذلك كثيراً ، وخامره شعور غريب بأنها مثل أميرات ألف ليله وليله وأنها قد احتجبت فى برج عالٍ وهو الوحيد الذى سيخلص إليها بعد أن يقاتل جميع حراسها ويصعد إليها وحين تراه بجوارها سترتمى فى أحضان أمير أحلامها الذى كانت تنتظره منذ زمن بعيد .
وتمثلت أمامه زبيده بفستانها الطويل ذى الألوان الباهته وشعرها الطويل المسترسل من وراء ايشاربها فتنهد وتململ ، وتلاعبت الفتاة العراقية أمام عينيه فمحت صورة زوجته بما خامره من شعوره المستبد الذى ملك عليه جميع حواسه
******-******-******
وهما يمشيان فوق الطريق الأسفلتى وسط زحام السيارات اعترفا أن السينما قد بهرتهما تماماً وإن كان على لم تعجبه تلك المناظر العارية لبعض الممثلات فى الافلام ، واقتربا من المسجد وهما يتوجسان خوفاً أن يراهما أحد .
المسجد عبارة عن زاوية تحت عمارة تطل على الترعة الابراهيمية .. باب الزاويه باب حديدى رسم عليه سيف ومصحف وراءهما شعاع الشمس .
أطلا معاً على الشعار المرسوم لحظات ثم صعدا درج سلم متآكل بجوار الباب أسلمهما الى دور علوى فوق الزاوية .
تلقاهما الشيخ صالح بثغر ضاحك ووجه مشرق القسمات تشع من تحت نظارته عينان ذكيتان :
- تفضلا .
عاجله شعبان :
- ده هو على يامولانا اللى كلمت حضرتك عنه كان عاوز يقابلك ولكن استدعوه الى أمن الدولة وده هو اللى أخرنا عن حضرتك .
عيناه كانتا تمنان بما فعل .
أخذ الشيخ زمام الكلام بلباقةٍ قائلاً :
- إن من حسن حظى أن ألتقى مع شابين مثليكما ملتزمين بالدين فالشباب الملتزم غريب فى هذا المجتمع .
حكى له على عما جرى فى أمن الدولة ، فقطب وجه الشيخ وهو يستمع له وقال :
- الضابط الذى حقق معك هو أسامه الريدى ، وهو رجل متخصص فى حرب الدين أو كما يقولون التطرف الدينى والضابط الآخر هو عصام النجدى وهو مثله ولكنه فظ وإنسان دموى ونحن واثقون أن الله سينصرنا على هؤلاء الخونه قال تعالى " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " لأن الدين دين الله والدعوة دعوته ونحن كما رأيتم فى قريتكم لا نفعل شيئاً غير أن نقدم العون للمسلمين ونبين لهم طريق الصح والخطأ .
ثم احتد صوته وقال :
- ونستقى منهجنا وفكرنا من التراث الإسلامى وبالدليل من الكتاب والسنة .. فإياكما أن تنخدعا بأى واحد يمشى وراء هواه ولا يسير وراء الدليل .
ثم وجه سؤالاً إلى على وقال :
- ماذا فعلت أنت حتى يستدعيك ويحقق معك بهذا الشكل ؟ أوليس من الخير لهم وللوطن أن يحققوا مع تجار المخدرات والمجرمين .. إنهم يريدون أن يرهبوننا حتي لا نؤدي دورنا في خدمه المجتمع ولكننا لا نخاف يا إخواني الأحبة .. والحمد لله كل يوم يزداد عددنا وننتشر في المجتمع ولنا شباب ملتزم في كل القطاعات لأن الدعوة دعوة الله كما قلت لكما
قال له علي :
- قل لي يا فضيله الشيخ أنتم بتقولوا علي الملعقة والشوكة بدعة ؟!
ضحك الشيخ ملء فيه وقال :
- أنتما سوف تتناولاون العشاء معي الليلة لتريان هل آكل بالملعقة والشوكة أم لا ؟
ثم رفع صوته :
- لاتصدقوهم إنهم دجالون وممثلون بارعون , بين لحظة يصبحون أولياء وبين أخري يتعرون من كل القيم والمبادئ
علق شعبان :
- مهما فعلوا يا مولانا الناس بتحبكم وبتحكي عن يوم القافلة الطبية .
صوب علي عينيه إليه وكأنما أراد أن يقول له إنك استاذ في بيع الكلام ولكنني لا أعرف هل أنت صادق أم لا ؟!
قال الشيخ لشعبان وقد رسم علي وجهه ابتسامة :
- هذا شىء نفعله للمسلمين الذين قصرت الحكومة فى حقهم انظر يا أخ شعبان كيف يجمعون الثروة ويسرقون المليارات ويضعونها في بنوك أمريكا وسويسرا , وانظر كيف يعيش أهل القريه تحت خط الفقر ينتظرون عطايانا التي يوفقنا الله في تقديمها لهم ثم انظر الي الإعلام كيف يحارب الدين بالأفلام الخليعة والأغاني والموسيقي والمسلسلات.
وجه علي نظراته إليه وأراد أن يقول له إنهما أخطئا ودخلا السينما , ولكن كلام الشيخ المتتابع قد ألجمهما وهو يقول :
- أين هي البرامج الدينية ؟ .. أين العلماء الذين يقولون الحق ولا يداهنون الحكام ؟ .. هل هناك برامج للشيخ بن باز والألباني وابن عثيمين , هل سمعتما عنهما ؟ هل سمعتما عن الدكتور عمر عبد الرحمن ؟ إنهم علماء اجلاء وأعلم أهل الأرض ولكننا نعيش في مهزلة حقيقية .
قال ذلك ثم توقف حين دخل شاب يلبس قميصا وبنطالا من الجينز وتبدوعليه آثار النعمة والرفاهية .. قدم لهما كوبين من عصير الليمون ثم أسر للشيخ بحديث في أذنه واستأ ذنه ومشي وعينا علي وشعبان تبتلعانه
قال الشيخ صالح لهما :
- إنه أخوكما أبو البشر , غدا ستعرفانه جيداً
وأردف قائلاً :
- هل تستطيعان أن تدخلا كلية الشرطة أو الكلية الحربية أو تتوظفا في مبني الإذاعة والتليفزيون ؟ هل تستطيعان أن تكونا وزيرين ؟ إن العلمانيين وعملاء أمريكا وحدهم هم الذين سيطروا علي هذه المواقع خوفاً منا نحن الاسلاميين أن ننشر الإسلام ونقيم العدل ونقف أمام عمالتهم 0
ووضع يده علي خده وطاطأ رأسه وقال :
- إن حال الأمة خطير .. أمة الاسلام التي كانت تحكم العالم بالإسلام والتي فتحت الاندلس ودخلت حدود الصين , الأمة التي كانت يبحث فيها عمر بن عبد العزيز عمن يزوجه من الشباب فلايجد أحداً من كثرة الرخاء والنعمة , ياإخوانى الأحبة من نظرة واحدة للخريطة ستعرفان كيف أحتلت أراضي المسلمين وكيف سفكت دماؤهم .. أتدرون ما هي الأسباب ؟ إنها الأنظمة التي قبعت فوق روؤسنا والحكومات الكافرة العميلة التي استبدلت الشريعة الغراء بالقوانين الوضعية وهذه هي مهمتكما 0
فقالا له بصوت واحد :
- إحنا
قال :
- نعم أنتما
وبدا الحزم في كلامه قائلاً :
- العودة بالناس إلي الإسلام تحت راية التوحيد والقرآن من خلال جماعة منضبطة حركتها بالشرع الحنيف تأبى المداهنة والركون وتستوعب ما سبقها من تجارب .. هل تستطيع يا شعبان وأنت ياعلي أن تعودا بالناس إلي الإسلام بمفردكما ؟
قالا :
- لا
- فمن أجل ذلك أقمنا هذه الجماعة لأنه مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب , فهل فهمتما قصدي ؟
شعبان :
- نعم أنا فهمت أن نكون جماعة مع بعض علشان نبقى قوة
وقال علي :
- أن نتعاون علي الخير
قال الشيخ صالح :
- هذا هو عين ما أقصد .. فمدا أيديكما وعاهداني أن تعملا معنا من أجل هذا الدين وأن تسمعا وتطيعا لما نأمركما به .
فمدا يداهما وبايعا صالح على العمل معه والدعوة إلى الله فأعطاهما برنامجا تثقيفيا ممثلا فى بعض الكتيبات والأبحاث الصغيرة التى تتحدث عن وجوب تطبيق الشريعة وقتال الطائفة وبعض أحكام الاسلام ، وقال لهما :
- سوف اختبركما فى هذه الكتب واختبر قدرتكما على الحفظ والادراك
وأطلق الشيخ صالح من وجهه البسمات وقال :
- والآن كما وعدتكما أن تتناولا طعام العشاء معى
قال على :
- ولكن .. ولكن
- ولكن ماذا ؟
- الوقت هيتأخر بنا وموش هنلقى مواصلات للبلد
- حاولا أن تتعودا على ذلك من الآن لأننا سنحتاجكما فى الأيام المقبلة كثيراً وحاولا بالكلمة الطيبة أن تعودا آبائكما على ذلك فغداً ستصبح قراراتكما من قبل الجماعة فماذا ستفعلان ؟! فلابد إذن أن تتحررا .. سيقلقون عليكما فى أول الأمر وبعد ذلك يتعودون على ذلك .
هكذا قال الشيخ صالح
******-******-******
خلال الطريق لم ينطق على بكلمة فقد سرح وغاص فى تفاصيل الحوار وفى أحلامة العريضة فى دولة اسلامية عادلة ، ورقصت الابتسامة على وجهه وهو يمشى فى حوارى تلك الدولة الاسلامية حين تنقشع عن جسد الكون الأضواء الخافتة وتضىء شمس الحرية ترسم فوق الوجوه الحزينه الآيات والآمال والأحلام .
دخلا إلى شقة الشيخ بعد صلاة المغرب وهى شقة فى المساكن الشعبية ولكنها كانت رحبة واسعة بأثاثها الفخم الذى اختيرت قطعه بعناية فائقة ورتبت بطريقة ممتازة .
أجالا بصرهما فى كل ركن من أركانها وكأنهما يتذوقان الشقة بأعينهما وأدرك الشيخ بحنكته ما يجول فى خاطرهما عن بيوتهما الطينية وأسقفها المصنوعة من جريد النخل فقام بسرعة وكأنه تذكر شيئا وعاد وفى يده جلبابين جديدين ، أعطى لكل منهما جلباباً ثم قال :
- هى هدية متواضعة منى لكما جاءتنى من بعض الإخوة الأحبة الذين يعملون فى السعودية .
قال على وهو يقلب عينيه فى الهدية :
- إن لى طلب عندك .. عاوز أقرأ الميثاق
- لاتتعجل يابنى فلابد أن يشرحه لك احد المشايخ ، وأنا سأجىء ومعى قيادات الجماعة لنعمل يوم اسلامى فى المسجد ونشرح لكم بحث الجماعه والميثاق .
ناقشه شعبان :
- ولكن مالناش مسجد
غاص بنظراته إليهما وقال :
- لابد أن يكون لكما مسجد لأنه النواة لعمل أى شىء وهذا أمر سهل ، أبدأوا فى عمل حلقة لتلاوة القرآن الكريم وهذه لن يستطيع أن يمنعها أحد وبعد أيام حاولوا أن تعطوا درساً دينياً وأتمنى أن يكون فى شىء كالجنة والنار وعذاب القبر وبعد أن تتمكنوا من ذلك أمنعوا الإمام أن يصلى ويخطب بالناس وواحد منكم يخطب مكانه ولن يحصل له شىء ، سوى ثلاثة أيام سيقضيها فى الحجز ويخرج ولكنه سيكسب ثواباً كبيراً لو فعل ذلك ، فالمساجد عندكم تقام فيها البدع ويستغاث فيها بغيرالله .. وقال :
- ومن اليوم فلاتناديا على بعضكما إلا بكلمة الشيخ فهذا سيكسبكما الاحترام فى البلد وعليكما بالجد وترك الهزل والهزار مع الشباب فكثرة الضحك تقسى القلب وتصيبكما بالمهانة وسط الأقران .
ثم قال لشعبان :
- وأنا أؤكد ذلك عليك أنت بالذات وإلا لن تصبح أميراً .
فبرقت عينا شعبان واتسعت فقال له الشيخ :
- نعم فديننا دين نظام وشورى والنبى – صلى الله عليه وسلم - يقول إذاكنتم ثلاثة فأمروا أحدكم ولذا فالجماعة قررت أن تعينك أميراً للقرية باعتبار أسبقيتك .
ثم عاد إلى على وشعر بحنكته أن سؤالا يتلجلج فى ذهنه " كيف تشاور الشيخ ليعين شعبان أميراً وهما معه منذ صلاة العصر " فقال له :
- لعلمك ياشيخ على الجماعة فوضتنى فى فعل أى شىء أراه صحيحاً ، وأنت ستكون نائبه وذراعه الأيمن وعليك بالسمع والطاعة وبذل الجهد من أجل ضم عناصر جديدة .
******-******-******
القصف الأمريكى
وهويعبر الصالة الواسعة المليئة بالاثاث الثمين والديكورات الجميلة تطلع الى السلالم التى تتوسطها والتى تنتهى من الطابق العلوى إلى جانب فى ردهتها ، وقلب عينه كثيراً وهُِِِيىء له أنها واقفة على السلالم تسترق النظر إليه ، خامره إحساس بالسعادة وظن أن هذه التهيؤات يفرضها عليه خياله الجامح وأنه وقع فريسة حلم من أحلامه العريضة ، ولم ينس عادل وهو يراجع الدروس لمازن أن يستعلم منه عن الفتاة فقال له الغلام :
- بتكون أختى واسمها مروه وهى منشغلة على الدوم بالقراءة أو الرسم .
وحين وصل السأم واليأس من رؤيتها الى ذروته ومنتهاه بعد أسابيع من عمله تصادف خروجها من البيت مع انتهائه من إعطائه الدرس لأخيها فالتقت عيناهما معا وامتزجتا وبرغم روحه الهائمة فلغة العاطفة العاجزة جعلته يطرق رأسه أمامها يمزقه الصمت ولم يقدر أن يتكلم معها بينما جاد ثغرها بابتسامة نضحت على وجهها الأسمر جمالاً فائقاً وقالت له :
- شو لون مازن معك ؟
- مستواه ممتاز وهو مجتهد ، وما كنتش أعرف بأنه كده
- أنا كنت أراجع معه الدروس ولكنى مشغولة فى هاالفترة فأرجو منك الاهتمام به وتكون خوش ولد معه
تشجع عادل قليلاً :
- باين إنك إستاذة على مستوى مرتفع والدليل أخوك مازن
- المصريون على الدوم متفوقون فى كل شىء ونحن نحاول أن نلحق بهم ولكن مو قادرين
- أشكرك
ونادت على مازن وأمسكته من أذنه وقالت لعادل :
- إن تعبك فى شىء فقل لى أو قل لأمى فهى وصلت اليوم من الموصل
فقال لها :
- كيف ألقاك ؟ أنا أظن أن رؤيتك شاقة
فقالت له وقد جادت بابتسامةٍ أخرى :
- أنا يمك فى غرفة جانبية أقرأ أو أرسم وماأنا فى أعلى السلم
واستأذنت للإنصراف وقد تولاه الخجل والحياء , وفى غمرة سعادته بحديثه القصير معهما أصبح فى لحظات ساهماً شارداً يفكر فى الفتاة التى استوعبته بحديثها وكأنما أرضت طموحه الواسع رغم أن حديثه معها لم يتجاوز بضع دقائق ، فهل استطاعت بهذه السرعة أن ترقد بين جوانح قلبه وأن تنصهر فى ذرات كيانه .
أمعن عادل فى تفكير عميق وهو متوحد مع ما نسجه من خياله ، لقد اقتنع بأنها لمحته وهو يجيل بصره يبحث عنها فى الصالة الواسعة فولدت ابتسامة على شفتيه حين أكد لنفسه أنها كانت قابعة وراء حجرتها تسترق النظر إليه .
أوغل عادل فى الطريق وتتبع الفتاة بعدما انتعشت روحه و كانت قد عبرت بوابة سور الحديقة ، مشى على جانب الشارع وسحابة شوق تملأ جوانح قلبه وتغسل أعماقه من كل هم اعتراه فمنحت غربته حلاوة بعد تيه كبير .
تلاحقت خطواته وراءها ولكن فى لحظة غريبة لم يتصورها من قبل اندلع القصف الصاروخى الأمريكى فجأة وسقط صاروخ فى ذات الشارع الذى يمشيان فيه وارتجت المنطقة كلها .
انفجار رهيب أصم الآذان ودخان النيران وذرات الغبار أعميا العيون وبدا أن بيت رشيد قد هدم منه جدار ، مازن وأمه يجريان فى عرض الشارع ، بدهشة ممزوجة بالألم لمح عادل مروه وهى واقعة ودم ينفتق من جسدها على جانب الطريق ، رعب مرجف أصاب قلبه ، لم يدرماذا يفعل ؟ جرى هنا وهناك ، شىء ينازعه ناحية الصغير الذى يصرخ مرتجفاً وشىء آخر ينازعه إلى الفتاة التى تتلوى على الأرض ، ثمة أشياء فى لحظة يمكن أن تسلبك عقلك وذاتك وكل شىء ، فى هذه اللحظة ارتمى الطفل بين أحضانه وجرى عادل بسرعة إلى الفتاة التى مازالت تنازع الألم فجذبها ناحيته واحتواها بيديه وحزن ثقيل يرقد على قلبه ، فى لحظات خاطفة وضعها فى سيارة أسعاف عبرت الميدان الذى ارتج بالناس وبسيارات الشرطة والطوارىء التى بدأت تتمرس على مواجهة نتائج القصف منذ إعلان قوات التحالف الحرب على العراق لتحرير الكويت وإلى الآن .
******-******-******
أمسك رأفت برقبه غريان وطرحه أرضاً وقال له :
- ارجع لبيتك ياوغد ياحقير ومتدخلش بيت اللى قتلتها بأفعالك .
دافع حكيم عن غريان وقد جاء بصحبته وأمسك بيدى رأفت وقال له :
- سيبه يارأفت وإلا هاتصدى أنا لك
- والمسيح إن ماخرج لأضربه بالنار
فقال غريان بصوت خفيض يملؤه الحسرة :
- ليه يارأفت تعمل معايا كده ؟!
- أمثالك ماينفعش معهم غير اللى شفته
- ليه يارأفت تسيبونى لوحدى أنا وأولادى ؟
انهمرت دموعه جاريةً وهويكمل قائلاً :
- ليه تدبحونى ؟ حتى أمى موش عاوزينى أشوفها .
قال حكيم :
- كفايه يارأفت إللى جرى وحدث ؟ ربنا مايرضاش عن تفرقنا
- كيف أسيبه وهوحاول قتل غالب وبعد كده جاء يدخل بيتى .
حكيم :
- لا يارأفت ده بيت المرأة الطيبة ولولا علمى بكده مادخلته
فُتح الباب ودخلت العجوز مريانه وهى متحاملةً على نفسها فجثا غريان على ركبتيه وصرخ بالبكاء وتمسح بيديها وقال :
- سامحينى ياأمى أنا أستحق القتل والرمى للكلاب .
فقالت وهى تحاول أن تكون جامدة :
- استسمح غالب قبل كل شيء
قال لهما حكيم بعد أن رأى فى قسمات وجهها لينا متخفى بين خطوط الوجه الجامد :
- ياخالتى مريانه دا ابنك جاء يستسمحك وأنا مسافر وعاوز أطمئن .
- ياللأسف .. أنت اللى بتقول كده بعد اللى حكيته لك وعامل نفسك متمسك بالدين
وفتحت الباب وعادت الى حجرتها وتركتهما .
******-******-******
الشيخ عبادة { الجماعة الإسلامية }
كيف تصبح قرية الشيخ عبادة بين يوم وليلة قرية نموذجية فاضلة ، وبيوتها فضية مزدهية تنصهر فى بوتقة الاسلام ليضع لها نظاماً وقانوناً وتعاليماً وأخلاقاً فيكف فيها الثأر المتلبد فى قلوب أهلها والقابع فى برها ، وتمتلأ فيها المساجد فلا يبقى فى القرية رجل ولا امرأة لا يصليان ويعطف فيها الكبار على الصغار ، والقوى على الضعيف و يخرج فيها الأغنياء الزكاة ومافاض من أموالهم فلا يبقى ضعيف فيها ولا فقير ولا يصبح فيها محروم .. سيكون بها ملاجىء للأيتام ورعاية المرضى ويغدق فيها الخير وتعم البركة ويصبح الناس ويمسون ووجوههم رحبة حانية .
هذه هى الصورة المطبوعة فى ذهن على بعد أن فرغ تماماً من قراءة الكتيبات والأبحاث فى غضون أيام , وهذا هو عالمه الإسلامى الصغير الذى سيقفز إلى المناحى التى تحيط به وفى سنوات متتالية ينفضون عن الأمة الزيف والمرض والقعود والشلل ويحولون عجزها ووهنها إلى حضور وقوة وعالمها الى عالم مثالى ليس به ظلم الحكام وقهرهم ، وأصبح على بما قرأ شخصاً آخر واثقاً من نفسه ، دءوب الصمت تاركاً للهزل ، نسى موت أبيه وهموم عائلتة منشغلاً بما هو أهم وأكبر ؟ والصورة زادت وضوحا فى عينيه حين تناقلت الأنباء قصف أمريكا للعراق بعد انسحابها من الكويت فقوة الأمة تحولت أمامه إلى بوار وفشل واحتلال لأراضيها ، وتحولت قوتها إلى عجز عن تحرير شبر من أراضى المسلمين .
رأى شعبان من بعيد تحيط به حفنة من شباب صغار السن يتمثلون به ويقلدونه فبعث ذلك فى نفسه التساؤل عن حقيقة الإسلام .. الإسلام الذى ابتعث هؤلاء الصغار فى أيام قلائل فقال :
- أولم يكن حول النبى صلى الله عليه وسلم قلة صابرة مؤمنة جاهدت معه حتى أقام دولة فى قرية ثم فى سنوات قليلة حطمت قوة فارس والروم .. ولكل زمان رجاله ، والشيخ صالح وأتباعه رجال هذا الزمان الذين سينفضون عن الأمة تلك الحالة ويمشون بالناس الى طريق الإسلام ويسلكون بهم السبيل الصحيح .
وأسرع بخطواته إليه وقال له :
- موش ناوى تروح معى عند الشيخ صالح ؟
اتسعت شفتا شعبان ببسمة غابت مع كلامه حين قال :
- إحنا واقفين فى انتظار الشيخ هنا .. أنت نسيت موضوع الجامع ونسيت أن الشيخ صالح هنا هو والأخوة ؟!
******-******-******
إنفرج الجسر عن عربات تكدست بشباب الجماعة الاسلامية الذين جاءوا مع الشيخ صالح يستعرض عددهم فى حوارى القرية فسرقوا عيون الناس بملابسهم البيضاء القصيرة الى الركب وعمائمهم التي تتدلى منها الذوائب تتهدل على الأكتاف .. أول من واتتهم القدرة على أن يلحقوا بالعربات هم الأطفال ، جروا وراء العربات في كل مكان فرحين مسرورين حتى لحقوا بهم عند مسجد الزاوية وكأنهم يشاهدون قوماً من كوكبٍ آخر .
ارتجت القرية وحركها الفضول وبالأخص فقراءها الذين ملأوا أرض الجبالى ظمأً لقافلة طبية جديدة وظناً منهم أن السنيين جاءوا لهم بعطايا أخرى , وحضر العمدة ومعه كبراء القرية لاستقبال هذه الوفود ولمعرفة الأسباب التى جعلت القرية تشهد هذا الجمع الغفير .
لم يكن شعبان بعيداً عن المشهد الذى جرى بالاتفاق معه لاستعراض القوة وللسيطرة على مسجد الزاوية حيث أحاطت حفنة من أتباعه وجمهرة من الشباب الوافدين بالمنبرعلى شكل دوائر متداخلة .
بصعوبة بالغة استطاع إمام المسجد أن يتوغل بين صفوف الشباب حتى جلس بجوار المنبر وهولا يدرك أى معنىً لما يحدث فى المسجد فقد كان إماماً منتدباً يأتى كل يوم جمعة للموعظة ثم ينصرف .
ما إن صعد الإمام درجات المنبر حتى شدوه إلى الخلف فغاب عن وعيه برهة ثم أدرك فى لحظة خاطفة ما يجرى فألقى بنفسه الى درجات المنبر فوجد سداً من الأكف المرفوعة واللحى المرصوصة والأوداج المنتفحة فعاد أدراجه الى الوراء مستنجداً بعينيه بأهل القرية المرصوصين آخر المسجد والذين باغتهم ما يجرى .
حاول شيخ البلد أن يستفسر عما يدور فقال له أحد الشباب :
- إننا سوف نخطب الجمعة اليوم فهل عندكم مانع ؟
صمت الرجل ولكن الإمام احتد ورفع صوته قائلاً :
- أنا الإمام الراتب
فقال له آخر :
- اسكت ياعميل أمن الدولة يامرشد
سادت جلبة وضجة ارتج لها المسجد بينما شعبان قد باغت الجميع وقفز فوق درجات المنبر وأشار لأحد إخوانه فرفع الآذان فلم يجسر أحد من الموجودين أن يفعل أى شىء وتساقطوا جميعاً فى أماكنهم يسمعون الخطبة .
وجد شعبان فى نفسه القوة أن يعتلى المنبر ويخطب فى حضور كبراء القرية ، وهو الإنسان المنكمش على نفسه الذى لم يعرف معنى للطفولة إلا العمل فى جمع الدودة تحت أشعة الشمس المحرقة ولم يعرف معنى للشباب والترف لأنه المعجون فى الفقر والقروش القليلة التى يجمعها آخر النهار ويدخرها كى يصرف بها على نفسه فى العام الدراسى .. الآن يقف على المنبر وهو معبأ بأصناف القهر والظلم من هذا المجتمع الذى وجد نفسه فيه مضطهداً حتى من أقرانه الذين لا يستطيع أن يغشى مجالسهم وحركه السخط والغرور بقوة الجمع الذين جاءوا من كل حدب وصوب لا يستطيع أحد كبح جماحهم .
تلعثم شعبان قليلا وهو يلقى الخطبة لأول مرة فى حياته ولكنه تفوق على لجلجة لسانه بصوت زعاقه ، ومن خطبته التى لم تتجاوز عشرة دقائق والتى كلف الشيخ صالح أحد أتباعه أن يحفظها له :
- أيها الناس تمسكوا بالسنة وادحروا البدعة قال النبى صلى الله عليه وسلم تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدى أبدا " ونحن شباب وجدنا طريق الحق ، فتمسكنا به فأعينونا أعانكم الله ، وسنسير فى طريقنا لا نخاف من سجون ولامعتقلات ولن يرهبنا سجن ولا قيد فنحن لانخشى فى الله لومة لائم ، وسنقف فى وجه هذه الحكومات الظالمة التى تظلم الناس وتسرق فلوس الشعب وتظلم الغلابة والمساكين .. سنقول الحق فى هذا المسجد .. وسنخدم الناس ونأتى بالقوافل الطبيه ونوزع العلاج المجانى وأبشركم ياأهالى القرية إن الأخوة الذين جاءوا سيوزعون الكساء للفقراء وأخيراً واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا .
ما إن انتهت الخطبة والصلاة حتى اندلعت المعارك أمام المسجد بين الأهالى الذين يتسابقون فى الحصول على عطايا الجماعة من الأرز والدقيق والكساء تاركين العمدة واقفاً وحوله بعض الخفر ومعه إمام المسجد يرمقهم من بعيد .
دنا من العمدة أحد قيادات الشباب بصحبة شعبان وقال للعمدة :
- شعبان ابنك يا حضرة العمدة فلا تجعلوا النصارى تسلطكم عليهم ، ونحن كلنا ثقة بك .. نقدرك ونحترمك
- يابنى إحنا بنحب الشباب المتدين ولكن كل شىء له أصوله وإمام الجامع من بلد تانى فإيه أقول لهم ؟! معقول أقول لهم إني ماقدرتش أحميه ؟!
فقال له الشاب بكل برود :
- قل لهم إنهم جاءوا يوزعوا تبرعات فكيف أستطيع منعهم وإذا كلمك أحد من الناس قل له الحكومة لم تقدر عليهم .. أأقدر عليهم أنا ؟ الموضوع بسيط .
سكت العمدة وازداد قلقاً وحيرةً حين رأى إمام المسجد يمسك حذاءه ويبتعد عن عتبة المسجد وهو يمتعض غضباً فقال له العمدة :
- والله ياحضرة الشيخ أديك شايف جموع الشباب وأنا موش عارف أعمل إيه معهم .
ثم احتد قائلاً :
هاتحصل مدبحة فى البلد
قال له الشيخ :
- لكى تخرج من حيرتك اتصل بأمن الدولة ؟ وأنا شخصياً سأذهب لهم وأحكى عن كل ماحصل
فقال العمدة :
- ياحضرة الشيخ ماتصعبش الأمور .. هى خطبة جمعة وانتهت وموش هايحصل ده مره تانى .
جاوبه الشيخ ساخراً :
- انت طيب ياحضرة العمدة .. أنت لا تعرف هؤلاء .. انظر الى هذا الشاب ماذا يفعل .
كان الشاب يخلع لافتة المسجد القديمة ويعلق لافتةً فوق المسجد مكتوب عليها مسجد الفاروق وتحت الاسم عنوان عريض هو الجماعة الإسلامية .
******-******-******
شيخ عبادة _ بغداد
بغداد يتسرب اليها هدوئها المعتاد بعد سقوط الصاروخين على شارع السعدون والآخر الذى سقط على منطقة الرشيد وفى هذا الوقت كان عادل يجتاز ممراً للمستشفى مزدحماً ببعض أهالى المصابين والضحايا لكى يتبرع ببعض دمه ثم عاد مذهولاً حينما أدرك بعد أن هدأ قليلا أن المرأة التى كانت تجرى مع مازن هى نفس المرأة التى رآها من قبل فى مخزن البضائع لمحل جعفر.
وقف بجوارها هى ومازن وهو لاينبث ببنت شفه ولا يخفى امتعاضاً وقلقاً واضحاً على وجهه , وكلما أرسل اليها النظرات ازداد حنقاً ليوم أصبحت هذه المرأة أماً لفتاة تصور أنها فتاة أحلامه ، يختلس النظر إليها فتطرق رأسها فى الردهة المقابلة للحجرة ووجهها الوسيم القسمات متضح عليه الخجل وأحداث اليوم الفائتة .
أفاقت مروه المستلقية على ظهرها والمستسلمة لما أصابها فرأتهم بجوارها ، وتساقطت الطمأنينة عليها فلم تخف ابتسامة على وجهها وكأنها أدركت أنها اجتازت اليوم المزدحم بالموت بأعجوبه .
انهال مازن بالقبلات والأحضان على أخته والدمع يترقرق على خديه وتقدم عادل وسلم عليها وشوقه الغامض يتلألأ فى عينيه وضم كفها الناعم بين يديه وقال :
- اوعى تتكلمى دلوقت ولما نروح للبيت لنا حديث طويل
قالت سلمى زوجة رشيد :
- أتدرى إنه هو من حملك من الشارع وقعد يمك فى المستشفى وتبرع لك بدمه
قالت :
- والله شعرت إن ايدين أعرفهم حملونى لها المستشفى مثل ما أعرف إن دم مصري غالي بيسرى فى عروقى .
قال مازن وقد أحب أن يكون له نصيب من مدحها :
- أنا حملتك معه وقعدت يمك لغاية اللحظة .. صح يامعلم ؟
فأخذتهم لحظات من النشوة ولكن عادل سرعان ماتذكر المرأة ومخزن البضائع فقطع ضحكاته والهزيع الأخير من الليل قد حل حيث جاء فيه رشيد .
استدل رشيد على مكانهم آخر الليل وجاء المستشفى ووحش الخوف يأخذ من وجهه شيئاً , وبدا أن هذا الرجل ذو وزن كبير فمدير المشتشفى وبعض الأطباء قد تبعوه وتصلبوا أمامه يطمئنونه على الفتاة التى عرفوا أنها ابنته
أدار رشيد رأسه فوجد عادل واقفاً فجمد عينيه عليه متعجباً وقبل أن يتكلم قالت له زوجته المعجبة بعادل :
- بصدق هو يستحق شكرك فهو من حمل بنيتك لها المستشفى وماتركنا لحظة واحدة وشو لو تدرى انه تبرع لها بدمه إيش تقول ؟!
قال رشيد وهو ينظر إلى عادل :
- والله المصائب زين لنا أحيانا ، فهى تعرفنا معادن الرجال
فقال له عادل :
- كنت أتمنى إنى ماأشوفكم فى مصيبة
- مهما قلت موأقدر أنسى يديك اللى حوطت بنتى وحوطت أهلى بالود والوفاء .
وشد على يديه ومد له يده برزمة من الدنانير .
فانسل غضب عادل من وجهه وأشاح بعيداً وقال :
- اللى يتبرع بدمه مايمد يده ياسيدى
فأعادها الرجل الى جيبه وقال بهدوء
- ما أدرى شنو أجازيك ولكن أنت خوش ولد ياعادل
******-******-******
- كيف تنزل الإمام من على المنبر ؟ وكيف تقعد فى مكتبى بدون ماآذن لك ؟! مين اللى علمك كدا ؟! إوعى تقول الإسلام فالإسلام برىء من الأفعال دى .
قال ذلك الضابط أسامه الريدى ثم ابتلع غضبه وقال لشعبان :
- تشرب شاى ولاليمون ؟
- لن أشرب شيئاً .
- لن أشرب شيئاً !! ياأخى بلاش العوج فى لسانكم والتقعر ده
قال ذلك وطلب لشعبان من الحارس كوباً من الشاى ثم أكمل كلامه وقال له :
- قل لى ياشعبان ... كيف تجمعتم فى المسجد بالطريقه دى وأرهبتم الناس وصعدتم المنبر وشتمتم المسئولين ؟
- وأنا مالى !!
- على أنا الكلام ده
- أنا فرد فقير فى البلد والبلد كلها صلت فى الجامع حتى العمدة
فقال الضابط بتلقائية وانفعال :
- صدق اللى قال أن كل واحد متطرف يكذب بسهولة ويثور على التقاليد ولا يثبت على مذهب ويحب الأشياء الغريبه وينتقل من أغرب الى أغرب ويتبع الجديد الذى يثير انتباه الناس .. وده أنت ياشعبان ، وده كل واحد متطرف ترك آراء العلماء وسار وراء هواه .
لوى شعبان عنقه بعيداً عن عينى الضابط وانكفأ بوجهه إلى الأرض فقال له الضابط :
- أنت ياإبنى فى زهرة العمر وقوة الشباب إيه قدمت لأهلك وبلدك ، كيف ضاقت عيونك إنها تشوف الحقائق ؟!
- أى بلد وأى حقائق ؟!
- شعبان أنا أحذرك .. أنا موش قادر أكتم غضبى أكتر من كده .. تذكر أنك بتكلم عقيد أمن دوله ..البلد هى مصر ياشعبان بلد الازهر وبلد العلماء وبلد الحضارة .
- بلد الراقصات والكازينوهات التى يحكمها عملاء أمريكا واسرائيل .
فتقلص وجه العقيد أسامه الريدى وأطبق عينيه ثم قال محتداً :
- هذه للأسف أفكاركم السطحية الفارغة ، وهذا للأسف بسبب قلة أعماركم وضحالة ثقافتكم فأنتم كل مشكله تشوفوها من زاوية واحدة ، وأى رأى يخالفكم يبقى خطأ
وعاد اليه هدوءه المعتاد وقال :
- شعبان ياابنى انت صغير ومن أسرة فقيرة ، إعتبرنى أخ وموش ضابط أمن دولة ، الإسلام لا يقول لك أرمى نفسك فى التهلكة .. الإسلام لا يقول لك اترك والدك الفقير واخوتك علشان تتقدم الصفوف وتخاطب الناس وكأن بيديك مفاتيح الجنة فتحلل وتحرم وتكفر المسلمين .
فقال شعبان بتحد واضح لا يعرف من أين جاء به :
- أنا لا أفعل ذلك ، وأنت منذ ثلاثة أيام تحبسنى قل لى لماذا ؟
فاتكأ الضابط على مكتبه وقال مقطباً :
- أنت على ذمة نيابة ، وهتخرج ، أنت لو فى بلد تانى ، أهلك كانوا موش هايعرفوا لك طريق .
- أنا لم أفعل شيئاً .
- يبقى مين اللى فعل ؟ .. على بن عبد العظيم الضبع ؟
- ..................
فقال الضابط :
- فهمت ياشعبان
ثم قام من على مكتبه وقال :
- اسمع .. كل شىء لازم يتميز بوضوح الرؤية ، أنتم لسه صغار السن وماخرجتوش من قريتكم وده أعمى أبصاركم عن رؤية حقائق كتيرة .. الجماعات الإسلامية ياإبنى جماعات متطرفة تفهم الدين من زاوية واحدة ، وأنا أحذرك وقل لصاحبك علىَ ذلك وإلا فأنتم هاتشاركوا فى صنع مأساتكم ، أنا موش وحدى ، هنا فيه ناس عاوزين يسحلوكم .
******-******-******
حكيم _ أمريكا
جنون من الوهلة الأولى قد أصابه حينما وضع قدميه فى أرض بنسلفاينا ولم يصدق نفسه ، جاءه رئيس القسم يصطحب معه زوجته وأولاده لكى يستقبله ، وبعد ترحيب حار جالت بهم العربة فى داخل الولايه حتى وصلوا إلى بيت الدكتور الريفى فى ناحية منهاتن .
فى الطريق إلى هناك كانت الإضاءات الباهرة مما حوله من الأشياء تشرخ فيه الإحساس بالقدرة على التمييز , لقد أخذت حكيم خيوط الخوف من عالمه الجديد ولكن أضواء الانبهار قد تغلبت عليه .
استرعت نظراته المبانى الشاهقة التى طاولت السحاب والشوارع الكبيرة الفسيحة وهو يطل من شباك السيارة ، وترنحت أمامه بيوتات الشيخ عبادة وأزقتها الضيقه الملتوية ومشاكلها التى كانت تؤرقه ، الانبهار كان يخترق كل شىء بداخله ، لا قدرة له على المقاومة ، حتى بيت الدكتور كان تحفة من الجمال والروعة يقع بين الحدائق الخلابة والأشجار الوارفة .
لقد تصور حكيم أن الدكتور وزوجته من أغنياء امريكا فإن سيارته الفارهة وبيته الجميل الواسع يدل على ذلك ، ولكنه حينما رأى زوجة الرجل تقف بنفسها فى المطبخ وتعد الطعام عرف أنها أسرة متوسطة .. لكن كل شىء فى أمريكا يوحى بالغنى والحرية والسعادة , وعلى مائدة الطعام لم يكن هناك أى نوع من اللحوم فزوجة الدكتور من جماعة الرفق بالحيوان مما انعكس ذلك على نفس حكيم بالسؤال عن حقوق الأقليات ، وتطلع بعينه الى المرأة وهز رأسه قائلا :
- عظيمة هى أمريكا .
قالت له :
- هنا سوف تحصل على مصالحك المفقودة .
فانتهز الفرصة وقال لها :
- لقد جاءتنى وأمسكتها ولن أتركها .
قال له الدكتور وهو يتناول الجمبرى :
- هل لك قدرة على الاستيعاب والتعايش ؟
- أجل
فنظر اليه بعين فاحصة وقال :
- كل من جاء الى هنا حدثت لهم صدمة حضاريه وعبروا فوق جسر الانبهار فمنهم من انصهر ومنهم من تعايش وعبر فوق الصدمة وفى عقله خطوط محفورة من بقايا إرث الماضى فمن أى الفريقين ستكون أنت ؟
- أنا إن بقي فى شىء من الماضى سوف أطفئه كل فترة بزيارة بلدى .
فقال له رئيسه الدكتور :
- أنا أريد أن يحتل نصفك الأمريكى نصفك المصرى بمعنى أن ذلك سيكون له فائدة لقضية الحرية التى حدثتنى عنها فى الطريق والصورة التى نقلتها لى عن أقباط مصر .. إننى كنت أظن أن أمريكا كانت واقعة تحت تأثير الدعاية التى صورت حياة العرب كحياة الوحوش فى الغابة ولكن كلامك اقترب كثيراً من صورة العرب فى الإعلام الأمريكى .
- أعدك يادكتور أن أفعل المستحيل من أجل أن أخدم قضيتى وسترانى شخصاً جديداً .
******-******-******
وهو يجلس أمام التلفاز وبجواره ابنته قال :
- دائما أنتم هكذا يامصريون تعودتم إخلاف المواعيد وعدم النظام
هكذا قال رشيد لعادل الذى وثق فيه واعتبره أحد أفراد أسرته وجعله يسكن فى منزل قريب منه بل وعرفه على أسرار حياته الخاصة وكلماعنَ له شىء يقول له إن دمك بيسير فى عروق بنيتىَ ، ولكن عادل فى أيامه الأخيرة تسرب إليه البرود وشعر أن شيئاً غريباً ينهش فى ضلوعه كلما راحت زوجة رشيد أو جاءت أمامه فكان يتأخر فى الذهاب اليهم وبدأ يتخلف عن مواعيد الدروس .
كان رشيد يظهر البغض لمصر ولا يتورع فى الهجوم عليها ، وانتحى بالحكايات على مصر وأهلها وقال :
- مصردولة فرعونية مو عربيه وحين أرادت إنها تكون زعيمة للأمة العربية ضاعت وضيعتنا معها .
فقال له عادل بغيظ :
- مصر هى التراث والأساس لحل أى قضية ، وأنتم لما ضيعتم مصر ضيعتم قضاياكم ، والغريب إنكم ماهاتحلوا أى قضية بدون مصر وما هاتقدروا .
لشد ما أعجبت مروة بحديث عادل وانتصرت له على أبيها وفى هذا اليوم لم تنأى بعيدا عن المعركة الكلامية فقالت لأبيها :
- ليش ينكر الناس ضوء الشمس ، مصر هى ميزان القوة للعرب بسكانها ومكانتها وحضارتها .
قال لها أبوها :
- أمنيتى إنك مو تتدخلى لإ شعال النار ولكن تتدخلى للوفق
فقال له عادل :
- العراق تدخلت فى لبنان فأشعلتها نار وماتدخلت لفض الخلاف بين المتناحرين
فنظرت مروة إليه بإعجابٍ وقالت :
- أتعرف إن أشد مايعجبنى فيك هو وطنيتك .
فقال أبوها :
- بس ؟!
- يعنى
نظر عادل إليه قائلاً :
- أتعرف ياعمى أبو مازن إن أشد ما يعجبنى فيها أنها فنانة بحق ؟
قال رشيد :
- بس ؟!
- وكمان حبها لحياة المصريين وإصرارها على إقتحام عالمهم حتى أنها تحاول تتكلم بلهجتنا ولكننى أرجو منها أن تتعلم لهجة البحاروة عندنا موش الصعايدة .
قال رشيد :
- يهيىء لى انه شىء جديد على ابنتى وأنت السبب .
تناغمت ضحكاتهم جميعا ثم اصطحبتهم مروة إلى مرسمها لتريهم لوحة لم يبق على الفراغ من رسمها إلارتوش خفيفة .. كان مرسوماً على اللوحة وجهين كأنهما قناعين متجاورين ، أحدهما بأربع عيون والآخر بعينين .
قال لها عادل :
- إيه ده ؟ أنا موش فاهم حاجة من رسوماتك .
قال أبوها :
- أنت قلت من لحظات إن الشيء الحسن فيها رسوماتها !!
فلم يستطع إخفاء ابتسامة وقال :
- نعم ولكنى قلت أنا لا أفهم ولكن رسوماتها تعجبنى
فقالت :
- المهم أن أفهم أنا .
بتعجب واضح :
- إزاى ؟ !! لابد أن يعبر الفن عن حياتنا ورغباتنا فالفن موش جزء من واقع خيالى
قالت له :
- شىء جميل ، ولكن ماتى أفيرس فى كتابة المحاكاة والتظاهر قال إن الفن هو من يعبر عن العواطف لأن الفن جزء من حياتنا العاطفية ، ومارسمته يعبر عن شىء داخلى
- انا مالى ومال اللى يقوله الرجل ده ، أهم شيء أنت تقصدى إيه ؟!
قالت :
- يعنى أن الرسم هو التعبير عن العاطفة
قال أبوها :
- فعن إيش تعبر لوحة فنانتنا هذه ؟
- عن إنسان بوجهين قلبه هنا وجسده هناك ، عينه هنا وعينه هناك
على الفور تذكر عادل الرسالة التى جاءته من أخيه كامل وفى آخرها سطور من ابنه أحمد يدعوه فيها للعودة ، ونظر للوحة .. الوجهين والقناعين .. الإنسان ذو البعدين .. هو هنا لكنه هناك .. الفتاه التى هزمته وجذبته إليها بقوة وأضاءت بالحب والعشق ظلام غربته الدامس وأم ابنه التى تركها فريسة للوحدة .. ثم رفع حاجبيه وأطلق بصره إلى الصورة مرة أخرى وهو يكابد صراعاً بداخله وشعر لأول مرة بعمق الأزمة التى يحياها وهذا القلب الذى يعيش بين كفتى الميزان وانطوت تلك الهمسات تستجوب الصمت الكامن حتى أيقظتة سلمى من غفوته وقدمت له كوباً من العصير وقالت له :
- وين إنت ؟
فأشاح بوجهه بعيدا عنها بعدما تناول كوب العصير وقال لمروه :
- اقتنعت بما قلتيه بأن الفن هو تعبير عن العاطفة
******-******-******
جند الاسلام الله أكبر أقسمنا يمينا لن نقهر
وكتاب الله بأيدينا نقتحم اليابس والأخضر
بهذه الصيحة وهم يتقدمون كالسيل العرمرم الذى يهدر من فوق قمة الجبل ويجرف كل شىء ولا يترك بيتاً فى القرية ولا زقاقاً إلا دخله هتف شباب الجماعه الإسلامية القادمون من القرى المجاورة وهم يسيرون طابوراً طويلاً يجرى فوق الجسر الدائرى بخطوات منتظمة متآلفة ، وكاليد التى حركت الماء فى بحيرة راكدة حركت الصيحات القرية فوقفت رجالاً ونساءاً وأطفالاً على النواصى وعلى جانبى الجسر ومن خلف الشرفات التى سجنت خلفها الضحكات المتعجبة المكتومة من عيون النسوة وأفواههن .
وعلى ناحية بعيدة فى أرض الجبالى وتحت ظلال شجرة جميز جلس محمود بن العمده وبعض رفاقه وعيونهم مع كل قفزة وخطوة للطابورالطويل وهم يختنقون غيظاً وكمداً برغم أنهم اختاروا بأنفسهم ألا تسرقهم تلك الأضواء فهناك ريح تهب يمكن أن تجذب قوم بنسيمها ويمكن أن يساور الآخرين شىء من الضيق والكدر من غبارها , وكيف لا يختنقون كمداً وهم كانوا عنوان شباب القرية وفتوتها حتى خرج شباب الجماعة وكأنهم شقوا النهر فخرجوا من جوف الماء أو جاءوا من وراء الحجب ومن قلاع الزمن الماضى فملأوا جميع المساحات فى القرية فجأة وهتكوا صمتها وحياتها الرتيبة ونقشوا حياة جديدة لم يعرفها الناس من قبل وخلعوا عليها من ثياب التاريخ الغابر موضة وظاهرة سرقت عيون شباب القرية ولفتت انتباههم إلى عالم جديد يكونون هم فيه السادة والعبيد فى الوقت نفسه ولن يضيرهم ذلك فى شئ لأنهم صنعوه بأيديهم هم ، وفى غضون شهرين لم يكن عجيباً أن ترى بعض الشباب الذين التحقوا بشعبان وصاحبه علىّ ذى الوجه المقبول بالقرية .
وتحت ضوء الشمس وأمام مسجد الفاروق وقف الشيخ صالح يملأ عينيه إعجاباً بالطابور وبجواره على يطل بنظرات ليس لها معنىً واضح وفى ذات الوقت دنا شعبان بخطوات هادئة فرحب بقدوم الشيخ صالح وقال له :
- يا مولانا أنا سعيد أننا أخذنا المسجد ولكننى خائف أن أقول أمراً مهماً
سكت الشيخ صالح
وحدق على فى وجهه ليرقب ما ينشق لسان صاحبه به ، قال شعبان :
- لقد سألنى الريدى عن الذى حصل مع إمام المسجد فقلت له أنا ليس لى دعوة و .. على منذ هذا اليوم إلى الآن يخاصمنى ولا يتكلم معى ونحن لا نريد ..
قال الشيخ صالح :
- فهمت فهمت ، ما فعلته هو الصواب ، أنت أمير القرية وعلى لابد أن يضحى من أجل الحفاظ عليك ، فالحفاظ على القائد من الحفاظ على الجماعه ، وعليكما ان تعلما أفرادكما ذلك بأن يضحوا بأنفسهم من أجل مشايخهم ولنا فى الصحابة القدوة كيف كانوا يتترسون حول النبى صلى الله عليه وسلم ويدافعون عنه .
بعد برهة من الصمت بينهم قال الشيخ صالح :
- حفظكما الله ، فباعترافك هذا زادت ثقتى فيك ، وبتضحية على احترمته لأن الذى يضحى من أجل الدعوة فهو يقدم لله ومن يقدم يقدمه الله .
وتأبطهما ماراً على محمود وزملائه فالقى عليهم السلام فانتفضوا له قائمين وقد ولدت على وجوههم ابتسامة قصيرة ماتت حين خطا الشيخ بعيداً عنهم خطوة وتطاول لسان محمود قائلاً لرفاقه .
- ولاد الكلب عاملين زعماء ، والواد شعبان عامل فيها أمير ، عال والله
والتفت إليهم قائلاً :
أنتم فاكرين لما ضربته فى المولد ومنعنى عنه كامل
وسرى من بعيد صوت الهتافات المدوية فتوقف عن الكلام
فى سبيل الله قمنا نبتغى رفع اللواء
لا لحزب قد عملنا نحن للدين فداء
فليعد للدين مجده أو ترق منا الدماء
قال الشيخ صالح :
- أنا أسعد إنسان اليوم .. أتعرفون لماذا ؟ ... لأن هذا اليوم حققت ماكنت أحلم به ؟ اظهار كيان وقوة الجماعة ، ونحن فى نهاية اليوم سنقوم بدعوة كبراء البلد لحضور إفطار الصائمين الجماعى ثم سيلقى الشيخ صبرى كلمة نهاية اليوم .. وثقوا تماما أن أتباعكما سيزدادون أضعافاً
قال شعبان
– أنا متأكد يامولانا من ذلك .. ولكن ماذا سنفعل فى باقى اليوم الاسلامى ؟ !
- سنشرح الميثاق والأبحاث ، وأنتما بالذات على أبواب الجامعة ولابد أن تركزا جيداً فى فهم هذه الأبحاث لأنكم شارحيها بعد ذلك فى القرى المجاورة .
قال ذلك بعد أن تناول ثمرات من البلح أوقعتها الريح .
قال على :
- أريد أن أسأل فضيلتكم سؤالا لماذا إظهار كيان الجماعة وعلى من ؟!
فنظر إليه الشيخ صالح قليلا ، فلما عجز أن يسبر معنى قال له :
- إن إظهار قوة الجماعة سيخيف الظلمة والطواغيت ، حتى لا نصبح لقمة سائغة ، كما أن ذلك سيدفع المزيد من الشباب للحاق بقافلتنا
بعد عدة خطوات قال :
إننا نقفز من نجاح لآخر ، وإلى العيد القادم يكون عددكم قد زاد وساعتها لابد أن تصلوا العيد فى الخلاء وتخرجوا بمسيرة كبيرة تقدمونها بماكيت للمسجد الأقصى سوف نرسله لكم ، وعليكم كذلك أن توسعوا الخيرات على الناس .
قبل أن يسألا نظر إليهما وقال :
- بمعنى توزيع التبرعات على المساكين فهذا سيحبب فيكم الناس وفى الوقت نفسه لابد ان تقوموا بتنظيف القرية من المنكرات والرذائل كلعب القمار وزيارات المقابر والأفراح التى تقام بالموسيقى فهذا سيفتح الطريق أمام الدعوة لأن ديننا شامل كامل الدعوة والحسبة معا .
قال له على :
- يامولانا أنا أحب أن أعمل فى الدعوة وتوزيع التبرعات
فقال له الشيخ صالح بحزم :
- لولا أنك فى أول الطريق معنا ما مررت هذا الكلام الذى لا ينبغى لأى أخ عامل فى الجماعة أن يقوله ، لأن الأخ لابد أن يسلم رقبته للجماعة إن كان فى الساقة فى الساقة أو فى المقدمة فى المقدمة ، وهو لا يختار أى عمل لأننا أعلم بقدراته .
تلاحقت نحوهم خطوات الطابور وتقدمت صوب المسجد وهم يلهثون من الهتافات والجرى ، وانتصبوا أمام الشيخ ثابتين فقال بصوت عالى النبرات :
- جماعة إسلامية صفه .
فانفرجت أقدامهم وقالوا بصوت واحد :
- إسلام
فقال :
- جماعة اسلامية انتباه
فلازموا اقدامهم وضموها واندفعوا قائلين :
- قوة
******-******-******
بصعوبة شديدة وعلى استحياء وقف سامى أمام شادية فى ذات المكان الذى اتفقا عليه وراء سرب من النخيل على شاطىء النيل قبل أن يعودا للقرية واندفع بسرعة قائلاً :
- ليه تأخرت ؟! أرجوك أنا فى كرب وشدة ، وأنت الشخص الوحيد اللى أقدر أشكى له من اللى أعانيه من كرب وشدة بعدما تخلى عنا الأهل والأحبة حتى الشخص الوحيد اللى كان يزورنا سافر لأمريكا .
فقالت له بأسى :
- ياريت أقدرأحمل عنك اللى أنت فيه من هم وبلاء ولكن أعمل إيه وأنا إنسانة لاحول لى ولاقوة
- أنا مايهمنى أى شىء مادمت أنت معايا
فالتفتت تبحث بعينيها عن أحد يمكن أن يكون قد رآهما فلما اطمأنت لعدم وجوده قالت له :
- شد حيلك ياسامى ولا يهمك أى إنسان ، ووالدك موش أول بشر يخطىء
فسألها متعجباً :
- هل تظني أنه يجىء يوم يعرف الناس فيه الحقيقة ويعرفوا إن اللى عملوه معنا كان خطأ ؟
قالت بإشفاق :
- أنا متأكدة أن عمى غريان برىء وحتى لو كان موش برىء فالموضوع انتهى من أيام طويلة .
فأسند ظهره على إحدى جذوع النخيل التى يختفيان وراءها وقال :
- لا أظن أن الأمور هتعود لمجاريها ، عمى غالب رفض اعتذار أبويا لأن عمى رأفت أقنعه بكدا
وتنهد بحزن وقال :
- أنا أشعر أنى أعيش وسط كوابيس مفزعة وفى مجتمع غير عادل صدقينى ياشادية كنت أظن فى أحيان اننا نسيج مختلف عن القرية وكنت أتبع فى ساعات كلام حكيم ولكن ماجرى لنا أكد اننا مانقدرش نستغنى عنهم ، وآدى أهل القرية هم اللى استغنوا عنا من أجل خطية واحدة رغم أن قلوبهم مليانه خطايا فقولى لى كيف أعيش هنا ؟!
تركته شادية يتكلم ويفرغ ما فى صدره من أسى وقالت له بهدوء :
- املأ قلبك بالأمل وسيب الزمن يحل كل المشاكل .
فقال لها :
- شادية أنا موش قلت لك إن الهروب هو الحل الوحيد لكل مشاكلنا فليه تأخرت فى الرد علىَ لغاية دلوقت ومقلتيش رأيك ؟
- دى حاجة موش سهلة ياسامى ، أنت فكرت فىَ وفى أهلى وإيه اللى هيجرى لهم ؟ أقل شىء المكان اللى هانروح فيه .. هل فكرت فيه ؟!
- بالنسبة لأهلك وأهلى فإحنا لابد أن نضحى ، والمكان سهل وافقى أنت واتركى لى تدبير كل شىء لأن ده هو الشىء الوحيد اللى هاينقذ حبنا من الهلاك .
******-******-******
- طبعاً هذى مفاجأة ماكنت تتوقعها .
- حقيقةً أنا ماكنت أتوقعها .
- ياريت تتوقع أشياء جديدة كل يوم .
ونظر إليه مازن بإعجاب وقال :
- يامعلم أنا من جعلـتها تزورك .
– وأنا أشكرك إنك خبرتنى بالصدق
قالت مروه :
- الحقيقة إحنا أردنا نقضى معك الأجازة اليوم .
قال لها عادل :
- يبقى سيبونى أغير ملابسى .
تأسى عادل عن هموم الليل الذى بدأ يفرش أجنحته والتفكير فى رسالة أخيه ووضع على وجهه ابتسامة عريضة وهو يمرق إلى غرفة جانبية لكى يغير ملابسه بينما مروة تدور بعينيها فى المكان وكأنها تبحث عن شىء فلاتجده .
ولما رجع قال لها :
- أنت ماخفتيش إنه يشوفك حد من زملائى المصريين ؟
- توقعت ألقاق لوحدك وصدق ما توقعت .
قال لها وقد تأبط ذراعها وخرجا من الباب ووراءهما مازن :
- يعجبنى فيك إن دايماً توقعك بيصيب .
فقالت له :
- سيبك من كلامك ده وقل لى إيه آخر قراءتك فى الكتب .
تعود عادل على هذا السؤال منها دائما بعد أن أهدى إليه أبوها مكتبة أغلب كتبها سياسة وبوليسية ومخابراتيه
فقال لها :
- أنا موش قادر أقرأ سطر واحد فالهم والأرق تعبنى
قالت له :
- ليه ؟
- الرسائل تتوالى من أهلى يطلبون منى الرجوع والعودة
فوقفت قليلاً مبهوتةً وتائهةً وقالت له :
- أنت ممكن ترجع ؟!
وأكملت المشى فقال لها :
- موش هيطول بقائى هناك فممكن أعود فى أقل من شهر بعد أن أطمئن على أحوال زوجتى وابنى .
وخاف أن يكون حديثه عن زوجته سيضايقها فقال لها :
- أنا ماشعرت فى يوم إن لى زوجة ولكن فى الوقت نفسه أنا أشعر أحياناً أنها مظلومة معى ، واللى يقطع قلبى هو ابنى اللى بدأ فى فترة المراهقة .
- أنا بتمنى رؤية زوجتك .
- ليه ؟!!
- كنت أعرف إنك متزوج ولكنى أريد أعرف المرأة اللى استحوذت عليك .
فاحتد صوته وأجابها قائلا :
- أنا أقول لك أنى مشعرتش أن لى زوجة وتقولي لى إستحوذت عليك
فأشارت له وقالت :
- اخفض صوتك إننا فى الشارع وأنا ماقلت إنها استحوذت على قلبك .
هدأ عادل قليلا وقال :
- صدقينى ماحدش استحوذ على قلبى غيرك
فنظرت إليه بطرف عينيها ومشت صامتة وهو يقول لها بعد عدة خطوات :
- أنا أفكر فى إقامتهم هنا .
- وهل تظن أن هذا أمر سهل ؟
- المهم أنت .. تأكدى إنى مقدرش أستغنى عنك
- ولو رفضت زوجتك تقيم هنا ؟!
- موش عارف أعمل إيه .
- عادل أنت استأذنت والدى فى نزولك مصر ؟
- تكلمت معه أمبارح وكانت أمك جالسة معه
- أمى سلمى ؟
- أيوه
- قل لى ياعادل ليش تعامها بحدة ؟
ارتبك عادل قليلاً وقال :
- مين قال كدا .. أنا ؟
- عادل أنا أعرفك زين ، خبَرنى بصراحة .
- مفيش حاجة ومقام الشيخ عباده .
- الشيخ عباده ؟!!
- شيخ من أولياء الله عندنا فى القرية .
فضمت شفيتها وقالت :
- همه
فلما رأت إصراره على السكوت قالت :
- ومقام الشيخ عبادة أظهر لها الود علشانى فهى تعبت معنا بعد وفاة والدتى .
- نعم !! إيه بتقولي ؟!
- ليه تعجبت كده ؟
- مشعرتش منك إطلاقا أنها موش والدتك ، وكنت دايماً تناديها بأمى .
- احتراماً لها وعلى العموم أنا هقولك كل شىء .
وسرقهما الحديث وأخيراً تنبها أن مازن تركهما وجرى ناحية محل الأجهزة الكهربائية وهو نفس المحل الذى كان يعمل فيه عادل من قبل فى شارع حيفا فذهبا وراءه مسرعين ففوجئا به قد وقف أمام بيانو معروض للبيع ثم اعتلاه وأخذ يعزف عليه ببراعة الموسيقى التصويرية لمسلسل رأفت الهجان .
لم تتمالك مروه نفسها حين فوجئت ببراعة أخيها فى العزف فضمته الى صدرها وقررت أن تشترى له البيانو ، وكان وجه عادل مشرقاً منذ عرف أن سلمى ليست أمها بل زوجة أبيها فقال لها :
- لحن مصرى , قولى لوالدك إن مصر احتلت ابنك
وفوجىء فى غمرة سعادته برغدة زوجة جعفر وأطرافها ممتدة كى تصافحة وانتبه لوجهها الأبيض الذى يشع جمالاً وبهاءاً .
قالت له :
- هلا عينى عادل.. هلا بك فى المحل مرة ثانى ، أنا فى موعد زين مع القدر .
- أشكرك ياسيدتى
- المحل يحتاج لك ياعادل .. على مودى تعود وترجع
فحملق فى وجهها وقال :
- جتنى رسالة من أخويا يطلب منى العودة ، وأنا هرجع بعد أجازة قصيرة
- أنا أظن ماكو عودة لك مثل أغلب المصريين اللى فروا بعد الحرب والحظر ولكن إن رجعت فعد للمتجر ، انت وعدتنى بهذا من فترة طويلة ، بتمنى تفكر فى الأمر ياغايتى وهتلقانى فى انتظارك .
- تحت أمرك وأرجو إنك تبلغى سلامى لزوجك جعفر
- اعتبر سلامك وصل ياعادل
فى هذه الاثناء ضغطت مروه على يده بشدة وسحبته الى خارج المحل وبغضب شديد قالت له :
- ليش كلام وحشى مع الحرمة بهذا الشكل وهذى الطريقة ؟
فقهقه عادل وقال :
- أنت قلبت عراقى تانى .. لأول مرة أشوفك غاضبة كدا .. أنت إنسانة غيارة
******-******-******
وبعد أن شملهما الصمت لحظات طويلة بدأ الحديث بين العمدة والحاج عبد السلام وهما يدققان النظر فى أضواء النجف المتناثرٍ فى سقف سرادق فرح غالب بن الحاجة مريانه .
نور السرادق سماوى غريب لاهو نور القمر ولا ضوء الشمس انعكس بدوره على وجوه المعازيم الجالسين على المقاعد بانتظام على غير عادتهم وبدت تلك الوجوه أكثر وضوحاً .
عائلة الحاجة مريانه غاب عن عرسها اليوم غريان دون أولاده الذين دعتهم الحاجة ليشهدوا الفرح فجاءوا مسرعين فرحين واعتبروا أن ذلك هو أول الطريق للصلح بين أبيهم وجدتهم .
قال العمده وقد مال ناحية الحاج عبد السلام :
- أنا خايف من ابن أخيك والشباب اللى اتبعوه وملأوا القرية.
فرفع صوته ورد عليه قائلا :
- ابن أخويا مالوش دعوة , ده شعبان ياأبو محمود وأنت تعرف ده كويس .
قال له العمدة :
- هل نصحته ياحاج إنه يبعد عن الطريق دا ؟
- ياما نصحته وقلت له إنك وحيد أبوك الله يرحمه وأنا خايف عليك .. أنت عارف ياعمده أنا بعد ما كنت أخاف عليه من المرأة اللى اسمها جميله زوجة المرحوم عبد الواحد وابنها كمال بدأت أخاف عليه من السنيه .
– آه فكرتنى خلى بالك ياحاج المرأة مصممة تأخذ بثأر زوجها , وابنها الوحيد كبر وإن ماوصلش لعلى وصل إلى غيره .
- والله ياعمده ، الله يرحمه الحاج عبد العظيم برىء من قتل زوجها
وغاب صوته حين رأى الحاجة مريانه تتمشى فى جنبات السرادق تتلقى التهانى وتنعطف قادمة إليهما ، قام العمدة والحاج عبد السلام مهنئين وقال لها العمدة :
- فين غالب علشان نبارك له ؟!
ولدت ابتسامه قصيرة قبل أن تقول لهما :
- غالب بيستحى من الناس
فتناغمت ضحكتا العمدة والحاج ثم مضت برهة صمت وهم يجلسون على كراسيهم المتجاورة حتى قال الحاج عبد السلام :
- ياريت كنتى أرسلت لغريان علشان يحضر فرح غالب , المسامح كريم يا حاجة وكفايه ثلاثة أشهر وهو بعيد عنكم
وكأنما وخذها بشىء فى صدرها ، فأسندت رأسها على عكازها وقالت:
- أولاده هنا من لحظات أما هو فإزاى يحضر فرح اللى أراد قتله .
قال لها العمده :
- ياحاجة ..
ثم سكت ولم يكمل حينما رأى فى عينيها إصراراً , ورأى يدها وهى تشير إليه قائلةً :
- كل شىء هنحله ولكن موش دلوقت .
أراد الحاج عبد السلام أن يضفى جواً من السعادة على المجلس فأخذ يتمايل مع صوت الألحان والمواويل البلدية التى يصرخ بها مكبر الصوت فى أعلى السرادق فالتفتت الحاجة بعينيها بعيداً عنه وقالت للعمدة :
- أنا خايفة ياعمدة .
فسكت العمدة وفهم الحاج عبد السلام مرادها فقال لها :
- أنت خايفه من مين ؟!
- يعنى أنت متعرفش السنيه اللى خرجوا فى البلد .. دول وزعوا فى الصباح منشورات وورق هددوا فيه بأنهم هيفسدوا الفرح ؛ لأن فيه أغانى وراقصة ، فقل لى ياحاج كيف هنفرح بأبنائنا وبعد ذلك مين قال إن دينا إحنا يحرم الأغانى ؟!
قال العمدة :
- آه فكرتينى .. فين الراقصة والمغنى مكرم المنياوى ، دول اتأخروا والبلد كلها خرجت بحريمها ورجالها علشان تشوف الراقصة لأول مرة .
فقال له الحاج عبد السلام ساخراً :
- انت وابنك محمود نسخة واحدة .
كانت الحاجة قد تولاها الخوف وبدأت غيوم من الشك تخيم على الفرح فشعبان وجماعته لم يعرف لهم أحد وجه ولم يسمع لهم صوت منذ أن وزعوا تهديدهم فى الصباح ، والراقصة والمغنى كذلك لم يصلا إلى الآن .
قالت الحاجة لهما :
- على اللى ربيته بيدى يهددنى كده ؟!
فقال لها الحاج عبد السلام
- ومقام الشيخ عباده ابن أخويا مالوش دعوة ، وأنا من الصباح ابحث عنه وقالوا لى إنه راح ياخد درس فى المركز .
ثم رفع صوته قائلاً لها :
- وبعد كده أنت خايفه ليه والمأمور وسعادة عصام بك النجدى أنت عزمتيهم فى الفرح وهيكونوا جنبك
قالت :
- آه ياحاج ، برضه أنا خايفه .
قالت ذلك بينما جيوش الأمن المركزى قد أحاطت بالسرادق ودخل الضابط عصام النجدى ومعه المغنى والراقصة فأصعدهما على المسرح فاشتعل التصفيق واندلعت الموسيقى وبدأ الغناء
******-******-******
تغيير المنكر
شعبان كان بعيداً تحت سرب من النخيل وحوله حفنة من أصحابه وبعض المتعاطفين معه يخطب فيهم ويستحثهم فى أحد الحقول البعيدة قائلاً :
- إنى أريد أن أسأل سؤالاً لكم هل سمع النبى صلى الله عليه وسلم الموسيقى .. هه من يجاوبنى ؟
فسكتوا جميعاًَ وأطرقوا جامدين .
فقال لهم :
- إذن فالنبى صلى الله عليه وسلم – لا يحب الموسيقى ولا يسمعها وهكذا تبقى حرام حرام حرام .. والنبى لا يرضى عما يجرى فى قريتنا فمن منكم يغير هذا المنكر.. قال النبى صلى الله عليه وسلم . " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " فمن منكم ياأحباب سيكون قوى الإيمان مثل عمر الذى خرج مهاجراً فى وضوح النهار ولم يخش قريش وقال لهم من أراد أن يرمل امرأته فليتبعنى .
وأشار شعبان للقرية وقال :
- صدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم حين قال : " ستأتى أيام على أمتى يستحلون فيها الحر والحرير والخمر والمعازف "
وأشار إلى المتعاطفين أمامه قائلاً :
- ولن يضحى من أجل الدين سواكم أيها الشباب الطاهر .
وهكذا استحثهم شعبان وجلس يرقب ما سيحدث فى الفرح بعدما خطط واستقر فى النهاية أن يقطع الكهرباء من المحول الرئيسى بمساعدة أحد المتعاطفين الذين تحمسوا من كلامه , وفى الوقت ذاته يقوم آخرون لا يعرفهم أحد بأنهم أصبحوا منتمين للجماعة بالتسلل وسط الناس فيضربون علباً معبأةً بالبمب والمفرقعات حين تقطع الكهرباء وهكذا سيتولى الخوف ما أرادت الجماعة فعله بعد ذلك .
اتكأ شعبان على بعض النخيل وأمسك فرعاً من جريد النخل ضربه على الأرض مراتٍ وقد بان عليه القلق
فقال له على :
- من الذى سيربح ومن الذى سيخسر مما سيحدث أنا لا أعرف ؟!
- كل شىء عندك ربح وخسارة ، ولماذا لا تقول من الذى سينتصر ومن الذى سينهزم أهل الإيمان أم أهل الرذيلة والفسق الذين جاءوا براقصة لأول مرة فى القريه يتحدون الجماعة ويجاهرون بالمعصية .
- ستحدث مفسدة أنا قلت لك من قبل ذلك ونحن فى أول طريق دعوتنا
- هه مفسدة ؟
- نعم مفسدة فنحن نخطب ونعطى دروساً ونوزع تبرعات فلماذا نعادى الناس ونعادى الحكومة ؟
أعرض شعبان عن كلام صاحبه وقام منتفضاً حين تلاشى صوت الأغانى والموسيقى ورأى الناس تجرى من الفزع والهلع .
حدث ما خطط له شعبان وأطفئت الأنوار وأطلقت مسدسات الصوت والمفرقعات وتحول الفرح فى لحظةٍ إلى إمسية سوداء , وكأن شياطين الحزن والغضب قد احتلت أركان السرادق وأصبح الهرج والمرج مثل شظايا النار , وعلا صراخ الحريم وبكاء الاطفال , وتزاحم الناس عند مدخل السرادق الضيق حيث أردوا أن يهربوا من المكان إلى الجسر فتكوموا على الأرض من هول الخوف كأنهم يمرون على قشور من الموز , ومن كان منهم معه سلاح أطلق منه أعيرةً فى الهواء إما لتخويف أفراد الجماعة الذين ظن الناس أنهم مدسوسون بين الظلام المطبق وإما قتلاً للخوف المترسب فى قلوبهم .
وأخيراً تحرك الأمن المركزى زاحفاً وأحكم إغلاق المكان وأخذ يطلق أعيرةً ناريةً فى الهواء فزاد الأمر هولاً .
أول شىء فكر فيه المأمور وضابط أمن الدولة النجدى هو محول الكهرباء فاصدرا أوامرهما بإصلاح الخلل فعادت الكهرباء تغمر المكان ليزيغ الضابط النجدى بعينيه إلى السرادق الخالى والكراسى المقلوبة فى جوفة والنجف الذى تناثر وأصابه التلف وطأطا رأسه ثم تناول بأنامله بقايا المفرقعات وفركها بإصبعه وعض على شفتيه ونظر للمأمور قائلاً :
- عملوها ولاد الكلب بالبمب .
قال له المأمور ؟
- تظن فى مين ياباشا ؟
- ابن الضبع وأصحابه طبعاً
- وهتعمل إيه معهم ؟
قال النجدى :
- هعتقلهم حتى لو حاصرت البلد كلها وفتشتها بيت بيت وهنعمل الفرح ولو آخر الليل .
قال له المأمور :
- ولكن الفرح مفيش فيه مخلوق
- ولو
وأجبر المغنى أن يصدح بالأغانى , بينما المعازيم يلتقطون بآذانهم الموسيقى ويتبادلون الحكايات عما جرى وهم وراء أبواب منازلهم ويطلقون الإشاعات عن قوة السنية الذين غلبوا الضباط وعساكر الحكومة .
******-******-******
جلس أهل بيت العمدة يتحدثون عما جرى فى فرح غالب وتركوا شادية فى حجرتها بالدور الثانى فى دوامة تجلجل فى نفسها فكرة الهروب مع سامى :
- هو موش دينى ودينه طريق واحد وغاية واحدة بتبتغى رضا الله ؟ يبقى هى صور شكلية الناس عملتها لما حرموا العشرة والزواج .
وأعملت تفكيرها برهةً ؛ كى تجد حلاً يريح قلبها الذى يغلى كالبركان :
- أنا هعطى ربى روحى فليه مايسيبش لى جسدى أوهبه للى أحبه
وأمسكت بشعرها المنسدل على كتفيها وشدته وقالت بحدة :
- آه من الناس أنا لازم أكون طاهرةً قدامهم .. إيه هيظنوا بى غير إنى واحدة غارقة فى الرذيلة قدامهم وقدام أهلى .
لقد أدركت الفتاة الولهانه فى حبيبها الحقيقة التى كانت يجب عليها أن تعرفها منذ زمن بعيد أن هناك فرقاً بين ما يعتقده الإنسان ويراه صواباً وبين ما يراه الناس وأن أهلها وأقرب المقربين منها هم أول الخلق الذين سوف يرونها غارقةً فى الخلل والانحراف .
فإلى أين ستتجه وترحل وتترك دينها هل ستتركه من أجل إنسان يمكن أن يتخلى عنها فى يوم من الأيام ؟! فهل يمكن أن تأمن صروف الزمان وبواطن المستقبل ؟ وإذا كانت هى ضحية الحب فكيف تترك أهلها وتجعلهم هم الضحية ؟! إنها ستكسب حبيبها ولكنها ستجعل أهلها يخسرون ويلطخهم العار .
واذا أرادت أن تجعل سامى هو نهاية ترحالها ومنفاها فهى ستتحدى ضوء الشمس والحقيقة الساطعة على جبين الكون بأن الدين هو لحم الإنسان ودمه وهو أغلى من كل الاشياء لأنه الشىء الباقى للإنسان .
وأسندت رأسها على جدار غرفتها وهى متمددة فوق سريرها والحقيقة العاصفة والزلزال يشرخ الأرض من تحتها , ويجعل نفسها المتأججة تتهاوى وأحلامها تتوارى وتتحول فى عينيها إلى خنوع واستسلام لما أملاه عليها نصيبها وقدرها ، وهذا ما هتك فيها كل سعادة وحلاوة .
******-******-******
العودة
ظن الناس أن عادل فر من العراق مثل من فروا ؛ لأنها لم تعد مكاناً صالحاً للعمل , وكان ضرباً من الخيال حينما رجع رغم أنه لم يكمل أربعة أشهر أن يستدعى عادل بعض لحظات من الراحة فقد جاءت الناس أسراباً تسلم عليه وتخفى رغبتها فى الحصول على هداياه فشغلت أهل البيت عن حزنهم على علىَ الذى اعتقلته أجهزة الأمن هو وشعبان فى ليلة فرح غالب وأزاحت عنهم بعض أحزانهم .
شعور كبير بالسعادة استقر فى قلب الحاج عبد السلام حين أخذ يقلب فى الحاجات والهدايا ويبسطها للناس مزهواً بنجاح ابنه وتفوقه على أقرانه وبهداياه التى تقر العيون رغم الحرب والدمار الذى يجرى بالعراق ، وابتسامة فى الناحية الأخرى رسمت على وجه عادل كذلك لم يطفئها إلا وجود ابن عمه فى السجن , وذلك القلق الذى تجلى له بعد ما رأى كيف كان حزن أمه وكيف كانت تعانى فى سفره ، ثم راح فى تفكير عميق فى مروة وأخذت محبوبته العراقيه تتأرجح به هنا وهناك فإن حبه لها أرسخ من أن يتبخر من فوق صفحة قلبه ولكنه قال إنه من قبيل العبث أن يخدع نفسه ويترك زوجته وكذلك ابنه الذى كبر وبدأ يتردد إلى المسجد مع خاله علىَ ، وغاص فى تفكيره ثم تنبه أن أهله بدأوا يلتفون حول موقد الفحم وجذوع الأشجارالتى يشعلونها لتدفئة أبدانهم .
وضعت أمه براد الشاى فوق الموقد وقالت :
- لأول مرة نقعد كدا مع بعض من يوم ماسافرت
فقبل يدها وجلس على الأرض بجوارها فقالت له :
- أقوم أعمل لك براد شاى جبت ماءه من النيل بنفسى
كان عادل يحب كوب الشاى الذى تصنعه أمه من ماء النيل وفوق موقد الفحم بالذات , ويقول إن له طعماً جميلاً وغريباً .
وجلس والده رغم مرضه وتوغل المرض فى عروقه منذ اعتقال علىّ مستنداً على حافة كرسية والابتسامة لم تفارق محياه لترسم السعادة صورتها على وجهه , بينما عادل يصور لهم حياته فى العراق ويسبح بهم بلا نهاية فى حياة بغداد وأهلها ، وتقاليدهم وطريقة كلامهم حتى خلب خيالهم وأنساهم ما ترامى إلى أسماعهم من حديث الحرب وصناديق الموتى , وبين الحكايات التى كانت تطوف بين الجالسين كانت عينا زبيده زائغتين تنهلان من عادل ولم تفارقاه وكأنهما سكنتا بعيداً عن جفنيهما ولمع وجهها جمالاً وتسلل مثل القط المغامر إليه ، وقد ألهمت الجلسة عادل بعضاً من الكلمات يملأ بها مساحة الفراغ بين صمت الجالسين يلقيها إلى ابنه وزوجته والتى بدت فى أحلى حالاتها .. فوق جبينها حمرة الخجل وابتسامة هادئة رزينة استقطبت عينى زوجها فى لحظات سريعة تلقاها بإحساس مفعم بالاحترام والود لرفيقة الطفولة وابنة العم ولكن وجهه كان مثل عصفور يشوى على صفيح ساخن تطارده مروه بعينيها الواسعتين وضحكاتها المتشابكة التى ملكت عليه جوانحه .
وبالمسبحة التى لاتفارق أصابعه وجبينه المكدود بصفرة المرض اللامع بين خطوط وجهه قال الحاج عبد السلام لعادل :
- يابنى أنا قربت خطوات عمرى من النهاية والحمد لله انك رجعت ورأيتك بعدما فقدت الأمل فى رجوعك .
قال له عادل :
- الله يعطيك طول العمر ياحاج ، أنت بتتوهم دايماً المرض وأنا شايف صحتك زى الجمل وصدرك مليان بالشباب والقوة .
- آه ياعادل ياابنى زمان الشباب والقوة ولى والخير فيك أنت وأخوك كامل وبن عمك .
قالت أم عادل :
- ليه تقول الكلام دا ياحاج ومقام الشيخ عباده البيت من غيرك مايساوى شيئ
وقالت زبيده :
- إن شاء الله أعداءك
فرمى الحاج بصره إلى عادل وقال :
- إخوتك وأولاد عمك فى رقبتك ياعادل ، وأذكرك بعلى يابنى فأنا ماعاد لى قوة على الوقوف قدام أعماله ، فالجماعات سرقوه
- مين ؟!! مين اللى سرقوه ؟
- أقصد ضموه معهم فى الجماعات الإسلاميه .
- وهل إحنا مش مسلمين ؟
- أنا صراحة ياابنى مش شايف فيهم حاجة غلط ، لكن المشكلة في اللى عملوه فى فرح غالب ، فعلى أيامنا ماكنا نسمع بكدا .
ومضى الحاج عبد السلام يحدث عادل عما يجرى فى القرية فبدا على أمام عادل كشبح يقلق مضجعه ودمه الذى فى الشرايين أوقظ فى قلبه العاطفة فقال لأبيه :
- هو بيخرج الظفر من اللحم ياجماعة ؟! ليه تركتوه ؟
- دا هو اللى تركنا ، فروح ليه أنت وكامل فى السجن وأوضعوا حل معاه .
******-******-******
كان الطقس يؤكد أن الشمس فى هذا اليوم ستغيب بين السحب المكدسة وأن البرد سيلعب بالأبدان وبرغم ذلك عادل وكامل كانا أمام سجن مزرعة طره منذ منتصف الليل .
أكوام من الناس واقفةً أمام السجن وعلى وجوههم تقاطيع الحزن وبؤس الحياة .. فى أيديهم تصاريح الزيارة يلوحون بها للحراس , وعلى الناحية الأخرى تحت سقف الاستراحة الخاصة بالسجن يجلس أهالى المساجين السياسيين يسجلون أسماءهم ويدخلون مسرعين من بوابة السجن العريض بدون تصاريح بعد الساعة الثامنة صباحاً .
بوابة السجن صلبة جافة وعتيقة تستنشق منها رائحة السنين التى تأكل العمر ، بعد البوابة ممر طويل وجدران حجريه تقبض الروح وتبدد كل الآمال فى استرجاع سنوات العمر الضائع ، الصخور والشقوق البادية فيها كأن حواياها أشباح المذابح القديمة ، فقد تم بناء السجن منذ عهد الاحتلال الانجليزى ومازال يطاول الزمن إلى الآن .
حينما تتخطى المعبر والممر الطويل الضيق يتم تفتيشك جيداً ولكن عادل وكامل مرا بسلام ، فالأوامر ألا يتم تفتيش أهالى المساجين السياسيين .
فى قاع السجن عالم غريب وحياة أخرى ، قفز أمامهم هذا العالم من المسجونين ولما رآهم كامل قال :
- نصف الشعب خارج البوابة ونصفهم وراءها ياربى !!
واندس عادل بين المسجونين يبحث عن على وهو يقول :
- كل دول سنيين .
وبرغم ما كان فى قلبه من إحساس مكبوت وصمت مروع فقد قابل علىّ بحرارة وابتسامات ضاحكة .
لم يبد على على أى أثر للسجن ، بل أيام السجن زودته بالثقة والخبرة .. لقد وجد شيئاً كان يبحث عنه ، الحياة الاسلامية الفاضلة حيث الإفطار الجماعى الذى يتوجهون بعده إلى حلقات القرآن والدروس العلمية طوال النهار الذى يتخلله برنامج رياضى وتثقيفى ، وفى الليل الذى يستمتعون فيه ببرنامج ترفيهى يوزع عليهم جدول للمحاسبة على الطاعات وأذكار الصباح والمساء وأوراد الحفظ وقيام الليل
قال لهما على :
- والله أنى أتمنى ألا أخرج من السجن ، الحياة هنا جميلة جداً وهى تؤكد أننا على حق ، وإذا وصلنا الى الحكم سنحول حياة المصريين إلى حياة يظللها الإيمان بالله والعمل الصالح .
قال له كامل :
- السجن سجن يابن عمى مهما كان .
فقال له :
- لولا أنى على الحق ما دخلت السجن فالابتلاء هو طريق الأنبياء والصالحين .
فأشار له كامل الى المسجونين الجنائيين الذين يقومون بالخدمة والأشغال وقال :
- ودول برضه على الحق ؟!
فانفرجت شفتاه وقال لهما :
- أنا سجنت من أجل غاية سامية " أن أقيموا الدين " أما هؤلاء يريدون أن يبعثوا من جديد .
فقال له عادل والغيظ المكتوم قد ظهر على وجهه :
- أنت بتردد الكلام اللى حفظوه لك ، وأنا مكنتش أتصور إنى ارجع فألقاك تسلك طريق الجماعات ، بص وشوف عمك العجوز واختك زبيده وابعثهم فهم يحتاجون لك .
وكز كامل عادل يريد أن يسكته ، فأشارله عادل بيديه وقال :
- سيبنى أنصحه وأكلمه .
فقال له كامل :
- انتظر ياعادل ، أنا عاوزك تنظر للناحية اللى هناك .
ففى الممر الضيق أمام البوابة كانت الأناشيد الإسلامية والهتافات المرتفعة تزلزل السجن فى حلقة دائرية كبيرة
لمح عادل شعبان فقال :
- إيه دا ياعلى ، وليه الهتافات , وقل لى موش دا شعبان ؟ !!
قال :
- نعم ..هذا أخ قد أخذ إفراجاً يعنى بعد شهرين كما تعلمون والأخوة يحتفلون به
- وإيه الداعى للهتافات وشتم الحكومة .. أنتم موش خايفين وأنتم فى السجن ؟!
فضحك على وقال :
- الحكومة ضعيفه يابن عمى وبعد سنوات ستضح لكم الصورة حين نقدم مشروعنا الاسلامى .
فصرخ كامل :
- من يقدر يقف قدام الحكومة ؟ من يقدر يقف قدام الداخلية يابن عمى ؟!
وانفتقت حجرة الزيارة عن شعبان الذى دخل عليهم قائلاً :
- نحن ياكامل سنقف للحكومة ؛ لأننا نريد تطبيق الشريعة .
فقال عادل :
- ومين قال إنها غير مطبقة ؟!
فقال له على :
- ولو فهو انحراف عن التطبيق المثالى .
وانتحى شعبان بالكلام بعيداً وقال :
- ماأخبار البلد ؟
قال كامل :
- أهل البلد يسلمون عليكم ، وأهلكم محتاجين لكم .
- سلامنا إلى أهل البلد ، وقولوا لهم أيام قليلة وأنا وعلى سنكون فى البلد وقولوا لهم نحن هنا بخير كما ترون ، فنحن الذين نشرف على خدماتنا بأنفسنا والجنائيون يخدموننا .
فقال عادل :
- إذن الحكومة تسمح لكم وتعطيكم كامل حقوقكم
قال شعبان :
- طبعاً ونحن سنمتحن هنا إمتحان آخر العام وهذا ليس بإرادة الذين سجنونا فنحن قوة لا يستهان بها ، ألم يخبركم علىَ عن وضعنا فى السجن وعن الطعام الذى نأكله والبرنامج الذى نسير عليه .
تمتم عادل بكلمات لم يسمعها شعبان ولا على جيدً قال :
- مساكين أنتم بتنشدوا الحرية وأنتم مقيدين , وغرباء عاوزين الإسلام وأنتم فى غربة عنه ، الناس ياأقربائى لا يساقون للجنة بالعصا .. إمتى تفهموا كدا ؟!
******-******-******
شادية _ زبيدة
وبعد أن انتهى امتحان مادة الجغرافيا آخر العام الدراسى همت شادية بالعودة الى البلد مسرعة وتركت سامى يمشى وراءها ويحاول اللحاق بها ، فلما اقترب منها لم تتكلم معه كلمة واحدة فقال لها :
- ليه تغيرت معاملتك معى فجأة ياشاديه ؟!
فارتعشت شفتاها وهى تطرق رأسها وتسير بخطوات متعجلة حتى ركبت المركب عائدة ولم تشأ أن ترد عليه فقعد بجوارها وقال :
- ليه تعملى معايا كدا ؟! ليه تبددي كل اللى فى قلوبنا من حب وأمل واللى نسجناه من أحلام ؟!
قالت له :
- سامى .. الناس حوالينا وياسين آخر المركب عيونه مولعه نار .
- إيه اللى عملته غلط ميرضيش الناس ؟!
- سامى .. كفايه ياسامى لازم نصحى ، إحنا موش لسه أطفال بنجرى فوق الجسر , ونلعب بين الحقول والكل يبص علينا بعينه وبسماته وضحكاته ولكن خلاص كبرنا وكبر مابينَا وإن مشينا ضد التيار هاترمينا الشيخ عباده كلها بالهلاك وانت تعرف القرية وما يجرى فيها .. وإن مكنتش خايف على نفسك خف علىَ أنا وعلى أهلى إن كنت تحبنى .
- أنت عارفه قد إيه أحبك ياشاديه ولكن أنا بدأت أشك فى حبك لى .
- أنا أحبك أكتر من نفسى ولكن دى هى الحقيقة ، حقيقة الأيام والزمن اللى خدعنا .
كانت شادية تتكلم وشبح كلماتها ممزوجاً بالألم فرد عليها قائلاً :
- أنا طول عمرى ماشعرت أن بينى وبينك سدود ؛ لأننا إحنا اللى بنصنع السدود ونبنيها بأيدينا وبحبنا نقدر على هدمها ونقدر نخلى حبنا يستمر
- لأنك مازلت فى غيبوبة !!
سامى برقة وضعف :
- شادية ... ليه تهربين من نفسك ومن الحب اللى فى قلبك ؟
- أنا ياسامى أعود لنفسى لأنى بحثت عن حل تانى ومالقيت .
فقال لها :
- هنكون حمقى إن هربنا من بعضنا وقلوبنا مليانه حب
فقالت له :
- بل هنكون مساكين إن دمرنا حياتنا بالشكل دا .
وبعينها حدقت فى الشراع الذى كان يرفرف ممتلئا بالهواء وبعد صمت ووجوم قالت :
- ساعدنى ياسامى علشان أساعدك ..أنا أختك ..
وسكتت برهة وقالت بتردد واضح :
- أنت مش مسلم وأنا مش مسيحية .
فقال لها متأثراً بتلك الحقيقة :
- هل معقول أدفن حبى بيدى ؟! هل يمكن أدفن نفسى ؟! وهل الدين يأمر بقتل النفس ؟!
فقالت له :
- هيبقى حبنا طول العمر زى مابتقول ولكن اوعى تفجعنى أنا خايفة عليك .. التقاليد والدين والعادات موش هنقدر أنا وأنت نتعداها
فقال لها بصوت هامس مبحوح :
- انت دبحتينى بكلامك .. إيه جريمتى وجريمتك ؟ إيه جريمة قلوبنا ؟ هل الدين هو جريمتنا لأنى أنا وأنت وجدنا آباءنا وأمهاتنا على دين فنشأنا عليه .
فقالت له :
- لا .. اسكت ياسامى أرجوك .. الدين مش جريمة بل جريمتى أنا وأنت إننا تخطينا حدود حبنا فكل شىء فى الحياة له حدود حتى الحب .
قالت له ذلك ولم تعرف من أين جاءت بهذه المعانى وأكملت له قائلة :
- قل لى لو أحبت مارى محمود هل توافق على زواجها منه ؟ ليه سكت ياسامى ؟
فقال لها :
- أنا موش مصدق إن شاديه هى اللى بتتكلم !!
- إنت هتكون منى بمنزلة الأخ بل كل شىء ولكن مش حاجه تانى .
قالت ذلك وكانت تريد أن تصرخ ولكنها تماسكت كأنها الطائر الذبيح الذى يترنح لكى يحيا من جديد وأطرقت مذهولةً خائفةً حينما رأت ياسين أحد أتباع شعبان وبيده مطواة حادة وضعها فى رقبة سامى وهو يقول له:
- هذه آخر مرة أراك تكلم فيها واحدة مسلمة بل أى امرأة فى القرية وإلا فلن يجد لك أحد جثة بعد ذلك .
******-******-******
لم تمثل زبيدة سوى شهوة يستمتع بها زوجها على أكمل وجه وحين ينفرد بها يبقى بلا عاطفة ولا حب ولا مشاعر ، همه وكيانه مشغول فى شهوته فيحتضنها فتذوب بين يديه وبعد لحظات تتحسس ملابسها فلا تجدها وهو مثل وحش يعبث بشعرها وينهش ضلوعها ويلتقم شفتيها فتصرخ من شدة الألم وفرط النشوة ، وبعد أن يبردا معا يعود عادل إلى سابق عهده معها إنساناً خاملاً بلا مشاعر ولا عاطفة بل ويتعدى ذلك الى افتعال المشاكل معها فلا يمر يوم إلا واقتحمت آذان أهله تلك المعارك الحامية ، فبعد عودته من بغداد انقشعت حلاوة الرجوع وابت صورة مروة أن تنزاح من خياله بل ازدادت لمعاناً وبريقاً وبين اللحظات كان يقلب فى شنطة سفره وما تحويه من بعض متعلقاتها ، كصورتها التى لا يبرح مكانا إلا وهى فى جيبه ... هذه الأشياء كانت تغمره ببعض عطرها وذكرياتها بعد أن مر شهر وهو قابع فى الشيخ عبادة يحس بضياع الواقع والحلم الذى كان شامخاً كطموحه فساءت أخلاقه وازداد ضيقه من كل شىء .. كان يقول لنفسه ياريتنى أكملت تعليمى زى ماتمنيت أوتزوجت زى ما أردت ولكن آدى عادل مسلسل بين إيدين زبيده ومسجون فى الشيخ عبادة .
فى لحظات الهم المطبق يمكن أن يجهش عادل بالبكاء أويكتم حزنه فى ضلوعه حتى استحال شخصاً آخر فى أيام معدودة .. أصبح جسده كالثوب البالى بلا روح ولا نبض فالحزن الذى لاصوت له قاتل .
دست زبيده يدها فى الشنطة وحاولت أن تستكشف محتوياتها فرآها عادل وكاد أن يفترسها وأخذ يلطمها لولا صعود أمه وأخيه لأصابها بمكروه ، فلم تكن هى الإنسانة التى تدرك من أول وهلة ما اعترى زوجها ، وما تمثل له هذه الحقيبة ، وانصرف عادل لا يلوى على شىء بينما أمه تقول لزبيده التى كانت تزخ دموعها :
- إيه اللى جرى يابنتى مالك ؟ موش عارفه تكسبى زوجك ؟
- فعلت معه كل الأفاعيل ولكنه تغير ياأمى وأنا اليوم ما فعلت شيء غير إنى فتحت الشنطة ارتبها له فعمل اللى عمله ، والله لولا ابنى أحمد لسبت له البيت ومشيت .
- والله أنا أعرفك يازبيده ، الكلام دا موش من قلبك .
- لا من قلبى .
- اصبرى يازبيده .. زوجك معمول له سحر ومقام الشيخ أنا أعرف كل شىء ، دا موش عادل ابنى اللى أعرفه وأنا موش هسكت وهدور على المشايخ أبحث له عن دوا وعلاج .
ومشت هى وكامل وتركاها لدموعها وهبطا درجات السلم وفى الدور السفلى , قالت أم عادل لكامل :
- كلم أخوك ياولدى .
- أنتم جميعاً مسئولون عن المأساة دى .. أنتم جميعاً مشتركون فى الجريمة .
- وسميتها جريمة ياكامل .
- أيوه ، مين قال إن عادل يناسب زبيده وإنها تناسبه .
- الموضوع انتهى ياولدى وابنهم قرب من سن الزواج ومفيش فايدة .
وأردفت أمه تقول له :
- موش هينفع نزوجها لك ياكامل .. خلاص انساها ياولدى !!
******-******-******
جففت زبيده دموعها ولم تيأس كعادتها وصعدت إليه وهو يجلس فوق سطح المنزل .. بخطوات متآلقة ومتآلفة اقتربت منه وسلمته خطاباً قد وصل للتو وقالت له :
- أرجوك ياحبيبى انس همومك ولاتغضبش منى ، وثق إن رضاك عندى خير من الدنيا وما فيها .
جاوبها بنظراته ولم يرد عليها فقالت له :
- قل لى ياحبيبى بق وخبرنى اللى فى الجواب ؟
فقال لها :
- كلامك الناعم علشان تعرفى مافى الجواب يبقى موش هقولك
- يمكن فيه أخبار تسعدنى .
- مهما تحاولى موش هخبرك بالطبع لأنى ماأحب أى إنسان يتدخل فى خصوصياتى .
- حتى أنا ؟!
- حتى أنت .
- دا أنا زوجتك ياعادل ؟!
- زوجتى فى حجرة النوم ، أما ما يخص حياتى خارج البيت فلا
طأطأت رأسها ودمعتان بدأتا تعبران فوق خديها الموردين وقالت :
- دى مهمتى بس ياعادل إنى أكون عروسة مولد أزين غرفة نومك وأقوم بدورى ياعادل ، وفى الصباح تخرج وماتعود إلا فى آخر النهار لتلقى عروسة المولد فى مكانها .
- أى شىء تطلبين منى أكتر مما أخذتيه ؟ بتطلبي منى أقعد قدامك زى الطفل يحكى لك عن كل شىء ؟
- وليه لا ؟ ليه مانكون شيئ واحد ؟
- بتقولي إيه يازبيده ؟! أنا طفل ؟!
بعد غضب شديد حاول أن يهدىء نفسه قائلاً لها :
- أرجوك سيبينى ولما ترتاح نفسى هحكى لك .
- لما ترتاح نفسك .. حاضر ياعادل همشى وهسيبك مع رسالتك وتأكد إنك موش هتشوفنى إلا لما ترتاح نفسك .
أغرورقت عيناها بالدموع واختنقت نبراتها على حال زوجها الذى ينام بجوارها تحت غطاء وأحد ولكن ما بينهما كما بين السماء والارض ؛ فمنذ زواجهما وهى تتحمل منه الأهوال وتتحمل أحواله المتقلبة والتقلب الذى يداخله فى كل شىء والحزن الثقيل الذى يرقد على قلبه والذى لا تعرف له سبباً ولا تدرى له علاجاً ، وها هى حالته ازدادت سوءاً منذ عاد من العراق ، ولكن رغم كل ما يعتريها من أفعاله فهى تحبه وتعشقه وتتحمل فى سبيل رضاه كل شىء .
رمقها عادل بعينيه وهى تهبط درجات السلم وقال لنفسه
" إذا كان الزواج كده فهو عذاب عظيم مايطاق "
ولت عنه لحظة الكدر وتذكر رسالته ففتحها وأوغل فى سطورها .
" عادل .. لا أعرف من أين أبدأ رسالتى ، ولكنى استرجع عقارب الزمن كى استعيدك معى فى كل لحظة ، ان حبك يتسلل فى دمائى ، يتكلم فأسمعه وينادينى ويشاركنى الفكر والطعام والحلم ، .. عادل .. لقد كان من الصعب أن نفترق ولكن الأصعب أن يطول الفراق "
راح عادل فى تفكير عميق ، كيف إذن يعود الى محبوبته العراقية .. لاحت له فى الأفق لوحتها التى كانت ترسم فيها الوجه والقناعين ، وأدرك أنه قد تعطلت قواه وتقاطرت عليه ظلال الكآبة والوحشة وأصبح موزعاً بين الشيخ عبادة وبغداد ، هو هنا وقلبه هناك ، واستوعبته تلك اللحظة الفارقة فى حياته ، كيف يعود إلى مروة وكيف يترك ابنه الذى كبر وترعرع وهو بعيد عنه وباح له الرأى فى أن يكاشف أهله برأيه فى العودة مجرداً من الرجاء والتمنى ويؤكد ذلك فى كل أحاديثه حتى يجعلها حقيقة لا تقبل مراجعة , كما أنه يمكن أن يقنعهم ويستخدم فى ذلك سلاح نجاحه وظفره فى السفر وآماله , وهو يعلم أن أباه ضعيف أمام سلاح الآمال لأنه يعلم أن مرضه وفقره هو الذى أفقد ابنه إكمال تعليمه على الوجه الذى يرضيه. راح تفكيره يتأرجح به هنا وهناك فقال المصيبة هو ابنى أحمد إزاى أسيبه هنا فريسة لعلى اللى سيطر علي مخه وخده معه لجامع السنيه ودا بسبب زبيده اللى موش بتهتم بتربية ابنها ، ولكنها معذورة .. أيوه معذورة ، ولكن هل اسكت لغاية ماأشوف ابنى يدخل السجن زى ابن عمى ، لازم أتصرف
بوجه صارم تمددت عليه الخشونة قال :
- لازم أكلم زبيده وأحذرها إنها تخليه يمشى مع على .
انعكست على صفحة قلبه الشفقه عليها , قال :
- كان ممكن تخلى الولد يروح للشيخ عبادة ويصلى هناك دا هو أكبر جامع فى البلد ؟
وانفرجت أساريره وتذكر كيف كان يلعب هو وزبيدة وكامل ومحمود ابن العمده عند ضريح الشيخ ونزل إليها وابتسامته مفروشة على وجهه .
******-******-******
رسالة وتقرير
اختنق الجسر بجموع المهنئين الفرحين والتف أتباع الجماعة حول شيخيهما الشابين حين سرت الأنباء بعودتهما من الإعتقال على التو , ومرت ساعة بعد صلاة الظهر وكانت فترة كافية جعلت أيام السجن فتحاً ونصراً جديداُ للجماعة ودعوتها فقد تحولت حلقات المهنئين إلى جلسات تذكرة ومواعظ عن المجتمع الإسلامى الموجود بالسجون ومشايخ المعتقلين الذين يفيضون علماً وورعاً , وبرغم ذلك وضعوا فى السجون من أجل الشريعة الغائبة .
كانت كل هذه المواعظ فى مسجد الفاروق الذى توجها إليه على الفور بمجرد عودتهما ، ولم تمنع الجموع الموجودة في المسجد أن يدس أحد الرفاق فى يد شعبان ورقةً نظر إليها وسرت فى وجهه نظرة امتعاض وغضب ولكنه تمالك نفسه حتى خفت جموع المهنئين التى تلاحقه هو وصاحبه وقال لياسين :
- كيف يحدث ذلك فى القريه التى أنا أمير عليها ، ماذا أقول لمشايخ الجماعة فى المركز ؟!
ثم ناول الورقه لعلى وقال له :
- حاول أن تفلت من كامل بأى صورة فالجماعة تحتاجك
قال على :
- أهلى ينتظروننى ، والواجب أن نستريح قليلا ونغير ملابسنا ولا تنس كذلك أن عندنا فى الصباح إمتحان المادة الأخيرة
رد شعبان قائلاً وهو ينظر إلى إتباعه كأنه يوجه الحديث إليهم :
- ياشيخ على حينما سئل الإمام أحمد متى يستريح العبد ؟ قال عند أول خطوة يخطوها فى الجنة .
تململ على ضيقاً , قال :
- وما هذه الورقة ؟!
- اقرأها بنفسك فالأمر خطير .
كانت الورقه عبارة عن تقرير حول علاقة شادية بسامى ابن غريان وعن شباب النادى الذين بدأوا ينافسون الجماعة فجأةً فى عددهم وأنشتطتهم ، فبعد أيام من إعتقال على وشعبان فوجئت القرية بالعمال وهم يرصفون الجسر ويصلحون أرض الجبالى التى كانت تفور بالماء لتصبح نادياً رياضياً تقام عليه المباريات وقبل خروجهما بأيام معدودة حدثت مشكلة فى دورة رياضية بين فريقين فلم يكن شباب النادى بقادرين أن يتقيأوا أخلاق الماضى القريب برغم أنهم بدأوا يتسربلون بلباس أهل التدين كى ينافسوا شباب الجماعة وجاء أسامه بك الريدى فى اليوم التالى واجتمع بنفسه بالشباب وعلى وجهه إمارات الغضب مما جرى .. يقول التقرير أنه قال لهم :
- الأمن أخذ لكم من وزارة الشباب والرياضة ستين ألف جنيه علشان تمارسوا أنشتطكم الرياضية وتواجهوا الفئة الضالة من المتطرفين وعلشان لا تقعوا فى شباكهم ولايقع فى شباكهم أى شاب لا أن تقوموا بعمل المشاكل فيما بينكم ، وأنا لن أسمح بحدوث مشكلة أخرى .
ويؤكد التقرير أن أحد الحاضرين الاجتماع مع الريدى تطوع بإبلاغ الجماعة أن أمن الدولة تقف وراء محمود ابن العمدة وزملائه فى النادى ؛ كى ينافسوا الجماعة حتى أنهم فى الأيام القليلة المقبلة سيحضرون الشيخ بهاء الصناديقى أحد قادة جماعة الإخوان المسلمين المنافس الرئيسى للجماعة وهم الآن يقومون بعمل الملصقات والإعلانات ويدعون جموع القرية الحاشدة لحضور لقائهم .
كان هذا هو التقرير الذى صدقه شعبان بسهولة وبعد أن قرأه على قال له شعبان :
- ألم أقل لك إن الأمر خطير ؟
قال على :
- أنا أرى أن الموضوع عادى ، شادية أنا تربيت معها وأعرف أخلاقها جيداً هى وسامى فهم جيراننا ، وهى لا تعدو كونها علاقة جيره فهما قد تربيا معاً منذ الصغر ، وأما عن محمود وزملائه فلندعهم ولنترك كل يعمل على شاكلته بل ونساعدهم فى الدعوة إلى الله .
قال له شعبان ساخراً :
- أنت براحتك ياصاحبى ، أذهب انت الآن واسترح , أما أنا فلن أدع هذه الفرصة تفلت من يدى فما يحدث بين سامى شادية هو أمر يجعل العمدة يخضع لحسابنا وينصاع لما نفعله بعد ذلك بغض النظر أن مايحدث هو جريمة ومنكر كبير لذا فأنا سأذهب مع الأخ ياسين والأخ حربى إليه الآن .
******-******-******
ماإن تجاوز شعبان بيت العمدة إلا وانهالت على وجه شادية اللطمات ولم تشفع دموعها الحارقة أو توسلاتها أن تكف يد أخيها محمود عنها بعد أن خلى أبوها بينها وبينه هذه المرة .
دفعها محمود بيده فتمرغت فى أرض الحجرة وصدرها متلاطم الأنفاس وهى تقول :
- أنا معملتش أى شىء غلط
قال محمود :
- أنت تستحقين القتل أنت خليتى راسنا فى الوحل .
فقالت بصوت لا يخلو من انكسار :
- طول عمرنا بيوتنا واحدة وسامى مكنش غريب عنا وأنا ماشعرت إن بينا وبينهم أى فرق ، وإن كانوا مقاطعين فالحاجة موش مقاطعه سامى وإخوته البنات .
قال أبوها :
- حتى خرج فى البلد اللى يحاسبونا على كل شىء .
فقالت له :
- أنا مرتكبتش أى جريمة ، سامى إنسان مؤدب وأنت بتقول عنه كدا
فقالت أمها التى كانت تجلس بجوارها :
- يابنتى أنت كبرت ، أنت عاوزه تفضحينا على آخر الزمن وتخلى راسنا فى التراب ؟
احتد العمدة قائلاً :
- الأقزام اللى خرجوا فى البلد بيهدودنى ويتسلطون على ، أنت عارفه إيه قالوا ؟ .. إن مامنعت بنتك من المشى مع المسيحيين هنمنعها احنا
قالت ودموعها تنهمر بغزارة :
- أحب على راسك سيبنى أكمل إمتحان اَخر السنة ومتصدقش الجماعات الإسلامية الكدابة ، إنا بكرههم من كل قلبى
محمود :
- هم شوية مجرمين ميفهموش ولكن الجماعه دول الكذب عندهم حرام .
قالت أمها :
- وبعدين ابن عمك ناصر موش هينتظرك لغاية ماتكملى تعليمك
- ومين قال إنى موافقة عليه ؟
فركلها محمود بقدمه فى جنبها وقال :
- سيبنى ياحضرة العمدة اقتلها بنفسى فأنا موش قادر أطيق اللى بتعمله أو اتحمل اللى بتقوله .
فقال العمدة :
- انتظر يامحمود ياإبنى أنتظر
ثم توجه لها وقال :
- اسمعى يابنتى .. ناصر ابن عمك تقدم لخطبتك وأنا وافقت
قالت وعيناها تبوحان بالتحدى :
- أنا هتزوج اللى أرضى عنه بس .
قالت أمها :
- والنبى جاى من العراق ومعاه شنط فلوس وملابس ياعبيطة
ازدادت عناداً وقالت :
- الجاهل الغبى !!
قال أبوها بغضب شديد :
- اخرسى .. خلاص الدلع ماجاب نتيجة لى غير فضيحتى مع السنيه اللى لهم ألف لسان ويقدروا يخطبوا الجمعه علىّ يابنت الكلب ، واللى حصل فى فرح غالب أكبر دليل .
- العمده مابيخاف من أى واحد .. وأنت وعدتنى أكمّل تعليمى ؟
- ولكن مصلحتى ومصلحتك فى بقائك فى البيت .
- أنا موش أقل من مارى ومادلين
- دول لهم نظامهم ولنا نظامنا
- كنتم تقولون إن إحنا وهم شىء واحد فإيه اللى غيركم ؟!
- الزمن تغير .
احترقت شادية من البكاء وقالت :
- منهم لله الجماعات أصحاب الدقون منهم لله
ونظر العمدة لابنه محمود وهو واقف ووحش الغضب يرتسم فى ملامحه وقاله له :
- اقعد ياابنى
قال له محمود :
- والله مقعد إلا لما تقول لى كيف هنتصرف مع سامى بن غريان وخلى بالك إن ماوجدت حل أنا هتصرف وأخليه يرقد فى قبر النصارى الضيق
******-******-******
فى مفاجأة لأهله الذين تجمعوا حول موقد الفحم وأبيه الذى بدأ يستردعافيته قال عادل :
- كنت عاوز أكلمكم فى أمر مهم .
أرهفت الآذان سمعها والتفتت عيون الجالسين إليه وهو يتكلم وقلق واضح بدا على عينيه اللتين طرقتا إلى قاع الغرفة
قال أبوه :
- خير إن شاء الله .
- أجازتى طالت هنا وحان الميعاد لرجوعى لعملى فى العراق
- بتقول إيه يابنى .. قول لى تانى .
- مللت الحياة هنا
- مللت زوجتك وابنك ؟
- هرجع لهم حتماً .. هرجع لهم حتماً .. أنت بتشك فى كدا ؟
والتفت إلى أهله وقال :
- إياكم تشكم كلكم فى كدا ، ولكنى موش عاوز أسيب مكانى فى الشركة اللى أعمل بها .
قالت له أمه بصوت لا يخلو من حزن :
- أنت عاوز تقتلنى يابنى وتقتل المسكينة زوجتك .
وأشارت إلى زبيدة وقالت :
- خايف على مكانك فى الشركة ومابتخاف إنك تسيب مكانك جنب زوجتك وابنك
كامل كان يقدم كوباً من الشاى لوالده فقال له عادل :
- قل لهم يا كامل إنى مقدرش أبقى هنا .
فرد عليه أخوه :
- عاوزنى اقول لك سافر واترك بنت عمك وابنك علشان حفنة فلوس وياريت فيه فلوس هناك .. خلاص ياعادل العراق خربت
انفجرت زبيده قائلة :
- إحنا موش عاوزين فلوس العراق ، كفايه بنينا البيت وبقى حالنا على ما يرام .. ليه تتشرد بعيد عنا.. ارحم ابنك ياعادل وارحمنى
وتهاوت فى صمت مشحون بالحزن واستسلمت للبكاء
عادل أشاح بوجه عن زوجته وابنه خوفا أن تنفجر الشفقه فى قلبه ، كبرياؤه يخفى وراءه ضعفاً بائناً لابنه أحمد الذى قعد بجواره لا صوت له ولا حركة ينتظر ما يسفر عنه الكلام .
لم تسكت زبيدة .. حاولت بكلامها أن تحفر فى ضلوعه وقلبه ما يقعده عن السفر .
استدار ناحيتها قائلاً :
- هعود فى أقرب وقت يازبيده .
قالت له :
- قلت لى إنك موش مسافر .
- وغيرت رأيى علشان مصلحة أحمد ومصلحتك .
فحملق والده فيه وكان يفرك قليلاً من التبغ يلف به سيجارة وقال له :
- اسمع ياابنى أنت كبرت وبقيت عريض الأكتاف تملأ القرية بطولك وعرضك وتقدر تخالفنى فى رأيى وأنا كبرت ففكر فى زوجتك وابنك اللى هيتيتم وانت على قيد الحياة وفكر فى أمك اللى وهن عظمها .
ثم احتد وقال :
وكمان ابن عمك اللى أبتلاه ربنا بالسجون والمعتقلات
- لوتعرفون ياوالدى حياة العراق لقررتم إنكم تروحوا معى ولكنى خايف أقول لكم كدا .
فصرخ أخوه قائلاً :
- هل حصل حاجة فى عقلك ياعادل ؟
- بل الجنون هو إننا نبقى فى القرية ونعيش الحياة دى
فربتت أمه على كتفيه شفقةً وقالت :
- ومقام الشيخ ابنى معمول له سحر .
فى هذه الأثناء وجد عادل فى نفسه الجرأة أن يقول :
- يبقى سيبونى آخد زوجتى وابنى معى .
قال أبوه :
- إيه اللى بتقوله يابن الكلب ؟! أنت عاوز تفضحنى على آخر الزمن وتخلى الناس يقولوا إن ابن عبد السلام أخد زوجته يشغلها فى كوليات العراق وأماكن دعاراتها .
******-******-******
معارك الجماعة
بالقرب من ترعة الساحلية فى أراضى الحاجة مريانه وهو يسير بين أسراب النخيل وحقول الذرة بدت السعادة على وجه شعبان الذى انتصر فى معركتيه الأخيرتين ، الأولى على العمدة حيث اتخذ من علاقة سامى بشادية وسيلة للضغط عليه ، وفى معركته الثانية مع ابن العمدة وأصحابه فى النادى حيث أمر شعبان بعض إخوانه أن يقوموا بتقطيع الإعلانات ثم قام بعمل ندوة مضادة بالقرب من النادى ووجه مكبرات الصوت على النادى .. بعد تلك الندوة كادت تتشابك الأيادى وتسفر عن معركة تستخدم فيها الأسلحة اليدوية الخفيفة , وأصبحت القرية على فوهة بركان لولا تدخل العقلاء فى وساطة بين الفريقين أسفرت عن منع ندوات الشيخ بهاء الصناديقى .
أذهب على تلك النشوة من وجه صاحبه وهو يسير بجواره قائلاً :
- ألا ترى أننا نستنزف جهودنا فى مشاكل جانبية ومعارك لا تقدم ولا تؤخر ، بل هى عويل وصراخ يؤدى الى هزائم الفريقين ومن ثمّ الإسلام
فقال شعبان على الفور لياسين :
- أسمعت ؟!
ثم ألتفت إلى الجمع وقال :
- أسمعتم ماذا يقول الأخ على ؟!
قهقه ياسين ساخراً وقال له :
- ماذ جرى لك ياشيخ على ؟ إن الانتصار على هذه الأفكار الوليدة هو انتصار للإسلام
فقال له على :
- ياأخى الإسلام فيه حرية فكرية بل حرية كفر ألم تسمع قوله " قل هاتوا برهانكم " إنه يستنفرهم لكى يعبروا عن رأيهم .
وكأن شعبان قد طفحت فى وجهه بعض الغيوم السوداء فقال لعلى بغيظ :
- هذا كلام العلمانيين ياسيدى ، الإسلام لم يتسامح مع أى فكر شاذ .
قال على لعاصم :
- تكلم ياعاصم ورد على هذا الكلام
كان عاصم من فريق يحب على ويرى أن ما يفعله دائماً هو عين الصواب قال عاصم :
- أنتم ترون ما يفعله شباب النادى أفكاراً شاذة ونحن نرى ظاهرها طيباً ، هؤلاء مسلمون يريدون أن يدعون إلى الإسلام ، ما هى المشاكل فى ذلك؟!
توقف شعبان بالركب جميعاً عن المسير ونظر إلى على بعينين حادتين وقال :
- هه محمود يدعو إلى الإسلام .. وعاشور ياربى ماذا تقولان ؟!!
سكت برهة ثم قال :
- على العموم لن أغضبكم وسوف أتركهم ولكن بشرط ألا يدخلوا جماعة الأخوان المسلمين أو أى جماعة أخرى إلى القرية .
قال على :
- على العموم هذا حل وسط أفضل من معارك جانبية لا تفيد أحداً سوى هزائم الدين .
قلص شعبان شفتيه وعاد لغضبه مرة أخرى وقال :
- ماذا تريد ياشيخ على بالضبط ؟!
- أنا لا أريد شيئاً وأنا على السمع والطاعه ولكنى أردت أن أقول رأيي .
فقال شعبان بحده :
- لا رأى بعد سياسة الجماعة فدعك مما يدور فى دماغك وعليك أن تعمل للإسلام فى صمت
وبعد برهة هدأ شعبان ونادى عليه وقال :
- لا تنس ياعم الشيخ على عرض فيلم الفيديو اليوم .
******-******-******
استطاع محمود وعاشور أن يجدا مكاناً بصعوبة فى مسجد القرية الذى امتلأ عن آخرة بالناس الذين تدافعوا بشغف ليشاهدو فيلم فيديو عن مذبحة صابرا وشاتيلا تعرضه الجماعة الإسلامية ، العدد الغفير اضطر القائمين على هذا الأمر إلى نقل العرض لخارج المسجد .
لا يهم كثيراً أن يعرف الناس ماذا تعنى صابرا وشاتيلا وكم سنةٍ مرت على هذه المذبحة وأين موقعها على الخريطة ومن الذى ارتكبها بالقدر الذى لابد أن يعرف به الجميع المؤامرات التى تحاك بالمسلمين والتى يقوم بها اليهود والنصارى وأعوانهم من الحكام العملاء , هذا هو التوجيه الأساسى الذى أرادته الجماعة فى مدينة ملوى فأرسلت بجهاز فيديو معبأ بشريط المذبحة حتى تكسب به تعاطف الكثيرين لأن هذه صورة واقعية تستطيع أن تحرك الجماد .
رحب الأخ ربيع بالجمع الغفير واعتذر لهم بأنهم كانوا لايودوا أن يجعلونهم يشاهدوا مأساة لمسلمين ولكنهم فعلوا ذلك حتى لا يجعلوا الناس تعيش فى معزل عن إخوانهم ثم تلا حديث النبى صلى اله عليه وسلم ( من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ) واستأذن بيده شعبان أن يبدأ العرض ويترك الناس مع المذابح والأشلاء .
لم يجرح العرض نفس محمود بن العمدة بالقدر الذى جرحه هذا السبق الذى فعلته الجماعة ولم يخطر لهم على بال
قال له عاشور :
- من فين كنا هنجيب الفيديو ؟! دا حتى والدك العمدة مفيش فى بيته فيديو
- كنت هجىء به من الحاجة مريانه ولكن المشكلة فى الفيلم
- ياريت على الفيلم كان أمره سهل فأفلام الحروب مع اليهود مثل فيلم الرصاصة لا تزال فى جيبى كتيره قوى
- الرصاصة لاتزال فى جيبى !! وكتاب ربنا أنت غبى .. إحنا عاوزين مدابح ودم وجثث !!
******-******-*****
قفل شعبان راجعاً بعد عرض الفيلم وتسلل فوق الجسر وعينا الحاجة أم عادل ترمقه من كوة الباب .. لما دنا من الدار نادت عليه وشىء غريب فى صوتها يشى بأصداء حوار ساخن
سلم عليها شعبان وجمع كل وداعة فى كلامه ، وما لبث حتى جاءت زبيدة وقد تشابهت مع زوجة عمها فى السخط لما جرى لعلىّ واليأس من أحواله .
قالت أم عادل :
- موش ناويين تسيبوا على فى حاله ، فمن يوم مامشى معكم بقى لاخير يرجى منه .
- والله ياخالتى الحاجة نحن لا نأمرهم إلا بكل خير ، وعلى إنسان محترم وبار بأهله .
قالت الحاجة وقد تقدمت خطوة خارج الدار :
- كيف يكون كدا وهو لا يهتم بأرضه ولا دراسته وطول اليوم فى يده كتب الدين .. هل الدين يأمر بكدا ؟
لما سكت شعبان ولم يرد قالت له :
- ابنى إحنا خايفين على علىّ .. أنت تعرف إن علينا ثأر ، والمرأة أم كمال ممكن تعمل معه حاجة
انبجس الكلام من فم زبيده :
- كلكم مجموعه من الفشلة اللى يتاجروا بالدين من أجل مصالحهم وإحنا بس الضحية .
قال لها شعبان بهدوء غير معهود :
- أنا فى هذه السنة سأدخل الجامعه وكذلك علىّ ، وأنا أيضا بدأت أعمل بالتجارة ولست من الفاشلين ، فما قولك بعد ذلك ؟!
لم تترك زبيده لزوجة عمها فرصة فى الكلام مرة أخرى وقالت بسرعة :
- على حساب على وابنى الصغير بقيت من أصحاب المال والتجارة .. حرام عليك ياشعبان .. سيبونا فى حالنا موش كفاية اللى جرى لنا
لم يع ما تقول فقد التفت ناحية الحملة الأمنية التى باغتته حينما جاءت للقبض على علىّ فقيدته واقتادته الى إحدى سيارات الشرطة الواقفة أمام البيت ، بينما باقى الجند أخذوا يفتشون فى داخل بيت الحاج عبد السلام .
قال الضابط لشعبان .
- فين على يالا ؟
- الله أعلم .
- هناك فى المعتقل هتعرف
- أنا من أسابيع كنت فى المعتقل ولا يهمنى معتقلكم .
لما قال ذلك التفت فوجد علىّ قد تم القبض عليه من فوق الجسر
******-******-******
لم تفلح كل المحاولات فى إثناء عادل عن عزمه على السفر حتى اعتقال ابن عمه ومضى مابين بكاء أمه ورجاء زوجته واستسلام أبيه وخنوع ابنه ، وسافر وهو متمادٍ فى مطاوعة قلبه .
وصل بغداد فى أول الليل وقادته قدماه إلى بيت رشيد الذى كان على حاله منذ تركه فلقيته زوجة رشيد فحسب أن ذلك نذير شؤم له فتلقاها بوجه عابسٍ فقالت له :
- كنت أعرف إنك هترجع وتعود .. لكنك تأخرت ياغاية قلبى
أعرض عن كلامها وقال :
- فين مروه ؟
بجرأة لم يتعود عليها منها قالت له :
- مشتاق لها الدرجة ؟!
فتركها وتقدم بخطواته صوب الصالة وهو ينظر إلى صورته التى علقت على الجدار ، ولم يدر بمازن إلا وقد قفز إلى صدره فتلقاه بسعاده جارفة ومازالت عيناه تمرقان إلى داخل البيت .
قال له مازن :
- ياعم عادل ، هل بتعرف إنى كنت أوصلها لحوشك كل يوم لأجل ترسم لوحتها هناك .
قال له :
- وياترى إيه رسمت ؟
قالت سلمى :
- لما بتصعد ليها هتّخبرك .
حسبت مروة أن اباها قد رجع من عمله فنادت على مازن بصوت عال وقالت له :
- اعتذر لأبى فأنا شبعانة وماهتعشى معكم لأن مالى رغبة فى الطعام .
قال لها مازن :
- هو مو أبى فخمنى مين هو ؟
صرخت ورجلاها تتسابقان :
- عادل !!
فى لمح البصر كانت فوق درجات السلم تلقى نفسها بين يديه بعد أن أسرع عادل بالصعود إليها واختنقت نبرات صوتها وأغرورقت عيونها بالدموع .
كان وجهها قد تغشاه الإصفرار والوهن فقال لها :
- إيه اللى جرى لك ؟! فين بشرتك السمراء الجميلة ؟!
- عادل .. لما مشيت شعرت إن حياتى ماليها طعم ولا لون ولا رائحة ، صدقنى هى الحقيقة ياعادل إنى ماأقدر أحيا بدونك .
صعدت زوجة أبيها سلمى ورأت الدمع الذى بلل رموشها فمصمصت شفتيها وقالت :
- طبعا أنت فى الوقت الحالى هتأكلين
فنظرت إلى عادل وقالت :
- هآكل من أجل عادل العائد من السفر .
فردت المرأة عليها ساخرة :
- ماكو يامروه .. أترجاك كلى من أجلى أنا ومن أجل والدك فهو على موعد الوصول .
قالت مروه :
- هيسعد والدى جداً ، فمن يوم ماسافرت مالقى أحد يلعب معه الشطرنج أو يتناقش فيختلف معه , والدى كان على استعداد لخطفك وإرجاعك للعراق .
فقالت زوجة أبيها بصوت لا يخلو من نعومة :
- بعينك ادلل ياعادل وأطلب روحنا فانت صرت من عائلتنا الصغيرة
قطع مازن الحديث وقال :
- أنا كنت اخطط لخطفك من مصر .
فتناغمت ضحكاتهم وعادل يقول :
- من الآن هخاف منكم فأنتم خطرون تقدروا تخطفوا أى إنسان .
وضحكوا مرةً أخرى بينما رشيد يفتح الباب ويدخل إلى الصالة
******-******-******
بعد أن تناولوا طعام العشاء قال رشيد لعادل :
- لحظات وأغير ملابسى وأنتظرك فى حجرة مكتبى فأنا أريدك بالعجل فى أمر هام .
وجلس رشيد خلف مكتبه يتأرجح بمقعده يمنة ويسرة ولم يستطع أن يخفى قلقاً واضحاً على وجهه .
لقد أدرك أن ابنته تذوب هياماً وحباً فى الشاب المصرى وأصبح الرجل مثقل الضمير حيران التفكير فأراد أن يضع النقاط على الحروف ويتكلم مع عادل بصراحة فى هذا الأمر .
حين دخل عادل قام رشيد من وراء مكتبه وجلس على مقعد جانبى يتوسط الحجرة وكانت تفصل بينهما منضدة صغيرة فوقها زهرية من الورد .
قال رشيد :
- لما ماتت زوجتى وهى بتلد مازن ، ماتت السعادة فى عينى وكنت ماأطيق أرجع لبيت كل نسمة هواء فيه تذكرنى بها ورحلت أنا وأولادى من مدينة الموصل وسكنت فى بغداد فى هذى الفيلا .
تصور عادل أن ما يقوله رشيد هو حكاية من حكاياته العديدة التى يحكيها له أو شكوى من شكاويه المتعددة يبثها إليه فأنصت مبدياً اهتماماً لما يقوله الرجل الذى يتكلم خافضاً صوته على غير عادته .
أكمل رشيد قائلا :
- وكان فكرى الشديد كيف أتزوج حرمة ترعى ابنى الصغير لأن مروه كانت فى مقتبل العمر وفى يوم من الأيام بتكون فى بيت زوجها .. زوجتى قريبة من أحد أركان الدولة وكانت متزوجة قبلى من رجل مات فى الحرب فحبيت أجمع بين الأمرين الحرمة والحظوة والحمد لله حققت ماأريد.
كان عادل يود أن يقول ليتك ما تزوجت ، ألم تجد غير هذه ، ولكنه ابتلع الكلمات وحول عينيه إلى زهرية الورد البنفسجية ينصت إلى ما يقوله رشيد :
- ولكن هذا بالطبع بيكون بلا معنى بدون سعادة ابنتى اللى هى نسخة طبق الأصل من المرحومة والدتها .
قال عادل :
- دا شىء طيب وطبيعى أن تفكر فيه .
فابتسم الرجل وقال له :
- أنا شعرت بصدقك حين عدت لينا وأنت تعرف أنه من العار فى بلادنا أن يزوج الرجل ابنته لمصرى فهم فى نظرنا شحاذون ومرتزقة , سامحنى ياعادل ، ولكنك بقيت واحد منا نشعر بغيابه مثل مانفرح لحضوره .
أدرك عادل ما يقصده الرجل وكان يتمنى لو انتظر حتى تزيح الأيام عن خياله صورة الباكين من أهله لحظة سفره ، فأطرق ساكتاً ينتظر الرجل أن يفصح عن مراده .
قال رشيد :
- أريدك تكلمنى بصراحة ووضوح .. هل تريد إنك تبقى فى العراق ؟
- نعم
- وأهلك ؟!
- ممكن أروح لهم كل فترة .
- وهل تقدر تضمن لى إنك هتعود إلى هنا ؟
- أنا تعودت الحياة فى العراق
غمغم الرجل قائلاً :
- والله صدقت فالعراق مايقدر يسلوها حد
ثم قال له :
- هه .. يعنى أنت تريد تبقى فى العراق
- نعم
قال رشيد :
- يبقى حدثنى بصدق عن علاقتك بمروه
أطرق عادل واجماً
قال رشيد :
- عادل ، أنا غير عمى على ابنتى وإنها كيف تعلقت بك ، وهى ابنتى الوحيدة ، وأنا أريد أن أضمن لها مستقبلاً سعيداً مثل ما أريد أن أضمن لابنى عادل حياة هنية ، فصارحنى ياابنى عن علاقتك بها ، وهل تحبها كما تحبك وهل تقبل إنها تكون زوجتك ؟ وثق قبل أن كلامك إن صدقك هيزيدنى لك إجلالاً .
تقاطرت الكلمات من عادل قائلاً :
- أنا ضحيت بأهلى جميعاً علشان أشوفها قدام عينى ولكن أنا كنت لا أجروء على الحديث معك لأنى كنت شايف مابينى وبينها زى ما بين السما والأرض .
قال له رشيد :
- عادل .. أنت أنسان محترم ومجتهد وأنا رأيت فيك كل الصفات النبيلة وللسبب هذا أعتبرك ابنى .
- يعنى أنت موافق إنك تزوجها لمصرى ؟
- بشرط
فصمت عادل متجمداً .
قال له رشيد :
- أن تسافر أنت وهى لمصر وتتزوجا هناك .
******-******-******
فى جنح الظلام استطاعت شادية أن تتسلل وتخترق الأزقة الملتوية ووقفت على إستحياء أمام كنيسة القرية التى لا تبتعد كثيراً عن مسجد الشيخ عباده وهى عبارة عن حجرتين من الطوب اللبن جددتهما العجوز مريانه وضمت إليهما بيتاً مجاوراً اشترته قبل محاولة غريان قتل أخيه بأيامٍ معدودة .
احتوى شادية ركن جانبى فى الزقاق الضيق وهى تشعر أن العيون تتجه نحوها وحدها .. وجهها المرتاب الوجل كان يصف الحالة التى تمر بها فى الآونة الأخيرة .
بعثت طفلا صغيرا يمر بالزقاق إلى مارى أو مادلين فجاءتها مارى على الفور وأمسكت بيدها بعد أن سلمت عليها ولم تتركها وقالت لها :
- ياقليلة الأصل من يوم ماانتقلنا من بيتنا ماشوفتك وكأن العشرة اللى بينّا ولّى زمانها
- سامحينى يامارى بيتكم الجديد بعيد وأنا كنت أنوى أقابلك أنت ومادلين ولكن ..
لم تعجز مارى عن فهم الحالة التى تمر بها صاحبتها ورفيقة طفولتها التى تماسكت دموعها ولكن وجهها الجميل الذى تفجر فوقه الأسى وصوتها المخنوق وعيونها التى كساها الخوف وهى تروح وتجىء هنا وهناك كل ذلك أكد أن فى الأمر شيئاً .
قالت لها :
- ولكن إيه ياشادية ؟
- أهلى عاوزين يزوجونى من ناصر ابن عمى .
ضحكت مارى وقالت :
- ياأختى قولى لأ .. هو العمدة بيرفض لك طلب
- فى المرة دى رفض طلبى
قالت شادية ذلك وتلفتت ناحية المارة
قالت لها مارى :
- مالك ياشادية ؟!!
- الناس بيبصوا لينا .
- لأن إحنا نقف فى الشارع فتعالى ندخل للكنيسة علشان نتكلم براحتنا
- مارى .. أنا جيت من ورا أهلى وأطلبك فى خدمة مستعجلة .
- خير ياشادية !!
لم تكمل شادية الكلام ؛ لأنها تاهت بعينها إلى أول الزقاق فرأت شبح محمود من بعيد فانزوت وراء مارى وقالت :
- محمود أخويا .. محمود يامارى ..
وانسحبت للوراء وهى تدارى وجهها ثم جرت بسرعة وابتلعتها الكنيسة
******-******-******
السجن _ الحوار
على غير عادة معتقل أبى زعبل ، أغلقت الزنازين فى الصباح وتسربت الأنباء بأن هناك ندوة كبرى ستقام فى السجن يحضرها علماء الأزهر وكبار الضباط .
استطاع أحد قادة المعتقلين أن يتسلل خارج زنزانته عن طريق شاويش تم إغراؤه ببعض النقود والهدايا , وأصدر القائد أوامره من فتحات الأبواب الضيقة بعدم حضور الندوات والمشاركة فيها إلا إذا أجبروا المعتقلين على ذلك .
فى لحظات خاطفة وسريعة تم فتح الأبواب وأخرجت غرفة وراء إخرى بالترتيب إلى قاعة معدةٍ للندوة .
كلما دلف واحد إلى القاعة يسلم مصحفاً ومجموعةً من الكتب الدينية كهدية من وزارة الأوقاف .
شمل القاعة هدوء كبير حتى جاء المشايخ فتبعثر ما كان من نظام وسكون وانعطف مجموعة من شباب الجماعة يشاكسون بعض الحراس مما أضطر الضابط المشرف على الندوة إلى أن يخرج الحراس حتى لا تصبح هناك حجة تفسد المحاضرة .
كانوا ثلاثة مشايخ أحدهم رئيس جامعة الأزهر والاثنين الآخرين عضوين فى مجمع البحوث الإسلامية ، ما إن قدمهم المأمور ورحب بهم حتى ارتجت القاعة وأطبق عليها شبح الفوضى التام والهتافات العدائية الصاخبة :
ياعلماء اتقوا الله
لا حوار مع الإكراه
ظل ذلك الهتاف كقطار يهدر فوق طريق طويل متواصل لم يقف إلا لحظاتٍ معدودةٍ وبسيطةٍ لالتقاط الأنفاس .
المشايخ كانوا جالسين على كراسيهم مطرقين يوزعون أعينهم إلى الشباب الثائرين وإلى الضباط الحائرين ثم يعودون خافضين رؤسهم ينتظرون ما يسفر عنه الأمر .
تصاعدت الهتافات مرة أخرى :
ياعلماء اتقوا الله
لاحوار مع الإكراه
صعد المأمور على المنصة وأشار لهم قائلا :
- ياإبنى إهدأ إنت وهو ، إحنا لم نجبركم ولم نكرهكم على أى حوار ، المشايخ جاءوا للسجن علشان يتكلموا معكم وبعد الندوة هيفرج عنكم كلكم
فاندلعت الهتافات وصرخت الحناجر من بين الصفوف الخلفية :
تسجن مين وتعذب مين
الإسلام نور الملايين
سكت المأمور ووجهه تكسوه الحيرة , ووقف أحد ضباط أمن الدولة الكبار يرمقهم بنظراته وهم مازالوا ماضين فى هتافاتهم ولما رأوه ازدادوا فى نفس الهتافات عنفاً .
فى منتصف الصفوف التفت شعبان إلى الجالس بجواره وقال :
- هذا الضابط شكله مثل جمال عبد الناصر .
فرد عليه الجالس بجواره :
- حسبنا الله ونعم الوكيل فيهم جميعا ، قطيع من المجرمين والخونة
قال شعبان :
- انظر إلى عينيه التى تنظر إلينا وتشتعل بالنار .
- دعك منه ياأخى وواصل الهتافات أحسن منه .
لما لم يجد المشايخ بداً ولا فائدةً أداروا أنفسهم وخرجوا من القاعة وهم لا يلتفتون وراءهم ، كانوا يتمتمون بأفواههم ويسترجعون ، هذا ماأكده صوت أحدهم حين ارتفع وهو يقول لا حول ولا قوة الا بالله .. لا توجد فائدة .
رفع ضابط أمن الدولة الكبير وجهه مباغتاً إلى المعتقلين وأحدق بعينيه بغيظ وكيد وأطلق كلمات حادة :
- ياترى ارتحتم دلوقت ، أنتم استقبلتم ضيوفكم أحسن استقبال وأحسنتم اختيار الكلمات اللى رحبتم بها بالعلماء
جاءه صوت من آخر القاعة :
- إذا أردتم الحوار فعليكم بالحوار مع مشايخنا المعتقلين فى سجن طره ، أما نحن فلن نتحاور مع أحد .
فضيق عينيه الحادتين وقال :
- جواب غشوم يدل على أنكم ألغيتم عقولكم وسلمتموها لغيركم
فوقف له الشيخ صالح وقد اعتقل قبل على وشعبان بأيام وقال :
- إنهم مشايخنا وقادتنا وعلماؤنا وإذا أردتم الحوار الفعلى فحاوروهم فى التلفاز على الهواء مباشرة لكن السجون ليست هى الحل .
قال له الضابط :
- أنت صالح موش كدا ؟!
- نعم
- كفاية ياصالح قد إيه ضيعت من الشباب كفاية حرام عليك
وضرب الضابط بيديه على المنضدة وقال :
- هل الدولة اخطأت لما جابت لكم بالعلماء ليرجعوكم لصوابكم ، للأسف أنتم هتجعلوها تغير نظراتها للأمور وتستخدم معكم القوة لأنكم فعلاً تستاهلوا كدا .. قتلتم رئيس مجلس الشعب , وبدأتم تنظموا أنفسكم لأعمال العنف وبكره الله اعلم إيه كمان !!
هم صالح أن يتكلم فقال له الضابط :
- خلاص .. أسمعوا نصيحتى ، عليكم أن تعطوا لعقولكم حرية للتفكير .. لا تتهموا الآخرين بأنهم أعداء الله وأنتم أولياء الله .. كلنا مسلمين .. بعد أيام قليلة هنفرج عنكم ولكن فكروا كويس لأنه بعد كدا ستواجهكم الدولة بكل قوة ولن تخرجوا من السجون .
خاطر ومض على ذهن على وسؤال حوم فى دماغه وهو فى آخر الصفوف :
- أليست الاعتقالت التى تستخدمها الدولة مواجهة بالقوة وكذلك لماذا لانسمع نحن هؤلاء العلماء ونتحاور معهم ؟ أين الصواب وأين الخطأ ؟!!
أراد أن يسأل السؤال لشيخه صالح لكنه تراجع ؛ لأنه لم يكن إلا هو وحده بعدما انفض الجمع إلى الفسحة واللعب فى فناء السجن .
******-******-******
صدام
فى كازينو الشروق برقت راقصات جميلات أمام خليل وعادل وهما يقضيان وقتاً ممتعاً قبل أن يعود خليل لمصر ، كانت نفس عادل متوهجة بالسعادة لأنه سيحصل على محبوبته وكذلك سيرجع إلى أهله ، وهناك يستطيع أن يقنع أهله بزوجته الثانية فمروة تستطيع بحنكتها وذكائها أن تضم أهله جميعا تحت جناحيها ، وستبقى زبيدة لأنها طيبة القلب وتحبه بشدة ولذا فهو يستطيع أن يجعلها ترضى بما هو عازم على عمله ، استوعبته تلك السعادة تماماً والفرصة التى عرضت عليه فالحياة فرص والزمن يفتح الأبواب لمن يحسن الاختيار وهو الشخص الوحيد الذى سيختار ويحدد طريقه بنفسه ويقتنص فرصته ويحدد مصيره ومصير أهله فى وقت واحد .. كان ذلك واضحاً عليه وهو يجلس فى مواجهة خليل يستشيره فيما عزم عليه ولكن خليل أعرض عن كلام صاحبه مصوباً عينيه ناحية الراقصات وهو يقول :
- أنا مكنتش أعرف إن فيه دول عربية بالجمال دا ، قاتل الله الحدود وجوازات السفر والمؤتمرات اللى بتدعو للوحدة العربية بلا فعل حقيقى .
نسى عادل الكلام عن رشيد وابنته وشعور حقيقى انطوى فى أعماقه بصدق كلام صاحبه بأن الأمة العربية فى مأزق حقيقى ، وحين يتكلم أحد عن العروبة والانتماء فإنه يتغنى بالمستحيل ، لكنه تذكر كلام رشيد الذى كان يشد انتباهه دائماً ناحية الوحدة المنشودة فقال لخليل :
- بإذن الله مع الزمن يتحقق الأمل فى الوحدة .
- أى وحدة ياصاحبى ؟! أنت بتعيش فى ضباب
ثم ضحك وقال :
- وحدة والموقف يتفجر بعد احتلال العراق للكويت ثم انسحابها وفرض الحظر عليها من أشهر طويلة
وتنهد خليل وقال :
قد إيه رحلات مكوكية للزعماء والرؤساء لإثناء الرئيس العراقى عما فعله ولكنه دماغ شديدة قوى .
قال له عادل :
- أنت على حق ولكنهم أجبروه على ما فعل فأموال بترول الكويت بتروح لبنوك أمريكا ، والرئيس صدام عاوز يوزعها على الدول العربية الفقيرة .
قال خليل بحدة :
- كذب فى كذب .. الرجل اللى بتعمل عنده بيضحك عليك .
غمزه عادل بإصبعه وانزعاجاً شديداً ظهر على وجهه قائلاً له :
- أخفض صوتك أحسن يسمعنا حد
ثم التفت إلى المرآة فوجد شابا يبحلق فيهما فقال :
- أنا موش قلت لك
قال خليل بصوت منخفض :
- أنا قلت لك كذب وخداع ولو كان دا حقيقى لتركونا نتكلم بحرية ونقول إنهم أول العملاء ولكن للأسف بيضحكوا على الشعوب المسكينه بالكلمات المعسولة .
رد عادل بهدوء :
- أما أنا فأشعر بالصدق فى كلام الرئيس صدام ، وقلبى امتلأ بحب البلد دى ، وإحنا لم نشعر بالرفاهية زى ما شعرنا بها هنا .
- لا وأنت الصادق ، أنت تحب بنت رشيد ونسيت أن الأمة العربية بتخرج من دائرة الحرب إلى دائرة تانى بسبب الأعمال العراقية اللى سببت مأساة للأمة هتدفع ثمنها الأجيال الجايه .
قال له عادل ساخراً :
- الله الله ياخليل ، إيه الثقافة والسياسة اللى حلت عليك فجأة
ثم ضرب على كتف خليل وقال له :
- أنت بتدافع عن الكويت وأمريكا بطريقة غريبة أنت عاوز تسافر للكويت ؟!
- أسافر للكويت ؟! لا ياحبيبى لاالكويت ولا العراق ، أنا هرجع بلدى .
- أنت إنسان يائس من كل شىء .
فقال خليل بعد أن عاد إليه هدوءه :
- أنت عرفت إنهم اليوم دفعونا نخرج فى مظاهرة نندد فيها بالحكومة المصرية ورئيسها رغم ان مصر هى اللى وقفت بكل ما تملك لتساعد العراق فى حربها مع إيران .
قال له عادل وعلى وجه رسم الأسى :
- إنها لعبة كبيرة قوى واحنا تايهين .
والتفت فرأى نفس الشاب فى المرآة كأنه يشير إليهما وهو يبتسم ابتسامة باهتة ، فأدار عادل رأسه إليه فوجد الشاب قد انكب على طبق من الحلوى أمامه فتعجب وعاد إلى خليل وقال له :
- باين عليها لعبة كبيرة فعلاً .. إزاى يهاجموا مصر ؟!
- أيوه لعبة كبيرة ؟ وأنت عاوزنى أبقى فى البلد دى علشان أندفع لأشياء لا دخل لى بها وبعدين ألقى نفسى فى السجن هنا أو فى بلدى
- ياأخى مليون مصرى هنا ليه أنت بالذات تدخل السجن ؟!
- صدقنى دى دول كلها ظلم فى ظلم واللى يدخل السجن هنا الله أعلم إمتى هيخرج منه ، وأنا أنصحك تعود لابنك وزوجتك وسيب البنت العراقية .
فأشاح عادل بوجهه بعيدا عنه ووجه عينيه إلى الشاب الذى يبدو فى المرآة وقال لخليل :
- أعوذ بالله من كلامك أنت إنسان متشائم زى مابيقول ناصر .
سكت فجأة وقال :
- خليل شايف الشاب ده .. بص دا بيقرّب منّا .. أنت تعرفه ؟!!
اشتطت الدهشة بعادل وخليل حينما رأيا الشاب جامداً أمامهما وفجأة قعد بجوارهما بدون إذن وهو يشعل سيجارة ثم قال لهما :
- ممكن أتعرف ؟
قال خليل :
- ليه يعنى ؟!
- ياأخى أنا نويت أصاحبكم .
فقال عادل :
- بدون سابق معرفة ؟!
- وهو فيه مشكلة فى كدا ؟ عدد كبير من المصريين بقوا أصدقاء وأصحاب هنا بدون سابق معرفة
- يبقى أنت مصرى ؟!
- أيوه وهعرفكم بنفسى أولاً , أنا عادل عبد السلام من قرية الشيخ عبادة .
فارتفع صوت عادل وقال له :
- إيه بتقول ياأخ ؟! إيه الكلام دا ؟
- أقول إللى سمعته
ثم ضحك ضحكة رنت فى المكان وتركهما وانصرف فقال خليل لعادل :
- شوفت ياعادل ؟ أنا موش هبقى فى البلد دى يوم واحد
وعادل وهولايزال فى دهشته فوجىء برغدة يتأبطها زوجها جعفر ويدخلان إلى الكازينو ويقعدان فى مواجهتهما , كانت رغدة تبتسم ابتسامة واسعة تكشف عن أسنانها اللؤلؤية ، وأطراف أصابعها ترفع خصلات شعرها المتدلية على جبهتها إلى الوراء .
التقت عيناها بعينى عادل فاستحى عادل أن ينصرف قبل أن يسلم عليهما .
سلمت رغدة على عادل وهى تجلس مكانها ووقف زوجها يسلم بحرارة غير عادية ويدعوه للجلوس
قالت له رغدة :
- ليش لما رجعت ماخبرتنى .. أنت مو صادق فى إتفاقك معى ؟
تأته لسان عادل فلم يكشف عن إجابة .
فقال جعفر :
- والله باين إنه ارتاح للعمل مع رجل المخابرات العراقى رشيد .
******-******-******
أمام الفرن البلدى المصنوع من الطين قعدت زبيدة متربعة تدق بيدها العجين وتقطعه ثم تهزه جيداً بالمطرقة الخشبية المصنوعة من عيدان جريد النخيل وتلقيه فوق الفرن بتلقائية وسرعة ، وراء زبيدة جلس على الخارج من السجن منذ ساعات قليلة وبجواره ابن أخته أحمد .
قالت زبيدة وهى تعطى وجهها للفرن :
- لغاية إمتى هتدخل السجن وتخرج ياعلى ياأخويا ؟
قال لها :
- ياأم أحمد هى أيام نقضيها هنا أو هناك ، والأفضل أن نقضيها فى طاعة الله .
- ياأخويا والله نفسى أفرح بيك .
فترقرق الخجل على وجهه وأخذ نفساً عميقاً وقال :
- تانى يازبيدة هذا الموضوع .
- لإمتى هترفض ؟
- لا تنسى إنى الآن على أبواب الكلية ، وبعد ذلك هاتى لى آكل وفى مرة إخرى نتكلم فى هذا الموضوع .
قال أحمد :
- ومقام الشيخ الجوع قطع بطنى
تغير وجه علىّ وقال :
- إذا حلفت فلا تحلف بغير الله فهذا حرام
وأعاد إلى وجهه ابتسامة وقال :
- فهمت ياحبيبى ؟
- فهمت .
فقالت له أمه :
- إنت زى أبوك لما تجوع لا تتحمل والأكل يشغلك عن كل حاجة .
وقالت :
وبعد كدا أنا خبزت العيش الشمسى لخالك .
ضحك على وامتلأت أحداقه قائلاً :
- شايف أمك إنها تحبنى أكثر منك .
فقالت زبيدة وعيناها تضحكان :
- أحمد غيار أحسن يصدقك ، والنبى أقصد والله ..
ضحكت ضحكة أخرى وقالت :
أنا أحبك أنت وخالك أكتر من نفسى .
كان لفح النار وحرارة الفرن قد سطعا فوق وجهها نوراً وحمرة اختلطت بوجهها الأبيض الجميل ، راقبها على بجانب عينيه وهى تتناول أرغفة العيش الشمسى وتضع فيها قليل من السكر ، وضيق عينه أسىً وهو ينظر إلى أخته الجميلة التى ظلمتها الحياة وجعلتها مع زوج يتركها ولا يدرك قيمتها فقال لها :
- يعنى أنت تحبيننا أكثر من عادل هذا غير معقول .
كان على يعرف نشوتها بزوجها وحبها الشديد له فأراد أن يعزف على أوتار قلبها بمزيج من السعادة ولكن كلماته سقطت عليها بالصمت فلم تجد فى نفسها قدرة الرد عليه ، فعادل وفراقه عنها أصبح غشاوة تتحرك على وجهها وتحجب السرور الذى كان طليقاً من ثوان معدودات ، وياليت على تركها تسرح هذه اللحظات وقام هو وأحمد وذهبا إلى المسجد
قال لها على :
- أنا أعرف أنك تحبين زوجك حباً شديداً وهو يبادلك نفس الحب .
فاستمر الصمت يلازمها وهى تنظر إلى بيتها ومملكتها التى غاب عنها زوجها وشردت بعيداً فى هاويةٍ ، أشياء كثيرة ملأتها بإحساسٍ غائرٍ ، فالإنسان لا يملك سوى حياة واحدة والحياة بدون عادل لا تساوى شيئاً فانفجرت قائلةً :
- وفين الحب دا وهو تركنى وحيدة هنا فى العذاب ؟
قال لها ابنها :
- كيف تكونى وحيدة وأنا وخالى معك ؟!
فقالت له :
- فيك البركة إنت وخالك ياحبيبى .
ثم قدمت أرغفة العيش الشمسى وتركتهما وقعدت مع حناياها التى تغلى .
قضم أحمد لقمة ثم قال لخاله :
- ليه تقعد كدا ياخالى ؟!
- هذه جلسة السنة التى وردت عن النبى صلى الله عليه وسلم ، تجلس على بطن رجلك اليسرى وتثنى ركبتك اليمنى .
- لازم أعمل السنة دى ياخالى ؟
- اسمع ياأحمد .. النبى كان على خلق عظيم فما أحلى أن نتأدب بهدى النبى ونعمل سنته
تذكر أحمد رغيف العيش المحلي بالسكر فقضم منه لقمة أخرى وقال :
- خالي .. أنت أحلي خال في الدنيا كلها وأنا نفسي أكون زيك ولكن أنا أكره الشيخ شعبان .
- لماذا ؟ الشيخ شعبان رجل طيب ولكنك لاتعرفه
- كلامك صح ولكن أنا أحس إنه بيختلف عنك
- لا تحكم علي إنسان قبل أن تتعامل معه فالدين المعاملة .
ضحك على وقال :
- ألم يأن لك أن تفرغ من الطعام , فمن السنة أيضا أن تجعل ثلثاً لطعامك وثلثاً لشرابك وثلثاً لنفسك.
وأمسك أحمد ابن أخته من يده وسحبه بعيداً عن الطعام وهو يضحك وقال له :
- هيا بنا إلي المسجد .. ألا تريد أن تذهب لحضور اللقاء الأسبوعى في المسجد
شردت زبيدة بعينيها إليهما وقد تجاوزا بوابة الدار ولم تجد في نفسها قدرة علي النطق والكلام .
******-******-******
قالت مروه لعادل :
- إيش هى الجريمة فى إن أبى بيعمل ضابط مخابرات , وإيش بيضره لو قدم نفسه فداء للوطن في أي مكان يضعه فيه هذا الوطن .. وأنت شو تصنع لو طلبت منك مصر أن تضحي لأجلها .. هل تبخل ؟ ..هل تتردد ؟ .. والله لاحتقرتك طول العمر ؛ لأني أقدس الأبطال ومن يقدمون روحهم فداء لدينهم ووطنهم ومايعرفهم أحد وهم يدافعون عن الأمة .
قال لها عادل بعد أن قبض علي فرشاة الألوان وأخذها من يدها وألقاها علي الأرض بعنف :
- يدافعون عن الأمة ويقتلون المسلمين .
فقالت له بخنوع بعد أن رأت غضبه لأول مرة :
- شو تقول لوالمسلم يريد أن يغتصب عرضك ويحتل أرضك هل تتركه ياعادل ؟!
- وإيه ذنب المساكين اللى ساقوهم للموت والتعذيب والزنازين الضيقة .
لم يتمادى فى الكلام وأدار رأسه بعيداً عنها .
قالت له :
- عادل .. أنت غريب عن العراق وماتعرف طبيعة هؤلاء الناس ومن يدخلون السجون .. هم يخططون لخراب البلد وهى فى حالة حرب ولابد أنهم بيحاسبوهم على أفعالهم ، وهنا فيه قضاء نزيه .
تعجب عادل وقال مستهزئاً :
- قضاء نزيه !!
وقف شارداً ساهماً وقد انطفأ الضياء من عينيه وهى تواصل وتقول له :
- ليش تشغل بالك ؟! أبى مثل أى موظف فى الدولة يخدم وطنه وهذا هو ثغره ومكانه .. هل هذا جريمة ؟
فجلس مطرقاً وقال :
- أبوك يخرج المظاهرات ضد مصر ، أبوك يكره مصر يامروه
- مو تصدق ياعادل ياحبيبى .
- جاوبينى بصراحة لو طلبت منى مخابرات بلدى إنى أعمل ضد بلدك هل تحبينى ؟ هل تحترمينى ؟
- هذا بيحتاج لموازنتك للأمور فما كل شىء يقاس بالعاطفة بل بالفعل .
قام عادل مقبلاً نحوها بوجه قد انبجس فى تقاسيمه كدرة وقال لها :
- ليه ماقلتيش لى من قبل ؟!
فاقتربت منه وقالت له :
- وإيش أدرانى أن عمل أبى كان هيغضبك ، كان يهيىء لى إنه مايشغل بالك .
وبسخونة كفيها مسحت خديه وقالت له :
- عادل .. إن كان لى منزلة فى قلبك فاترك هذى الأمور واجعلنا نفكر فيما عزمنا عليه .
قال لها :
- مروه ... هل تحبينى ؟
- أنت تدرى
- أنا عاوز أسمع منك إجابة .
فقالت له :
- هل بتشك فى هذا ؟
ثم طوقت رقبته بيدها وقالت :
- أحبك أكثر من نفسي وأهلي جميعا .. عيني مارأت غيرك وقلبي ماحب سواك .. وحالاً قل لي أنت هل بتحبني ؟
******-******-******
خير من يذهب إلي العمدة يدعوه لإقامة فرح ابنته بالطريقة الإسلامية هو علي , هو وجه مقبول في القرية ومعروف بطيبته ودينه وأخلاقه وتواضعه واحترامه وغضه للطرف عن أي عمل يسيء إليه , بل هو الشخص الذي يهتم كثيرا بجمع التبرعات وتوزيعها علي الفقراء في القرية .
رأي شعبان ذلك كما رأي أن يستغل احترام العمدة لوالد علي المرحوم الحاج عبد العظيم
قال شعبان :
- هذا سيكون درسا دعوياً كبيراً وإظهاراً لكيان الجماعة .
قال علي :
- سأذهب ولكن ليس لإظهار الكيان ولكن لأن ذلك واجب عليّ أن أدعو عامة الناس وخواصهم إلي ما أعتقده صحيحا للطاعة والخير وثانياً لأن في هذا منعاً لمنكر .
هز شعبان رأسه موافقاً وقال له :
- ولأن العروسة أختنا في الله
- نعم أختنا في الله ولكنكم آذيتموها يوم قلتم للعمدة علي موضوع سامي , وأنا قلت لكم إنها علاقه جيرة من زمان .
قال ياسين :
- الموضوع انتهي وهاهي ستتزوج ناصر .
فقال الأخ ربيع الذي كان يجلس بجوار شعبان في مواجهة علي وياسين وهم جميعا في حجرة قد تم بناؤها فوق المسجد جعلها شعبان ملتقي له علي طريقة شيخه صالح في مسجد الجماعة بمركز ملوي
- والله هي خسارة فيه .
نظر له علي بحنق والضيق بدا علي أنفاسه المتلاحقة ولكنه لم يتكلم .
فقال له شعبان :
- مالك تضايقت فهذا رأيي , وأنا كنت أتمني لو نزوجها لشاب ملتزم بالدين مثلك مثلاً ، ألم يكن ذلك أفضل ؟! ألم يقل النبي " تنكح المرأة لأربع " أولها هو الدين وأنا فى تفكير دائم كيف نوقف هذه المهزلة
قال على :
- أى مهزلة ؟!
- زواج شاديه من ناصر ولكن للأسف فات الميعاد كما قالت أم كلثوم
- ماهذا الذى تقوله ياشيخ شعبان ؟!!
فأطرق شعبان رأسه على الأرض ليدارى قسمات وجهه خوفا أن تكشف ماانطوى فى قلبه فقال له عليّ ولا يزال في نفسه ضيق :
- لا تؤاخذني يا شيخ شعبان .. نسأل الله أن يحسن قصدنا في السر والعلن .
قال ياسين :
- يا شيخ عليّ لا داعي لتضييع الوقت وخصوصا إن ذلك في أمور بسيطة محسوم فيها الأمر ومعروفة , فاذهب إلي هناك واحذر أن يشتبك معك محمود ابن العمدة فقد سمعت أنه وأصحابه سوف يقيمون الحفل .
فهز عليّ رأسه وقال :
- على كلٍ سأمشي الآن ولنا لقاء بعد العشاء .
وخرج وتبعه شعبان بنظره وما أن أغلق الباب إلا وقال شعبان لياسين :
- لقد أصبح عبئاً ثقيلاً .. إنه يدخل أنفه في كل شيء .
قال له ربيع :
- أنا أشعر أنه يريد إمارة القرية
فقال شعبان :
- أحيانا أظن ذلك .
ياسين :
- يمكن أن تراجع أمير الجماعة في المركز فهو الوحيد الذي يمكنه عزله من إنابتك في البلد ويجعله فرداً عادياً .. فالأمارة لا تطلب .
رد شعبان :
- أنا أري أنك أجدر منه بمكانته .
فأطرق ياسين رأسه بين يديه ثم أدار عينيه إلي شعبان وقال :
- أنا لا أستحق يا مولانا ولكن أنا تحت أمر الجماعة في أي شيء .
قال شعبان لياسين :
- قل لى ياياسين لو واحد مثلى تقدم لبنت العمدة هل كانت سترفضه .. ألست أفضل من ناصر مليون مرة ؟!
******-******-******
انفرج الباب عن ماري وهي تتقدم بخطاها ناحية أخيها المنكفيء علي مكتبه ولما رآها طوى صفحات كتابه وانتظر ما تقوله له .
قالت مارى :
- أنا عاوزاك تجاوبني بصراحة وصدق ... أنت عاوز تتخلي عن دينك ؟
فدفع الكتاب بظهر يده ليدلل علي غضبه من سؤالها وقال :
- إزاى تجرؤي تقولى لى الكلام دا ؟!
فملأت صوتها بالغضب وقالت :
- يبقى مالك وشادية ؟!
- دى علاقة صداقة زى ماأنت عارفه ، فهل دا معناه إنى انخلع من دينى ؟!
فنظرت إليه نظرة حيرى وقالت :
- كبرت ياسامى وبقيت تحب وتقامر بحياتك ، ولما حبيت تعلقت بفتاة مسلمة موش على دينك كأن مفيش بنت غيرها ؟!
قالت ذلك وجلست فى مقابله ثم ضربت بيديها فجأة على المكتب وقالت :
- أنت شاب طايش ماتعرفش مصلحة نفسك .
قال لها سامى :
- مين اللى قال لك الكلام الفارغ دا ؟!!
- موش كلام فارغ ، شادية كانت معى وفهمت منها إنها تحبك ولكنى مكنتش متأكدة حتى سألت وعرفت كل شىء
أطرق سامى أمام أخته وارتعشت شفتاه وهى لا زالت تتكلم قائلة :
- عشرات السنين وإحنا عايشين فى القرية وكل الناس تحترمنا وكان بيت العمدة زى بيتنا وماحدش شاف مننا أى شىء مشين ولكنك دلوقت عاوز تصيبنا ببلوة جديدة ، وماكفّاك اللى إحنا فيه .
فقام سامى من أمامها هارباً من عينيها وهو يقول لها :
- مارى .. أرجوك قولى لى إيه المطلوب منى بالتحديد .. أنت بتتكلمي فى أمرغريب .
- إيه هتعمل ياسامى فى المشكلة دى ؟!
- أية مشكلة يامارى وإيه هو المطلوب منى بالضبط ؟
- أنت عارف المشكلة ، والمطلوب منك انك تأخذ سكن بالقرب من الجامعة اللى أنت على أبوابها ، أنا خائفة عليك ياسامى وأمك وأبوك مايقدروا يتحملوا شيئ تانى
- وأسيبكم وأترك بلدى إزاى؟!
- عاوزين يقتلوك ياسامى
صاح سامى :
- إيه اللى عملته علشان يقتلونى ؟
- دا اللى قالته شادية ، قالت إن محمود عاوز يقتلك
- أنا مايهمنى العالم كله وطول عمر سامى مايرضخ لأى إنسان
- ياسامى يااخويا القرية امتلات بناس زى الخفافيش بيعيشوا فى الظلام ومربيين دقونهم ومفيش حد بيشوفهم ، ومحمود ممكن يسلط الناس دول عليك .
- محمود صاحبى .
- كان زمان ، وبعد العلاقة اللى بينك وبين أخته أصبح عدوك
ذهل سامى حين صدمته أخته بحقيقة المشكلة التى وقع فيها ونظر إليها صامتاً ولم يدر جواباً ثم أمسك بكتاب يقرأ فيه وكأن أمر مارى لايعنيه .
فقالت له :
- سامى ، أنت بتحبها صح ؟ !
فلم يجد إلا الحقيقة التى خرجت على لسانه بصوت ممجوج متهدج :
- أيوه
- يبقى جاوبنى بصراحة .. هل هتسيب دينك ؟
- لا
- وهى كمان لن تترك دينها ، فقلى إيه هتعمل ؟
- موش عارف وموش عاوز أعرف أنا عاوز أهرب وأمشى من هنا ومن كل مصر
- هل عرفت إن فرحها يوم الخميس الجاى ؟
وعندما يفقد إنسان شخصاً عزيزاً عليه يفقد جميع المعانى ولا يستطيع أن يتكلم ، فشعر سامى بشىءٍ ينخر فى عظامه وفى الوقت ذاته يكرهه على الصمت .
قالت له أخته :
- إعرف مصلحتك ومصلحتنا وإن كنت عاوز مصلحتنا فسيب البلد .
ثم مشت وقبل أن تغلق عليه باب حجرته قالت له :
- أنا عايزه أقول لك إنى ست زيها وهى صاحبتى وأنا أعرف كويس إنها مابتحبكش
******-******-******
الحقيقة والشك
لم يكن ما حدث فى كازينو الشروق مقلباً من مقالب أحد المصريين فى العراق ، تأكد عادل من ذلك فهو لم يخطر على باله أن يرى الشاب يتتبعه ويستوقفه فى الطريق .
جحظت عينا عادل وفغر فاه وقال له :
- إنت عاوز إيه بالضبط ؟؟!
- ياأخى صاحبك .. ياأخى توأمك ، أنت عادل عبد السلام وأنا عادل .
ثم ضحك متمايلاً وفجأةً نظر إلى عادل بعينين مشتعلتين وقال له :
- عادل ، أنا مشفق عليك فأنت صاحبى وعلشان كدا أنا بحذرك من اللى أنت هتقع فيه ، فهل توافق أن نجلس مع بعض فى حديقة صدام المجاورة للشارع دا على إنفراد .
بالطبع سار عادل معه فقطعا المسافة الطويلة سيراً على الأقدام وبين آونة وأخرى يلقى على الشاب عينين متعجبتين حتى جلسا فى الحديقة يطلان من قضبان سورها الذى يشرف على شارع فلسطين
قال له الشاب الذى بدا من سحنته أنه مصرى :
- اسمع ياعادل همَ بيستخدمونك ضد مصلحة بلدك .
- أنا .. مين هم ؟!
ضحك الشاب مرة أخرى ضحكة هيسترية ثم قال :
- أنا أعرف إنك طيب وابن ناس طيبين وأنا ماكنت أتوقع انك هتعود مرة تانى لبغداد ولكنك رجعت وخالفت ظنى وأنا هصارحك بالحقيقة بشرط انك تصارحنى بكل شىء
- أنت تقصد إيه ؟!
- هقول لك قصدى وأعرفك كل شىء ولكن إن رفضت ماأطلبه منك بعد كدا هتعرف اللى يجرى لك واسمع إياك تقول لأى مخلوق أى شىء هنتكلم فيه
وسكت برهة ثم همس قائلاً :
- حتى مروه .
- أنت تعرف مروه ؟!
- نعم أعرفها كويس جداً واعرف والدها ضابط المخابرات العراقى الكبير اللى عاوزك تعمل ضد بلدك .
أصبح كل شىء فى عادل متعجباً فأخذ يقول :
- أنت بتقول إيه ؟! قل لى أنت بتقول إيه ؟!! .. الرجل مطلبش منى أى شىء غير ..
- غير إيه ؟
- مفيش
وفكر برهة ثم قال :
- طلب منى اتزوج بنته وأدخل بها فى مصر .. دا ضد مصلحة بلدى ؟
- إكذوبة .
قالها الشاب بحدة وتحد ثم هدأ من غضبه وحدته وقال :
- بيضحك عليك علشان يجندك .. وسؤالى إشمعنى تدخل بها فى مصر؟! .. طبعاً علشان ترجع وتخون بلدك .
لقد طلب منه رشيد أن يتزوج من ابنته وأن يذهب بها الى مصر كى يقيما هناك ، شىء غريب أن يبعد عنه ابنته بإرادته وهو الذى لا يطيق فراقها لحظات .. واقشعر جسده من هذه الظنون التى بدأت تقتحمه وأخذ يقول :
- لا .. لو قطعونى .
ثم التفت وقال بعد أن فكر مرة أخرى :
- ولكن ياسيدى هو ده الطلب الوحيد
- أنت ماتعرفش رشيد دا بيستدرجك ، هل عرفت انه أخرج مظاهرة ضد مصر .. رغم أن مصر تقف مع العراق فى الحرب ، ولكنك مصرى غلبان مابيفهم فى السياسة .
ورمقه بعينيه الحادتين وقال :
- المخابرات لاتمانع أن يكون لهم رجل فى أى بلد .. ففى ساعة معينة ممكن يحتاجون إلى خدماتهم فيطلبون منهم تنفيذ الأوامر دى هى السياسة ياعادل ، وهم عرفوك كويس وعرفوا مين اللى يقدر يسيطر عليك .
ثم قال له الشاب :
- دى يدى أمدها لك ياعادل علشان تتعاون معنا فى خدمة بلدنا مصر وأنا أعرف انك ابنها المخلص اللى موش ممكن يتخلى عنها .
وبثقل وبطء مد عادل يده له وقال :
- وإيه المطلوب منى بالضبط ؟
ابتسم الشاب وقال :
- موش دلوقت كل شىء هتعرفه فى حينه .
وألقى نظرة ناحية السور الحديدى للحديقة وقال له :
- شىء واحد عاوزك تعرفه ان حلقة الوصل بينى وبينك هتكون رغدة وزوجها جعفر ، وان المطلوب منك حالياً انك تروح لمدينة الرمادى علشان تقابل رجل مصر الكبير وهو هيفهمك كل حاجة .
******-******-******
الزفاف الإسلامى
كما كان متوقعاً أن يوافق العمدة على عمل الفرح الإسلامى ولا تجد الجماعة أدنى اعتراض سوى من محمود الذى رأى إصرار والده وأهله على تنفيذ طلبات شعبان فلم ينبث ببنت شفه وانشغل تماماً بمراقبة أخته والضغط عليها للخنوع التام والموافقة على الزواج من ابن عمه ناصر .
أمام ديوان العمدة وحده من الصباح كان يقف علىّ وبعض رفاقه يجهزون الفرح الاسلامى بسرادق كبير ملأوه بالكراسى والمقاعد الخشبية ونصبوا فيه مسرحاً أحاطوه بلوحات قماشية مكتوب على إحداها " أعلنوا هذا النكاح فى المساجد واضربوا عليه بالدفوف " وأخرى مكتوب عليها " أفراحنا إسلامية " .
فى الناحية اليمنى فوق المسرح كرسى محاط بالورد الصناعى ليجلس عليه العريس ، وبين آونة وأخرى كان شعبان يأتى ليطل عليهم ويلقى بعض عبارات الثناء والتشجيع ولكن كما كان مقدراً أن يختلف هو وعلىّ فى الأيام الأخيرة فقد اختلفا واحتدا معا .
انتحى شعبان بعلى جانباً وطلب منه برنامج الفرح ليلقى عليه نظرة فأعطاه له على فقال له شعبان :
- من الذى سيلقى كلمة العرس ؟
قال على :
- إلى الآن لم أحدد بعد ولكن أرى أن يلقيها إمام مسجد الشيخ عبادة حتى نتواصل معه وتزداد مساحة الود بيننا وبين الرجل .
- ماذا تقول ياشيخ على ؟ ! أتريد أن تجعل الناس تضحك علينا وتقول إنه لا يوجد بيننا من يصلح أن يقول كلمة الفرح ، إنه أول فرح إسلامى فى البلد ولابد أن يكون فى صورة مثالية لنا .
العمدة قد اقترب منهما فقال شعبان لعلى هامساً :
- وقت الفرح قد أزف ولا نريد أن نختلف فالشحناء تولد غضب الرحمن
قال لهما العمدة :
- فيه حاجة ضايقتكم ؟
كان العمدة طوال اليوم يظهر الود والتعاون معهم فى كل شىء فابتسم له شعبان وقال :
- نحن فقط نتفق أن نجعل هل هذا الفرح أحسن فرح فى البلد
فقال له العمدة :
- ربنا يبارك فيكم ويكتر من أمثالكم .
على لشعبان :
- من إذن الذى سيقول الكلمة ؟!
- أنا أو ياسين .. المهم أنت مستعد تماماً للفرح
اضطرب على وبدا على وجهه الضيق وقال :
- على العموم أنا غير موافق ولكن كما تحبون وهذه الورقة بها برنامج الفرح .
ما إن صلى الناس المغرب حتى اعتلت فرقة الأناشيد الإسلامية المسرح فى صفين متقابلين وبين الصفين وقف على وبجواره العريس الذى جلس على كرسيه المحاط بالورود .
وبعد بضع اَيات من القران الكريم قال على :
- هنا اجتمعنا على طاعة الله ، تلاقت أرواحنا على الحب والموده تخالطها الرحمة والأخوة ولذا كان هذا الفرح الإسلامى دليلاً واضحاً على ذلك وعلى تعاوننا جميعاً ومشاركتنا فى بناء بيت مسلم على طاعة الله .
وأنشدت الفرقة :
جينا نبارك للعريس ونقدم تهانينا
بارك عرسك ياعريس نورت ليالينا
اقرأ سورة تبارك فى المؤمن ربى يبارك
إن شاء الله ترى أبناءك بالدين ملتزمينا
فأكمل على بعدها :
أفراحنا تبدأ بالقرآن ، أفراحنا تخالطها طاعة الله ، فالأفراح الإسلامية ذكر ومودة ليس فيها منكرات ولا معاصى ، ليست فيها موسيقى ودفوف ولا أغانى مبتذلة ، أفراحنا فيها مواعظ وتذكرة حتى تنزل علينا السكينة والرحمة .. والآن مع كلمة العرس يلقيها فضيلة الشيخ شعبان .
وقف شعبان على المسرح بعبائته اللامعة وجلبابه الأبيض وبعد أن حمد الله وأثنى عليه قال :
- إن النبى يامعشر الشباب قال ( من استطاع منكم الباءة فليتزوج ) فالزواج طاعة ولكى تستكمل طاعتك فاختر ذات الدين قبل أن يخطفها الخاطفون ؛ فإنها التى تطيع ربها ، إنها التى تعرف كيف تكسب زوجها ، إنها ذات الجمال الربانى بحجابها وجمالها الذى لا تظهره إلا لزوجها .. أيها الأخوة ... إن الزواج هو سنة الله فى خلقه قال الله تعالى " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " إن هذا هو أمر الله بأن نعدد فى الزواج فمن تزوج واحدة فليتزوج الأخرى أم أنتم خائفون من الجنس اللطيف .
ضحك الجميع وقال بعضهم :
- العمدة خايف .
فرد عليهم قائلا :
- أنتم نسيتم الحاج عبد السلام .. والله ما يقدر يعملها
كثر الضحك وأكمل شعبان قائلاً :
- وإننى من هنا أدعو الآباء أن يقللوا المهور فأقلهن مهراً أكثرهن بركة ، وأدعو الآباء أن يزوجوا الشاب صاحب الدين وصاحب الخلق وأن يجعلوا أفراح أولادهم وبناتهم إسلامية وانظروا إلى هذا الفرح الإسلامى فيه البركة والعلم والذكر والقرآن .. أى بركة بعد هذا ؟! وإنى أتعجب من المنكرات فى الأفراح والموالد كيف يوافق عليها الناس ولذا فالجماعة لن تسمح فى هذا العام بالمنكرات فى الأفراح طالما عندنا البديل الإسلامى وكذلك لن نسمح بإقامة مولد الشيخ عبادة مهما حدث ومهما كلفنا ذلك .
ونظر شعبان إلى المعازيم الذين دب عليهم الصمت فجأة ثم قال :
- أنا أعتقد أننى انتحيت بالحديث بعيداً عن الفرح ولذا فإننى فى النهاية أقول للعروسين .. بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما فى خير
أخذت الفرقه تنشد
زوج من ترضى أخلاقه واقبل من قدم أوثاقه
وكتاب الله يحذرنا من تحميل فوق الطاقه
الناس كانوا يتهامسون وينظرون إلى شعبان الذى حمل كلامه تهديداً واضحاً بإفساد المولد .
وقبل أن ينزل شعبان من فوق المسرح مال علىّ على أذنه وقال له :
- ما هذا الذى يحدث ؟ إن ما فعلته يمكن أن يفسد الفرح ويغير الأوضاع فى القرية .
- أنا عملت حساب كل كلمة قلتها .
- أنا معكم فى شورى الجماعة ولم تخبرنى بشىء
- ياشيخ علىّ ليس هذا محل للكلام فاستكمل فرحك وغداً سأخبرك بكل شىء ولكن الآن حاول أن تغير جو الفرح بالحورات والفقرات الفكاهية والنكات .
******-******-******
عجز عادل أن يجد سيارة توصله للرمادى رغم أنه فى أول الليل وبعد أن وصل يأسه إلى منتهاه وقفت على حين غرة منه سيارة فارهة عرض عليه سائقها أن يوصله وقال له :
- أنا ذاهب للرمادى فما فى مانع إنك تيجى معى .
ركب عادل بجواره بعد أن شكره على الخدمة الجليلة وعطر الرجل النافذ قد ملأ جوانب السيارة .
بعد أن سادت فترة من الصمت بينهما تخللتها صوت أغنية للمطرب العراقى سعدون جابر أخذ الرجل يحدثه عن مصر وكأنه يعرف كل مكان فيها فقال له عادل :
- كأنك عشت فى مصر .
قال الرجل :
- نعم .. أنا تعلمت فى بلادكم وفى كل عام أكيد بتكون لى زيارة لمصر
ثم سأله الرجل عن بعض المصريين الموجودين فى العراق وسماهم له
قال عادل :
- يمكن بيسكنوا المربع ، أما أنا فأسكن فى شارع الثورة وأروح كل حين لزيارة أقربائى هناك .
قال له الرجل .
- هل هم مرتاحون هنا ؟
- مين ؟
- أقرباؤك ؟
- بالطبع
- ويحبون الرئيس صدام ؟!
إن إقامة عادل فى العراق علمته أن يظهر حبه للعراق ورئيسها وإلا فإنه سيضيع ، فقال :
- ياسيدى يقدسونه ويتمنون أن يكون رئيساً للأمة العربية كلها
قال الرجل :
- والحصار والحظر
- مهما حاصروا العراق فهيبقى صمود العراق مثل لكل العالم وأما هم فهينهزموا شر هزيمة .
ابتسم الرجل ابتسامة عريضة كشفت عن أسنان لؤلؤية بيضاء فى جانب صفها العلوى سنة من الذهب اللامع قائلا لعادل :
- من وين أنت ؟
- المنيا .
فضم شفتيه وقال :
- همه .. بعرفها جيدا هذى محافظة مليئة بالجماعات المتطرفه .
- كيف عرفت دا ؟!
خفض الرجل صوت الأغنية وقال له :
- أظن إنى قلت لك إنى تعلمت فى بلادكم وأعرف كل شىء عن مصر
فقال له عادل :
- على العموم أنا ماعرفش حد منهم وماسمعتش فى قريتنا واحد ماشى معهم
- ولما تعرفهم بلغ عنهم المخفر فأنت تدرى إن البلد فى حالة حرب وهؤلا ء بيقبضوا فلوس من بعض الدول ليخربوا أوطاننا العربية وبهذا بتكون قدمت خدمة جليلة لهذا البلد .
قال له عادل متعجلاً يريد أن يهرب منه :
- إحنا وصلنا ممكن أنزل هنا .
أصر الرجل أن يوصله إلى المنزل الذى يريده ، ولكن عادل هناك لم يجد أحداً فى استقباله !!
******-******-******
تشابكت أصوات الزغاريد مع صوت البكاء والنحيب الذى يندلع من شادية وهى تنشب أظافرها فى جميع الألوان التى طلوا بها وجهها .. لم تستطع إحدى عماتها أو خالاتها أن تمنعها من ذلك
قالت لها خالتها :
- حرام عليك كل اللى بتعمليه فى نفسك يوم فرحك .
- ياريت أمى ماولدتنى علشان ماأشوفش اليوم دا .
أذنا محمود كانتا على استعداد لتلقى هذه الأصوات من داخل الدار ويده كانت على استعداد لتقطيع جلدها والبطش بها إن صدر منها ما يمس أهلها فطبع على وجهها لطمه عنيفة وقال :
- والله لو مالمت نفسها فى الليلة دى لقتلتها .
نهرته أمه :
- اطلع يابنى وسيبها أحسن لك ، ولاّأنت ناوى تخلى الفرح مأتم .
فوقف لحظات صامتاً وعيناه تشتعلان ناراً ثم خرج إلى سرداق الفرح فقالت إحدى خالاتها :
- فى يوم فرحك تعملى ما تعملين يابنتى هل فيه واحد أحسن من ناصر ابن عمك ، فلوس ونعيم ، ومعاه تقدرى تكمّلى تعليمك
تطلعت إحدى عماتها إليها بعد برهة من الصمت وقالت :
- ماشاء الله ، شىء لله ياشيخ عبادة ، جمال ربانى بدون مساحيق ولا ألوان ، والشيخ عباده لتدخلى على ناصر كدا علشان يعرف إن بنتنا جمالها ربانى .
ولكن شادية كانت قد جمدت بصرها ناحية الحاجة مريانه التى دخلت وبصحبتها مادلين ومارى , بينما عادت زغاريد الحريم تندلع مرة أخرى واختلطت فرحتهم مع عيونهم المتسعة التى نظرت إلى مادلين ومارى وهما فى أبهى حلة وزينه يقتربان من شادية الصامتة .
- ألف مبروك ياحبيبتى .
قالت مادلين وطبعت على وجهها قبلة هادئة وكذلك فعلت مارى التى أخذت مشطاً وبكل رقه وحنان أخذت تمشط لها شعرها والحريم يطوقنهن ويدرن حولهن بالتصفيق والغناء والزغاريد .
دنت مريانه من شادية وضمتها إلى صدرها فقالت لها أم محمود :
- أصيله ياحاجة .
قالت :
- شادية بنتى .. أنت فاكرة لما كنت أشيلها بين يدى وهى طفلة رضيعة .. والعذرا ماكانت تسكت إلا فى صدرى

لمحت مارى على خدى شادية الدمع فأسرت إليها بالقول :
- دينك هو حياتك ووجودك ودينك اللى بتحبيه أكيد بيسرى فى جسمك بمعنى إن جسمك موش لسامى
- ولكن روحى له .
- دا نصيب والأرواح فى يوم من الأيام هتلتقى فى ملكوت الرب الأعلى ، وإخلاصك لدينك فى الدنيا هيبقى منارة لسامى طول العمر .
******-******-******
انتهى برنامج الفرح الإسلامى وبدأت مسيرته الصاخبة , وتحول الناس إلى صفوف عريضة تمددت حتى انتهت بالحريم اللاتى يحطن بالعروس التى كان فستانها الحريرى الأبيض يتألق بانعكاس الأضواء عليه .
فى أول المسيرة شعبان وضع كفه فى كف العريس الذى تلوح عليه آثار النعمة وأشار للمنشدين فحولوا أناشيد المسيرة فجأة إلى هتافات مدوية حتى ارتج الطلق الفسيح من رجع الهتافات فى شكل ومنظر لم تره القرية من قبل والتى خرجت كلها فى المسيرة الصاخبة .. الذى لم يلحق بالمسيرة وقف من فوق دارة يرقب كل شىء حتى لا يفوته مشهد منها .
خاف العمدة أن يتحول الفرح إلى مظاهرة فقال لشعبان :
- أرجوك ياشيخ شعبان ، الحكومة يابنى إحنا مانقدرش عليها
- لا تخف ياعمدة لن يحدث شىء .
فعض شفتيه واصطك بأسنانه وهو يقول :
- يوم أسود .
فطمأنه الحاج عبد السلام وقال له :
- والله أحسن فرح اتعمل فى الشيخ عبادة ومقام الشيخ لأعمل فرح كامل ابنى إسلامى .
وعند بيت ناصر تحلقت دائرة كبيرة حوله وعادت الفرقة تصدح بأناشيد الختام للحفل , وما إن انتهوا حتى تحرر أهل العريس مما ظنوا أنه يقيدهم فى الفرح الإسلامى وعادوا يصفقون ويغنون ويرقصون , والعروسان يصعدان على إيقاع الأغانى إلى غرفة نومهما ، لم يكف الغناء حتى بعد أن خلع العريس عباءته وأشعل سيجارته وجلس بهدوء يحملق فى عروسته الجميلة التى لا تخفى دمعها .
اقترب ناصر بعد دقائق من شاديه فأنعشته رائحتها الزكية فعبث بفستانها ولكنها أشاحت بوجهها بعيداً ثم قامت وجلست بالقرب من شباك الغرفة .
ضحك ناصر ضحكة هيسترية وظن أن شادية تتمنّع عنه فقرب منها طعاماً كان معداً فأبت أن تقترب منه , فأشعل سيجارة أخرى ثم ضم عروسه إليه فدفعته بعيداً بعنف وغضب , وقامت فجأةً كأنها أصابها مس شيطانى وهو لا يزا ل فى ظنه الذى دفعه إلى أن يخلع ملابسه ويلقى بنفسه عليها فشتمته وقالت له :
- إياك انك تقرب منى وإلا هتعرف اللى هعمله .
فقال :
- صدق اللى قال إن العروسة لازم تعمل زيك وتتمنع كدا ولكن أنا هصبر
لم يجد فائدة فضربها على وجهها فولولت وصرخت ثم أمسكت بمقعد التسريحة الصغيرة وجعلته حاجزاً بينها وبينه وقالت :
- موش هتمسنى أبداً مهما فعلت .
فقال لها :
- وأنا قاعد سهران للصبح وموش هيهدا لى بال إلا لما أمرغك تحت جسمى
كانت تشعر أنه مثل وحش أو شيطان يتلاعب أمام عينيها .
- ياشادية ماتضيعيش علينا ليلتنا ، دى ليلة العمر اللى كنت انتظرها من زمان ، أنت عارفه كويس إنى كنت أرغب فيك من زمان
- اسمع ياناصر ليه تتزوج إنسانة بتكرهك ؟! أنت عارف إنى أكرهك وهفضل طول عمرى أكرهك ولاأحبك .
- ولكنى أحبك وأريدك وممكن بكرة ياشادية تحبينى .
- أنا أحب العمى ولا احبك ، ولو كان عندك ذرة من كرامة ما تزوجتنى
- أنت بتقولى إيه ؟!!
- أقول لو عندك ذرة من كرامة ..
فانهال عليها ضرباً فاعتلت النافذة وصرخت وقالت :
- هرمى بنفسى من الشباك لو قربت من تانى .
فتراجع ناصر للوراء وقال لها :
- أنت هتعملى إيه يامجنونة ؟!!
- أبتعد أحسن لك .
وترامى وقع أقدام أمه أمام الحجرة فربما سمعت بعضاً ممادار أو ميزت بعض الشتائم , أو سمعت نبرات الرجاء فجاءت على عجلٍ وطرقت عليهما الباب .
تقدم إليها ابنها وقد لمحت من وراء الستائر عروسته وأنفها تقطر دماً فقالت له :
- لغاية دلوقت مدخلتش بعروستك ؟! وإيه الدم دا ؟!
وأشارت إليها .
قال لها :
- الذنب موش ذنبى .
- يبقى ذنبى أنا ياناصر !!!
- نعم ذنبكم كلكم أنتم زوجتونى واحدة موش ست ولكن رجل وازاى أدخل برجل ؟!
ملكت الدهشة أمه فقالت بصوت مرتفع وهى تضرب على صدرها :
- يامصيبتى ، بتقول إيه ياولدى ؟ !
تردد ناصر ثم قال :
- أقول نصها رجل ونصها ست
******-******-******
التيه والغواية
منذ عاد عادل من الرمادى وقال له جعفر إن الرجل الكبير هو الذى أوصلك بالسيارة , وأنك نجحت فى الاختبار ظل يتساءل هل تورط واندفع حين استجاب لنداءات قلبه أم تورط مع المخابرات ؟!
هكذا شعرعادل أن حبالاً غليظة قد التفت حول عنقه لا يستطيع منها فكاكاً .. هل تحبه مروة فعلاً أم نصبت شباكها كى تجعله يعمل ضد وطنه ؟! حتى العودة الى بلده الآن لا يقدر عليها ، فكيف يراوغ ويفلت إذن ؟! كيف يرجع وما رسمه لحياته قد أصبح هباءً منثوراً ؟
هكذا أصبح مسجوناً فى الشك والقلق من كل شىء حتى من نفسه ومحبوبته التى كانت سعادته فى حروف تجمعها شفتاها وكان صوت حبها دائماً ينتصر فى قلبه , وحين تظهر بوجهها أمامه يتذكر كل شىء حلو وينتهى الوقت معها وهو فياض بالسعاده والهناء .. لكنه الآن لم يعد متأكدا من حقيقة حبها له بل هو يشك فعلاً أنها تحبه .. إنه حب مصطنع لكى تجنده فوالدها الرجل الطيب يعمل فى المخابرات فعلاً هذا ماتأكد منه ، إنه يراه الآن بعينيه كوحش كاسرٍ فى ثياب آدمية وهى لم تخجل وهى تعترف له بهذه الحقيقة .
وشعر بالدمع يبلل وجهه وقال :
- ألا يجوز انها تعمل كمان مع مخابرات العراق يبقى هى أذكى امرأة قابلتها فى حياتى وهى المرأة اللى عرفت تسيطر علىّ بجمالها وحلاوة حديثها .
ثم عاد هدؤه إليه وقال :
- الشعب العراقى تعداده بالملايين فهل هم يحتاجون لواحد زييىَ , وبعدين هناك كمان مئات المصريين اللى ممكن يعملوا أى شىء مقابل بضع دنانير ورشيد لغاية الوقت مطلبش منى أى شىء يذكر ، وكيف يجندنى ودا طلب منى أتزوج بنته وكيف يضحى بابنته مقابل شوية معلومات ؟!!
ثم قام عادل من مكانه وقال :
- لا هم كذابون وموش جادين فى زواجى وإلا فليه يصمم على زواجى من بنته فى مصر ؟!
خرج عادل من سكنه متعامياً مثقل الضمير بين الحب والوهم ، بين الحقيقة والشك ومضى متحفزاً لبيت رشيد حتى يضع حداً لما يعتريه من أفكار وليتفق معه على خطوات واضحةٍ على زواجه ولحظتها ستنكشف أمامه الحقائق .
***************
فى الساعه الثالثه ظهراً كان يقف أمام بيت رشيد وتفتح له زوجته سلمى وهى ترمقه بعينيها الحادتين ، أقدامه كانت تعرف طريقها إلى مرسم مروه فلما لم يجدها رجع ليسأل عنها

قالت سلمى :
- لو سألت من الأول لقلنا لك ولكنك مازلت مصرا على تجاهل سلمى .
فكرر سؤاله وقال :
- فين مروه
ابتسمت ساخرة وقالت :
- مالك تتكلم وانت غضبان ياغايتى ؟! روح لغرفتها هتلقاها هناك
وأغلقت الباب وتبعته إلى حجرة مروة الخالية من أى مخلوق كباقى حجرات البيت الخالى .. فتحت أزرار عباءتها السوداء أمامه بكل جرأة فبدا جسمها الابيض الممتلىء من تحت قميص فتحات صغيرة عرضية وطولية على شكل هندسى ملتصق بحلمتيها النافرتين ونهديها اللذين فاحت منهما رائحة الرغبة والشبق .
عرت سلمى رغبتها فيه بجرأة .. بحركة مباغته غير خجلى ولا مستحيية ضمته إليها ودفنت رأسها فى صدره وقد تجمد مذهولاً من وقع ما يجرى ثم أفاق فدفعها بقوة قائلاً :
- انت عاوزه إيه ؟ موش ناويه تتوبى من أفعالك ؟
- ماكو توبة ياعادل إلا بعد ماأتمتع بك وتتمتع بى .
- أنا ؟ معى أنا .. هل تجننت ؟ أنا موش جعفر فاهمة ؟
دنت منه وقالت :
- صدقنى هذى المرة الأخيرة , أنت مو تريدنى أتوب ، جرب سلمى
وتنهدت وقالت :
- بالله ياعينى باوع على جسمى وأنت هتدرى إنى أحلى حرمة
فنهرها عادل بحزم وقال :
- أنت أسأت للرجل الطيب بأفعالك القبيحة .
فقالت له بضعف ورقة :
- هذى فرصة ياعادل لن تعوض قبل مايجىء الرجل الطيب اللى بتحكى عنه
نظر اليها حانقاً ونزل مسرعا على السلالم
سلمى تركض وراءه وتقول له :
- الباب مغلق وماهتقدر تخرج وأهل البيت كلهم خرجوا وذهبوا للموصل وماهيرجعوا الآن .
لم يهتم بما بما قالته وحاول أن يفتح الباب ولكنه لم يقدر .. اقتربت منه بجسمها الفائر وأنفاسها اللاهثة .. ضحكت ضحكة جمعت فيها كل معانى السخرية والتحدى وقالت له :
- أنا قلت لك ليش ماتصدقنى ؟ ياعادل غير عمى أن تخرج ولكن إن حاولت هصرخ وأقول انه حاول أن ينيش زوجة الرجل اللى أكرمه وكان هيزوجه ابنته وهيحاكمونك ياغالى ومن يروح للمخفر هنا أنت تعرف مايجرى له .
جحظت عينا عادل وبدأ يشعر بخطورة الموقف والتحدى الذى وقع فيه ونظر إلى المرأة فوجد لديها رغبة قوية فى مطاردته فحاول أن يستخدم الحيلة معها فقال :
- سيبينى اليوم فأنا مشغول ووعد منى أن نتقابل فى يوم تانى
- ماتهرب يا حبة روحى , أنا أريد أتونس بك اليوم مو بكره
هزت وسطها وتمايلت وقالت :
- هل ببغداد أجمل من سلمى حتى تهرب منها ؟ هل بها جسم مثل هذا ؟ ولاّالسمراء صاحبة الدم الثقيل أحسن منى ؟ والله لأخليك تعوفها
أشتعل غضب عادل حين استهزأت بمروه :
- لا تتكلمى عنها فهى إنسانة طاهرة وظفرها برقبتك .
فانفتق فيها الغضب وقالت بحدة :
- شب ياعادل أنا اخطأت لأنى عملتك رجلا هيتشرف بلمس جسد سيدته ولكنك حافى وجربوع ، ولكن أنا بالإجبار هخليك تمس كل جزء فى هذا الجسم .
أخرجت ثدييها من تحت قميصها وأكدت:
- وأن تمص الحلمتين والا فهتعرف مايجرى لك وأكيد هوالسجن وفراق مروة لأنك رفضت حسنة جت بين يديك .
فقال :
- يبقى هنفضل كدا للصبح وما هيمس جسمى جسمك
فقالت له :
- ولو جاء رشيد اللحظة هنا إيش تقول ؟
وحاولت أن تضع يدها على صدره فأمسكها وثناها خلف ظهرها ودفعها أمامه على مقاعد الانتريه فهوت على جنبها وصرخت صرخة مدوية فى الأثناء التى وصل خلالها رشيد ومروه ودفعا الباب بينما هى على الفور كانت تلملم عباءتها وتقف أمام زوجها بكل جرأه وتقول له :
- أرأيت المصرى إيش عمل فى غيابك ؟ .. هذا هو من أحسنت إليه
وانهمرت دموعها باكية .
قال عادل وهو ينظر إلى رشيد وابنته المتجمدة :
- أنا مافعلت أى شئ هى كذابة والله كذابة
قال رشيد :
- أنا رأيتك وأنت تدفعها إلى الأرض ياعادل
- لا .. لا ومقام الشيخ لا .
قالت سلمى :
- أرايت الكذاب ؟ شاهدت كذبه ؟ ! هذا من عاملناه كواحد منا وكنت هتزوجه بنتك .. أنا قلت لك من قبل يارشيد على المصريين وأعمالهم وقلت لك ماتتركنى وحدى يارشيد مع هذا الذى ما عنده أصل العرب .
دنا عادل من مروه وأراد أن يبوح بكلام محبوس فى صدره ولكنه تراجع وقال :
- والله أنا برىء قولى لوالدك يامروه عادل مايعمل الأعمال دى عادل طول عمره ماخان إنسان .. هى مريضة ومجنونة
قال رشيد :
- شكو تقول ياجبان ؟ أنت المريض والمجنون ، وأنا المخطىء لأنى ماتعلمت من أخطائى وأدخلت المصريين بيتى
كل ذلك ومروه جامدة صامتة يتحجر الدمع فى عينيها وهى تغوص فى عادل الذى تهاوى ضعفاً .
******-******-*****
أقباط المهجر
طوال الطريق إلى بناية هايدى فى ضاحية ويستون بولاية بنسلفاينا حيث اصطحبه رئيس قسمه الدكتور جون ديمون إلى جمعية محبى الوطن يفكر حكيم فى رساله مارى التى أرسلتها له وقالت فيها حياتك هى صلاتك وحريتك يمكن أن تمنحك ما تريد ولكن لابد أن تمنعك من الوقوع فى الخطيئة
وبهمس أخذ حكيم يقرأ :
- وستنمو فى روحك البراءه وأكاليل البر وستسمو بروحك إلى المسيح لكى نعبر إليه معا فوق قنطرة ذهبيه إلى حياة أبدية خالدة .
وبنظرة خفية من عينيه إلى الحياة الصاخبة حوله تأكدت نفسه أن ما يفصل بينه وبينها مسافات طوال .. قال :
- وكيف نلتقى إذن .. آه لو جئت تعيشين هنا .
هفا حكيم إلى طى الأيام والعودة إلى قريته وجزء من قلبه ناشب فى حب البقاء على ماهو عليه فى ويستون السابحة بأضوائها وزيناتها الساحرة وتنبه إلى الدكتور الذى يكلمه ويقول له :
- يبدو أنك سرحت مع الرجل الذى يركب دراجته البخارية ، ألا يوجد فى مصر عمال للبلدية لتنظيف الشارع .
كان الرجل يركب دراجة بخارية ويلتفت يمنة ويسرة يبحث عن شىء ثم ينزل مسرعا ينظف الشارع بمساحيق التنظيف وبعد ذلك يمضى وينطلق وهكذا دواليك .
قال له الدكتور :
- إن مهمته فى البلدية تنظيف الشوارع من مخلفات الكلاب , فان هذه الولاية تنفق كل عام حوالى أربعة عشر مليون دولار على الكلاب وتهتم بهذا الأمر جداً ، وهو إنسان مجتهد فى عمله كما ترى رغم أنه لايراقبه أحد ، ولأنه يستطيع أن يحاسب أى سلطة فهو يعمل بجد ويعتبر هذا الشارع هو ضيعته التى يمتلكها .
قال حكيم :
- ليت شعبان ورفاقه يأتون إلى هنا حتى يتعلموا
- من هو شعبان ؟!
- قائد جماعة إسلامية متطرفة وصلت أخبارهم فى رسالة لى من أيام
- إنهم موجودون هنا وقد أخذوا سوق الولايه فى مزاد من البلدية وهم هنا يجمعون بتبرعات كثيرة .
كأن الكون الفسيح قد ضاق أمام عينيه , قال حكيم :
- حتى هنا ؟!!
قال الدكتور :
- هنا لابد أن يحترموا تقاليد الديمقراطية للشعب الأمريكى ويحاولوا أن يتكيفوا مع ذلك ولا يصبحون حائرين بين الدين والمدنية والحداثة ، وهذه هى مشكلتكم جميعا ياعرب ، وأنت رأيت حين خطط وحرض رئيسهم عمر عبد الرحمن على العنف تم القبض عليه وإيداعه فى السجن .
كانا قد وصلا إلى جمعية محبى الوطن المسيحية التى أنشأتها الهيئة القبطية بأمريكا وهى ملتقى للشباب المغتربين من مسيحى مصر حيث تدعمهم الجمعية وتجمعهم على أهم أهدافها وهى دعم الأقليات المسيحية فى العالم وبالأخص مصر .
******-******-******
سار أحمد بجوار خاله متهلل الوجه يخطر فوق الجسر ضحوكاً ومرا معاً على قوم يربطون بهائمهم فألقى علىّ عليهم السلام بوجهه الدافىء , وبإشراقته الجميلة التى تستقطب دائماً عيون الناس فمنذ أن سلك هذا الطريق وهو يحاول أن يضرب مثلاً واضحاً لشاب عابد متنسك يمارس الدعوة إلى الله ببصيرة وإخلاص وأخلاق حسنة ، فجمع قلوباً كثيرة حوله أبت أن تلتف حول شعبان وأخضع أناساً رفضوا أن ينصاعوا لأوامر جماعته .
كمال بن عبد الواحد فقط هو الشخص الوحيد الذى تلعب فى أعماقه الحيرة ، لم يقابل إنساناً فى القرية يكره علي إلا أمه فلماذا تكرهه ؟ ! هل هو الثأر ؟ ! فلماذا تأخذه بذنب غيره ؟!!! هكذا يتجلجل فى قاع قلبه هذا السؤال دائماً حتى أصبح على كابوساً يؤرق مضجعه ، وكلما حاول صرف هذا السؤال تلاعب أمام عينيه كل صباح مشتعلاً فى عينى أمه الحاقدتين التى تحرضه دائماً منذ الصغر وتربيه على أخذ ثأر أبيه ويراه دائماً فى قباب الجبانة العالية التى يرقد فيها أبوه , وفى الفردة الخرطوش التى اشترتها له أمه بعد أن جاوز سن المراهقة .
استقطب على عيون كمال وجذبه إليه بغير إرادته فلم يدر بقدميه إلا وهى تطاردهما وتقفز وراءهما بعد أن تعود أن يراهما يعبران دائماً هذا الطريق .
قال احمد لخاله :
- كمال يمشى ورانا ياخالى
- دعه يسير براحته
وأدرك ما فى نفس ابن اخته فأكمل قائلاً :
- لا تخف منه ؟ !
- يعنى أنت مش عارف ياخالى ؟!
- خليك طبيعى ولا تحمل الأمور أكثر مما تحتمل
- هو معى فى الفصل ورغم كده طول عمره ماكلمنى ودايماً يعادينى
وسرى فى وجهه الشحوب فربت خاله على كتفيه وقال له :
- إن كلمك قل له الحاج عبد العظيم لم يقتل والدك ، هى رصاصة طائشة قتلت والدك والحاج كان موجوداً بجنبه وقل له ان ظنون أمك ليست صحيحة .
قال ذلك والقى نظرةً على كمال فوجده قاعداً أثقله الوجع والدم يسيل من قدميه التى اصطدمت بحجر ملقى فى عرض الطريق خلع له ظفراً .
رجع إليه وفى يده أحمد يجره بصعوبة ، وبيدين حانيتين ربت على كتفيّ كمال وقال له :
- لماذا ياحبيبى تمشى حافياً هكذا ؟!
وتناول بعضاً من تراب الطريق ووضعه له فوق أصبعه ثم أخرج منديلاً وربط له الجرح وقال له :
- هكذا يمكن أن يكف الدم قليلا حتى تذهب إلى الوحدة الصحية وأنا أظن انك ستجدها مغلقة ولكن فى مسجدنا صيدلية مجانية وستجد هناك من يطهر لك الجرح .
كل ذلك قاله وكمال يسرى فى وجهه الصمت يتأمل فى علىّ الذى يغسل له أعماقه بطمأنينه وهدوء .
سحب على الشبشب من قدمى ابن أخته وأعطاه له .
قال كمال :
- أنا عندى شبشب
فرد عليه قائلا :
- إن كان لى خاطر عندك فاقبله .
وابتسم وربت على كتفيه مرة أخرى واستأذنه وانصرف بينما كمال يمسك الشبشب بيديه وبعينيه يطاردهما .
******-******-******
حاول أن يتماسك ولكنه كان يتمزق ويتبدد ويحترق .. واختفى كأن بغداد قد ابتلعته وبقى فى مسكنه الجديد لا يبرحه حتى الدولارات التى أعطاها له جعفر لم يستطيع أن يذهب كى يودعها فى البنك , فبصورة الخائن الذى خان حبيبته وأساء إلى الرجل الذى وثق فيه ظهر أخيراً وكان صعباً أن يبدو هكذا .. اجتاحته موجة الحب وعز عليه أن يفقد حبيبته بهذه السهولة .
قرر أن يخرج أخيراً وينتهز فرصة خروج والدها للعمل ويذهب إليها مهما كلفته تلك المغامرة فتسلل أول النهار وقادته قدماه إلى هناك .
فتح له مازن وأراد أن يرحب به بطريقته المعتادة المليئة بالصخب والضوضاء فوضع عادل كفه على فمه وربت على كتفيه وأشار له ألايتكلم ففهم الصبى وأشار له بصوت خفيض وقال له :
- مروة هون فى هذى الحجرة .
كانت هى على غير عادتها تجلس إلى البيانو وتعزف موسيقى هادئة وحزينة .. وقف وراءها جامداً وتشبثت عيناه للحظات بها وهى غارقة مع ألحانها الحزينة .
لأول مرة يعرف أنها تتقن العزف ويرى إيشارباً فوق شعرها الطويل الذى تهدل من تحته إلى منتصفها .
تنبهت إلى خطواته الوئيدة الهادئة التى تقترب منها من مرآة فى مواجهة البيانو .. أحالت عينيها إليه والتقت مع عينيه للحظات وكأنها تريد أن تتأكد أنه هو على وجه الحقيقة وليس من صنع خيالها واستدارت بعد برهة معرضة عنه وولت ظهرها وواصلت عزفها كأنه لاشىء .
قال لها :
- هى كلمات هقولها لك ، وحتى لو جاء والدك هقولها فلابد انك تعرفى الحقيقة .. أرجوك كلمينى لحظات وبعد كدا افعلى ما بدالك .
تعمدت أن تملأ أجواء الحجرة بعزفها فقال لها :
- أرجوك كلمينى .
ودنا منها وكادت يده أن تلمس شعرها المهتدل على ظهرها وقال :
- اسمعينى اليوم فممكن انك متقدريش تسمعينى تانى .
عبثت أصابعها بالبيانو ليخرج لحناً عبثياً مهترئا لا يعبر عن معنى أو جمال ثم قالت له وهى توليه ظهرها :
- كيف دخلت هنا ؟ كيف جرؤت على الدخول ؟!
قال لها :
- مروه كيف تصدقى إنى أفعل مااتهمتنى به زوجة والدك وكيف صدق والدك ؟!
وأطرق رأسه ثم قال :
- لكنه معذور .
أكمل :
- موش عادل اللى يعمل كدا ، قولى لى هل هو دا عادل اللى أنت تعرفيه ؟
فقالت له :
- ارجوك اتركنى وشأنى .
وكفت يداها عن العزف وأخرجت منديلاً ورقياً ومسحت دمعتين تقاطرتا على خديها ووضعت المنديل على منضدة جانبيه وقالت له :
- مو أعرف شخص اسمه عادل .. كان فيه عادل هون فى قلبى ولكنه راح وماهيعود - لا .. عادل موش هيموت فى لحظة .
أمسك بمقعد خشبى ووضعه بجوارها وجلس عليه فقامت بعيداً عنه فأطرق للحظات صامتاً وهو قاعد مكانه فقال لها:
- أنا لما شوفتك أول مرة لقيت نفسى فى عالم تانى , وامتلا قلبى بالأمل والحب وشعرت أنى أعزف زيك على بيانو الحب لأول مرة .. نسيت أهلى وبلدى وكنت على استعداد للتضحية بأى شىء وأحصل منك على نظرة .. كنت بتحققى لى كل أحلامى اللى تمنيتها وآمالى اللى كنت أرجوها .. اللى يحب طول عمره مايكذب واللى يضحى إزاى يقدر يخون يامروه ؟
كانت بين اللحظات ترنو إليه بنظراتها ثم تطرق تتشبث بقاع الحجرة .
تحشرج صوت عادل وهو يقول لها :
- إزاى أدبح نفسى بيدى ، وكيف أموت مرة تانى ؟
قالت له بإصرار :
- كل شىء انتهى وأفضل لك أنك تضيع وقتك في شيىء أفيد لك .
- أنا كل اللى يهمنى إنك تعرفى انى برىء .
ودنا منها مرة أخرى وقال لها :
- أنا هقولك على سر كنت أخفيه عنك .. أنا قابلت رجل مخابرات مصرى اسمه صقر وقال لى إن الرجل اللى تعمل عنده ضابط مخابرات عراقى عاوز يجندك ضد مصلحة بلدك ، أيوه قال لى كدا ..
ثم توقف فجأة ولم يستطع أن يكمل فقد كانت عينا سلمى ترقبانه وتقف وراء الباب لتسمع كل كلمة قالها ولما استجمعت قوتها فتحت الباب بشىء من العنف وقالت له :
- وتتقابل مع رجال المخابرات ياعادل
ثم رمقته بعينين حادتين قائلة :
- كيف بقيت جرىء بهذا الشكل ياعادل وتدخل هذا البيت ولكن المشكلة فى من سمحت لك ورفضت تطردك .
أطرقت مروة باكيةً :
فقال لها عادل :
- موش هخرج من هنا ياسلمى قبل ماتنكشف حقيقة اللى بتعمليه بالضبط
احتد صوت مروة وارتفع :
- على مودى ياعادل اخرج الآن .
- لا يامروه .
- أنا قلت لك اخرج .. أنا وأنت انتهت علاقتنا للأبد وأنا أرجوك انك لاتعود لهذا البيت .
- أنا هطلع ولكنى هرجع لأنى برىء
وخرج وعيناه ترسلان غضباً وناراً إلى سلمى التى كانت تنظر إليه بسخرية ومضى إلى مسكنه وقد شغله حب الانتقام من سلمى ولم يحس بيده التى تناولت المنديل الورقى وقبضت عليه بشدة .
******-******-******
الشيخ والمجدلية
مرت الساعات ثقيلة وهو ينظر إلى المنديل الورقى قبل أن يسمع الطرقات ويتقدم صوب الباب ليجد ناصر بملابسه البلدى ذات الأكمام الواسعة فقال له :
- أنت رجعت .. كيف رجعت فى الظروف دى ؟!
قال له ذلك بعد أن تأكد من وجه ناصر المربد من أثر السفر .
- ياأخى قل تفضل .
- وهل أنت محتاج إلى إذن .
تساقط ناصر على السرير واسترخى وقال :
- أيوه رجعت ورحت للسكن فلقيته مغلق .. إزاى تسيب السكن اللى سكنا فيه
فجلس عادل أمامه وقال له :
- شىء غريب , المصريون يتركون العراق أفواجاً أفواجاً وأنت بترجع ليها , معقول زهقت فى أيام معدودة من زوجتك فرجعت بسرعة كدا ؟!!
- ومين قال إنى تزوجت ؟!
- الله .. كيف دا ؟! انت موش نزلت للشيخ عبادة علشان تتزوج ابنة عمك فإيه اللى جرى ؟! فيه شىء حصل ؟! أنتم موش اتفقتم على كل شىء ولاّ اختلفت معهم على المهر فأنا أعرفك كويس تحب الفلوس أكتر من نفسك .
- على مهلك .. على مهلك ياعادل ، دايماً ظالمنى ونازل أسئلة وكلام ، أنا هحكى لك كل شىء ولكن بعد الأكل فأنا ميت من الجوع
- مفيش أكل عندى فأنا من امبارح والأكل مادخل جوفى
- ومعقول هنفضل هنا بدون أكل ؟!
- مفيش هنا غير جبنة فإيه رأيك ؟
- ياعم هات بسرعه أى شىء .
وهو يبتلع الطعام ويلقيه فى جوفه قال ناصر :
- أنا تزوجت وياريتنى ماتزوجت من البنت دى
- ليه ؟!
- دى موش حرمه .
- كيف ياابنى الكلام دا ؟!!
وقام عادل من مكانه وجلس بجواره متعجباً .
قال له ناصر بصوت عال :
- رجل ياعادل
فأمسكه عادل من جلبابه وقال :
- أنت بتقول إيه ؟!! .. أنت لازم تروح المورستان !!
- أنت ليه موش مصدقنى ؟! نصفها رجل ونصفها حرمه
- أنت شوفتها ؟! إياك يا ناصر دى بنت عمك .
فغمغم ناصر وقال :
- موش هآكل معك وهبحث لى عن سكن غير دا .
فلم يتركه عادل وقال له :
- موش هسيبك ياعديم الضمير , احك لى .
فقال له :
- الناس هى التى بتقول كدا .. أنا ماقلتش شىء .
- وليه لم تدارى الفضيحة ؟
- هى السبب كانت هترمى بنفسها من الشباك وخافت إنى أقرّب منها فقال الناس عليها انها رجل ، وأنا ماقدرتش أقعد فى البلد ولذلك مفيش معى أى جوابات لأنى جئت من وراء الناس ولكنى عاوز أقول لك إن ابن عمك علىّ عمل لى فرح إسلامى وأبوك وأخوك كامل وجميع البلد كانوا حاضرين .
ففغر عادل فاه وقال :
- فرح إسلامى يعنى إيه ؟!
- فرح ياأخى فيه أغانى اسلامية للسنين ، ياريت لم يعملوه كان يوم أسود .
اشتطت الدهشة الممزوجة بالألم بعادل وأخذ يغمغم بإحساس دامع ويقول :
- شادية أسطورة الدلع والسعادة ، جميله الجميلات ، مسكين العمدة هو ومحمود .
والتفت إلى ناصر وبدت على وجهه قشعريرة من الضيق وقام من مجلسه مستلقيا على السرير واستثارت الساعات فؤاده من جديد , وبعد ليل طويل وتفكير عميق استطاع أن ينام بجوار ناصر .
لم تمض ساعتان حتى قام مذعوراً على صوت الباب الذى كسر ولمح وهو بين النوم واليقضة أشباحاً على وجوهها تقاطيع الغلظة .. كأن كابوسا قد أطبق على أنفاسه وارتمى على جسده وأنشب مخالبه فى ملابسه .
شدوهما معا ًهو وناصر وأوثقوا كل واحدٍ منهما بقيدٍ حديدى وغطوا عينيه بغطاءٍ سميك .
من هول المفاجأة من تلك الشخوص الكئيبة لم يستطع أن يسألهم عن هويتهم ، وانبجس صوت من تلك الجموع يأمر باقتيادهما وسحقهما إن لم يتجاوبا معهم , فانهالوا عليهما ضرباً مبرحاً ثم اقتادوهما وعبروا الشارع , وبعد أقل من نصف ساعة كانوا قد وصلوا بهما إلى فيلا واسعة يحيط بها سور عال ومدقات ونقاط تفتيش ويحيط بها حراس يلبسون قمصاناً بيضاء ويتوشحون ببنادق آلية .
******-******-****
فى الليل الطويل اللامتناهى قهره الغم والهم الصعب ، وقفت شادية فوق صدره تزلزل كيانه من الداخل وتهده وتطارده وتقتحم جسده النحيل ، كيف كان يتغنى بالمستحيل ؟ وكيف صور لنفسه أنها سوف تصير لة زوجةً ؟! وتكشفت له حقيقة البعاد النائى الذى يفصل بينهما وتلك الأمانى الكاذبة التى خدعته .
لقد نجح سامى فى ليلة فرحها أن يصمد قليلاً ويتماسك ، وبعدما جرى فى ليلة عرسها ما جرى ورجعت إلى بيت والدها شقه الحزن مرةً أخرى عليها ودفعه ذلك لمزيدٍ من الإيمان بأنها تحبه وأنها إنما فعلت ذلك من أجله وأن ما يقوله الناس عنها هو اختلاق وكذب .
أخذ سامى يتألم فوق حزنه الشديد يعبث بذكريات الماضى القريب ولايستطيع أحد أن يفتح مكنون صدره ويبدد حزنه ، ولكن مارى صممت أن تقتحم عليه عزلته ودخلت عليه هى ومادلين وهو منكب يعبث ببعض الأوراق فوق مكتبه والطعام بجواره لم يتذوقه .
قالت له مادلين :
- لغاية إمتى هتفضل كدا ؟
لم يكلف نفسه أن ينظر إليها وقال :
- الموت عندى أفضل من الحياة .
قالت له مادلين :
- وإيه اللى جرى لك علشان تتمنى الموت وانت فى أول عمرك ؟! هل عرفت ان مريم زوجة عمك غالب قالت لأمك انها هتخلى زوجها يسامح والدك علشان ترجع الحياة لمجاريها والأمور تنصلح .
- شىء لايهمنى .
قالت مارى لمادلين :
- خلينا وحدنا أنا وسامى يا مادلين .
فقال لهما :
- لأ ياريت أنت وهى تخلونى وحدى أنا لاعاوز اشوف حد ولاأتكلم مع حد
فخرجت مادلين وهى تقول :
- حاجة غريبة إيه اللى جرى لسامى ؟!
قالت مارى له بعد أن خرجت أختها :
- أنا ماكنت أتصور انك تقع فى مشكلة زى دى ، كنت أظنك أقوى من أى امرأة .
- مارى أرجوك سيبينى لوحدى .
- لا ياسامى موش هسيبك .
وقعدت بجواره وقالت :
- سامحك الرب ياسامى .
وسكتت لحظات ثم قالت له :
- إحنا رايحين للعذراء فى دير المحرق ، وأنت محتاج انك تروح هناك .
- ليه ؟!
- علشان تبقى جنب الأماكن اللى مشى عليها المسيح .. سامى اللى يحب عليه بمحبة المسيح أولاً ، وكمان لابد انه يؤمن ان أحزانه هى لوقت قصير وحتماً هتزول .
- ..................
- ليه أنت ساكت ؟!
- ياما سمعت الكلام دا وأحزانى لغاية دلوقت لاتزول وطول عمرى عايش فى ألم .
- وهتتألم علشان تعرف وتعرف علشان تتألم ، لأن الآلام هى سوط الحب الإلهى .
- وليه يعذبنى بالسوط والألم وأنا إنسان ضعيف .
- لأن الآلام هى اختبار من الرب ليعرف الصادق والكاذب , والصادق الحقيقى هو اللى يحب المسيح أولاً ومايقعدش يتغنى بالمستحيل .
فجأةً تغير وجه مارى وتلون بشعلةٍ من الغضب وهى قائلةً له :
- كنت عاوز تضحى بدينك وبالمسيح من أجل انسانة طول عمرها ماحبتك ولكنك ظنيت وتوهمت كدا بسبب اهتمامها الزايد بك ، أنت صغير ومتهور حتى فى عاطفتك .
بكى سامى بحرقةٍ وقال :
- ليه تظلمينى وتظلميها ؟ وربنا هى بتحبنى والدليل على ذلك ان زوجها ماقدرش يدخل بها فى ليلة الزفاف ورفضت انه يمسها .
- أنت كنت معهم علشان تقول كدا ؟! .
فازداد بكاءً فقالت له :
- ليه بتبكى وتتألم ياسامى ؟ ليه تعذب نفسك ؟ أنت شايف النهر ، هل تقدر تعبر للناحية التانية إلا إذا كنت تعرف تسبح وتعوم ، علشان كدا لازم تتعلم العوم لأن بينك وبينها بحر عميق لو نزلت فيه ممكن تغرق وتموت ، سامى هى موش هتتخلى عن دينها فإن كنت تحبها بحق فخليها تسعد فى حياتها وإوعى تكون مصدر تعاستها وهى كمان إن كانت بتحبك لازم تخليك تحيا وتعيش .
وضمته مارى إلى صدرها وهو يبكى بعيونٍ ممطرةٍ وقالت :
- هنروح مع بعض دير المحرق .
******-******-******
سجن أبو غريب
بدا عادل متماسكاً قليلاً وبدأ الخوف المحبوس فى صدره ينزاح من أنفاسة اللاهثة بعد مرور يوم كامل فقد فيه صاحبه ناصر ولم يعرف لماذا قبض عليه فيه ولا يعرف أين هو إلى الآن .
بين آونةٍ وأخرى يأتى أحدهم ويسأله عن بياناته الشخصية ، اسمه وعنوانه ، وبعدها بدقائق يأتية آخر حتى دنت الشمس من الغروب ففكوا قيده الحديدى ثم أوثقوا يديه برباطٍ من القماش خلف ظهره وسحبوه إلى غرفةٍ ضيقةٍ بعد أن خلّعوه ملابسه كاملة وألقوا به على مرتبةٍ إسفنجيةٍ مبللةٍ بالماء وموصلةٍ بدائرةٍ كهربائيةٍ ضعيفة التردد .
لم تنقطع صرخات عادل المتواصلة حتى كاد يغمى عليه فأوقفوه فوجد الشجاعة فى نفسه أن يسألهم:
- ليه بتعملوا معى كدا ؟!
سألهم ذلك وتوسل إليهم بكل الوسائل حتى ولو قتلوه بعد أن يجيبوه ولكنهم لم يفعلوا وقاموا بمواصلة تعذيبه وفى قرارة نفسه كان يدرك أن ما يفعل معه له علاقة بلقائه مع رجل المخابرات , أو أن ضابط المخابرات رشيد هو الذى أوشى به .
حاول بكل قوةٍ أن يعيد تماسكه المنهار فلم يقدر وجاءه رجل بدا من صوته الغليظ أن جسمه لا يقل بدانةً أو غلظةً عن صوته فصفعه على وجهه صفعةً ثقيلةً وقال له :
- الآن جاء ميعاد الكلام
قال عادل :
- أناعاوز أستريح .
- هنا جهنم مابيوجد راحةً هنا .
- أتوسل اليك بآل البيت إنك تقول لى ليه بتعذبونى ؟
- أنا كفرت بالبيت وآل البيت ياابن الزمال .
ثم خلع له غمامته فبدت ضخامة الرجل وعيونه البارزة وشنبه العريض المفتول كما تخيله عادل ونادى بصوتٍ مرتفعٍ :
- حرس
فجاء ثلاثة رجال مفتولى العضلات يمسك أحدهم سوطاً والآخران يمسك كل منهما عصاً غليظةً فقال له الرجل :
- أنت بترى هولاء الرجال .. دول هيسلخون جلدك ويكسرون عظامك إن لم تعترف
- أعترف بإيه ؟
- من اللى أعطى لك الدولارات اللى وضعتها باسمك فى البنك والأخرى اللى وجدناها عندك ؟
- محدش أعطانى دولارات .
فأشار لهم الرجل فضربوه على رأسه وركلوه بأقدامهم فى بطنه فتكور عادل وتقلص ملموماً على نفسه فأوجعوه ضرباً بأيديهم , ثم ضربه الثالث بالسوط بشكل همجى جنونى حتى هزمه السوط فترنح فصفعوه على الأرض الصلبة مغمىً عليه وجسمه ينضح دماً .
أفاق بعد دقائق وهو عاجز عن النطق والحركة ، صوت همساتٍ دائرةٍ التقطها من غرفةٍ مجاورةٍ جاء على إثرها نفس الرجل وقال لعادل :
- لقد أمرونى أن أسألك مرةً أخرى عن الفلوس .
فقال بصوته المتقطع الواهن :
- كنت أعمل مدرسا لابن رجل بيته بالقرب من ميدان على بابا .
- عادل اسمع هل هذا الرجل كان بيعطيك حقك بالدولار ؟ هذا غير معقول !!
- لا لا هى أجرى من دروس لطلبة بالقرب من المربع .
- دير بالك يابواق هذا غير معقول .
ارتبك عادل قليلا فخنقه الرجل بيده وطرحه أرضاً وقال له :
- أنت متهم بأنك صرت عميلاً للمخابرات الأمريكية .
- لا أبداً .
- قم ياقواد .. عرفت كل شىء عنك وعنهم ، كنا بنسير ورائك من زمن طويل .
ونادى الحراس فجاءوا على الفور فتكور عادل على نفسه حين رآهم وانزوى مرتعشاً فى ركن الغرفة فقال له المحقق :
- مافى ضرب الليلة أكثر من ذلك ، ولكن أيامنا طويلة ففكر الليلة من أجل أنك غداً تخبرنى مين هو صقر المصرى ، ومن أجل أنك تحافظ على حياتك وتنجو من الموت لابد انك تعترف .
******-******-******
لم تكف الآهات والصرخات المدوية فى صمت المكان الموحش طوال الليل من قريب أو بعيد ، ولم يفكر عادل وهو فى غرفته المظلمة فيمن يعذبون حوله أو فى جسده العارى كما لم يعد مهتماً بجروحه التى بدت كبقع سوداء وخطوط طولية وعرضية ، ولكن انصب تفكيره فى مصيره المظلم ومستنقع الموت الذى وقع فيه وكيف ينجو منه ؟
تثاقلت عليه عيناه التى أزرقت وجعلته يخطف النوم دقائقاً أفاق خلالها على الحزن والألم والوجع وقلبه قد تورم حقداً على رشيد الذى لا يشك لحظة فى أنه وراء ما يجرى له ، وكلما أحس عادل بهمساتٍ خارج غرفته قام مرعوباً وظن أنهم جاءوا لكى يستكملوا معه التحقيق والتعذيب .
أفاق على أصواتهم وبسرعةٍ وقف منتصباً ووجهه إلى الجدار ورفع يديه كما علموه ولكنهم ألقوا بجواره شخصاً جريحاً وتركوه ومضوا عائدين .
على نور شعاع الفجر الذى يتسلل من شباك الغرفة الضيق ليقشع خطاً من ظلامها على هذا الشعاع تحسس عادل الجريح وغمزه بإصبعه فى صدغه وحركه ولكنه كان خائر القوى تماماً ، بعد عدة دقائق عادت إليه بعض قواه ونطق أخيراً وقال له :

- أنا ناصر ياعادل .
كانت أنفاسه لاهثةً وجسده منهوكاً من كثرة التعذيب .. وحين يقع الإنسان فى أزمة عاتيةٍ فوق طاقة البشر يتلمس الأمان حتى لو كان من السراب ، فارتميا فى أحضان بعضهما وطبعا على جسديهما من جروحهما دماً .
شعر عادل ببعض الأمان وقال لصاحبه ناصر :
- حاول انك تتماسك شوية وبإذن الله هانت .
- أنت عملت إيه ياعادل ؟ ! دول بيظنوا إنى أنا هو أنت وأنت عارف السبب هو إيه ؟ .. جواز سفرك اللى أخذته منك علشان أشغلك به عند جعفر هو السبب لأنى وضعت عليه اسمى .. سامحنى ياعادل .. دول لايصدقونى .. قل لهم ياعادل الحقيقة
فسكت عادل ولم يدر جواباً يقوله له فقال له ناصر :
- بيتهمونى إنى أتعامل مع المخابرات المصرية .
- المصرية !!
- أيوه
وتثافل عليه الوجع فقال لعادل :
- إنا أشعر إنى هموت ياعادل ..موش قادر أتكلم .. حطونى على زجاجة .. خازوق ياعادل .. أنا أظن ان أحشائى تمزقت .
من صوت ناصر الواهن والدم الذى يسيل منه بغزارة على أرض الغرفة أدرك عادل أن ناصر سيلقى حتفه فقال باكياً :
- لا موش هتموت ياناصر .
- اللى يدخل هنا لا يخرج فإما إنهم يقتلوه أو يسجنوه طول العمر وأنا قتلونى ياعادل .
وأطرق رأسه وقال :
- دى هى لحظاتى الأخيرة .
ثم تحامل ووضع رأسه على فخذ عادل وقال له :
- قل لشادية تسامحنى ، أنا كنت أعرف انها بتكرهنى وان العمدة أجبرها على الزواج منى ، هى امرأة ياعادل .. قل للعمدة يسامحنى ومحمود ابن عمى وصاحبى يسامحنى ابقى حب لى على رأسه .. عادل عاوز أشرب.
كل ذلك قاله وعادل ينهمر بالدمع
فقال له عادل :
- حاول تتحمل لو طلبنا الماء هنأخذ علقة سخنة وأنا خايف عليك فجسمك موش هيتحمل .
وكلما مرت دقيقة ازداد جسد ناصر برودةً وضعفاً
أخذ يرتعش وهو يقول :
- أنا أعمل مع البعثيين وكنت على استعدادٍ لعمل أى شىء حتى انى فرضت الإتاوات على بعض المصريين اللى كنت أشعر انهم بقوا اغنياء .
ورفع يده ووضعها على رأس عادل يعبث بشعرها وقال له :
- سامحنى ياصديقى .. جعفر طلب منى انى أجيب له بعض المصريين علشان يشغلهم معاه .. دا عميل ياعادل .
وغفا غفوةً طويلةً ، فقال له عادل وهو يضع رأسه بين كفيه :
- أنت رايح فين وسايبنى وحدى .. أنت رايح فين ياحبيبى ؟!
فأفاق ناصر على صوت بكائه وقال :
- إوع تبك ياعادل إوع .. عادل .. عادل إن روحت فى يوم من الأيام ورحت البلد سلم لى عليها كلها وسلم لى على أرض الجبالى وعلى الحاجة مريانه وشادية وقل لها إياك تدعى على ناصر ربنا .. عادل .. عادل
- نعم ياناصر .. كفاية كلام أنت تعبان يناصر .
- عادل لما تلعب الكرة فى أرض الجبالى خلّى مركز الدفاع خالى إوع حد يلعب فيه غيرى .. هه ياعادل .
وغفا غفوةً أخرى وأخذ يهذى بعدها بكلام لم يستطع عادل أن يفسر حروفه أو يفك طلاسمه وبعدها ذهب صاحبه مع الموت إلى غير عودة .
******-******-******
وهو يتسلل فوق الجسر عيناه كانتا ترمقان النور الباهت الذى يبدو أمام دار العمدة ، ابتسامةً ولدت على شفتيه بينما كيانه كله من الداخل فى الناحية الأخرى من الجسر والشعاع الذى يتسلل إليه من الحجرة التى أمامه والتى تهتز أركانها من صوت بكاء ترامى إلى مسامعه .
نادى عليه العمدة بصوت شاحب :
- أكيد سمعت ما جرى ياشيخ شعبان وأديك سامع البكاء ، أنا نفسى ماعادت تطيق مرضها أوتتحمل بكاءها وإغماءها
قبل أن يرد على العمدة تقدم اليه محمود وسلم عليه وقال :
- تفضل ياحضرة الشيخ .
تعجب شعبان من تغير محمود المفاجىء وابتسم فى وجهه ابتسامةً ساخرةً ثم قفز الى الداخل وتوغل بعينيه يبحث عنها حتى وجدها .
كانت متكورة فى ركن الحجرة وكان جسدها الممشوق الفتان مازال محتفظاً ببريقه وجماله فقال :
- حرام أن يقال عنها ما قيل .
- والشيخ عباده مابطلت بكاء من يوم الفرح
قال ذلك محمود ابن العمدة
كانت هى ترهف السمع لما يدور وفجأةً انبجس منها الكلام بعصبيةٍ وجنونٍ قائلةً :
- موش هتزوج أى واحد
جاوبها شعبان بصمت وبعينه التى تهيم فيها وهم جميعاً فى المندرة التى يستقبلون فيها ضيوفهم وبعد برهة قال لها :
- لماذا لا تعيدى التفكير فى هذا الأمر ، لا تيأسى مما حدث لك لعل هناك من يعجبك وكان قدر الله قد اختاره لك .
انتابتها حالة الهياج والبكاء .. شعبان ساكن يغوص فيها بعينيه .. وجهه يبدو عليه الإشفاق والحزن .
قال له العمدة :
- إيه الحل ياحضرة الشيخ ؟
قال شعبان :
- هل تشتكى هى من صداع ؟
قال :
- أيوه
قال شعبان :
- على العموم هناك نوع من السحر يسمى سحر المنع يمكن أن يصيب الإنسان فيجعله شاحب الوجه مسلوب الإرادة , ويمكن أن يكون قد صور لها ناصر على أنه شيطان وصورها له على أنها رجل .
وجد هذا الكلام هوىً فى نفس العمدة وابنه , فقال محمود :
- وياترى مين اللى عمل السحر دا ؟!
- السحرة الأشرار كثيرون , وفى الفترة الأخيرة المسيحيون يلقون بالأسحار والأعمال فى الحوارى والشوارع وبمجرد أن يمشى فوقها أى إنسان يصيبه السحر وخصوصاً الحريم ؛ لأنهن ضعاف , والسحر يصيب الإنسان فى لحظة ضعف وبعدٍ عن الله .
وأردف شعبان قائلاً وهو يرفع صوته :
- القرآن فيه علاج لكل شىء .
قال العمدة لابنته :
- تعالى يابنتى واقعدى جنب الشيخ علشان يقرأ لك ربع من القرآن وبإذن الله فيه الشفاء .
قالت شادية :
- إذا كان دا هيريحكم فأنا موافقة
انتحى شعبان بها جانب الحجرة بعد أن أغلق بابها عليهما وانفجر ما كان بداخله من بقايا عاشق قديم كان يتوارى وراء جدران البيوت وحوارى القرية , ويعبر مسارب الحقول كى يفوز منها بنظرةٍ واحدة وهو يعلم أنه من المحال أن تفكر فيه لحظةً وبينها وبينه كما بين السماء والأرض وهى المسافة بين أبيها العمدة وأبيه الفلاح الأجير .
أخذت عيناه تغوصان وتهيمان فيها وهى جامدةً لا تعبأ به , وأخيراً لما تذكر مهمته قرأ ما تيسر له ثم نفث فى يده ومسح على جسدها الطرى , وعيناه لا تفارقان عينيها الواسعتين .
وبعد دقائق غض بصره وهمس يستغفر الله ولكنها غلبته بعينيها فأخذ يقول بغير إرادته :
- إنه شىء يصعب مقاومته
قالت له :
- إيه هو ؟!!
- السحر
- أنا مفيش عندى سحر !!
- لن نخسر شيئاً فالقرآن لن يضرك وغداً ستعلمين أنى كنت على حق .
قالت له :
- وإيه الحل ياشيخ شعبان ؟
قال لها :
- أعطنى يدك
فسلمت له يدها بشجاعة فكتب لها بعض الحروف وقال لها :
- لاتقولى لى ياشيخ ونادنى بشعبان فإنى لست غريباً عنك حتى تضعى حواجز بينى وبينك
فقالت له :
- زى ماتحب ولكن مفيش فائدة من عملك فأنا أعرف ال فىّ
قال لها :
- سنجرب
وارتشف منها بعض نظراتٍ هيجت ما فى صدره فـأخذ يقرأ ويضغط بكفه على يدها ويده الأخرى يمد أناملها لتمسح على شعرها البنى المنسدل على ظهرها ولم يكن قادراً أن يلم نفسه وكأنما عثر على الحياة فقال لها :
- شعرك جميل
فقالت متعجبةً :
- أنت تقصد إيه ؟!
فتعرقل لسانه قائلاً :
- أقصد سيكون جميلاً لو كان تحت الحجاب
فتناولت إيشاربا وضعته فوق رأسها ولكنه زادها بهاءً وجمالاً فأخذ يقرأ وأنفاسه لاهثةً ، يدور حولها والعاشق الكامن فى داخله يشتبك مع الشيخ المتدين والأمير الداعية ، لقد أثقله الاشتباك وأنهكته هذه المعركة فقعد على كرسى أمامها واعتصره شىء غامض فماتت نظراته إليها وهجس له أنه مجلل بالإثم عند الله ثم الخديعة لإخوانه أعضاء الجماعة .
استجار بنظره الى سجادةٍ حمراءٍ مزركشةٍ رأى مثلها فى شقة شيخه صالح وتوالت وخذات العتاب فى نفسه . شخصت ببصرها إليه كأنما تفتش فى طياته وتعانقت عيناها مع عينيه فاعتصرته رغبته مرةً أخرى فضغط بكفه على فقرات من ظهرها وأخذ يكتب بإصبعه حروفاً على جبهتها ومفاصل يدها فقالت له :
- أنت عاوز تعمل إيه بالضبط ؟!
فقال لها بحدةٍ :
- لماذا تسألين ، ليس لك حق فى أى سؤال لأنك السب فيما حصل لك
وتوالت كلماته لها وهى صامتة لاترد :
- أنا الوحيد الذى يستطيع أن يخرجك مما أنت فيه ، إنى لا أصدق أنك وسامى ..
وسكت ثم وضع يده فوق رأسها وانفلت قائلاً :
- لماذا لم تشعرى بواحد مثلى فى يوم من الأيام ، لماذا كنت لا ترينى وأنا واقف تحت الشمس فى عز الظهر يوماً بكامله حتى أراك ؟ !
قالت له :

- إيه اللى بتقوله ؟ أنا غير مصدقه
فقال لها :
- طبعاً لأن أبى رجل فقير وأنت بنت العمدة ؟!
- أرجوك اسكت وكفايه كلام .
نظر لها بغيظٍ واستكمل عمله .. الدوامة أخذت تمور فى نفسها وأشياء غريبة .. لم تصدق نفسها وما يجرى لها .
حاولت أن تسحب يدها من كفه وهو يضغط عليها ، تأوهت قليلاً وتهيج الدمع بعينها , اهتزت وصرخت واستطاعت بعنفٍ أن تهرب من أمامه لترتمى فى حضن أمها وهى تصرخ وتنتحب .
خرج شعبان وهو يمسح العرق من فوق جبهته ويحاول أن يدارى من تضاريس وجهه اللحظات الفائتة قائلاً :
- لقد حضر الجن وكدنا نفك الطلاسم والعمل ولكنها لم تصبر
قال العمدة :

- ربنا ينتقم من اللى آذانا
فهمس شعبان قائلاً :
- الظن عندى إنه سحرنصارى وهى تحتاج لكتابة الرقية وأوراق أخرى
فغمغم محمود قائلا :
- ابن الكلب عمل لها سحر كمان .
******-******-******
ومشى شعبان متعامياً محزوناً بخطواتٍ تائهةٍ إلى المسجد وهناك جلس منزوياً بجوار المنبر ينتظر علىّ حتى يفرغ من صلاته كى يحدثه قليلاً ، كان يشعر أن هماً ثقيلاً وجرماً مطبقاً قد ارتكبه اليوم .
رأى علىّ من بعيد وجهه الجامد والصمت الراقد على شفتيه فدنا منه قائلاً :
- مالك ياشيخ شعبان ، هل حدث لك مكروه ؟!
- لاشىء .. أنا تعبان فقط .
فتغشاه بنظرات حانيات وقال له :
- انا أعرفك جيداً لا تكذب على وأخبرنى بالحقيقة
- أى حقيقة ؟
- حقيقة الشىء الذى يضايقك
بعد فترة من الصمت تبادلاها معا تجاوب شعبان مع علىّ وقال له :
- أنا أخطأت ياشيخ على
- أخطأت فى ماذا ؟!
فعاد يدارى ما بداخله وقال :
- لا شىء ولكنى اخطأت فى غفلتى عن قراءة الورد فى الأيام الأخيرة
- ومن منا لا يخطىء .. كل بنى آدم يخطئون ولابد من سنة الغفلة ولكن كن خفيف النوم كما قال بن القيم رحمه الله .
فقام شعبان قائلاً :
- اسألك سؤالاً فجاوبنى عليه بصراحة .. لماذا يكرهنى بعض الناس ؟!
فسكت على وبعد لحظات قال له :
- ياصديقى لايوجد إنسان كامل كما أنه لا يوجد إنسان اجتمع حبه فى قلوب الناس
فقال شعبان :
- والله أنا إنسان يحب الدين ولا يحب الظلم ، أحب الناس كلهم ، وأنا نفسى أعمل شىء وأحاول أن أفعل الخير ولكن الناس تفهمنى غلط .
- ولماذا لا تقول أنك تفهم بعض الأمور غلط ؟
- يعنى أنت تفهم كل شىء صح ؟!
- لم أقل ذلك ، وكلنا نحتاج إلى وقفات , وأنت ياشيخ شعبان محتاج للخروج من الساقية التى تديرها وأنت مغمض عينيك ، فاخرج إذاً أو اجلس جلسةً هادئةً مع نفسك وقل لها من أنت وماذا تريدين ؟ ونصيحتى لك إذا كنت تعبان من الإمارة فاسترح منها قليلاً .
فقام شعبان منتفضاً من مجلسه قائلاً :
- ماذا تقول ياشيخ على ؟! .. لا لن أتركها ابداً
ثم قال بترددٍ واضحٍ :
- أنا لاأحب الإمارة فهى عندى مسئولية ولكن هى أيضاً خدمةً للدين
ثم نظر لعلى بعينين حادتين قائلاً له :
- لا تفكر فى الإمارة طوال ما أنا على قيد الحياة ياشيخ على .
******-******-******
الجنازة
فى ذهول من آل الحاج عبد السلام وصل تلغراف إلى ديوان العمدة يعلمهم بوصول جثة ابنهم من العراق ويطلب منهم أن يتسلموها ، فى جنح الظلام وصل الصندوق الخشبى المغلف بالشمع وهو يحمل فى جوانبه جثة ناصر تتسرب منه رائحته وشىء من أثر الدماء مبذور , بينما عادل ما زال هناك تحت سياط العذاب وأهله يظنونه ميتاً لما وصل الصندوق .
تكرر هذا الخطأ من قبل كثيراً لكن الحاج عبد السلام لم يحتمل الخطأ وأخذ يتساءل كيف مات ابنه وبالأمس القريب وصلتهم رسالةً منه ؟! إن كل الذى عرفوه من ضابط الحملة الذى جاء بصحبة الجثة أن الحكومة العراقية تفضلت مشكورة بغسله وتكفينه وإرجاعه إلى أهله وأنهم بلغوا السفارة المصرية أنه مات إثر القصف الأمريكى للعراق .
لم تستطع العيون أن تكتم دمعها على فتى القرية الجميل ذى العيون الزرقاء , الذى كان لا يفارقه العطر الذى يتضوع من فوق ملابسه الإفرنجية , ولم يتصور أحد أن تكون أنفاسه قد سكنت إلى الأبد وأن الدماء قد خمدت فى عروقه .
خيم الصمت .. رجع النحيب الذى يذهب ويعود يتسلل من جدران البيوت الطينية الضيقة حولهم ويطوف بالمكان .
- مات عادل .. مات أبو ابنى اللى مالى غيره .. مات وموش هتشوفه عينى
هكذا صرخت زبيدة وهى تقعد بجوار الصندوق الخشبى وتتمرغ فوق غطائه وعيونها تغلى بالدمع . أخذت تهز فيه وتريد فتحة لولا أن شدوها للوراء ، فصرخت فيهم قائلة :
- سيبونى أشوفه للمرة الأخيرة
واقتربت من زوجة عمها وقالت :
- ياأمى الحاجة عادل راح وموش هيرجع .
ثم التفتت إلى الضابط قائلة :
- ياحضرة الضابط سيبنى أشوفه للمرة الأخيرة .
وقف كامل يسند أمه العجوز كى تلقى نظرة على الصندوق الذى يحمل فى جوانبه جثة أكبر أبنائها كما تظن وبجوارها وقف الحاج عبد السلام مستنداً على عكازه وقال :
- إيه اللى جرى ياناس كلما راحت عنا مصيبةً جاءتنا غيرها ؟
وثبت عينيه الدامعتين على الصندوق وقال :
- قد إيه قلت لك ياولدى فلوس العراق مسمومة ، وأنت وعدتنى انك موش هتروح فليه سافرت ؟ .. سنوات عمرك مضت وراحت وأخدتنا معها ومفيش فايدة من الحياة بعدك ياعادل .
تأثرضابط الحملة ودنا من الحاج عبد السلام وخطوط الحزن فوق وجهه واضحة وقال :
- وحد الله ياحاج ، كلنا هنموت .
قال له :
- أمريكا قطعت دراعى ياحضرة الضابط وماعاد لى دراع .
قال العمدة وهو محاط ببعض الغفر :
- بإذن الله مثواه الجنة ياحاج ، عادل مات غريب والغريب عند ربنا شهيد .
رغم كلمات الصبر والسلوى التى يلهمها بعض الناس الموجودين فلم يتمكن أهل الحاج عبد السلام ولا اقرباؤهم أن يكتموا الدمع على فلذة كبدهم الذى مات فى بلاد غريبة .
واندلعت الجنازة زاعقة وهى تمشى فوق الجسر , وحمل النعش فى مشهد حزين رهيب خلا من الحريم اللاتى عيونهن من خصاص النوافذ تذرف الدمع بينما خطى الوداع تتواصل لتوارى الشاب بين رمال الجبانة .
******-******-******
ليس أسوأ من أن تعرف قيمة الدنيا فى عينيك وتدرك أنها لامعنى لها .
رحل عادل بلا عودة وغمرت روح الحاجة مريانه تلك المعانى وهى عائدةً تنزلق من عينيها دمعتان ساخنتان بعدما قدمت واجب العزاء لبيت الحاج عبد السلام ومعها غالب وزوجته مريم .
انفلتت نظراتها إليهما وملأت عينها بمتعة الرضا وكيف راهنت بأن الزواج هو أكثر من شهوة الجسد إنما هو روحان يلتئمان .. يسكنان إلى بعضهما .. يعيشان فى مودة ويؤوى كل منهما إلى الآخر وتشملهما المودة والسكينة .
لم يخيل إليها أنها ستكسب رهانها وهذا ابنها غريان رغم أنه متزوج من امرأة جميلة من القاهرة ولكنه كان يميل إلى مريم التى هى أقل منها جمالاً بل حاول قتل أخيه وكان سيقتل زوجته حتى يتزوجها بعد ذلك .
هذا هو طبع الإنسان الغلاب الذى يحب أن تكون له أكثر من زوجة فلاهو يستطيع أن يكبح جماح رغباته ولا هو يجد لة ثقباً فى دينه ينفذ به إلى زوجة أخرى عن قناعةٍ واقتناع .
وتمتمت شفاهها وقالت :
- آه من الذرية والأولاد يتعبوننا فى حياتهم وفى مماتهم .
قالت لها مريم :
- إحنا اللى بنتعب نفسنا
ففهمت مرادها وما توحى به كلماتها فآثرت الصمت ولكن مريم قالت :
- غالب عاوز يقول لك حاجة مهمة .
- هنا وإحنا فى الطريق !!
فانفلتت الكلمات من غالب مسرعة :
- ياامى أنا سامحت أخويا غريان .
فقالت له أمه :
- ده موش كلامك ياغالب .
مريم :
- أنت أكيد يامقدسة تقصدينى !!
- أيوه
- أنا ماقلتش له شىء غلط
- ورأفت يابنتى
- مالوش رأى بعد رأيك
- لما أبعت لنيرمين ونقعد كلنا ونبحث الأمر أقرر
تألق السرور علي مريم :
- أنا متأكدةً من أنهم كلهم هيسامحوه وينتهى الأمر .
******-******-******
بضحكة هادئة وهى تخلع ملابسها قالت مادلين لمارى :
- أنا مالى دعوه لا بفلوس ولا بغيره
قالت لها مارى وهى تمتلىء غضباً :
- أى إنسانه لا تهتم بأمر دينها لا تستحق الاحترام
قالت مادلين :
- إيه اللى جرى يامارى أنت غير طبيعية اليوم هل كل ده بسبب رسالة حكيم ؟
منذ بضع أيام كانت مارى قد وصلتها رساله من حكيم مرفقة بشيك موضوع باسمها ليساهم فى توسيع بناء كنيسة القرية من جديد .
قالت لها مارى :
- أنت إنسانة مستهترة
- بل أنت المضحوك عليك .. مفكرتيش ليه أرسل لك أنت بالذات الرساله والشيك وهو يعرف كويس ان جدتك قامت بتجديد بناء الكنيسة , وكمان يعرف انك ماتقدريش تتصرفى فى الأمر ده إطلاقاً
أصبحت مارى معدومة الحركة والصوت من كلمات أختها التى تتابعت قائلةً :
- اسمعى بق الحقيقة .. هو عاوز يقول لك أنا هنا ويقول لوالدك ان حكيم اللى رفضته معاه دلوقت دولارات فايضة عن حاجته .
- أنت دايماً ظنانة
- بل أنت وهو خليته الدين حجة يحقق لك أنت وهو شىء إحنا نعرفه جميعاً
فنظرت إليها مارى بحنق وأرادت أن تنصرف فقالت لها أختها :
- اذا كنت بتحبى دينك بجد وقوة فحاولى تساعدى أخوك سامى وتخرجيه من الهم اللى أصابه وهذا أولى لك ولنا
******-******-******
كانت نهاية التحقيقات هى اعترافه بتلقيه أموالاً من شخص مجهول يسمى صقر المصرى لم يلتق به سوى مرة أو مرتين فى حديقة صدام وكان على موعد للقائه ثانى أيام القبض عليه ولكنه لا يعرف عنه معلومات سوى ذلك .
وعلى غير المتوقع اكتفى من عادل بما قال واقتيد فى عربة ترحيلات إلى سجن أبو غريب الذى يقع بالعاصمة بغداد فوصله أول الليل بملابسه التى طبع عليها الدم والصديد .
عبر بوابته العريضة والعتيقة إلى الممر الذى لمح فى آخره عنبر المساجين بنوافذ زنازينه الضيقة ، الجدران الصلبة ، القضبان والأسلاك الشائكة والممرات الملتوية التى لاتختلف كثيرا عن ذلك السجن الذى زار فيه ابن عمه على .
شعر عادل أن مستقبله وحياته سوف تبتلعها تلك الجدران فى سكون وصمت .
لم يطل انتظاره أو تفكيره كثيرا فقد التف حوله الحرس وقاموا بتفتيشه , ثم بدأوا فى برنامجهم المعتاد الذى لايعرفه عادل وهو حفلة الاستقبال التى يستقبلون بها سجناءهم الجدد .. علقةً ساخنةً تستخدم فيها الأيدى والأرجل مع سيل من الألفاظ البذيئة .
بعد نصف ساعة من حفل الاستقبال سُلِم بدلة مصنوعه من الكتان واقتيد إلى العنبر السياسى أو عنبر التخابر الذى يوضع فيه المتهمون بالتخابر مع دولة أجنبية .
يتكون العنبر من أربعه أدوار مستطيلة ومثلها على الناحية الأخرى يفصل بينهما فناء واسع مغطى بالقضبان الحديدية .
صعد عادل درجات السلم وروحه منقبضة واليأس ينبعث من قلبه على أيامه التى أصبحت ذكريات
ودفع إلى زنزانة فى الدور الثالث وبمجرد أن دخلها القى عليها نظرة سريعة .. طولها حوالى خمسة أمتار وعرضها أربعة وبها دورة مياه واحدة ولا يقل سكانها عن عشرين فردا .
ما إن أغلق الباب حتى تزاحموا عليه ، وسرت فى الزنزانه جلبة شديدة وصخب ، فالساكن الجديد محمل بأنفاس الحرية وهوائها الذى لم يستنشقوه منذ سنوات طويلة .
أصبحت العيون كلها نحوه فهو الذى سيربطهم بما جرى خارج السجون طيلة هذه الأعوام وينقلهم إلى ماوراء الأسوار ، يحكى لهم حكايات جديدة وهم الذين يعيشون بلا جرائد أو جهاز الراديو ولا حتى لمبه تنير لهم سواد الليل البهيم .
ما بين شد وجذب بين من يرون أنه يجب أن يستريح ومن لا يطيقون البقاء حتى الصباح دون التعرف عليه وعلى أخباره حسم أحدهم الأمر وأحضر كوبا من الماء محلى بالسكر وهو المشروب الوحيد الموجود والمفضل عندهم وقال لهم :
- موأنتم هتروحون بعيداً عنه ولاهو هيروح بعيداً عنكم .
قال عادل مندهشاً :
- من إمتى وأنتم هنا ؟
ما بين قائل سبع أو عشر سنين ولم يقل أحدهم عن خمسة أعوام قضاها فى السجون .
قال عادل :
- ومتعرفوش أخبار أهلكم .
فتناعمت أصواتهم بأسى قائلين :
- ياأخ لاجوابات ولا أخبار ولازيارات
قال له مسجون يبدو من شكله أنه كبيرهم :
- ياأخ حول عينك عنهم واجعلنى أصيّر لك دواء يداوى لك جروحك وماتفكر فيما يقولون لك فكلها شهر أو شهرين وتخرج بمشيئة الله .
باحتكاكٍ مباشر عن طريق أرض الزنزانة الصلبة استطاع الرجل أن يجعل قشر البرتقال الناشف كالرماد وألقاه بين الجروح الغائرة وقال لعادل :
- هذى هى وسيلتنا الوحيدة المتاحة من الأشياء التى تجيئنا فى التعيين ولكنها مجربة فى السجون وصحيحة وأطباء العالم كلهم لو عرفوها لصيروها علاجاً لأعتى الأمراض
قال أحد المساجين ساخراً :
- المفترض أن يسجنوهم معنا .. والله يازلمه كنا صيرناهم أحسن أطباء .
قال عادل :
- مفيش علاج هنا غير قشر البرتقال ؟!
قال الرجل :
- فيه أحسن
ثم أشار إلى السماء وقال أيضاً :
- ما ندرى شنو ربنا
وقال آخر :
- خبرنى ياأخ إيش اسمك ؟
- عادل
- قل لى ياأخ عادل .. أنا عرفت من مظهرك إنك مصرى ولكن قلت كيف لمصرى يكون له واسطة فى الدولة خففت عنه الحكم .
- لا أنا ماليش غير ربنا
فقال له :
- يبقى احمد ربك ، لأن هناك سجون فى نواحى بغداد بها وجبات يومية من التفتيشات والتعذيب وبعدما يظل فيها المعتقلون سنوات يأتون بهم لهذا السجن .
- دول حققوا معى وأتوا بى لهنا على طول .
- يبقى أكيد لك واسطة فعقوبة التخابر إما الإعدام أو المؤبد .
******-******-******
قبل أن يوغل علىّ فى الطريق هو وبعض إخوانه إلى جنينة المغاربة التى تقع فى إحدى النواحى بالقرب من الجبانة لحق به شعبان قائلاً له :
- البقاء لله وحده ياشيخ على .. كلنا سنموت وبإذن الله الأستاذ عادل يكون فى الجنة
أطرق على صامتاً والجميع حوله لا يجدون أكثر من هذه الكلمات يواسون بها صاحبهم والذى بدا متحليا بالصبر وذهب هو وإخوانه ليوزعوا بعض التبرعات على فقراء القرية .
قال على :
- جزاكم الله خيراً ياشيخ شعبان .
فقال شعبان بتردد :
- أنا.. أنا ذهبت الى بيتكم وبقيت فترة كبيرة بجوار الحاج ولكنى لم أجدك
- أنا خرجت كى أصبر نفسى بتوزيع بعض التبرعات فى الجنينة .
فابتسم شعبان وقال له :
- جزاكم الله خيراً على مجهودك ياشيخ على .. فاذهب أنت والإخوة وأنا سألحق بك مع الدكتور جلال .. هو على العموم موجود بالقرب من هذا المكان .
فتساءل على قائلا :
- من الدكتور جلال ؟ !
- أرسله لنا الإخوة من ملوى حتى يشاهد فقراء القرية بنفسه وأرسلوا لنا توصيةً أن نهتم به لأنه لو اقتنع بما سيشاهد فسيدفع تبرعات كثيرة
- لا أفهم !!
- الرجل يشك فينا .. بعض المغرضين قالوا له أننا نلم التبرعات حتى نشترى بها سلاح
قال على :
- خير بإذن الله
وقبل أن يهم بالمشى نظر له شعبان قائلا :
- ياشيخ على أنت مازلت زعلان منى ؟!
فسلم على عليه وقال له :
- أنت تعرف أنه طالما مر علىَ الليل نسيت كل شىء
- بارك الله فيك ياصديقى العزيز .
قال ذلك ومشى مسرعاً ليأتى بالدكتور ليشاهد فقراء القرية الذين يعيشون فى أكواخ طينية بجنينة المغاربة
سلم على وإخوانه على الدكتور بحرارة غير عادية , وعرفوه على أنفسهم واحداً واحداً وهم يسيرون بجواره حتى وصلوا كوخاً تعيش فيه امرأة مسنة جاوزت السبعين من عمرها ومعها ابنة شابة ولكنها كانت كفيفة البصر , ثم اخترقوا إلى عشة مبنية من الخوص وعيدان الذرة يعيش فيها رجل أعطاه على عشرة من الجنيهات ومضى إلى امرأة تقعد وأطفالها الأيتام أمام موقد من الفحم تضع عليه علبة من الصفيح تسلق فيها بيضتين فناولوها كيساً من الدقيق وعلبة من السمن الصناعى , قال شعبان :
- إنهم يحتاجون ملابس للعيد .
لم يرد الدكتور وشحبت الدنيا فى وجهه وانهار باكياً ثم قال :
- إنا موش مصدق ان فى مصر فقراء بهذا الشكل وان فيها كل الظلم دا ، أنا سأعطيكم ما تحتاجون لتنفقوه فى سبيل الله لأنى مقدرش أشوف المناظر دى أبداً
ومد يده برزمة من الأموال أعطاها لعلى فقال له :
- أكثر الله من أمثالك يادكتور .
- ومن أمثالكم ياابنى .
وقال لشعبان
- منتظرك ياشيخ شعبان بعد ماتفرغ من مهمتك
قال شعبان لعلى بعد أن ابتعد الدكتور عدة أمتار :
- لاتنس أن تقتطع جزءاً من هذه الفلوس للعمل الجماعى
قال على :
– كيف ذلك ؟ كيف آخذ من فلوس الفقراء والمساكين .
رد شعبان :
– الرجل حين تبرع قال فى سبيل الله والعمل الجماعى فى سبيل الله ؟ ونحن نحتاج مصاريف للبيانات والمنشورات التى سنطبعها فى الأيام المقبلة .
فقال على بحدة وغضب :
- لا ياشعبان لا لن أسمح بهذا الأمر مرة أخرى
وأمسك شعبان الصامت من كتفه وقال :
- إذا كان المشايخ قالوا لك ذلك فقل لهم أنى غير موافق .
ثم نظر له برفق وسحبه بعيداً عن اصحابه الذين يرقبون النقاش الحاد وقال له :
- شعبان لقد مشينا معاً فى هذا الطريق من أجل أن نرضى الله لا أن نغضبه .
- ومن قال أنى سأغضبه إننا سننفقها فى سبيل الله .
- أنت طيب ياشعبان ورجاع وأعرفك تبغى الخير وأنا أظن أن هذا الأمر خطأ ونحن فى حاجة أنا وأنت أن نجلس معاً ونراجع الخطأ .
فسكت شعبان فقال له على :
- لماذا لا ترد ؟
التفت شعبان إلى أصحابه الواقفين وهمس لعلى قائلاً :
- أعدك بذلك
ومشى الى الدكتور وعينى على تتبعانه
******************
رغم العالم الجديد الذى بزغ أمام عينيه والمأساة التى تحيط به فقد اهتز فؤاده عطفاً وشعر باليأس الذى يحياه المسجونون حوله .. هذا اليأس الذى طعنهم فى حريتهم وسنوات عمرهم التى ضاعت هباءً ، وتلك الجدران الصماء التى تأكل صحتهم وأعمارهم وهم لايستطعون لها نقباً لذا تحامل على نفسه وجراحه وحاول أن يحرك ركودهم ويسعدهم للحظات فكان كل يوم يتلو على مسامعهم ما يتذكر من الأحداث التى حدثت فى بلادهم فى السنوات الماضية ، وبعد مضى مايقرب من أسبوع تشجعوا جميعاً وتربعوا أمامه وواحد منهم يوزع عليهم الماء المحلى بالسكر وأخذوا يتبادلون الأحاديث عما حكاه لهم عن دخول صدام للكويت ثم هزيمته وانسحابه وحصار قوات التحالف للجيش العراقى ثم الحظر المفروض على العراق ولجان التفتيش التى تريد أن تفتش على الأسلحة المحظورة .
تصاعدت الأكف بالدعاء أن تنتصر أمريكا ثم لا تدع صدام حتى تأسره وتنقذ الشعب من شره .
جحظت عينا عادل متعجباً فقالوا له :
- هذا هو الأمل الوحيد فى النجاة .
لم يدرك عادل أن وسادة الأمل لدى هؤلاء الأسرى أن يتخلصوا ممن سجنهم حتى لو كان المخلص هو محتل غاشم وأن يتغير زمانهم حتى لو يصبح زماناً راكعاً مهزوماً فالحرية هى حلمهم ووجودهم ولو كانت كقصور الرمل سرعان ما تصبح سراباً وهباءً .
قال أحد المساجين وكان مختبئاً تحت بطانية سوداء مهترئة ومحتوىً فى ركن من الزنزانة :
- أما أنا ياأخ عادل فأمنيتى أن ينتصر رئيسنا العراقى , فأنا مارأيت منه إلا كل خير ورأيت كل الشر من الخونه والأفاكين .
رد عليه أحد زملائه :
- أنت إنسان عميل .
وهمس لعادل قائلا :
- عوف منه هذا مرشد .
فانتفض السجين من تحت بطانية قائلا :
- أنا مرشد أنا !! بل أنت الغبى الذى ما يفتهم شىء
فقال له آخر :
- والحسين سيد الشهداء إن ماصمت وكفيت كلام لشرحت وجهك بهذى الشفرة
ثم قال لعادل بجرأة :
- أنا أحذرك منه فإنه يخرج دائما لإدارة السجن يرشد عنا
فقال الرجل :
- لا تصدقهم ياأخ فأنا خرجت مرتين لكى يستكملوا معى التحقيق .
احتدت الأصوات وتعالت ثم تشابكت الأيدى وأصبحت الغرفه مشتعلة بالمعارك التى أصابت الجميع وبعد ساعة هدأوا وخيم على الغرفة صمت مدوى وهمس الرجل الكبير لعادل :
- ماكو شغلة لهم غير مشكلة يصنعونها بأنفسهم وفى الصباح يجلسون يبحثوا لها عن حل ليضيعوا وقتهم الطويل الممل .
******-******-******
المولد فى هذا العام شكله تغير تماماً ، كل شىء فيه أصبح قاتماً فلاسرادقات ولا مراجيح ولاألعاب ، حتى الناس كانت تتوافد إليه على استيحاء وخوف إلا بعض الأهالى الذين عدوا تهديد الجماعة بإفساد المولد إنما هو يقلل من شأنهم ويهون من كبريائهم وقوتهم .
الضابط عصام النجدى الذى أصبح هو المسئول عن ملف التطرف الدينى فى فرع أمن الدولة بدلاً من زميله الريدى الذى أشرف على المصنفات الفنية جاء بنفسه بالقرب من ساحة الاحتفال يحيط به كبار معاونيه بعد أن شن حملة مداهمات واسعة على كل من له صلة بالجماعة من قريب أو بعيد ولكنه لم يحقق شيئاً فقد هرعوا جميعاً إلى زراعات القصب واختبأوا فيها حتى تنتهى الليلة وتعود الأمور إلى مجاريها .
بدأت الشمس تغيب وأصوات المديح تقتحم سماء القرية بخجل .
بأوامر صارمة من النجدى ذهب العمدة والخفر يدفعون الناس للمجىء للساحة ويطمئنونهم أن الجماعة الاسلامية لن تجرؤ الليلة أن تفعل شيئاً لأن قوات الأمن قد استعدت لهم تماماً .
كلما مرت دقيقة كلما كسبت أرض المولد نفراً جديداً حتى قارب الليل على منتصفه وامتلأت ساحة المولد عن آخرها ولكنها خلت من شكلها المليح كل عام فلا لون ولا طعم ولا رائحة .
لقد نجح شعبان فى إفساد فرحة المولد على أهالى البلدة ببضع كلمات .
قال الضابط عصام للعمدة :
- لما ورناهم العين الحمراء لم يجرؤ جربوع منهم انه يقترب من الساحة ، فأنا حفظت طباعهم وعلشان كده عاوزك تكون جريئ وشجاع معهم من اليوم
قال العمدة :
- أنا تحت أمر سيادتك ياباشا .
- وإياك تلين لحظة ، وثق إنى وراك وموش هسيب القرية وبمجرد مايخرج الجرابيع من جحورهم هقبض عليهم ، المرة دى موش زى كل مرة هيغيبوا ورا الشمس فترات طويله زى كتير من أمثالهم
******-******-******
جلس رشيد على السفرة المعدة له فى غياب زوجته التى استأذنته فى القعود بجوار والدتها المريضة منذ أيام ، وعلى غير عادتها منذ إيثارها العزلة فى مرسمها أو حجرتها جاءت مروة وقعدت بجوار أبيها ولم تلامس شفاهها أدوات المائدة غير مرة أو مرتين !
بالطبع والدها فرح بخروجها من قفص العزلة الذى عاشت فيه ردحاً من الزمن بعدما حل ببيتهم ما جرى .
قال رشيد لابنه مازن :
- دير بالك و ماتأكل بعصبية .
سرق مازن نظرة إلى أبيه وعاد الى تناول الطعام
فقال رشيد :
- حاول أن تهتم بمذاكرتك واعتمد على نفسك .
فقال له مازن :
- من يوم غياب المعلم عادل وأنا مو أقدرعلى المذاكرة .
كأنه لم يسمع شيئا توجه رشيد ناحية ابنته :
- أنا سعيد أنك بدأت ترجعين مروه ابنتى التى أعرفها
فتبسمت متصنعه وقالت :
- هل لى أن آخذ جزءاً من وقتك ياوالدى .
فوضع الشوكة على السفرة وقال :
- إبنتى العزيزة تستأذننى فى جزء من وقتى وأنا كلى لها كيف هذا ؟!
فقالت لمازن :
- امشى واغسل يديك وعوفنى وأبيك .
باستسلام تام قام مازن بهدوء وتركهما معاً وهما يتتبعانه بنظراتهما
قالت مروه :
- أنا أريد أن أسالك سؤالاً أرجو انك ماتغضب منه .. إيش هو الوقت اللى هيصير فيه عادل خارج السجن ؟
- مازلت يامروة تفكرين فى عادل برغم ماجرى منه ؟!
- إيش جرى منه ؟!
ظهر الغضب المختبىء فى وجه أبيها قائلاً :
- إيش تقولين يابنتى ؟! أما رأيت بنفسك ما فعل ؟!
وأخذ يصرخ فى وجهها بعد أن أعاد إليها صمتها بغضبه :
- هل هذا ماتريدى أن تتكلمي فيه ؟!
بعد لحظات وجدت فى نفسها الجرأة فقالت له :
- أنت تعلم مكانتك عندى والهم اللى أصابنى من اللى جرى .. وعادل وضعنى فى اختيار صعب .
وسكتت برهة وقالت :
- إنا أريد أن أحكى وأعترف لك بشىء .. جاء عادل هنا قبل أن يقبض عليه وحلف أنه برىء وأنا اصدقه .
- هل تصدقين الذئب اللى مااكتفى بما فعل بل عمل مع أجهزة المخابرات وتجسس علىّ ؟!!
- عادل ماهو ذئب بل إنسان برىء .
فوقف وترك مائدة الطعام والغضب يلتهب فوق وجهه قائلاً :
- ليش شنو تجزمين بهذى الحقيقة وليش تحبينه بعد ماخانى .
وضرب كفا على كف وقال :
- ياللأسف
- انا ماأجزم بشىء
- أمرك غريب .. أتريدين أن تحولى حياتى إلى جحيم ؟!
بكت مروة وقالت :
- أنا أريد شىء واحد انك تبحث فى الأمر من ثانى ، عادل قال إنه تورط ، عادل فى سجون الموت ، انا ما أريد منك غير انك تنقذ حياته مثل ما أنقذ حياتى من قبل .
فقام والدها وهو ينظر الى الدمع الصارخ فوق خديها .
فقالت له :
- لوين ياوالدى؟
- ماأقدر أبقى هون .. دموعك بتجعلنى أشك فى كل شىء حتى فى عينى اللى رأت عادل وهو يفعل ما فعل .
******-******-******
الاغتيال
تحت عباءة الليل سار على متسللاً إلى القرية ، لم يشعر بفروع عيدان القصب التى تخبط وجهه وهويسير بين مسارب الحقول ، لقد كان فى وقت مستقطع يسير فيه مع نفسه ويجلس أمام مرآة كبيرة بحجم الأيام التى قضاها منتمياً للجماعة الاسلامية .
كان من الصعب أن يشرح ما يدور فى خاطره ومن الأصعب أن يحكى لأحد ويقول إنه يدرك أن هناك أخطاءً تحتاج إلى وقفات ومراجعات ، إن هذا تصور يراه صعباً لأنه عضو صغير لم يصل بعد أن يكون حتى أميراً للقرية وكذلك كيف يعترف الجميع بهذه الحقيقة إنه من رابع المستحيلات ، هذا هو ما حط على قلبه بالضبط وأصابه بالهم وبعثره من الداخل ، إنه يشعر بالخيبة الذاتية والتصرفات الدامية التى تفوق قدرته على التحمل .. كيف أن أحلامه وتصوراته قد سقطت كلها فى نوبات الفشل .. كيف أن الخطب الرنانة وتغيير المنكرات دون حساب المفاسد جعل الجماعة فى حالة من سوء التقدير حيث تجب الحكمة , وكيف أن المواجهات مع الشرطة قد تجاوزت الحساب .. وحتى هو نفسه فى مفترق الطريق فهو لا يستطيع أن يدعو إلى الله كما أراد ولا هو يستطيع أن يذهب إلى جامعته ليحصل على شهادة ومن ثم يتزوج وتصبح له أسرة مسلمة .. هل هذا هو ما يريده الإسلام الذى يواجه أزمة كبرى ؟! .. إنه يسقط فى منزلق خطير هو وجماعته لأنهم تجاهلوا دروس التاريخ , وبنظرةٍ مؤلمةٍ الى بنطاله الذى امتلأ تماماً بالطين من الحقول الرخوة اللينة قال :
- إننى لم أحقق شيئا من أحلامى .. إننى لم أعد أفهم شيئاً .. كيف أمتلك شجاعة المواجهة وأقول لهم لابد أن نراجع أنفسنا .. هل أستطيع ؟ .. لا أعرف ولكننى سأحاول .. لابد أن أخبر شعبان بذلك لابد أن نذهب سوياً إلى الشيخ صالح فمراجعة الحق خير من التمادى فى الباطل ، لابد أن نعرف قدر أنفسنا وواجبنا تجاه أهلنا ومجتمعنا ووطننا .
كان قد اقترب من دار العمدة الذى نادى عليه وقال :
- إيه اللى خلاك تطلع فى الساعة دى من الليل ياولدى ؟!
- أنا راجع من الجامعة ، وهم يطلبون القبض على ولا أستطيع مواصلة الدراسة .
- وهتعمل إيه ؟!
- لا أعرف .
واستأذن العمدة أن يمشى فقال له :
- رايح فين ياعلى ؟!
بهدوئه المعروف رد :
- أنا قصرت فى حق أهلى ياحضرة العمدة وأختى منذ مات زوجها كادت تقتل نفسها بالبكاء هل تظن أننى سأتركها مهما حدث ؟
قال العمدة :
- ربنا يبارك فيك ويجازيك كل خير ، انا أحس انك غير شعبان ولكنك تورطت معاه .
لم يرد على ولم يبين للعمدة معنىً فقال له :
- تعال يابنى واستريح عندى فانت باين عليك التعب وبعدين بيتكم مراقب ولو رحت هيقبضوا عليك .
كان على يعرف مدى صدق العمدة فقد كان صديقاً لوالده ورغم أنه تربى فى بيته ولكنه تردد لأنه منذ فترة طويلة لم يدخل بيته فلما رأى العمدة تردده دفعه بكلامه قائلاً :
- فى الصباح روّح بيتكم .. أبوك الله يرحمه كان أعز أصحابى وإن كان لى خاطر عندك فكمّل ليلتك عندنا .
دخل على وهو مكدود من التعب .. لم تنتظر عيناه ما يحضره العمدة من غطاء فاستغرقتا فى النوم للصباح .
استيقظ علىّ على وقع أقدام العمدة الذى أحضر له بعضاً من التمر وكوباً من الحليب ولكنه استأذن العمدة أن يتوضأ ويصلى الصبح ثم يتناول إفطاره .
وهو يتناول الإفطار سأل العمدة عن أحوال شادية فقال له :
- أحوالها لا تسر عدو ولا حبيب وأنا عاوزك تقول لها موعظة .
ذهب على مستسلماً ولكنه لم يجد كلاما يقوله لها غير أن يسلم عليها ويعتذر على أنه أقلق مضجعهم الليلة .
قالت شادية :
- البيت بيتك هو ده كلام تقوله .. ولكنك من يوم ماربيت لحيتك أصبحت كأنك غريب عنا .
- كنت مشغول يعلم الله ذلك .
قال له العمدة :
- قل لى ياشيخ على هل فيه سحر وعمل ولا دا دجل ؟
- نعم يوجد سحر ولكنه لايصيب أحدا إلا بإذن الله وهناك أناس دجالون يضحكون على الناس بهذا الأمر أما المس الشيطانى فأنا لا أعتقد بأنه يدخل جسم الانسان وهذه مسألة بها اختلاف بين العلماء
قالت شادية :
- أنا عاوزه أحكى لك عن حاجة .
لما رأى العمدة تدفق الحديث بينهما قال :
- يبقى هسيبك معها تقول لها موعظة علشان تهتدى بالله .
فأمسكه على من كم جلبابه وقال :
- لن أقول لها شيئاً إلا فى وجودك .
جلس العمدة لما رأى الإصرار فى عينيه ولكنه أطرق صامتاً .
قال على ووجهه إلى الارض :
- ياشادية يابنت عمى أنا أراك بخير ولكن كل انسان لابد أن يمر ببلاء وكبوة وبإذن الله يعبرها .
وتقاطرت الكلمات من فمه رقراقة عذبة , وشادية صاحيةً تجمد عينها عليه تريد أن تعرفه من جديد إنه شعور غريب استبد بها واستحوذ عليها , وعلى كل حال هى أحست أنها قريبةً منه وفى الوقت ذاته مطمئنة لكلماته التى تنفذ إليها .
قال على :
- ياأخت شادية .. إياك أن تنخدعى بمن يظهر لك الود والحب وهو بعيد بعد المشرقين عن الله ، ولكن اجعلى حبك لله وحده فهو الحب التام ولا تفكرى فى غيره وساعتها ستستفيق روحك وتعود شادية التى نعرفها كلنا .. لماذا تبكين .. لماذا تحزنين ؟ لا تظنى أن هناك شيئاً يساوى نور حب الله وحلاوته .. فمن وجد حب الله وجد كل شىء ومن تركه حلت به جميع الأسقام .
بصوت خاشع كان يتكلم معها وهو لا يزال مطرقاً برأسه وأحيانا كان يتلفت إلى سقف الحجرة أو إلى العمدة وهو يمسح بيده على لحيته الشقراء .
وجدت شادية فى نفسها الرغبة أن تكاشفه بأحزانها لما اشتمت فى كلامه صدقاً واحتراماً .. أرادت أن تحكى له كل شىء لولا أن أبيها قابع بينهما .
قالت له :
- هل تفتكر أن ماجرى لى يمكن يحدث لواحده غيرى أو أن ما انكسر يمكن انه ينصلح ؟
- ولم لا ؟ .. جربى إن ما حدث لك بلاءاً شديداً وأنا أظن انك ستعودين أفضل مما كنت وأن الله سيرزقك بمن هو خير منه ولكن أعطنى وعداً بأن تحاولى من جديد
- إزاى ؟!
- سترجعين إلى دراستك والعمدة لن يرفض لى طلباً .
قال العمدة :
- إذا كنت شايف فى كدا المصلحة فأنا موافق .
فأردف على :
- وتنسى ما حدث لك ، لا تفكرى فى شىء غير ربك فالخاسر من جعل نفسه تستغرق الوقت كله فى التفكير بغيره .
برؤية منبهرة وإمعان قالت :
- أنا مااصدق ان هناك من يشغل نفسه بحب الله بس
وتساءلت :
- أنت عاوز تقنعنى أنك زهدت فى كل شىء .
فهز رأسه وقال :
- نعم أنت صادقه .
وكرر قائلاً :
- أنت صادقة لأنها سنة الحياة والنبى كان يحب عائشة ولكن المشكلة كيف نجعل أحلام القلب هى الأخيرة ونجعل الله هو الهم الذى يسير فى الشرايين هذا هو الإمتحان الذى نريد أن ننجح فيه .. نعم الحب قدر قد يصيب أى إنسان ولكن فلنقدم حب الله على كل حب وساعتها سيعوضنا الله بحب لن يتذوقه أحد فى العالم .
راقب العمدة مايجرى بعينين مبتسمتين ورأى انصياع ابنته ونفسها المغلولة الميتة وقد بدأت تدب فيها الحياة فتساقطت عليه راحة شديدة قائلاً :
- ياحلاوة النبى ياشيخ على .. آه لو كل الجماعات يكونوا زيك يابن عبد العظيم
شكره على واتجه بإذنيه إلى شادية التى قالت :
- أنا عاوزه أصارحك بشىء
فقال لها :
- أنا سأجىء إليك فى مرة قادمة بمشيئة الله وأسمع منك ، وعلى العموم أنا أعرف عنك كل شىء فاحتفظى بسرك لنفسك الآن ولكن عليك أن تعرفى شيئاً مهما هو أن حبك للشىء قد يعمى ويصم عن تأمل قبائحة وسامحينى ياأختى أن قلت لك أنك أخطأت وبدأت أولى خطواتك بحب خاطىء .
أطرقت صامتة أما هو فلم يسكت بل قال :
- ومن صحت بدايته صحت نهايته ومن فسدت بدايته فسدت نهايته فعدينى ان تبدأى بداية صحيحة .
ومد لها يده بمصحف صغير كان فى جيبه وقال :
- خذى هذا المصحف الكريم وكلما أصابك هم اقرأى فيه .
*********************
- نعم ياسامى ما أبعد حياة القلوب عن المسيح فارجع إليه فالتمس الحب عنده ففى ملكوته تلين أقسى القلوب وتصفو عنده الأرواح .
وجدت مارى فى نفسها القدرة على نصيحة أخيها المرتبك والعاجز عن النطق والمكبل فواصلت كلامها :
- اجعل الرب يتمكن من قلبك وعد إليه ياسامى تنمو شجرة المخلص بين ضلوعك .. الخلود والمحبة الحقيقية للرب والله محبة , ومن فنى نفسه فى حب الرب وحده وصل للسعادة ومن انقطع قلبه لبشر فإنه سيسلب منه كل حلاوة وسعادة .
قال سامى :
- حاولت أن أنسى يامارى ، حاولت ولكنى ما وجدت فى نفسى القدرة .
فقالت له بصوت خاشع متبتل وهى تمط شفتيها :
- لأنه تبددت فى قلبك كل أغنيات السلام .
ومدت ذراعها إليه وقالت :
- حاول ياحبيبى .
- صدقينى حاولت
قال ذلك وانحدرت الدموع على وجهه وهو ممسوح بقوة كلامها ولكنه كرر قائلاً :
- حاولت يامارى .. موش قادر أنساها ؟ والمسيح حاولت .
رفعت إصبعها إلى سقف الحجرة التى آثر العزلة فيها ولم يخرج منها حتى إلى الجامعة إلا أياماً معدودةً وقالت له :
- المسيح يقول أنا هو نور العالم من يتبعنى لا يمشى فى الظلام
ومدت له يدها بالكتاب المقدس وقالت :
- ستنساها ياسامى ولكن اجعل معك هذا وتذكر قول المسيح على هذه الصخرة أبنى كنيساً وأبواب الجحيم لا تقوى عليها

******-******-*****
على الناحية الإخرى من الجسر وراء سبيل بناه العمدة يشرب منه المارة المياه العذبة اختبأ كمال عبد الواحد وأمه التى أخذت تستعرض بعينيها الناحية المواجهة لها من الجسر وهى بيتا العمدة والحاج عبد السلام .
قالت لابنها بعد أن أخرجت فرداً خرطوشاً وسلمته له :
- جانى الخبر انه رجع من الجامعة وحتما هو هيخرج من البيت وتقدر بعدها إنك تشفى غليلى وتأخذ بثار والدك .
رأت الحيرة والتردد فى وجه إبنها فوكزته بيدها فى عنف وقالت :
- عاوزه افتخر بك طول العمر فكن رجل موش حرمه مكانها بين الحريم .. والله ماتقدر ترفع راسك فى البلد .

قال لها بصوت متحشرج :
- ياأمى على قال لى الثأر حرام ووالدى مظلوم ودى كانت رصاصات طايشه مفيش حد عارف مصدرها .
- لأنه عارفك مغفل من السهل إنه يضحك عليك .
ورفعت عينيها الرصاصتتين إلى الناحية الأخرى فشاهدته وهو خارج من بيت العمدة يسلم عليهم بحرارة فقالت :
- هو موجود فعلاً ولكنه كان فى بيت العمدة .
وحرك الغيظ والسخط لسانها فقالت لابنها :
- مفيش وقت للجدال والكلام .. انتهى كل شىء ارفع الفرد واضربه وخلى والدك ينام مرتاح فى الجبانة .
استرجع كمال كل الصور القديمة أمامه فى لحظات سريعة الإيقاع ومضت الصور متلاحقة .. على يربط جرحه ويعطيه الشبشب لكى يلبسه .. الناس المتكومة حوله بإعجاب وهو يقول لهم المواعظ ، جموع المهنئين بعودته من الاعتقال .. على الآن يقدم الفرح الاسلامى بوجهه الأبيض الجميل ولحيته الشقراء
.. مازالت نظرات كمال مصوبة نحوه ولكنه كان يتأرجح وراء سبيل المياه .. شمل يده السكون والشلل فتساقطت يده .
الحقد المكنون فى عينى أمه غير وجهها فصرخت فى وجهه وخطفت منه الفرد الخرطوش وهى تقول له :
- ياحرمه .
وأطلقت عياراً متوحشاً كان القدر كفيلا أن يجعله لا يخطىء الفتى ويجعله مدرجاً فى دمائه .

******-******-*****
منذ الصباح وهو متربع يسند رأسه الى جدار الزنزانة ، شعر بوخزات فى قلبه وقلق ، تمطى خياله وغابت صور الأشياء ، المسجونون فقاعات بلا تاثير وتماثيل بلا روح ولا نبض ولا حياة لأنه بقى بمفرده يفكر فى العراق والأشهر التى قضاها فى السجون وهذا الحب الذى كان مثل بناء عصف به الزلزال وحوله بين عشيةٍ وضحاها إلى سجون وأطلال حزينة وأخذ يتساءل كيف تراوده الأشواق ويشده الحنين ونسائم الشتاء الحزينة لماذا تحمل طيفها فى كل لحظة ؟! وقال :
- كانت تبكى أنا موش ناسى دمعها ، هى بريئة من سجنى دا ولكن الزمان موش برىء والقلوب ماكانت صافية فى يوم من الأيام ، ليه ماتركتنى أروح معها فى حلم طويل هناك بعيدا عن العالم بعيدا عن الظلم والقهر اللى سجنّى وجعلنى أحيا وأموت فى اليوم الف مرة وهى بعيدة عنى بعد السحاب ، ليه فعل أبوها ما فعل وسجنّى ؟! ليه تبدل الزمن الجميل وألقى بى القدر بعيدا ومفيش مايجمعنى بها غير الأحلام , نعم أنا كنت شايف ظلال النهاية دى ولكنها جتنى زى العاصفة مقدرتش أفلت منها ، هل كان الحب بينى وبينها عنيف فأصبحت العاصفه عنيفة وشديدة والضريبة باهظة بالشكل دا ، متاعب وعذاب طب ليه ؟! ليه يارب الكون هبت الريح السوداء ؟! ياترى إزاى أنساها ده شىء غريب رغم البلاء الصعب موش قادر أنساها .. دى فى تفاصيل يومى وملامحها بتحتل كل أجزائى ولكنها بتزيدنى أمل فى الحياة .
وتذكر مازن فقال :
- معقول بيعزف على البيانو لغاية دلوقت ؟!
وتلاحقت صورتها فجأةً فقال :
- أكيد هى بترسم لوحاتها فى المرسم .. آه الرجل اللى بوجهين أنا عرفته دلوقت .. أنا هو الرجل ده .. أنا هواللى دمر نفسه وأهله .. أنا صاحب العقل التايه .. الأسير الممزق .. هى دى الحقيقة .
وسرت فى جسده قشعريرة ووخزة وهو مازال يتساءل :
هل فيه أمل انى أعبر أسوار السجن ؟ هل ممكن ييجى فيه اليوم اللى أخرج فيه وأعود ؟
ونظر إلى المساجين حوله فشعر بفجوة بين الأمل والواقع ، وحينما توجد تلك الفجوة يصاب الإنسان باليأس والإحباط .
******-******-******
- أنا ماأطيق الحياة بهذا الشكل ، أنت حولت حياتى سجن وعذاب
قالت سلمى ذلك واحتواها ركن جانبى فى غرفة النوم أمام مقعد التسريحة السوداء المزركشة باللون الذهبى والتى اشتراها لها رشيد من ايطاليا .
وتغشته بصوتها المتهتك ودموعها التى تأبى النزول .
قال لها :
- ليش بتريديى الخروج كل يوم ؟! شنو تريدى بالضبط ؟!!
- أتشك فى يا رشيد وتصدق كلام ابنتك عنى ؟
فجلس رشيد وقال :
- ابنتى مسكينة منكسرة ماتعرف كيف تتكلم هون عليك ولا على غيرك
- عينى منكسرة على حبيب العمر اللى خانك وأنت من مددت له يدك .
تأججت برأسه تلك الصور القديمة فسكت على مضض ثم قال لها بعد لحظات بحدة :
- لما لنتى له بالقول تجرأ عليك
- إن قدمت للكلب لقمة بيحفظ العهد ، هل هى جريمتى أن عاملته كأنى أخته الكبيرة , ولكن أنا برجع الذنب عند ابنتك اللى مازالت متمسكة به ورفضت العريس الحلو اللى قدمته لها .
ودنت منه وهى تمسح بأناملها على صدره وقالت له :
- رشيد أنت تعرف كيف أحبك وفضلتك على ابن عمى وكل من تقدم لى وعشت أحلى أيامى معك فلا تفسد علينا حياتنا بالظنون .
تبدل الغضب الظاهر فى وجه رشيد واحتوته لحظات ضعف ومودة برقت من عينيه
كان رشيد ضعيفاً أمام صوتها الحلو اللين وعذوبة كلماتها وجمالها الفتان وجسمها الأبيض الممتلىء , وكان يتمنى فى قرراة نفسه أن يضع حداً لشكوكه التى تنازعه , وزادات عنوة عليه من دموع ابنته التى أصبحت كجبل ضخم يهوى فوق صدره .
قال رشيد :
- أنت بتدرى أن كل ما أفعله معك هو من غيرتى عليك
فرمت رأسها على صدره وقالت :
- غيرتك ياغاية قلبى تعجبنى ولكن على مهلك علىّ فأنا ضعيفة ماأتحمل الغيرة .
ثم قالت له :
- مو هتخلع ملابسك ؟
- عندى ميعاد مهم وسأعود بعد وجبة الغذاء .
وخرج رشيد من غرفته فتلقفته ابنته بوجهها الذى بدا عليه الضنى وقالت له :
- أبى أنا ماأريد أن أكون سببا فى أى مشكله بينك وبين أمى سلمى .
احتضنها والدها وقبلها قبلة هادئة على خدها وهى بين أحضانه
قالت له :
- إذا كنت أنا همك وتعبك فأنا مستعدة للزواج من عريسها
وأخذت دموعها تجرى سخية لم تستطع أن تكفها أمام أبيها فقال لها :
- لا يابنتى ماهزوجك إلا من تريدين , وأوعدك أن أذهب لعادل فى سجنه وأعاود معه التحقيق وأعرف منه كل شىء .
******-******-******
الخروج
فزع كل من له صله بالجماعة الإسلامية للصلاة فى مسجد الفاروق , ووصل كبار القادة من مركزملوى على دراجات بخارية وهم يلبسون قمصاناً وبنطالات ، عناقيد الغضب كانت تتدلى من وجوههم وأشرعة النار تلتهب من صدورهم . وجلس القادة .. الشيخ صالح , والشيخ صبرى يتوسطان الأخوة , ثم قدم الشيخ صبرى الجلسة ببعض آيات من القرآن وما إن فرغ من تلاوة الآيات التى تتحدث عن مقام الشهداء يوم القيامة إلا وأطلق الشيخ صالح صرخاته :
- هل تظنوننا نقف مكتوفى الأيدى وأخونا علىّ قد قتل على مرأى ومسمع من الناس .
وأسرع كأن أحدا يجرى وراءه قائلا :
- قتله العمدة والغفر فى ساعة غدر .. قتلوه فى وضح النهار .
وأحدق عليهم بكلمات حزينة وكأنه يكلم على قائلاً :
- قتلوك ياعلى حتى يوقفوا الدعوة التى أسست بنيانها فى القرية ، قتلوك ليأخذوا مسجدك الذى شهد كلماتك الصادقة ومواعظك الزكية ، إنى أشعر أن روحك ترفرف حولى , وإنى أشهدك أننا لن نترك مساجدنا ومعاقلنا , ولن نترك اخواننا المعتقلين , ولسوف يتفجر فى عروقنا الدم القانى , واننا لمنصورن باذن الله فالله ينصر عباده المؤمنين ، فصابروا إخوانى ورابطوا واستعدوا للمعركة حتى تلقوا الله وأنتم فى جهاد وطاعة الله .
ثم رفع يديه وقال :
- اللهم قل الناصر واعتز الظالم وأنت المطلع العالم المنصف الحاكم ، بك نعتز وإليك نهرب اللهم فانصرنا يارب العالمين .
ذاب أحمد مع الكلمات ، دموعه المتساقطة كانت تطلق نحيباً يرتج له المسجد فتبكى من حوله وتدغدغ مشاعرهم .
اقترب منه أبو البشر وقال له :
- خالك شهيد ياأحمد ، كفكف دموعك فالشهيد مامات وما قتل بل هو حى روحه ترفرف وتحلق وتطير فى حواصل طير خضر عند عرش الرحمن .
وصل شعبان وعلى التو سلك طريقه الى الشيخين صالح وصبرى فقال له صالح :
- أين كنت ياشيخ شعبان ؟ وكيف تترك الإخوة فى هذا الوقت ؟!!
- كنت فى مقابلة مع رئيس مجلس المدينة وبحضور الضابط الريدى ، إنهما قالا لى إن صاحبك لم يقتله الأمن والعمدة ليس له دعوة بقتله من قريب ولا بعيد فالتحريات أثبتت أنه حادث ثأرى
- وهل صدقتهما ؟!
- أهل على فعلا عليهم ثأر قديم والمرأة وابنها قبضوا عليهما وممكن ..
- ممكن ماذا ياشيخ شعبان ؟!
قال ذلك صبرى بنفس الحدة التى تكلم بها صالح .
فقال لهما شعبان :
- انتظرانى من فضلكما حتى أكمل لكما الكلام .
فأنصتا باهتمامٍ وهو يقول لهما :
- قال لى رئيس مجلس المدينة ارجع الى البلد وهدىء من روع إخوانك , ولا تعقدوا الأمور وارجعوا إلى مساجدكم إذا كنتم حقا تريدون الدعوة الى الله .
- أهذا كل ما قاله له لك ؟!
- نعم .
قال له الشيخ صالح :
- اسمع ياشيخ شعبان .. الذى وصلنا أنهم عذبوا كمال عبد الواحد حتى يعترف أنه قتل على ، ونحن نعرف أنها سياسة جديدة يتبعونها لقتل الشباب والدعاة المؤثرين فى الناس
ورأى عينى شعبان لا تصدقان فقال له :
- هات لى الإخوة أصحاب الرأى والخبرة .
فحشر له أصحابه على عجل فقال لهم :
- أنتم تعلمون أنه منذ عام تقريبا قتل المتحدث الرسمى باسم الجماعة الدكتور علاء وردت الجماعه بقتل رئيس مجلس الشعب رفعت المحجوب , وهم يريدون أن يفعلوا ذلك فى كل مكان بقتل رموزنا وقادتنا ، وما وصلنا من قيادات الخارج أن نرد بقوة على هذه السياسة وأن نضرب السياحة ونقتل رمزو الدولة حتى يوافقوا على شروطنا
فالتفتوا إلى بعضهم وقال أحدهم :
- ما هى الشروط ؟!
- وقف التعذيب وإخراج المعتقلين وإطلاق حرية الدعوة وأن ترجع لنا مساجدنا التى أخذوها , وقد جاء الآن الميعاد الفعلى لتطبيق بحث الطائفة وحتمية المواجهة التى درسها الإخوة جميعاً فالإسلام ياإخوانى سيف ومصحف ، مصحف يهدى وسيف ينصر ، من أعرض فله الدعوة ومن قاتل فله السيف ورفع مسدساً كان فى يده
وقال :
- وهم الذين بدأوا وقتلوا أخانا على ، والحمد لله لنا جند فى كل مكان فأبشروا بانتصارنا على هذه الدولة الهشة الضعيفة التى هى كخيط العنكبوت .
شعبان بتردد :
- يامولانا أنا تحت أمرك والإخوة كلهم مستعدون ولكن ..
- مالك ياشيخ شعبان ماعهدتك متردداً أم أن ساعة الجد ستسقط وتتخاذل عن الطريق ؟!
- ابداً .. ولكن هم وافقوا على أن ترجع الأمور إلى طبيعتها .
- ودم على وروحه هل تعود ؟! إنهم يضحكون عليكم ، رئيس مجلس المدينه أحد رجالاتهم ، وهذا وقتكم والبلد كلها متعاطفه معكم من أجل علىّ الذى يحبه القاصى والدانى فاحضروا ملابسكم وما تستطيعون حمله من طعام وعلاج حتى يأخذكم الأخ أبو البشر رئيس الجناح العسكرى ويقسمكم إلى مجموعات .
ولم يول ظهره لهذه الحلقه بعد كلماته إلا ووجد أحمد وهو فى زهرة عمره جاء من آخر المسجد وبدأ يملك نفسه الباكية ويقترب منه قائلاً :
- ياشيخ صالح لو محدش راح معكم لأخذ ثأر خالى أنا هروح لوحدى
******-******-******
لأنه فرح بالهواء الطلق الذى لم يشمه والشمس التى لم يرها منذ شهر انشغل عن أسباب استدعائه واقتياده إلى حجرة واسعة فى مبنى إدارة السجن لا يوجد فيها سوى مكتب ودولاب لحفظ الملفات والوثائق ونافذة صغيرة لاتسمح بمرور أشعة الشمس ، كان يبدو أن الحجرة تستخدم فى التحقيقات والتعذيب قبل ذلك .

وقف عادل فى الحجرة لمدة تزيد على ساعة ونصف حتى دخل وجه يعرفه جيدا إنه رشيد وبكل ما فى قلبه من آلام السجن رمقه بعينين مشتعلتين وقال له :
- ياأبومازن أنت أديت دورك ببراعة وأجهزت على ذبيحتك فعاوز منى إيه .. موش كفايه ؟
بحدة وانفعال قال رشيد :
- اسمع ياولد .. أنت هنا مسجون وأنا جئت لكى احقق معك .. ولابد للمسجون أن يعرف حدوده .
- أنا أعرف إنى مسجون وأعرف مين اللى سجنَى .
فأشار اليه رشيد بإصبعه وبنفس الانفعال قال له :
- دير نفسك للخلف ، رجّع وانس انك بتتعامل مع رشيد اللى كنت تعرفه ، انس الأيام اللى كنت بتعمل فيها عند رجل أكرمك , من جاء اليك اليوم رجل آخر .
فقال عادل بهدوء :
- أعرفه الرجل ده كويس أعرفه فى جسدى اللى علمت فيه الكرابيج وبقع الكهرباء
على الصوت استأذن المأمور فى الدخول وبصحبته عدد من الحراس وقال لرشيد :
- هل هناك أى مساعدة نقدر نقدمها لسيادتك ؟
ونظر لعادل وفى عينيه الشر وقال :
- نحن على استعداد لعمل أى شىء
قال رشيد بابتسامه مصطنعة
- ممنون ... ممنون ولكنى أطلب جلاس من الليمون .
- هذا أقل واجب ياسيادة اللواء .
واستأذن المأمور فى الخروج بعد أن قال ذلك وعادل يتمتم لنفسه :
- أصبح لواء على أرواح المظلومين
قال رشيد :
- أى واحد غيرك فعل ما فعل كان مصيره الإعدام ولكننى رددت لك جميلك ومافعلته مع ابنتى ، وأنا متأكد بأنك تظن أنى أنا الذى سجنتك نظير خيانتك لى
فقال عادل بانفعال سريع متعجل :
- أنا موش خاين وموش عادل اللى يخون ويخدع رجل أكرمه
وكأنه طعنه بسكين حاد فى صدره فاهتز رشيد وبدا على وجه الكدر والهزيمة ولكنه ارتشف باقى كوب الليمون واستعاد هدوئه وأسند ظهره إلى كرسيه بخبرة ضابط مخابرات نسى أى يوم جمعه فيه الحب بعادل أو جمعته به الذكرى الطيبة
أردف رشيد قائلاً لعادل :
- هل تدرى ليش جئت اليوم لك ؟
لم يرد عليه عادل .
فقال له رشيد :
- اقعد .
فلما قعد قال له :
- يجب بأنك تعرف أنى قطعت جزءاً من وقتى من أجل أن أسمع منك كل شىء جرى معك .. أنا متأكد أنك مدان ولكنى أريد أن أعرف كيف جندوك فى المخابرات وإيش كانوا يريدون منك بالضبط .
وقعد رشيد ينتظر إجابات عادل وبين اللحظات كانت تبرق من عينه ومضة لأيام سالفة وذكريات طيبة
قال عادل :
- وأنا لى شرط بأنك تحكى لمروه كل كلامى .
وضع رشيد قلماً كان فى يده على المكتب بعنف وسكت برهة وعيناه تدوران فى الحجرة ثم قال :
- أنا معك صابر للنهاية .. تكلم ياعادل .
فى أقل من نصف ساعه جمع عادل فى كلماته كل ما حدث معه ورشيد يستمع له باهتمامٍ وإنصاتٍ ثم أخرج صورة من ملف على المكتب وقال لعادل :
- هل تدرى من صاحب هذه الصورة ؟
بعد أن تردد عادل للحظات قال :
- أعرفه
- من هو ؟ !
- صقر مصر ى .
- اتريد أن تكذب ؟
- اسمه صقر المصرى .. هو ده كل اللى قاله ؟
- أنت قابلته ؟
- نعم مرة أو مرتين وبعد كده كان جعفر هو حلقة الوصل بينى وبينه .
- صاحب محل الأجهزة الكهربائية اللى كنت بتعمل عنده ؟!
- نعم .
******-******-******
- أنا متأسف ياباشا العيال المتطرفين ينظمون أنفسهم دلوقت ودى أوامر رئيس الجهاز ودى السياسة .
وسلط عينيه وبات على قيد زراع من الضابط أسامه الريدى وقال له :
- كان الشعور بالخيبة من السياسية الحوارية المتبعة مع الجماعة الإسلامية يتملك نفسى وأنا كنت أؤمن أن الحوار لا يجدى مع الجماعه دول ، فقد إيه حاورتهم حضرتك فى المساجد وقد إيه حاورتهم الدولة فى السجون وفى أفرع أمن الدولة ولكنهم ما زاواد إلا تجرئاً على الدولة وعلمائها .
تنهد الضابط الريدى وقال :
- وأنا لسه مصمم على رأيى ومعى الضابط خالد يسرى بأن القوة جربت فى أماكن كثيرةٍ ولكنها لم تؤد لنتيجة تذكر ، فالقوة وحدها ماتنفع إلا إذا صاحبها حوار ، ومتأسف ياباشا فأنت من يوم ماتوليت الملف إيه اللى جرى ؟ .. الأمور تصاعدت وأديك شايف الأحوال بنفسك .. وأنا أعترف فى الوقت نفسه اننا أخطأنا فى بعض أساليبنا .
- هل ننتظر لما يضربوا السياحة ويخربوا اقتصاد البلد ويقتلوا رموز الدولة ؟!
فلاذ الضابط أسامه الريدى بالصمت وهو يجمع أوراقاً من فوق مكتبه الذى يستعد لتركه ، وبعد لحظات قال :
- يانجدى باشا أنا أعرف ان عملى فى قسم المصنفات الفنية ركنة ولكن كلنا نخدم مصر وأنا أتمنى لك كل خير .
قال ذلك وبرغم الإبتسامة الطليقة التى رسمها على وجهه كانت نظرات عينيه تشى بالضيق الذى يتلاعب فى صدره فأراد النجدى أن يخفف عن زميله فقال له :
- لعلمك ياباشا هى حرب وأنا أعلم أنى ممكن أواجه مصاعب كبيرة جداً وممكن أفقد حياتى وعلشان كدا أنا بحسدك لأن ربنا أراد لك الخير
ولم يستمر فى كلامه فقد قال له الضابط أسامة الريدى :
- على العموم هى نظريات وآراء زى ماقلت لحضرتك وأنا أتمنى لك كل خير .. المهم أنت ناوى على إيه ؟
- صالح بعت لأتباعه ينظمهم وماوصلنى إن الولا أبو البشر تولى هو الإمارة للمجموعات لأنه سافر أفغانستان ورجع
- مين هو أبو البشر ؟!
- إزاى موش عارفه ؟!! .. أنت موش عارف مرتضى حمزه ؟
فقال الريدى :
- المشكله موش فى اللى فى مصر المشكلة فى اللى بره مصر دول بيقفوا فى جزيرة نائية وعاوزين يحاربوا أكبر دولة فى الشرق الأوسط
فرد عليه النجدى قائلاً :
- انا هعلمهم الأدب وأوجه لهم لكمة عنيفة تخلى أنوفهم تنزف ويقعوا بالضربة القاضية ولما يقعوا هيندموا على كل اللى عملوه
******-******-******
قتال الطائفة
أصدرت الجماعة الإسلامية إعلاناً وضعوا فيه صورة علىّ محاطاً ببقع الدم وتحت الصورة كتبوا بخط عريض :
[ ياشيخنا نحن نعلم من الذى قتلك فى وضح النهار ونعلم متى سنأخذ بثأرك ]
كل شىء فى القرية ينبىء أن الأمور فى تصاعد الى المواجهة , وأن موجة العنف ستغير وجه القرية فبعد هذا الإعلان بيومين أُطلقت النيران على ديوان العمدة فأصابت أحد الخفر وفر الآخرون إلى داخل البيت .
القرية تحولت إلى ثكنة عسكرية وضعت فيها المتاريس , وأقيمت فيها الحواجز , وانتشر فيها المخبرون السريون , وأجبر عدد كبير من الأهالى بعد أن سلمتهم أجهزة الأمن أسلحة أن يبحثوا عن الإرهابين المتطرفين .
لم تتهاون قوات الأمن فى مواجهة الأحداث المتصاعدة وبسطت نفوذها وسيطر تها على مداخل ومخارج القرية , واقتحمت مسجد الفاروق عدة مرات للقبض على الشباب المجتمعين فلم تجد أحداً سوى بعض الأهالى الماشين أمامه فاقتادتهم إلى أقسام الشرطة .
عند الجبانة لحقت قوات الأمن بعدد من إخوة الجماعة فأطلقت عليهم النيران فقتلت أحدهم وأمسكت بالباقين كان منهم شعبان وشيخه صالح وبقى عدد غير قليل استطاع الضابط عصام النجدى أن يحرض الأهالى وكبار رؤوس العائلات عليهم فهجموا عليهم وأحاطوهم فى حقول الذرة والمزارع التى يعرفون مداخلها ومخارجها جيداً وأجبروهم على تسليم أنفسهم .
إلى هذا الحد كان نجاحاً باهراً لقوات الأمن ما لبث أن خبا وهجه لأن أحمد ومجموعة لا تزيد عن خمسة عشرة فرداً لايزالون فارين لأنهم وجدوا أن مصيرهم إما السجن أو الموت فاختاروا أشياءاً أخرى غير الموت وفروا بعيداً واستطاعوا أن يلتحقوا بإحدى مجموعات أبى البشر فى قرية مجاورة وبدأوا عملياتهم بإطلاق النار على نقطة مرور فقتلوا عددا غير قليل من العساكر والخفر .

******-******-******
حين كان الهزيع الأخير من الليل وكبل الصمت حجرات الفيلا البيضاء الواسعة ذات الجدران الزجاجية كانت نغمات حزينة وهادئة تنبعث من تحت أصابع مروة تتأسى بها عن هموم الليل الطويل وكانت خطوات أخرى تمشى هنا وهناك مضطربة وقلقة أخيراً استقرت أمام حجرة مروة التى كانت منكفأة وحزينة .
عاد رشيد أدراجه بعدما أغلق حجرة ابنته وانطوى مع نفسه صامتاً وقعد فى الصالة مشعلاً سيجارةً وجعل ينظر الى دوائر دخانها الممتدة بعيدا عن وجهه .
فاجأته مروه وتساقطت على مقعدٍ قريبٍ وخيم الصمت بينهما وكان لغةً عما يجيش فى القلبين القلقين .
استرعى نظرها الهم الذى يعتصر والدها فأرادت أن تجعله يحكى لها فقالت له :
- أنت عدت للتدخين من جديد .
- هه .. إيش قلت ؟
- ما سمعتنى ؟
رفع حاجبيه الثقيلين وقال لها :
- أنا دريت بالحقيقة اللى كنت تعرفينها من زمن ولكنك كنت تخبئينها علىّ
- حقيقة إيش ؟!!
- سلمى
أخذتها الدهشة ونظرت إلى غرفة نوم أبيها فى الدور الثانى فقال لها :
- ماتقلقى لأنها غير موجودة فى البيت .
تذكرت أنها لم ترها منذ خرجت إلى محل للأجهزة الكهربائية فى شارع حيفا فقالت :
- وين راحت ؟
- لمكان بعيد .. بعيد جدا .
- وإيش اللى أكد لك ؟
فانفلتت كلمات والدها :
- أنا ماأدرى كيف كنت مأسور لأوهامى سنين طويلة ، لغاية مابدأت الأيام تثبت لى الشكوك والظنون اللى كنت ألمحها بين عينيك .
ثم أطرق رأسه وقال :
- مشيت وراء الخيوط اللى قالها لى عادل حتى وصلت لكل شىء
- أنت قابلته ؟!
كانت تريد أن تقول له هل هو بخير ولكنها ابتعلت الكلمات .
- ماأخلفت وعداً معك من قبل .
- والله ماعدت أفتهم شي ياوالدى .
- وجدها رجالى هناك مع جعفر ، صوروها معه ومايعرفوا انها زوجتى ولكننى قبضت عليه .. هو يعمل مع رجل لبنانى عميل للمخابرات الإسرائلية
- أمريكا ولاّ اسرائيل ؟
فألقى السيجارة المشتعلة فى المطفأة بانفعالٍ وأشعل اخرى وهو يقول :
- مايهم هما شىء واحد .
وأخذ نفساً عميقاً وقال لها :
- كنت أشعر بأنك تخبئين على شيئاً وأنك تفهمين حقيقة الأمور
فدنت منه قائلةً :
- ماكنت أعرف شي ولكنى كنت متأكدة من نصف الحقيقة .. براءة عادل
ودفنت رأسها فى صدر أبيها وقالت :
- كيف أعيش سعيدة على حساب سعادتك .. كان الاختيار صعب وأنا اخترت سعادتك .
وسقطت دمعتان على خديها وقالت :
- عادل وقع ضحية مؤامرة .
- نعم يامروه صوروا له بأنى أريد أن اشغله جاسوسا على بلده وأغروه بالمال لأجل يعمل معهم .. هو ما بيفتهم .. حبه لبلده عمّاه عن حقائق الأمور وكل شىء ولكن القدر كشفهم .
- ولكن للأسف بعد ماوقع عادل .
- اتعرفين يامروه انها هى من أبلغت عنه خوفاً أنه يخبرنى بحقيقتها .
برقت عيناها وانتبهت تماماً لكلمات أبيها وقالت :
- وإيش هتفعل معها ؟
- من ؟
- سلمى .
- ووين سلمى ؟ إنها ماتت فى سيارتها وهى فى طريق الرجعة لهذا البيت .
فغممت ثم فغرت فمها وأشارت له قائلةً :
- أنت ياوالدى ؟!!
- مو أنا وحدى ولكن أفعالها صيرتها لهذا المصير والقدر نجانى منها .. ماتت فى حادثة سيارة وكانت هذه هى نهايتها وغداً أكيد هتذهب جثتها لأهلها وأنا من هيقبل العزاء فيها

******-******-******

وجه الإرهاب القبيح ، عنوان تقرير طويل حول عمليات العنف أسفل العنوان صورة على مكتوب تحتها الأمير علىّ الضبع الطريق إلى جهنم وصورة أخرى لمجموعة من الأهالى يطاردون الجماعة الإرهابية .
أمسك أحمد الجريدة وقرأ التقرير بصوت هامس وهو بين حقول الذرة وحوله بعض من الرفاق نائمين بعدما انقضت نوبتهم للحراسة :
- وبدأ قطار الإرهاب من قرية الشيخ عبادة وهى قرية نائية فى حضن الجبل يتميز أهلها بالفقر الشديد ، استطاع علىّ الضبع وابن أخته أحمد أن يفرضا سطوتهما عليها عن طريق بعض التبرعات والإعانات التى كانوا يقدمونها للأهالى وللشباب العاطلين , وهذه الإعانات كانت تأتيهما من جهات تريد إشاعة الفوضى فى مصر .. مدير الأمن قرر فرض حظر التجوال فى القرية بعد تزايد العمليات التى تشكل خطراً واضحاً على المواطنين العزل الأبرياء ووزير الداخلية يتابع الأمور بنفسه فى القرية النائية التى اندلعت فيها أحداث العنف بسبب حادث ثأرى وانتقلت للقرى المجاورة .
فى منتصف التقرير : عمدة القرية عبد الحميد الناغى استهدف بأكثر من عمليةٍ إرهابية لأنه هو الذى كان يقف ضد تطرفهم ويحذر الناس من علىّ وأتباعه ولكنه نجا بإعجوبة .
فى آخر التقرير حوار مع بعض أهالى القرية ومنهم محمود ابن العمدة وخليل وعاشور .
قال محمود :
وقدرنا أنا ومجموعة من الشباب نتصدى لهم .
وأما الحاج عبد السلام فقال :
ارتحنا من علىّ فقد كان سيىء الأخلاق , وأما أحمد فأنا تبرأت منه ولكنى أطلب من الدولة الشفقة عليه فهو مريض نفسياً .
قلب أحمد صفحة الجريدة فوجد عنواناً آخر
قصف جوى روسى على مدينة جروزنى قتل ثلاثة عشر وأصاب سبعين آخرين – منظمه كاخ العنصرية تهدد باقتحام المسجد الأقصى - الولايات المتحدة قررت نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس – الأهلى يشترى لاعب نيجيرى بمليون ونصف لمدة عام واحد , والزمالك ينتهى من إقامة معسكر فى أسبانيا .
قطب وجه أحمد وقعد لحظةً ثم قطع صورة خاله من على الورقة وقبلها بشفتيه بهدوء ووضعها فى جيبه وأشار لأحد أصحابه فأطلق صيحةً فقفز النائمون جميعا وقام أبو البشر فساروا راءه وابتلعتهم الحقول .

******-******-******
فى هذا الصباح أحس الحاج عبد السلام ببعض قوة فى جسده المنهك الذى أصابه الشلل النصفى بعد وفاة عادل بأيام فطلب من زوجته الجالسة على حصير وهى تضع يدها على خدها أن تنادى زبيده , مضت دقائق وهو منكمش تحت غطائه حتى جاءته زبيده وبيدها صورة على تريد أن تعلقها بجوار صورة زوجها .
تأملها الحاج بعينيه الغائرتين اللتين زبلتا من الحزن ونظر إلى ضفيرتيها المتباعدتين فى فوضى ووجهها المشحون بالحزن الذى غشاه الإصفرار والوهن وقميصها الأسود المهترىء وجسدها الذى أصبح كعود الحطب
ارتحلت نفسه بعيداً وقال لنفسه :
- هتعمل لك الصورة إيه ؟ مسكينة يازبيده ومين يتحمل زى ماتحملت ؟ مات أبوك وأخوك , وزوجك رجع شايلينه فى صندوق أسود وكمان هرب ابنك بين القصب والذرة والله أعلم هيرجع ولا لأ .
وانسحبت دمعتان على خديه وأكمل :
فين الحاج عبد السلام اللى كان ملء السمع والبصر وكانت تعمل له القرية ألف حساب أديه قاعد مع الحريم مابقى له من أهله غير زبيده وزوجته العجوز اللى هى أقرب منه للموت أما هو فبقى كومة من العظام شرخها الشلل نصفين ، وفين أصحابه ؟! دول لا يجرؤا على دخول داره وفين هى داره بعد ماهدمتها أجهزة الأمن ومابقى فيها غير حجرة واحدة وكأن أحمد هيختبىء بين حيطانها ، وكمان أرضه بارت وكلما قرّب منها واحد علشان يزرعها اطلقوا عليه النار ، الغريب ان الشرطة قالت لى انهم لا يعرفون الناس اللى يطلقون النيران ، هل يظنوا أن الحاج عبد السلام هيموت جوعا وان أحمد هيستسلم كدا وحبل المشنقه والسجن والعذاب يلعبوا قدام عينيه ، دا الولد أصابه اليأس بسبب وفاة والده وقتل خاله اللى كان يعشقه ودا السبب لأن ابنى احمد لايمكن انه يكون من الإرهابيين ، دا دخل مرحلة البلوغ جديد ، كيف يعمل ما يتهمونه به ، ومعقول هو ارهابى ولاّ اللى هدموا بيتى وأباروا زراعتى ؟!
مضت دقائق وهو متوحد مع صمته وأفكاره ثم التفت إلى زبيدة وقال :
- فين كنت يابنتى ؟
- رحت للأرض
تعجب الحاج وقال :
- إذا كان مفيش واحد يجرؤ على انه يتأجر أرضنا ويزرعها فإزاى تروحى انت .. أنا خايف عليك يابنتى .
- اذا كنت تخاف علىّ من الموت فالموت عندى أفضل من الحياة .
- ربنا لا يحرمنا منك يازبيده ولا يحرم أحمد منك أنت عاوزاه يعيش بدون أب ولا أم ؟
قالت له ووجهها مفروش بالأسى :
- وفين هو أحمد ياعمى .. أديه هارب زى حرامية الليل ونهايته الموت مع اللى ماتوا
- يابنتى ابق لابنك ، فحياتك ممكن تعطيه الأمل فيرجع ويسلم نفسه واما اذا حصل لك مكروه فبيت عبد السلام هيبقى خراب
ومايبقى فيه غير كامل اللى مايقدر يطيق غياب أهله من حواليه فيمشى من البلد
قالت له بصوت مرتفع وحزين :
- يعنى أنت شوفتنى ياعمى حرقت نفسى أو شربت السم
- أنت فاهمة قصدى فإن كان لى خاطر عندك فوافقى على الزواج من كامل .
- تانى ياعمى الكلام ده .
- ورابع وخامس إن كان لى خاطر عندك ؟
- وأقول إيه لأحمد ؟!
- أحمد هيفرح انه اطمئن عليك
ولكنها بعينين حادتين نظرت إلى صورة زوجها وأخيها وقالت :
- آه ياأحمد فينك ياولدى ؟!
قالت لها الحاجة أم عادل :
- أنا بدعى له ربنا انهم يقبضوا عليه فالسجن أهون وفى يوم من الأيام هيخرج ويبقى عادل حىّ مادام ابنه حى .
فانكمشت جبهة الحاج وبصوت مبحوح قال :
- آه .. جه اليوم اللى بنتمنى فيه السجن لأولادنا والله ده زمان الفتن
وزبيده واقفة لم تراوح النظر الى صورة أخيها ومضت فى صمت مخنوق تقول :
- الله يسامحك ياعلى .. ارتحت وتركتنا فى عذاب وضنى ياخويا .. تركتنى لمين ياعلى ؟ تركتنى لمين وكمان عاوز تاخد احمد معك وتخليه يسيبنى .. أنا عارفاك هتقول لى تركتك لله ، ونعم بالله ولكن مشيت ومت ياعلى فى عز شبابك وأنا كان نفسى أزوجك ياحبيبى .
وندت ابتسامة حزينة على وجهها وقالت :
- شادية ياعلى أنت موش قلت لى أنك عاوز تتزوجها والله السر محتفظه به ، كنت عايز تخرجها من اللى هى فيه .. آه ياعلى ياترى قابلت عادل وقلت له على السر .. ياريتنى كنت معك لما قابلته فى الجنة ، أيوه أنت موش قلت لى إنك عاوز تموت شهيد ياعلى وعادل الأمريكان قتلوه غدر زى ماقتلوك غدر يبقى هو معك فى الجنة .. نعم فى الجنة .
وألقت نظرات على صورة زوجها وقالت :
- أنا موش هسامحك ياعادل لأنك سيبتنى وسافرت ، لأ خلاص سامحتك يا حبيب قلبى ، أنت تعرف انى باحبك أكتر من نفسى ولكن أنا ما كنت عارفه كيف أرضيك ياعادل .. أنا فى الصبح هروح الأرض وأفوت عليك فى الجبانة أقعد معك انت وعلى .. انتظرنى ياعادل .
أفاقت على صوت الحاج يقول لها :
- وحدى الله يابنتى انا اللى هصبرك ولاّ أنت !!

فقالت :
- ليه بيعمل ربى معايا كدا ؟ دا أنا بصلى واروح لمقام الشيخ .. ليه ؟ وليه بتعمل معايا الحكومة كدا .. حرام والله ياناس حرام .
وتحولت بعينيها إلى عمها الذى كان يشيح برأسه إلى الناحية الأخرى بعيداً عن الصورة وعيناه تذرفان بالدمع فقالت له :
- ليه بتبكى ؟
- موش قادر أتحمل رؤية صورهم فهى بتجدد الأحزان علىَ
- لما نبنى غرفة تانى أبقى أنقل الصور لغرفتى .
فقالت لها الحاجة وهى تمسك بيد زوجها تدلكها له :
- هو المرحوم على موش طلب فى وصيتة إن صورته لما يموت محدش يعلقها لأنه تعليقها حرام .
- سألت الشيخ فى الجامع قال الصور موش حرام وبعد كدا ده موش حقه ده حق قلبى وعينى اللى ماتهنأ حتى تشوفه هو وعادل
فقال لها الحاج :
- يابنتى أنا مااتحمل كل اللى بيحصل وأم عادل هدها اللى هدنى وكمان ابنك أحمد الله أعلم إمتى هيرجع وأنا عاوز أطمئن عليك .. أرجوك يابنتى .
- أنا بدعى ربنا إنى أموت فى الأول .
- لا يابنتى حياتك هتعطيه الأمل فيرجع ويسلم نفسه
- مقدرش .. أقول إيه للمرحوم ؟!
- المرحوم هيبقى فى قلوبنا لغاية مانموت ولكن الحياة لابد انها تمشى والحى أبدى من الميت
- لا .. لا لا ياعمى
لم تكمل ففى هذه الأثناء طرق الباب بعنف وفتح بقوة وانتشر الجنود كالشظايا فى البيت .
أحاطت العجوز بزوجها مثل الأم تخاف على رضيعها أن يخطفه الردى وأصبحت زبيدة كنمر مفترس ، حاولت أن تدفع الجند من الحجرة وأخذت تصرخ بكل ما فيها من قوة :
- حسبنا الله ونعم الوكيل يامجرمين
فقال مخبر قد اقترب من الحاج عبد السلام :
- ياستى هو فيه حد كلمك ؟! .. سبيينا نقوم بعملنا .
- عاوزين منا إيه يا كلاب ؟
كان يتقدم الحمله الضابط عصام النجدى وضباط آخرون فرد عليها قائلاً :
- إحنا كلاب يابنت القحبه ، ابنك خرب البلد .
- والله انتم اللى خربتم البلد .
وقالت الحاجة وهى مازالت تحوط زوجها المشلول بيدين مرتعشتين :
- إيه عاوزين منا ياابنى ؟ ارحمونا ياولدى .. حرام عليكم الرجل أصابه الشلل وابننا عادل مات والبيت هدمتوه والزرع بار .
تلون وجه الضابط خالد يسرى بالشفقة وهو يرنو ببصره إلى الحاج ويجيله فى البيت المتهدم هنا وهناك وقال لها :
- اطمئنى ياحاجه هى إجراءت روتينية للبحث عن أحمد كل فترة أو حد من أعوانه
بصوته الضعيف المبحوح قال الحاج عبد السلام :
- والمطلوب من أحمد إنه يموت ياولدى ، موش تسيبوه لأمه المسكينة ؟
فقال النجدى بعنف :
- سلموه لنا .
رد الحاج :
- ومن يعرف طريق أحمد أنا الرجل المشلول ولاّجدته الكبيرة ولاّعمه المسجون رهينة له لغاية مايسلم نفسه .
فقال الضابط خالد يسرى :
- أنا ممكن أتدخل بنفسى وأتوسط لكامل ياحاج علشان يخرج للظروف الإنسانية اللى شايفينها قدامنا وأنا متأكد إن أحمد فى يوم من الأيام هيسلم نفسه
أخذ الجند ينقبون فى أرض البيت وجدران الحجرة الوحيدة وما إن لمحت عينا أحد الضباط صورة علىّ وعادل إلا ورفع عصاه الغليظة وهوى بها على الصورتين .
أصبحت زبيدة كالوحش ونشبت يديها فى رقبة الضابط فهوى على وجهها وصفعها بقبضته ثم قبض على يدها وثناها وراء ظهرها وشدها الجند بعيداً بينما الحاجة تصرخ بصوت مرتفع وزبيدة لاتكف عن شتمهم .
غاب صوت الضابط خالد يسرى وهو يشتم زميله بين الضوضاء والصخب والصراخ وأخيراً استطاع أن يقول للنجدى :
- امنع جنودك عنها ياباشا .
فدفعهم بعيداً عنها ولكنها لم تسكت وقالت لهم :
- هيعرف ابنى أحمد اللى جرى وهينتقم منكم واحد واحد ياكلاب
اقترب الضابط خالد يسرى من الحاج الذى تسمرتا عيناه وبزغتا وهو مازال يعض على شفته السفلى حتى أسال منها الدم
فقال له :
- قولو لأحمد يسلم نفسه .. دا لمصلحته ومصلحتكم ومصلحة البلد .
وقال ضابط آخر :
- وإلا هيرجع لكم جثة ياأوباش
فدفعه الضابط خالد بيديه وقال له :
- اطلع بره لو سمحت اطلع
ثم التقط أنفاسه وقال لزبيده :
- الضباط دول امتلأ قلبهم بالحقد لأنهم شافوا زملاءهم بيموتوا قدام عينيهم ولسه امبارح قتلوا لنا أفضل ضباطنا الضابط أسامة الريدى
وأطرق الضابط بأسى وقال :
- الله يرحمه .. كان خير الضباط وكان أستاذنا وكان عاوز يوقف العنف ولكنهم قتلوه .. ولعلمك أنا شخصياً غير موافق على اللى بيجرى ولكن إذا كنت بتخافي على ابنك قولى له يسلم نفسه وأنا أوعدكم إن موضوعه هينتهى .
قال ذلك وألقى بين يديها بالصورتين فاحتضنتهما بيديها وضمتهما إلى صدرها وهو يرمقها بعينين باردتين ويمشى مع الجند من حيث أتوا
دمع زبيدة انهمر ساخناً فلما هدأت قليلا اقتربت من عمها وزوجته وأخذت تقول لهما :
- اطمئنوا ماحصليش مكروه
وألقت برأسها على صدر عمها المتصلب فوجدته بلا خفقان ولا أنفاس

******-******-******
إرتج العنبر من صوت غليظ خشن ينادى :
- عادل عبد السلام .
رد أحد المساجين فى نفس الغرفة :
- نعم ياافندم موجود فى غرفة خمسة على ثلاثة .
تابع عادل خطواتهم متوجساً ومرتاباً وهو يلبس جاكت بدلته الميرى
بصوت خفيض قال أحد زملائه :
- لوين أنت ذاهب يازلمه .. هو كل يوم هذى الحكاية
قال له :
- أنا زيك معرفش ليه بيطلبونى
قال آخر بصوت يسرى من آخر الغرفة :
- شو بيريدوك .. أمايكفى مرشد واحد فى الغرفة .
فرمقه عادل بعينين مشتعلتين وقال له :
- موش دا وقت كلام ولكن لما أعود هرد عليك .
انفرج الباب عن عدد من الجند يتقدمهم ضابط العنبر ، أحاطوا به فى شبه دائرة وأخرجوه وهو يطالع بنظراته العنبر..
زملاؤه المساجين اختلسوا النظرات إليه من نافذة الزنزانة وهو يتوارى عنهم ووقت الظهر يتوسد السجن .
أدخل عادل إلى غرفة المأمور التى كانت ملأى بالضباط
أرسل أحدهم عينيه إليه وقال له :
- إحنا هون اليوم من أجل أن نحررك من السجن .
ولكزة بيده وقال له :
مافى زلمه دخل السجن هنا فى قضية مثل قضيتك وخرج ولكنك هتخرج
إخترق أذن عادل صوت آخر قال له :
- ولكن لابد أنك بتترك كل أغراضك وأموالك الموضوعة فى البنك وتدخل لمصر مثلما جيت منها أول مرة .. وماترجع للعراق مرة تانى لأنك لو شوهدت هنا هيحكم عليك بالإعدام .. أفهمت ؟
- فهمت يافندم
وتشبثت عيناه بالسجاد الذى يدارى أرض الغرفة الخشبية
صفق الضابط بيده فجاءه الضابط قائد العنبر فقال له :
- اعملوا له اجراءات الإفراج وسلموا له ملابسه الموضوعة فى الأمانات
حين هم ضابط العنبر بالخروج قال له الآخر :
- اسمع هاالولد الذى يسمى جعفر مكانه فى نفس الغرفة بمجرد الفراغ من إجراءات الإفراج عن هذا الولد
******-******-******
مجلس الأحد
منذ أحداث العنف فى القرية ولم يعد لمجلس الأحد حول الحاجة مريانه بريق ولا رونق ، حظر التجوال فرض على الجميع القعود فى البيت حتى خيمت الحلكة والكآبة فى نفوسهم , غيروا مواقع الأثاث ونقلوه من مكان لآخر عدة مرات فلم يفلح ذلك فى شىء ، أصابهم جميعا الشلل والملل .. الشىء الوحيد الجديد هو رجوع غريان وأولاده للإقامة فى البيت بعدما فرضت عليهم أحداث القرية والتهديدات التى تصلهم أن يبقوا يدا واحدة ولكن غريان لم يلبث أن قرر ترك البلد والإقامة بعيداً خوفاً على نفسه وأولاده الذين استهدفهم المسلحون بالقتل .
تجمعوا أمام التلفاز فى نفس الصاله وشعاع الشمس الفضى يخترق خصاص النافذة التى أغلقوها خوفاً من رصاصة طائشة تصيب أحدهم .
جلست الحاجه مريانه متسربلة بشال أسود فوق رأسها ومستندة على عكازها وبجوارها غالب يجلس فى مواجهة غريان ورأفت المنشغل بترتيب رزمة من النقود فئة المائة جنيه على منضدة أمامه
قالت الحاجه :
- خلاص ياغريان هتمشى وموش هنشوف أولادك إلا كل فترة
قال رأفت :
- كل فترة حاجة حلوة ولكن باين إنك موش هتقابليهم إلا لما تنتهى الأحداث وأنا أظنها موش هتنتهى دلوقت .
اتجه غريان ببصره إلى أمه قائلا :
- إزاى أعيش أنا وأولادى داخل البيت ، دول ياما أطلقوا علينا الرصاص وكنا ننام على بطوننا علشان لا نصاب .. وشكراً للرب انهم مااقتحموا علينا البيت وقتلوا واحداً منا .. هؤلاء المجرمين .
قالت له أمه :
- موش أنتم وحدكم اللى يطلقوا عليكم الرصاص فالعمدة نفسه مهدد بالقتل وشيخ البلد والخفر وعمداء العائلات
وكررت :
- لا تظنوا انكم وحدكم اللى متقدروش على الخروج من بيتكم ولكن كل البلد زيكم ، فمين يجروء على الصلاة فى الجامع ؟ .. إن ماخاف منهم خاف من العساكر ، الشيطان أعمى أبصار الشباب دول فهم مابيفرقوا بين جامع وكنيسة
قالت مادلين :
- دول نفر من العبيد نسوا رسالتهم الحقيقية وبالباطل سفكوا الدم .
ارتسم على وجه العجوز مريانة الحزن والأسى وقالت :
- اللى بيحزنى هو عدم قدرتى على الصلاة .
قال لها غريان :
- صدق حكيم ياأمى صدق ومافى قعود لنا فى البلد دى وأنا هحاول أصلح خطأى معه وأخلى مارى تسافر أمريكا .
فقال رأفت الذى انتهى من عد النقود وصفها فى ظرف جواب كبير :
- والعدراء إحنا ماعارفين الصح حالياً م الخطأ وكأن القيامة هتقوم
قالت مريانه لابنها غريان :
- لفين هتروح أنت وأولادك ؟
- أنا حالياً بلا هدف غير الأمان فأنا مستهدف أنا وأولادى فهم بيتهمونى بأنى مبشر بالمسيحية فى البلد لما كنت دايم التردد على الكنيسة فى فترة مقاطعتى ، ومبدأياً هنروح لبيت اختى نرمين فى ملوى لغاية مانرتب الأمور .
تحولت الشيخ عبادة فى نظر غريان إلى لا شىء ، ومثل العصفور الذى فقد عشه شعر أن الحياة أصبحت عقيمة وبلا هدف وكان صادقاً فى كلامه فقد كانت أكبر أمنياته ألا يقتل هو أو أحد من أبنائه . لمع على وجهه إحساس مكبوت وقال :
- اللى بيجرى معى بسبب نفيكم لى لأنهم استضعفونى
فرفعت أمه عكازها وضربت به الأرض وقالت بقسمات وجه متضايق :
- لا ياولدى ، هل تعرف إن الفلوس اللى بيعدها أخوك إتاوة طلبوها منه ولابد انه يدفعها وإلا هيقتلوه ، الشباب دول بيستحلوا أموال الناس ونفوسهم .
وأخذت تقول بصوت خفيض لنفسها تلك الكلمات :
- والرب وحده يعلم هل هم اللى بيطلبوا الإتاوات وهم اللى بيضربوا النار علينا ولاّ الأهالي اللى سلمتهم الشرطة الأسلحة للبحث عن الإرهابيين فأصبحوا هم الإرهابيين 0
قال رأفت بحنق استعاده من قلبه :
- احنا نسينا يا غريان ما جري منك ، نسينا أنك أسأت لعائلتنا اللي هي رمز كل المسيحيين في القرية
- كانت غلطة وغالب سامحني , ولكنك يارأفت لغاية دلوقت بتظن اني يمكن أن أكرر الخطيئة .
فأومأ برأسه وقال :
- كنت أظن كدا , وأنا حالياً أصدقك ياغريان
- يعني خلاص الموضوع انتهي ؟
فقال له رأفت :
- الضفر مايخرج من اللحم , واللى بيجرى فى البلد أثبث لى اني لوحدي لا أساوي شيء .
ترغرغت عينا غالب الصامت من بداية المجلس فقال له غريان :
- والمسيح ماتبك يا غالب وقل لى ما أخبار مريم ؟
نظرت أمه له بعينين فاحصيتن حتى تعرف ما وراء سؤاله هل هو حبه القديم لها أم شيىء آخر وبعد برهة قصيرة قالت له :
- غالب كتب لها ميراثه في وصيته ، وأنا موش زعلانه فهي إنسانة مخلصة
قال غالب وهو يمسح دموعه :
- أبق معنا يا غريان .
قالت له أمه :
- سيبه ولما تنتهي أحداث البلد هيعود .
فقال لها رأفت مستنكراً :
- هل ممكن ياأمي إن الأحداث دى تنتهى ؟!
- كل شيء له بداية له نهاية ، ممكن يطول الوقت ولكن حتماً هتعود الحياة للشيخ عبادة زى ما كانت .

******-******-******
أبو البشر
أخرج أبو البشر رسالة من جيب سرى فى قميصه ووقف بجوار أحمد المصاب من عدة أيام وهو فى إحدى العمليات وأفصح عما فيها , برغم أن ذلك يخالف أبسط القواعد الحركية للعمل العسكرى الذى يقول أنة تمرس وتدرب علية بين جبال أفغانستان .
قال :
- الشيخ أبو حازم أرسل فاكساً يهنئنا بالنجاح فى عملياتنا الأخيرة وأكد أنة لن يندم على قتل أى ضابط فى الجهاز ، والمشكلة أنة لم يعرف أن السبل تقطعت بنا وأن سلاحنا وطعامنا قد نفذ
لم يدر أحمد جواباً وهو يتأوه واهناً فسكت ولم يرد وأنفاسه تتقطع
تصفح أبو البشر صاحبه وأدرك مااعتراه من وهن فقال له :
- يبدو أن النزيف قد رجع لك مرة أخرى .
قال أحمد :
- أنا أشعر أنى سأموت .
- لابد أن نذهب بك إلى طبيب كى يعالجك ولو فرضنا ذلك بالقوة ، لابد أن ننقذك من هذا الموت البطىء .
ومرت لحظات صمت مروع قال أحمد بعدها :
- دعنى ياأخى أموت أنا أشتقت إلى خالى على .
- لا ياأحمد كيف أتركك تموت ؟ إنى بدأت أفقدكم أخاً بعد الآخر .
قال لأبى البشر :
- احملونى واتركونى أمام البيت , فإن مت قضيت نحبى وأنا بين أهلى وإن كتب اللة لى الحياة فهذا شأنه .
وتذكر دنياه التى نسيها ، أمه وأبيه الذى لايعرف أنه على قيد الحياة , الجيران والبيت , وأرض الجبالى ، وتوهم أمه وهو يرتمى بين أحضانها ويقبل فيها كل شىء تطوله شفتاه فذاب مع دمعه الذى سال حتى عبر فوق شاربه الذى بدا يكون رسماً جديداً فى وجهه .
قال له أبو البشر:
- محال ياأحمد محال سيقبضون عليك .
ولكن أحمد صمت وقال :
- قل لباقى المجموعة يحملوننى ويلقوننى أمام البيت فأنا الآن أشعر بالرضا بعدما أخذت بثأر خالى الشهيد .
******-******-******
إلى مطار بغداد سارت به عربة الترحيلات بعد عدة أيام من إجراءات الإفراج وهو لا يصدق أنه أنقذ من محبسه .
لم يفكر كثيراً فى الأسباب التى دعتهم للإفراج عنه ولكنه كان يفكر فى مدى صدق هؤلاء فى الإفراج عنه ، نور الحرية وهوائها النقى الذى يتسلل عبر قضبان السيارة إلى خياشيمه جعله يكف عن تفكيره وهو يتطلع عبر نافذة العربة المقيد بداخلها فى يد أحد الحراس إلى شوارع بغداد .
انتهبت العربة الطريق بين المارة الماشين هنا وهناك والمحلات التجارية والأسواق , هذا العالم الآخر الذى لا يدرى شيئا عن العالم المجهول .. السجون والمعتقلات والمدافن الجماعية فأخذ يقول بلسانه المختبىء بين شفتيه :
- آه لو مرت العربة من الميدان ده وبعدين تروح ناحية الشارع المقابل بالقرب من بيت رشيد , يمكن مروه بتطل من مرسمها للحديقة .. دى النظرة الأخيرة .
أصبح عادل كالعصفورالذى أفلت من قفص حديدى وفجأة اكتشف أنه يحيا بعد موات فأيقظت الحرية نيران قلبه بعد أيام مظلمة من اليأس وانفجر داخله الأمل .
بسط عينيه هنا وهناك وقد جاوزت العربة ميدان على بابا ، ونصف ساعة مرت وما زالت تقطع الطريق .
من بعيد لمح مازن وهو عائد من المدرسة ولكن شكلة تغير قليلا .. هل هى أيام السجن ؟ هل هو مازن فعلاً ؟!
اقتلع تلك الشكوك ونادى عليه بصوت مرتفع ويده تخبط على العربة
حاول بكل ماأوتى من قوة ولكن ضاع صوته بين الضجيج والزحام الذى طغى عليه .
شده الحارس إلى الوراء واختفى مازن بين المارة .
وضع عادل يده فى جيبه فوجد منديلها الورقى لايزال موجوداً وعليه بعض رائحتها .. أمسكه فى يده ومسح دمعتين وقعتا على خديه
******-******-******
المسافة التى تفصل بين بيتى الحاجة مريانة والعمدة عدة أمتار هى مساحة الجدار الأمامى لبيت الحاج عبد السلام المنهار ، استطاعت مارى ومعها مادلين أن يقطعانها بسرعة ويذهبا إلى بيت العمدة بعد أن سلما على الحاجة أم عادل وألقيا نظرة على زبيدة التى كانت ذاهلة عما يجرى حولها تماماً بسبب الحزن الساكن فيها .
سلمت عليهما شادية بحرارة واصطحبتهما إلى حجرتها وأعادت إلى وجهها بسمات أيام خالية مضت وذكريات جميلة ولكنها مالبست أنا اختنقت بالحزن حين عرفت أنهم سيتركون القرية ليقيموا فى مكان آخر
قالت لهما :
- هتكون لكم وحشة .
قالت لها مادلين وهى تنظر إليها بعينين تسكن فيهما الصداقة :
- أنت اللى هتكون لك وحشة أكتر وموش عارفين هنلاقى صاحبة زيك ولاّ لأ ؟
قالت مارى :
- برغم الخوف عملنا المستحيل وخرجنا نودعكم .
قالت شادية :
- إمتى هتسيبوا البلد ؟
- احنا بنجهز ولكن إمتى بالضبط ربنا أعلم
قالت ذلك مارى وتناولت كشكولاً موضوعاً على مكتب شادية ، قلبت فيه بسرعةٍ لا تجعلها تدرك مايحتويه وتركته وقالت لها :
- اعرف إنك عديت مرحلة صعبة ، وإنه مفيش فى بلدنا شابه زيك ولكن إن كنت بتحبينا وتحبي سامى فقولى له يشق طريقه فسامى هيسمع كلامك .
وقبلتها مارى وأردفت قائلةً :
- أنت هتنجحي فى ضرب المثل فى الحب الخالص .
قالت لها شادية والدموع تستأذنها فى النزول :
- حاضر يامارى ولكن إزاى أقابله وأنا مابخرج من البيت .
فقالت لها مادلين :
- دا أمر سهل ، وقبل مانمشى موش هنعدم وسيلةً .
******-******-******
سارت الأمور بشكل طبيعى ولم يتعرض له أحد فى مطار القاهرة , وتأكد عادل أنه أصبح حراً وأنه يستطيع أن يتوجه إلى قريته فقرر أن يصل إليها بعد انسحاب الشمس ودخول الليل حتى لا يراه أحد بهذه الصورة التى هو عليها .
يمم عادل وجهه ناحية القرية فى الوقت الذى حدده ولما وصل فوجىء بكوبرى يصل بين الشاطئين فألقى عليه نظرة باسمةً فلما سارعليه ورأى المتاريس والمدقات التى وراءها جنود الأمن المركزى ورأى المخبرين منتشرين فى مدخله ظل مرتاباً ومتشككاً فى كل شيء .
سار متسللاً وأضواء القرية على الناحية الأخرى خافتِةً وسط الظلام حتى وصل ترعة الساحلية بلونها الداكن الذى ازداد قتامةً فى الليل .. نقيق الضفادع يقتحم أذنيه وهويلقى نظرة على الجسر الدائرى الذى كان يرتج بالناس حتى فى قيظ الشمس الجاثم .. لم ير أحداً سواه فاستثاره هذا السكون الرهيب .. توحد مع صمته وخواطره وهو فى خواء الليل وتفاقمت الأسئلة فى دماغه المرتبك عن القرية والذى جرى فيها ثم هون من الأمر وقال :
- دقائق وأعرف كل شىء ولكن المشكلة إزاى أقابل أهلى بصورتى دى ؟ أنا ركضت عكس الريح واستهوانى الطموح لغاية مادمرت نفسى ، رحلت الى بلاد غريبة وضحيت بالغالى والنفيس من أجل السراب ، ياللهوان والخسارة ، أدينى عدت وفى يدى منديل ورقى عليه بقع من الدمع لمحبوبة ياريتنى هشوفها مرة تانى .
وأخذ يخاطبها وكأنها تسير بجواره ويقول لها :
- أصبحت ذكرى يامروه ودا قدرنا ، فمن الناس إنسان يعانده القدر ، نعم هو دايماً يعاندني ، شوفى حالي .. أقول إيه للحاج عبد السلام ؟ أقول له ابنك خاب موش هتفتخر به زى أول مرةٍ حتى العبائة اللى طلبتها ماقدرت على شرائها ، وقميصك ياحاجة أم عادل ماقدرت آجيبه سامحينى .. ابنك دخل السجن ولو حكى لك اللى شافه ما صدقتي انه يحصل لبشر ، وماهقدر أحكى لكم ياأهلى جميعاً اللى حدث وجرى .. نعم صدقونى ؟ دا قدرى اللي اخترته بنفسى .. سامحوني وسامحني يا كامل وأنت يازبيدة أنا أعرف أنك تعبت معى وأنا ما تخليت عنك وكنت عاوزك تعيشى معايا ، وإيه المشكلة ؟ العمدة تزوج من امرأتين وعايش فى سعادة . . آه لو كنتم شوفتم مروة كنتم هتحبونها جميعاً دى طيبة وجميلة وكانت بتحبنى ولكن المشكلة هل صدقت انى برىء من الخيانة .. أنا قربت أجن يازبيدة .. اوع تبك وقربى منى ابنى أحمد علشان أضمه لصدرى ومقام الشيخ مشتاق ليه .. أكيد كبر وخرج له شارب وأصبح شاباً ولكنه للأسف موش هيفتخر بوالده الخايب .. يابنى اللى جرى لم يكن بإرادتى وأنا هحكى لك كل شى . . أبوك هيقعد جنبك المرة دى لأنه ممنوع من السفر إليها .
أبحر عادل كسفينةٍ فوق بحرٍ متلاطم الأمواج واستدار برأسه وعاود النظرات إلى قريته فلمح أشباحاً يدققون النظر فية من بعيد .. إن جسده الممصوص وملابسه المهترئة وقدماه العاريتان اللتان تتوسدان شبشباً ضيقاً كل ذلك كفيل أن يثير النظرات والعجب ولكن من هؤلاء الذين يحملون السلاح القاعدون هناك ؟!!
استوقفه أحدهم وعرفه عادل من الوهلة الأولى ، إنه خليل :
- خليل موش عارفنى ؟!!
- مين أنت وفين بطاقتك ؟
- إيه دا ياربى هل اشتغلت غفير ياخليل على آخر الزمن ، وإيه السلاح اللى على كتفك ؟
- ياجدع أنا بقول لك فين بطاقتك ؟!
- خليل لغاية دلوقت موش عارفنى ؟ .. أنا عادل
- عادل مين ؟!!
- عادل بن الحاج عبد السلام
قال ذلك بحدة ووكزه بيده فأخذ خليل يفرك عينية ويدقق النظرات ويقول :
- عادل مات من زمان .
- خليل هل عقلك حصل له شىء ؟! عادل حىّ قدامك ورجع من العراق امبارح .
جاء محمود ابن العمدة واثنان مدججان بالسلاح وراءه وفى يده كيسا من اللب وقال لخليل :
- إيه جرى هو كل واحد يمر من هنا يبقى إرهابى ، وبعد كدا احنا بنعمل عمل روتينى ياعم خليل !
باغته خليل قائلاً وهو يسخر :
- دا عادل ابن المرحوم الحاج عبد السلام .
قال عادل :
- المرحوم هو الحاج مات ؟!
فارتفع صوت خليل :
- والله يشبه عادل فعلاً حتى فى طريقة كلامه
قال له عادل :
- مالك ياخليل أنت نسيت الكازينو .. نسيت ناصر والخناقة اللى كانت بينك وبينه ولولا انى تدخلت للصلح بينك وبينه .
ففغر خليل فاه وقال :
- لا .. لا.. لا أنا ماهصدّق
وقال محمود :
- أنت ؟!!
وحشرج الكلام فى حلقه ثم قال :
- انت عادل كيف دا يابوى ؟!!
وغاصوا بعيونهم فيه ، وعادل يقول لهم :
- مين قال إنى مت ؟!!
تأكدوا أنه هو بشحمه ودمه فأخذوا يحضنونه ويقبلونه وهو مثل صخرةٍ باردةٍ يقول :
- مات الحاج عبد السلام .
فقال له خليل :
- إيه اللى عمل بك كدا ؟! قل لنا بسرعة
قال ذلك ومحمود ابن العمدة مشغول بمسح دمع عينيه .
فقال لهم عادل وصوته محشور فية غصة البكاء :
- أبوى مات صح ؟
أعرضوا عن إجابة سؤاله
قال له محمود :
- قل لنا ياعادل فين كنت الفترة اللى مضت ، ده الدنيا فعلت بك الأفاعيل .
- دخلت السجن وكان معى ناصر .
ثم أطرق قائلا :
- ولما مات كان معى فى السجن وأرسلوا جثته .
فقال خليل:
- يبقى وصلت جثة ناصر على أنها لعادل .. والله أعلم إن كانت هى ولاّ لا ؟
وعض محمود على شفتيه وقال :
- مات قبل ماأقتله
فقال لهما عادل :
- قولوا لى كيف مات أبوى وإمتى ؟
قال خليل :
- هنحكى لك كل شىء .
******-******-******
زبيدة
وقف أمام أطلال البيت .. وحشة المكان , وذكريات الراحلين , وأشباح الحزن التى تسكن كل شبر فيه حملت أمام عينيه المأساة كاملة .
انصهر قلبه وأغمض عينية فتسربت منهما عصارة الألم ، ورأى زبيدة من بعيد وهى متشحةً بملابسها السوداء واضعةً يدها على خدها باكيةً دامعةً .. زبيدة جميلة القرية أصبحت أبأس بناتها حالا ، نسج الدهر أحزانه حولها ، لقد تشابها معاً فى المحنة .
قال له كامل :
- دى مش زبيدة اللي تعرفها .. زبيدة خلاص تغير حالها ، كانت جامدةً زى جبلٍ من الصخر لغاية مامات والدنا فبقت ماتكف عن البكاء وتكلم نفسها ليل نهار , وتتخيل أنكم رجعتم حتى إنى أظن انها بدأت تفقد عقلها ولكن لوشافتك ممكن ترتد فيها الروح وترجع زى ماكانت .
قال عادل :
- سيبها ياكامل علشان مجددش عليها الأحزان .. أنا السبب في اللى جرى لها ولكم ، كان والدى محقاً فى انه يزوجها لرجل يحبها زيك يبقى معها ومايتركها وحدها لمصائب الزمن .. أنت نصيبها الأول اللى كان يجب أن يكون معها أما أنا فما أستاهلها
فأطرق كامل وقال :
- ولكنها ..
- ولكنها ماذا ؟
- هى زوجتك .. والله مامسيتها لغاية دلوقت ، زبيدة بتحبك ياعادل وماتحب حد غيرك وهى دلوقت بتعيش على ذكراك .
- عادل مات ياكامل .. عادل مات
وبكى عادل ولم يتمالك نفسه
قال كامل :
- ياريت زبيدة بقى فيها شىء ، هى بتعيش مع صوركم .. زبيده ملكك أنت ياعادل والضرورة فرضت على الزواج منها .. وأنا حافظت لك على الأمانه والحمد لله إن ربنا رجعك لن علشان أرد لك أمانتك
- لما يطلع ابنها أحمد من السجن هتعود زبيدة زى ما كانت ياكامل وهتكون زوجة مخلصة لك ياكامل .. قل لى ياكامل هل ماتت أمى كمان ؟
- هى فى الجبانة بتزور الأحبة .
سمعت زبيدة صوتهما فتحركت حيالهما فانزوى عادل جانباً وقال لكامل :
- ادينى شنطة سفرى القديمة لأن بها أشياء عاوز أحتفظ بها .
- لسه بتذكر الحاجات دى .. ياعادل الحملات اللى كانت تيجى وتفتش أخذت كل شىء وأنت شاهد دلوقت على أحوال البيت .
وجاءت زبيدة فقالت :
- هو أحمد رجع ولاّ إيه .. هو خرج من السجن ياكامل ؟
وتقدمت بخطواتها إليهما فوقف كامل أمام أخيه يداريه وقال لها :
- قرّب يعود يازبيده , أدخلى دلوقت أنا معايا ضيف .
- مين معك .. الحاج عبد السلام ؟
- إزاى يرجع يازبيده .. وحدى الله
غرقت عيناها من بعيد فى ملامح عادل وكانت أكثر اللحظات شجناً حين انداحت زبيدة فى عاصفةٍ جنونيةٍ قائلةً :
- مين أنت ؟ أنا عارفاك .
لم تصدق نفسها .. حسبته خيال الراحلين يتراقص أمامها ويتلاعب .. قالت :
- أنت عادل أنت رجعت ياعادل ؟ ليه ماجبتش معك على؟ هو مشغول مع شعبان ؟ أنا موش اتفقت معه على أنه يسيب صحبته ليه خالف كلامى ؟
والتفتت الى كامل وقالت :
- عادل رجع ياكامل ولكن ليه تغير شكله كده ؟!
وأخذت تتحسس كل جزء فى جسده وتمسكه بيدها وتقول :
- أنتم تضحكون على . . دا شبيه عادل .
قال كامل :
- والله دا عادل ، عادل كان فى السجن وخرج ، والجثة اللى جت كانت لناصر
فقالت :
- دخل السجن زى أحمد ، طيب وعلىّ هيخرج من السجن زيه .
فمد عادل يده المرتعشة وقال :
- سلمى عليّا يازبيده .. أنا عادل ابن عمك .. أنا أبو أحمد ، ومقام الشيخ عباده الجثة اللى وصلت لناصر وموش لى
فوقفت متجمدةً وعادل يقول لها :
- أنا كنت فى السجن يازبيده .
كانت زبيدة قد تجمدت ولكنها كانت تتمزق من الداخل .. اختلط صوت ضحكها وبكائها وأخذت تمسك بعادل فى حركات هستيرية ومادت بها الأرض ووقعت مغمىً عليها فحملها كامل وأدخلها إلى البيت وعادل واقف يبكى ويقول :
- ليه يارب يحصل لنا كدا ؟ سبحانك ياربى هل دا هو قدرى الموعود بالعذاب .
ودخل ورائها عادل فقال له أخوه :
- اطمئن هى مغمىً عليها بس .
******-******-******
المواجهة
أمسك المجند شعبان من قفاه وسار به على الطريق الأسفلتى الذى يفصل بين العنابر ، حاول شعبان أن يختلس النظرات إلى السجن الواسع الذى تم بناؤه منذ عامٍ واحدٍ فقط ليسع أكثر من أربعة آلاف سجين .
منذ تم القبض عليه كانت حدود عينيه لا تتجاوز جدران الغرفة الخرسانية التى لا يزيد طولها عن أربعة أمتار فى مترين ونصف ولكنها تضم أكثر من سبعة عشر سجيناً ، الصفعات التى تنزل على قفاه واللكمات التى يتلقاها على ظهره كفيلة أن تجعل الخوف يتملكه تماماً , ويجعل عينيه تنغلق إلا على الأسفلت الذى سقطت عليه أشعة الشمس فجعلته مشتعلاً بالحرارة فانتهبته قدماه الحافيتان إلى الدور الثانى فى مبنى السجن .
دفع شعبان إلى غرفة جانبية بعدما وضعت عصابة على عينيه ، هواء التكييف البارد لفح جسده العارى من الملابس سوى السترة والبنطال الميرى الأبيض المصنوع من الكتان الردىء المخصص للسجناء السياسيين .
أمر الضابط شعبان بأن يفك العصابة عن عينية ، بهدوء فك الرباط وأطلق عينيه إلى عالم جديد .. السجاد الموشى بالألوان الزاهية .. المكتب والأنترية .. كل ذلك لا يشعرك أنك معتقل إلامن خوف مازال مترسباً فى صدرك ولن تكون مسافة الطريق الأسفلتى كفيلةً بنزعه .
زاغ شعبان بعينيه إلى الضابط وجسده يرتعش لأنه لم يعرف هذا الضابط من قبل .. قسمات وجه الضابط تشى بالرزانة والهدوء .
عاجله الضابط قائلاً :
- طبعاً ماتعرفنيش ياشعبان .. أنا الضابط خالد يسرى لمّا كنت بتعمل زعيم وأمير كنت أنا منقول على فرع أمن الدولة عندكم لأعمل مع أستاذى اسامة الريدى اللى قتلتموه فى وضح النهار .
قال ذلك وأدرك مايعترى شعبان من برودة الجو فقال له :
- أغلق جهاز التكييف واقعد على الكرسى المقابل لى
عبثت أصابعة بالأزرة لكنه فشل تماماً أن يغلقه فقال له الضابط باستنكارٍ :
- موش عارف تقفل جهاز التكييف ياللأسف على طالبٍ جامعى كان قدامه مستقبل باهر وبدل تكييف واحد يبقى عنده ألف ولكنه ألقى بنفسه فى متاعب السجون ورا الشمس .
واحتد قائلاً :
ومستحيل ياشعبان مستحيل انكم تخرجوا من السجون ونزيف الدم وقطار العنف اللى كنت واحداً ممن دفع عجلاته مازال يسير بقوة ، فين صالح دلوقت ؟!! حضرته كتب لنا إقرار توبة واعترف بأخطاءه وتبرأ من أفعاله القديمة وترككم تواجهون مصيركم ، وإحنا هنخرجه ولكن موش دلوقت لأنه أذنب .. موش فى حق البلد ولكن فى حقكم أنتم كمان .
ونظر إلى ملابس شعبان الرديئة وجسده الذى ذبل فمص شفتيه وهز رأسه بأسىً وقال :
- فيه ناس ورجال فى الداخلية حريصون عليكم ويعتبرونكم قطاع من المجتمع كان منهم الريدى الذي قتلتموه للأسف ، أى نعم قد أساء القطيع دا للجميع بأفعاله ولكنه جزء من شعب مصر ، والرجال دول حاولوا يستنقذوكم بكل الوسائل ولكنهم فشلوا .. فشلوا لأن أمراءكم المزعومين ضحكوا عليكم وجعلوكم تؤمنون بنظرية الفيل والبرغوث وآدى الفيل سحل البرغوث وسحقه تماماً وباقى فلول منكم فى النزع الأخير ، وأديهم عادوا من جديد وأنا منهم ، وكلنا أمل فى الحوار معكم رغم أنكم تهللون فى الزنازين لأى عمليات عنف ولكننا نعرف بأنكم فى واد ومشايخكم الكبار فى واد تانى .. مشايخكم أنا أعرفهم كويس .. بدأوا يغيرون أفكارهم واحنا هنساعدهم على كدا ، قالوا احنا اجتهدنا وأخطأنا واحنا وثقنا فيهم وقلنا دول ناس محترمين .
فتح شعبان فمه ولكن الكلام حشرج فى حنجرته
قال له الضابط :
- صدقنى في اللى أقوله لك ولو مرة واحدة فى عمرك .. هل انت تعرف إنى قطعت مسافات طويلة علشان أوصل للسجن دا فى الوادى الجديد ؟ وكله من أجل مصلحتكم ..صدقنى ياشعبان الدولة موش كافرة وهى مطبقة للشريعة لأن الشريعة لها مقاصد ومن أهم مقاصدها المصلحة .
وبحنو وهدوء قال :
- تكلم ياشعبان وإوع تخاف موش هضربك زى ماكانوا بيعملوا معكم فدا كان زمن ومضى .
- يافندم أنا لا كنت أعرف نظريات برغوث ولا أبحاث ولا غيره ، أنا رجل من أسرة بسيطة وفقيرة ، كنت أشعر بالضيق والإحباط والخوف وفقدان الأمل فى الحياة الكريمة فلقيتها عندهم
وأشار إلى عنابر المساجين .
- وفهمت دلوقت ياشعبان ؟
- كل الناس فهمت ، موش أنا وحدى
- بعد كل اللى عملتوه ياشعبان ؟!
وضرب بيده على المكتب وقال :
- وبعدما دارت عجلة العنف وأزهقت الأرواح وخربت السياحة واقتصاد البلد .
- أنا لاضربت سياحة ولاغيره ياباشا .. أنتم قبضتم عليّ قبل الكلام ده .
- هه .. وكنت عاوزنا نسيبك لغاية ماتضرب .
وصرخ قائلاً :
- أبو البشر .. مرتضى حمزه وعشرون نفرا معاه بس خربو البلد .
- هم صغار عاوزين اللى يفهمهم وموش لاقيين .. تقدر تقول لى حضرتك أجيب من فين كتب علماء الأزهر أو شرائط كاسيت لهم لكن أنا أحصل على كتب وشرائط الآخرين بسهولة وبعدين هم فقراء ومين يعطيهم وكمان هم شباب اليأس مزروع فى قلوبهم من السجن أو القتل وأنتم رفضتم تعطوهم الفرصة ، أنتم السبب فى الاعتقالات المستمرة
- أعرف أن فيه معالجات أمنية خاطئة وعلشان كده من يوم ماتوليت أمر أمن الدولة فى ملوى بعد تولية الوزير الجديد ونقل النجدى باشا إلى المباحث العامة استأذنت رؤسائى وأمرت بعدم التعرض لهم وسحبت أغلب الحراسات ولما يتوقف العنف نهائيا هسحب الباقين ، ولعلمك أنا أعرف أماكنهم اللى بيختبئوا فيها ولكنى رفضت أقبض عليهم علشان مفيش رصاصة تطلق فى البلد وعلشان أعطيهم فرصة يسلموا أنفسهم وآدى أحمد الضبع سلم نفسه
ورفع صوته :
- لازم يسلموا أنفسهم ، لازم يخوضوا تجربة السجون علشان يتعلموا ويفهموا زيكم لكن إزاى نعمل الكلام ده بدون أن نطلق رصاصة هى دى المشكلة ، ومن الخطأ انى أقول لمسجون زيك الكلام دا ولكن أنا وثقت بك وأعرف أنه كان مضحوكا عليك وأنك هتساعدني في النهاية .. فإيه رأيك؟
- أنا تحت أمرك ، ولكن السجون موش هى الحل وكمان ..
- خايف إنهم يقولوا عنك مرشد ؟
وصمت شعبان فقال له خالد يسرى :
- أنت هتساعد وطنك ونفسك وإخوانك علشان لاتزهق أرواحهم وأنا كمان هجازف بمنصبي وتاريخي كله وهخرجك من السجن بشرط انك لاتتحرك خطوةً واحدةً قبل ماتخبرني .
وقبل أن يأذن لشعبان بالخروج قال له فجأة :
- قل لى ياشعبان بصراحة أنتم من غير السجون ممكن تغيروا أفكاركم ؟
- أقول بصراحة .. لا .. ولكن موش عارف أقول إيه

******-******-******
مع انتهاء التحقيق وضع غطاء سميك على عينى شعبان مرةً أخرى واقتيد فوجد نفسه فى حجرةٍ كان الهمس السابح فيها يؤكد أنه ليس قابعاً فيها بمفرده .
تحفزت أذنه فاستطاعت أن تتعرف على صوتٍ طالما سمعته كثيراً .
- ياه يبقى الشيخ صالح هنا جنبى .. آه لو سابونى لحظات أتكلم معاه .
قال شعبان ذلك ولو فتشت فى طيات نفسه لوجدتها حيرى بين عالمين .. عالم الحقيقة وهو مهيض الجناح منكسر يخذله فقره أمام الناس , وعالمه الجديد الذى أصبح فيه أميراً وزعيماً يسمع من يمدحه ويطريه ويرى كذلك من يريد أن ينقض عليه ولكنه لايجرؤ خوفاً من أتباعه .. عالمه الذى رأى فيه القوة والعنف ورأى فيه كذلك العدالة التى جعلته فوق الجميع بتعاليم الإسلام التى يتسربل بها .. لقد نصفته الجماعة تماماً وانتشلته من قاع القرية حيث اغتاله الفقر ليصبح ذا قيمة حقيقية تتفتح عينه على حياةٍ جديدةٍ وينهب عقله بأفكار تخضعه لسلطانها وتجعله يسير لامبالياً كأنه ريشةً تطير فى مهب الريح , وإذا كان السجن قد أعلن هزيمته وأخرجه إلى ذاته الحقيقية وكذلك الأمل فى الحرية الذى وضعه أمامه الضابط خالد يسرى عرّاه تماماً فإن صوت شيخه أعاد إليه قناعته بأفكاره المأسور لها وجعله لامبالياً بما قاله الضابط ، إنه لم يعد الآن يشعر أنه مجلل بالإثم بل هو بطل فعل الكثير من أجل بلده ومن أجل دينه وهذه حقيقة لا ينكرها إلا جاحد بأنه إن كان هناك أخطاء فهناك كثير من الحسنات .
فك المجند الرباط السميك من فوق عينيهما وتركهما معاً قبل أن يفكر شعبان هل رتب هذا اللقاء عن قصد أم لا ؟
وثب شعبان وجلس بجوار شيخه وسلم عليه بحرارةٍ وفى موجاتٍ متلاحقةٍ من الكلمات قال له الشيخ صالح :
- لقد رتب القدر هذا اللقاء ولعلك لا ترانى مرةً أخرى ولذا لابد أن أعترف لك ياابنى أن طريقة عملنا كانت تشوبها بعض الأخطاء التى كانت سبباً فى سجننا وفى موت بعض شبابنا ولابد من المراجعة فلا قدسية للفكر البشرى
قال شعبان :
- ماذا تعنى كلمة لا قدسية ؟
- يعنى الفكر ليس مقدساً بل يمكن تغييره
كان شعبان إلى وقت قريبٍ غير واثق من كلام الضابط وكان يريد أن يفرغ ما فى جعبته لشيخه ولكنه ذهل بكلماته له فقال :
- أنت كنت تقول لى أنك الأقرب للحق
- وكنت أقول لك لابد أن نقاتل , والآن أقول لك إن عدالة القضيه لاتقتضى المواجهة .. إننا دعاة إلى الله وهداة ندعو الناس ولا ندعو عليهم فلماذا لانمد أيدينا لنصالح المجتمع فالإسلام زهرة يانعة لا يتنفس شذاها إلا من رزقه الله حسن المعاملة .
- يعنى أنت كتبت توبة كما يقولون ؟
قال ذلك وأخذ يخبط يديه ويقول :
- يامصيبتى .. يابلوتى على ماحصل
- أنا لم أكتب توبة .. الذى عملته ليس توبة ولكن اعترافاً بالخطأ
- الآن بعد أن دمرت مستقبلى الآن بعد أن سجنتنى.. بعد كل الذين ماتوا .. بعد كل الذين سجنوا .. بعد كل العذاب .. بعد ماقلنا للناس بأننا صح تقول ذلك
وانفجر شعبان باكياً فقال له صالح :
- أنا لم أسجنك . . أنا بشر مثلك يخطىء ويصيب .. بشر لم تثقله تجارب الحياة والآن تعلم
- يعنى أنا كنت غلط وعلىّ صح .
- لا أستطيع أن أقول ذلك ولكن أقول هو كان صح وأنت لابد أن تصحح الأخطاء
فخبط شعبان رأسه فى الجدار وهو يعانى صراعاً مهولاً ويقول بصوت ممزقٍ :
- إيه أعمل خارج السجن وإيه أقول للناس .
******-******-******
ذاكرة الأيام
لقد نجحت شاديه فى كبح جماح قلبها والحب الذى يتلاعب أمام عيونها , واستطاعت فى الأيام الأخيرة أن ترتفع فوق آلامها , ولم يكن رحيل سامى بعيداً عن القرية هو الذى جعل التحنان يشتعل فيها مرةً أخرى ويجعلها تذهب إلى بيت غريان ولكنها أرادت أن تحسم أمرها وتضع حداً لعذابها وعذاب سامى وتكتب نهايةً للحب المستحيل ولوعلى حساب نفسها .
أصبحت كطائرٍ يحلق عند بيت مريانه .. عيناها هناك راقدة على سامى تتجرع ألم الفراق .. انتظرت مارى أو مادلين طويلاً .. شعرت بالاختناق وفقدت كل ما فيها من صبرٍ وبرغم الحصار المضروب حول القرية والخوف المسجون فى أعماقها قررت أن تفعل أى شىء فى مقابل لحظات تقف فيها معه وتنفذ وعدها لمارى .
تقدمت خطوةً ثم قفلت راجعةً وعادت مرة أخرى لتتقدم خطوات وهى لا تعبأ بالخوف ولا بالعساكر وعيون الناس .
فتحت الباب فى غفلةٍ من أهلها ، كبندول الساعة اتجهت يمنةً ويسرةً ثم قفزت خارج المنزل واجتازت الدوار الذى يفصل بين البيت والجسر ، بغتتها أمها وكانت لحظةً مرعبةً حين صرخت فيها قائلةً :
- لفين أنت رايحه ياشادية ؟!
ارتدت إلى الوراء وقالت لأمها بصوتٍ متقطعٍ وجلٍ :
- كنت هخطف رجلى لزبيده
وأرادت أن توهم أمها أنها استأذنت منها فقالت لها :
- أنا قلت لك امبارح
وبعد أن دققت أمها النظر فيها قالت لها :
- وتسلمى على مارى ومادلين موش كدا ؟
فتلون وجهها بالخجل وقالت لأمها :
- من غيرك موش هروح .. أنت طبعاً هتودعى أم سامى لأنهم بيحزموا أمتعتهم دلوقت ؟
قالت لها أمها بغضبٍ وحدةٍ :
- ادخلى ياشادية
فبغتتهما مارى وقد وصلت قبالة دار العمدة :
- ياخالتى أم محمود موش هتيجى تسلمى على أم سامى وتسيبى معنا شاديه دقايق قبل مانمشى .
صدمت زوجة العمدة المفاجأة ونظرت لبنتها التى وقفت فى استكانة ورجاء فقالت لهما :
- حاضر يامارى مقدرش أتاخرعن أمك .. خليك أنت وشاديه ورا الدوار لغاية مااستأذن العمدة .
لم تكمل زوجة العمدة دقائق معدودة حتى استأذنت زوجها وذهبت مع الفتاتين لتستقر هى وابنتها عند مدخل بيت الحاجة يسلما على أم سامى وأولادها الذين يلقون بحاجاتهم داخل العربة .
تسللت شادية بهدؤ وانزوت وراء العربة التى يحملها رأفت وغالب بحاجات أهل غريان ووقفت مع مادلين إلى أن دخلت أمها تسلم على أم سامى .
تلون وجه سامى وارتدت فيه الروح وكأنه اكتشف أخيراً أنه على قيد الحياة وكان مازال فاقداً لتوازنه حينما رأى شادية على بعد خطواتٍ منه .
تحججت مارى ومادلين بأشياء خاصة سيحملانها ويضعانها داخل العربة وتركاها مع أخيهما .
بابتسامةٍ قالت له بعد أن اختبئا وراء العربة :
- فعلت المستحيل علشان أشوفك قبل ماتمشى واتكلم معك شويه
تجمد لسانه صامتاً وهو مازال مصوباً نظره إليها وقبل أن تتكلم استطاع لسانه أن يرتب الحروف قائلاً :
- لو ماجيتى كنت هروح لك مهما حصل
فصمتت برهةً وهى تجاهد نفسها أن تتذكر كلمات حفظتها من شريط دينى عن العشق والحب فعاجلها بقوله :
- ياريتهم تركونا نعيش زى ما نحب على الأقل نشوف بعض وموش مشكلة أى حاجة تانى ولكن دى أزمتنا وأزمة عشرات زينا دخلوا فى نفق المستحيل .
- الحمد لله أنك عرفت أنه نفق مستحيل .. الحب والدين وكيف لنا أن ننصر الحب على الدين ؟
وأكملت بصوتٍ منكسرٍ:
وإحنا مانملك إلا أن ننحنى قدام الدين لأننا مانقدر ننخلع عن جذورنا أو نلقى الدين ورا ظهورنا فدا محال لأن الدين هو الشىء الوحيد اللى مايملك حد انه ينفصل عنه لأن الإنسان هيموت والدين يدخل معاه القبر ، ولعلمك أنا فكرت أطلب منك انك تتخلى عن دينك ولكنى تراجعت لأنى أعرف انك بتحب دينك
- ولكنى فكرت انى أسيب دينى
- يبقى بتخدع ربك ونفسك لأنك اخترت الدين موش له ولكن علشان إنسانه بتحبها , وحتى لو أسلمت موش هيوافقوا على زواجى منك أبداً فأنت عندهم مسيحى ولو غيرت جلدك .
وتلجلج صوت الحب فى داخل سامى فقال بصوتٍ محتدٍ ولم يعبأ بعمه غالب الذى يقف على مقربةٍ منهما :
- احنا بنحب بعض والحب مااختارته أيدينا ولكن اختارته قلوبنا .
فقالت له :
- الحب الحقيقى انك ماتخلينى أضحى بحبى الكبير وهو دينى وانى مااخليك تضحى بدينك علشانى موش علشان ربنا فالحب إنكار للذات وموش أنانية .
فقال لها :
- إنا مقتنع
- فليه أنت حزين .. سامى خلى حبنا هو الدافع اللى يخليك تشق طريقك وثق ان شادية اللى بتحبك الحب الطاهر هى اللى عاوزاك تنجح وتكون استاذاً فى الجامعه زى ما قلت لها من قبل ، وهى كمان تحب تشوف لك زوجةً وأولاداً فإن كنت بتحبها فاعمل اللى بتقوله لك .
قالت ذلك واستطاعت ببراعةٍ أن تكتم الدمع الذى بدأ يتوهج فى حدقتى عينهيا , فقال لها وهو ينظر اليها ويدقق النظر :
- أنت اللى بتقولي كدا ؟!
قالت :
- سامى اوع تنظر لوجهى فهو موش لك .. سامى .. شادية تغيرت ولازم تعرف ده
فقال لها :
- وأنا ؟!
قالت له :
- انتهى كل شىء يا سامى .
لم تكمل الكلمات فقد قطع حديثهما والدته التى جاءت وبصحبتها أم محمود فساعدها سامى فى وضع حقيبةٍ فى جيب السيارة ثم تركها تدعو مارى كى تذهب وتنادى عمها رأفت وأخذ يرقب وجه شادية التى لم تعد قادرةً أن تردد كلاماً محفوظا أكثر من ذلك ، وسرق إليها النظر وهو واقفة بالقرب من عمه غالب الذى يربط حقائب السفر فوق السيارة .
من بين النخيل البعيد المواجه للبيت كان وجه محمود مكشراً يتلاعب الثأر فى عينيه وهو يسد مدخل الجسر من الناحية القبلية وسلاحه مصلوباً على كتفه .
تراجعت شادية خلف السيارة واستغرقت فى صورة أخيها وعيونه التى يلوح منها الانتقام والشر وسلاحه الذى بدا موجهاًَ لسامى فى غفلةٍ من كل الواقفين .
نادت على أمها وقفزت بسرعةٍ للأمام ، كانت الرصاصات القادمة لاتعرف أن أم محمود واقفةً بجوار الشاب وأنها ستستقر فى صدر المرأة حين أرادت أن تجرى صارخةً فى وجه ابنها .
صدمت سامى المفاجأة فارتد للخلف ثم رجع ليلقى بنفسه إلى شادية ويسحبها للوراء فأصابته الرصاصات الطائشة فارتمى بجوار عجلات السيارة الأمامية بجانب أمه وعمه غالب اللذين لم يفلتا من الموت من رصاصات محمود المجنونة وسقطوا جميعاً غرقى فى دمائهم بينما أهل البيت الباقين قد اختبأوا جميعاً وراء بوابة البيت حينما سمعوا الرصاصات وحسبوا أنها إحدى العمليات المتقطعة التى تحدث فى الآونة الأخيرة فى القرية وخرجوا ليروا هؤلاء الغرقى فى الدماء .. سامى وأمه وغالب وزوجة العمدة .
شادية كانت مذهولةً تنظر هنا وهناك بجنونٍ وبغير وعىٍ ولا تعرف أن أمها بجوارها لاتزال تلفظ أنفاسها وأنها ستنام إلى الأبد .
******-******-******
الزيارة
جرى ماجرى فى القرية وعادل هناك فى صقيع البرد والفجر ينشر راياته أمام السجن ينتظر ميعاد الزيارة ، شعورُ غريب انطوى فى نفسه كيف يصدق ابنه أن أباه مازال على قيد الحياة , وكيف يتحمل هو رؤية أحمد وراء القضبان وهو الذى يعرف كيف يذوق السجين مرارة العذاب ألواناً وأصنافاً .
نظر إلى سور السجن العالى واللوحة الرخامية الملتصقة بجوار البوابة الرئيسية والمكتوب عليها تاريخ إنشاء السجن ، انطوى فى نفسه المصير الذى لقيه من قبل ودارت الأيام ليلقاه فلذة كبده .. الأيام المحترقة والرعب المسكون فى الزنازين واليالى المظلمة الكئيبة .
أحمد ذلك العصفور الصغير الذى فقد عشه وفقد الأب الراعى فاقتحم حوارى ضيقة وسار وراء الثأر لدم خاله الطيب ذلك الشاب الذى كان يرسم فوق جبين الصباح الندى والبشر والأخلاق الجميلة حتى اكتوى بلهيب اليأس والعدم واصطدم بصخرة الواقع الصعب ومضى ولن يعود .
وهو غارق فى الأنين والصمت أفاق على صوت المخبر الذى يشق أحشاء اللحظات الكئيبة فأوقف الزائرين طابوراً طويلاً ليعبروا البوابة ، كان على وجوه الزائرين أمل مرسومُ فى رؤية أبنائهم الغائبين وهم على خيرٍ وحلمٍ أن تكون هذه هى آخر زيارةٍ لهم .
لم يختلف سجن الوادى الجديد كثيراً عن سجن وادى ابو غريب الردهات الملتوية والحجرات الجانبية الكثيرة .
المخبرون والجنود يفتشون فى كل شىء ولم يكن مع عادل إلا قليلاً من الطعام لابنه وعندما وضعه فى المكان المخصص للزيارة التفت فوجده أصبح وجبة واحدة لا تكفى سوى أحمد وحده دون زملائه .
المكان المخصص للزيارة صالة مستطيلة واسعة لم يشاهد عادل مثلها فى العراق لأنه لم يزره أحد هناك ، يدخل الزائرون الصالة ويحيط بهم جوانبها الأربعة وإطاران من السلك الحديدى فى منتصفها ، يفصل الإطاران ردهةً ضيقةً حيث الجانب الآخر من السلك ردهة واسعة تحيط به وبالصالة يقف فيها المسجون وهذا معناه أن يفصل إطار السلكين الردهة الضيقة بين السجين وأهله .
دخل عادل القاعة وإحساس مكبوت وصمتُ كئيبُ مروعُ على وجهه الذى يترقب ابنه .
فى لحظات قفز المساجين أمام عينيه ، الزائرون جروا هنا وهناك يبحثون عن ابنائهم , وعلى الناحية الأخرى المساجين يبحثون عن أهلهم .
ساد الصخب والضوضاء المفزعة , وعادل متسمرُ مكانه فهو لايذكر سوى ملامح ابن صغير مضت أيام طوال على فراقه وكانت كفيلة أن تغير أغلب ملامحه .
أخذ يجرى فى الصالة المستطيلة لم يجد أحداً شبيهاً به ، جرى هنا وهناك مرةًَ أخرى ، ماالذى جرى للسجون إنها اختلفت تماماً عن اليوم الذى زار فيه على ، بعد دقائق استقر الزائرون ولم يبق إلا هو لم يجد أحداً غير أن شاباً فى مقتبل العمر له لحية فى صدغه شقراء يقف منفرداً ، إنه يشبه على ..إنه فعلا مثل خاله .. هل بعث على من قبره الآن تأكد من الشبه .. معقول تغير أحمد بهذا الشكل بسرعة .. لكنه هو بعينه يؤكد ذلك الدم والعاطفة ودقات القلب .
نادى عليه :
- أحمد ؟
لم يبق من الخمسه عشر دقيقة المسموح فيها بالزيارة سوى ثمانية دقائق نادى عليه مرةً إخرى .
- أحمد .. أحمد ياولدى
مازالت الضوضاء تزلزل الجدران الصماء والمكان المغلق ، وهويحاول أن يسابق الوقت كى يقول كل ما عنده ، إشاراتٍ كانت تصدر من يد أحمد تريد أن تتأكد من زائره .
قال عادل :
- أنا أبوك ياأحمد أنا والله مامت ، كنت فى سجون العراق وأخيرا رجعت .. أنت سامعنى ؟ .. ياولدى .. انت بخير ياأحمد ؟ .. صدقنى أنا ابوك .. أنت بخير .. قل لى ياأحمد .. ارفع صوتك فأنا موش سامعك .
بعد دقيقةٍ أخرى استطاع أن يسمع إجابة ابنه
- أنا بخير .
- أمك بخير وعمك بيسلم عليك .. أنا جبت لك أكل وملابس .. هل عذبوك ياأحمد ؟ .. أنت لغاية دلوقت موش مصدق انى أبوك .. صدقنى ياولدى .. هل عذبوك ياأحمد ؟
- لا
- معقول لم يعذبوك .. طيب هل منعوا عنك الطعام والدواء فترات طويلة ؟
- لا .. لا
- طيب هل المباحث بتفتش كل أسبوع ياأحمد وتضربكم .
- لا .. أنا بخير .. ماأخبار البلد ؟ ماأخبار العمليات ؟
- الله يخرب بيت البلد .. مالنا ومال البلد .. هل منعوا عنكم النور ؟
- لا ياعم .. كل شيىء تمام .
- أنا قلت لك إنى أبوك إنت لغاية دلوقت موش مصدق إنى أبوك .. صدقنى أنا عادل عبد السلام .. هه .. قل لى بصراحة هل بتعملوا مشاكل مع بعض فى الزنازين
- احنا بخير وعملنا .. العنف
- نعم .. أنا موش سامع
- .. وقف العنف
وغلبه اليأس أن يفهم مراد ابنه ويفهم هذا الكلام المتقطع فقال له :
- إعمل توبة ياأحمد علشان ترجع لينا
- .. فى الأيام الجايه هنخرج
أسند عادل رأسه على السلك الحديدى ووضع كفه عليه ولم يتمالك دموعه المنهمرة .
قال له أحمد :
- فين كنت ياوالدى ؟
انهمر عادل مرة إخرى بالبكاء وقال :
- هحكى لك لما أزورك المرة الجايه .
- أنت عذبوك يابنى .. إنت عذبوك ؟
- لا
- أنت كذاب .. عذبوك ياأحمد أنت كذاب
فى تلك الأثناء أطلقت صفارة إيذاناًَ بانتهاء الزيارة وأَُمر المساجين أن يتركوا القاعة بينما الأهالى مازال صدى صوتهم يجلجل فى المكان وعادل مازال متسمراً مكانه يخبط رأسه فى السلك وينظر فلا يرى أمامه سوى الظلام .
كان يقول :
- أنت كذاب ياأحمد كذاب
وهو بمفرده فى القاعة وحمم الأسى تنفجر من أعماقه .
*********************
النهاية
[1] محمود – العمدة – أبناء مريانة
فى اليوم التالى شقت جنازة القتلى الجسر وحرك الزحام حول الموتى السكون والصمت المأسور فى القرية الموحشة .
اكتفت نيرمين بنت مريانه ومارى ومادلين بإلقاء النظرة الأخيرة على الجثث الراحلة وهن يكابدن شهقات مجروحةٍ ودموعٍ ساخنةٍ من عيونهن الممتلئة بالوجع وهن يقفن فى شرفة المنزل .
سارت خطى الوداع وتجاوزت بيت العمدة , وعند نهاية الجسر من الناحية الغربية لحقت بجنازة زوجة الرجل بغير قصد ولا ميعاد ولكنه شىء رتبه القدر بعدما أطلت أشباح الموت فجعلتهم يسيرون معاً فوق الجسر إلى أحضان التراب بعيداً عن الأعين وعن كل الأزمنة والأمكنة .
تجاورت الصلبان المحفورة على صندوق سامى وأقربائه الميتين مع الآيات المنقوشة فوق غطائها , وامتزج المشيعون معاً من تتدلى من أيديهم المسابح ويمسكون المصاحف ومن يحملون على صدورهم الصلبان وشقوا الجسرعابرين إلى حضن الجبل وهم يلعنون كل إرهابىٍ فى قريتهم ويجسدون نموذجاً يطوى صفحات قرية مزقها ليل موحش بالظلام فأصبحت بغير صباح .. قرية تشتعل تحت أمطار الشتاء العاصفة , وتهيم وراء الأيام السكرى الكئيبة التى أصابتها بالفرقة والركود العميق فدبت فيها خيوط الخوف والهلع وأنجبت من صدرها للحزن دموعاً وأفاقت كل يوم على الألم والوجع والحصار .
فى اللحظات الباكية استدعى غريان صور الراحلين من أهله , غمره الحزن وكلما اختلس النظر إلى الجثث المحملة على العربة صرخ مشتعلاً بالبكاء وحين اقتربت خطى الوداع من غايتها وقع مستلقياً على الأرض لم تستطع أن تحمله قدماه فقد انهار تماماً ..
شده رأفت إليه وأعانه آخر على الوقوف ورجلاه تخطان فى الأرض .
صرخ رأفت فى خواء الجبانة :
- احنا موش بنبكى ياغريان .. احنا موش حريم احنا رجال . وصرخ :
- ياكلاب موش هنركع لكم أبداً ... مع السلامة ياغالب مع السلامة ياسامى ... مع السلامة ياأم سامى
ثم دار مسرعاً وخبط على الصناديق قائلاً :
- اوعوا تظنوا انى موش هآخذ بثأركم من الجماعات الإرهابية صدقونى هاخد بالثأر .
كان هذا هو أبرز ماجرى فوق الجسر , وافترقت الجنازتان وخطوط المصيبة واضحةً على وجه العمدة وبائنةً فى عينى ولده الذى كان يكابد صراعاً مكتوماً ولم تنزل له دمعةً إلا التى سقطت فى غفلة وسكون من الناس .
حملت زوجة العمدة إلى مثواها الأخير يشيعها المشيعون وخيم الصمت الممزوج بالألم حينما أدخلت إلى فتحة قبرها وشوهدت بقع الدم الحمراء فى كفنها الأبيض الملفوف حولها .
أغرق الدمع وجه العمدة وهو يتلقى التعازى وانهار محمود تماماً ووقع بجوار القبر يصرخ بعد أن كان متماسكا يأبى على السقوط فنزل على الأرض الرملية بركبتيه وهو يرتعش وأخذ يخبط رأسه فى حجارة القبر الصماء , واستهوته مناجاة نفسه بكلماتٍ يعجز عن فك طلاسمها سواه .. رفع حاجبيه يتلقى كلمات الصبر فوجد الضابط عصام النجدى يقف فوق رأسه .. تجمدت عيناه لحظات فقال له الضابط :
- احنا اخطأنا لما أعطيناكم السلاح لتحاربوا به الإرهاب فاستخدمتموه فى سفك الدماء وتحصيل الإتاوات وهذا ماحصل للأسف .. وإذا اتهمنا الآخرين لأنهم اساءوا اختيار الطريق السليم ومارسوا الإرهاب فإن للإرهاب صوراً كثيرة لابد أن نضع لها نهايةً و أن نبدأ فيها خطوات الإصلاح وأنت يا محمود واحد من الصور دى .
وقبض على يده فمشى محمود منقاداً له باستكانة وخضوع وهويلقى نظرة على قبر أمه ويكابد دموعه .
*****-*****-*****
[2]
شعبان - الجماعة
لم يجد شعبان أحداً من الناس كأن القرية أصبحت مسكونة بالأشباح , فقد كان الناس مشغولين بتشييع القتلى ، أول شىء فعله أن ذهب الى مسجد الفاروق وانتظر ميعاد الصلاة وصلى ثم جلس ولم يكن أحد أمام عينيه إلا جدران المسجد الخاوى فانتظر حتى بدأ الناس يعودون من الجبانة وصرخ بأعلى صوته فى مكبرات الصوت :
ياأهل البلد ياأيها الناس المختبئون وراء منازلهم أو العائدون من الجبانة ياأيها الشباب الهاربون بين الحقول والمزارع إنى أبرأ مما حدث لأهل البلد ، إن الذين قتلوهم قد أخطأوا .. نعم أخطأوا فهذا إزهاق لأرواح الأبرياء .. وأنا متأكد أن الأخوة لم يفعلوا هذا الأمر إنها مؤامرة ولابد من وقف نزيف الدم وهذا عهد جديد والله أنا سمعت المشايخ قالوا ذلك وأنا الآن أطلقه من هنا من أجل أطفال يتامى , ونساء ثكالى من أجل مساجين محرومين من أجل نفوس مزهقة , ودعوة للإسلام متوقفة فلتخرجوا من بيوتكم أيها الناس ولترجعوا إلى حياتكم من جديد وقولوا لكل الشباب الهاربين إنه عهد جديد ليس مقايضة بعرض زائل ولكنه لوقف اقتتال منعته الشريعة الغراء التى حرمت سفك الدماء .. عهد جديد لا يتنافى مع واجب دينى آخر هو إقامة الدين ، إن القتال الدائر أحدث مفاسداً , وهذه المعارك لم تجلب مصلحةً ، نعم أيها الشباب مصلحة الدين الذى استغل أعداؤه هذه الفتنه والدماء التى سالت بين أتباعه لكى يشوهوا صورته ويصفوه بالإرهاب حتى صار المسلم رمزاً للإرهاب والدموية .
إن مايراد ببلدنا مصر يلزمنا أن نتكاتف مع هذه الحكومة لأنهم مسلمون من أجل وقف الهجمة على ديننا الذى هو منزهُ عن العنف وسفك الدماء .
اختلطت كلمات شعبان بقطرات الأسى والشجن وارتجت القرية من الصوت وزاغ الناس ينظرون الى المسجد ويبحثون عن قوات الأمن فوجدوها تستعد للرحيل .
وجد شعبان شباباً مراهقين أقبلوا إلى المسجد وأحاطوا به فى فرحٍ , فقال لهم :
- أنتم الأمل الباقى فى العهد الجديد ، هذه كلمات على صديقى الذى لم أكن أسمع نصائحة وابتعدت عنها ونكصت عن هداها إلى أن قتل ، ولكنه لم يمت ، على حى يرزق سيعود ينصح الناس ويدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة .. يوزع التبرعات ويساعد المحتاجين ، إن روحه ترفرف حول هذا المسجد وكلماته سيظل صداها يعطر الأرجاء .
ورأى إمام مسجد الشيخ عباده يخطر فوق الجسر بملابسه الأزهرية فاقترب منه شعبان وسلم عليه بحرارة وقال له :
- لماذا لم تسأل علىّ طوال الأيام الماضية ؟ لماذا تركتنى أدخل السجن ؟
- أنت الذى كنت بعيداً عنى
- لماذا لم تبحث عنى ؟ ألست مسئولاً عنى وعن شباب القرية ؟
- كنت أبحث عنك فلا أجدك .. ياابنى أنتم كنتم فاقدين الثقة فينا وفى كل الناس ولاتسمعوا لأحد إلا أنفسكم !
- لاتحاول يافضيلة الشيخ أنتم السبب القوى فيما وصلنا إليه .. وزملاؤك تخلوا عن دورهم الحقيقى فى الدعوة وكانوا يعدون العمل فى المساجد عبارةً عن وظيفة حكومية .. حتى كتب وشرائط العلماء منكم كنا نبحث عنها فلا نجدها .
- دعنا من سبب المشكلة الآن وقل لى هل أنت على استعداد أن نبدأ معاً من جديد ؟
- من الآن ستجدنى دائماً بجوارك أعاهدك على ذلك .

******-******-****
[3]
حكيم – أقباط المهجر
( إن الدموع التى مازالت متحجرة فى المآقى والنفوس المتعبة التى لاتعرف الحقد الأسود والعنصرية الغجرية لا يزال يملؤها الحزن والأسى على تلك الأسرة القبطية التى أغتيلت فى لحظة غدر وأزهقت أرواحها البريئة بلا ذنب سوى لأنهم أقباط ، لقد غضت الحكومة المصرية الطرف عن حمايتهم بل وشجعت من مارس الإرهاب ضدهم وأزهق أرواح الأبرياء منهم )
جمعية محبى الوطن – الهيئة القبطية بالولايات المتحدة
كان هذا هو بعض أسطر من نص البيان الختامى لمؤتمر الهيئة القبطية والذى تزيل بشعار الهيئة
(المسيح الهنا والحرية هدفنا والشهادة إكليلنا ) .
تم توزيع هذا البيان على وكالات الأنباء العالمية وبعض الصحف والمجلات بعد تجمع حاشد ومظاهرةٍ أقيمت إثر الحادث الذى وقع فى الشيخ عبادة وعلى إثر زيارة مرتقبة ومعتادة كل عام سيقوم بها وفد من الحكومة المصرية إلى أمريكا .
قال الدكتور جون ديمون الرئيس العام للهيئة وهو واقف بجوار حكيم الذى يمسك بالبيان فى يده :
- إننا نتألم كجمعية وكتعاطف مهتم بحرية التعبير وحرية العبادة بما وصلنا منكم عن قتل ثمانية أفراد من أسرة أمنا مريانه نتيجة ممارستها حرية التعبير عن إرادتها الدينية .
قال حكيم وصوته يخالطه أسىً :
- إذا كنتم تتألمون فإنى أموت من العذاب لأننى تربيت فى وسطهم ، إنهم يرقدون فى حدقات عيونى ويسكنون فؤادى ، وأنا لأشكر الرب وأشكركم على جهدكم الخارق الذى بذلتموه لنصرة أسرة قبطية مظلومة ومضطهدة فى مواجهة حلف حكومة جائرة .. وياللأسف أنه سيأتى ممثلوها فى الأيام المقبلة إلى هذه البلاد وسيستقبلون بأكاليل الزهور ، إنهم لا يستحقون ذلك لانهم طغمة من السفهاء الظلمه الذين يتظاهرون بأنهم يحموننا وهم يذبحوننا
فقال له الرجل مقطباً جبهته :
- إن كل ما نفعله من أجل أن نوقف حوادث أخرى قبل وقوعها ونحن نمارس ضغوطاً جبارة ومعنا أعضاء فى الكونجرس متعاطفون معنا والبيت الأبيض يستجيب لنا
فأطلق حكيم كلماته :
- يادكتور ديمون إن دماً قبطياً حاراً مازال يتدفق وإن ما يصلكم بعض مما يحدث وهؤلاء ودماؤهم فى رقابكم يصرخ مطالباً بالعدالة
فبرقت عينا الرجل وقال له :
- إننا لم نقصر ولن نيأس حتى تأخذوا كل حقوكم لكننا لابد أن نتأكد مما يحدث بالضبط وأرجو أن يكون ماوصلك عن أسرة أمنا مريانه وعن قتلها كلها أخبار صحيحة لأن وفد الحكومة المصريه قادم إلى هنا ونحن نريد حقائق .
فقال حكيم وهو ينظر إلى القاعة الممتلئة عن آخرها بعد أن منح صوته قوةً :
- كلهم ماتوا ولم يبق منهم سوى خطيبتى مارى وأختها مادلين وهما ستصلان هنا فى الأيام المقبلة هاربتين من نزيف الدم وعصابات الإجرام
ونظر إلى ساعته ولملم أوراقاً كانت أمامه فقال الدكتور جون ديمون له :
- إنى أريد أن أعرفك بصديق الجمعية الدكتور شارل جدعون من يهود أمريكا ومتعاطف مع قضيتكم .
وسحبه بيده إلى الرجل الذى سلم على حكيم بحرارة وقال له :
- إنى أستطيع أن أساعدك وأوصلك إلى إذاعة جديدة تسمى صوت الحرية موجهة للشرق وهناك سيجرون معك حواراً حول حقوق الأقليات
ومضت عينا جون ديمون وهو يوجه كلامه إلى حكيم قائلاً :
- إنها فرصة لاتعوض ولكنه بهذا سوف يبتعد عن بلده كثيرا
قال حكيم :
- وأى خير فى بلد حق أهلى ضائع فيه ، وعلى كل حال لايهمنى طالما أن مارى سوف تكون معى وهذا عهد أقطعه على نفسى أن أظل فى نصرة إخوانى المسيحيين حتى تصاحبنى الملائك بالترانيم الجميلة للنعيم الأبدى وأنا بجوار المسيح .
وفكر حكيم وهمس إلى الدكتور جون :
- إنه لشيء عجيب أن أشاهد فى مؤتمرنا هذا عدد غفير من يهود أمريكا
فنظر الكتور جون إلى ساعته وقال :
- لاتفكر فى هذا الأمر كثيرا طالما تريد أن تقعد أنت وخطيبتك فى أمريكا .
وابتسم قائلا :
- وطالما تريد أن تنصر إخوانك المسيحيين .

******-******-******
[4]
عادل
وبينما الناس يعودون من تشييع جنازة زوجة العمدة والآخرين الذين سفكت دماؤهم من أولاد الحاجة مريانه كان عادل لوحده هناك فى مدفن عائلته الواسع الذى تغطيه الرمال وتتوسطه حجرة تعلوها قبة عالية بجوار القبر الذى يضم رفات والده وابن عمه .
جلس بجوار القبر الذى يعلو فوق سطح الرمال بمتر واحد ، كان يهدر فى عروقه الحزن والألم بعد زيارته لابنه وشعر برغبة جارفه فى اعتزال الناس بعد فقده كل رغبةٍ فى الحياة .
أسند رأسه على جدار القبر وغلبه الحزن المسجون داخل أعماقه ونهر الدمع الذى يجرى فوق خديه ، تمنى من جوف قلبه الممتلىء بالحزن أن تطوى صفحات حياته وأن يحمله الموت بعيداً بعيداً حيث ينأى إلى المجهول وإلى زوايا النسيان ويصبح ذكرى وتتقاطر عليه ظلال الوحدة فى قبره وهناك ستتلاشى عنه كل المحن .
وعجباًَ للإنسان حينما لا يجد لإصلاح الدنيا سبيلاً ولا يجد لها حلاوةً ولا لذةً لأنه عاجز عن الصبر مفتقر إلى الثبات أمام محن الدنيا فهو يؤثر الموت على الحياة .
وكيف يؤمّل الإنسان فى الدنيا ويأمن تقلباتها وكيف يظن أن الحياة سوف تصفو له دائماً حتى يأخذه على حين غرةٍ التقلب والضياع .
هكذا أحاطت بعادل شوائب الهموم فلم تسلم له رأياً ولم تقم له خاطراً ورأياً سديداً ولم تجعله يجد دواعى السلوى التى تقيه الأسى والجزع ولكن كم من البشريات أحياناً تولد من رحم المعاناة وكم فوق أمواج الكدر تطفو السفن بالأمان والبشرى .. هذا ما حدث وما جرى .
انتبه إلى أصوات قادمةٍ من بعيد وظل عاجزاً أن يفرز تلك الأصوات ويعرف مصدرها .
كان رشيد يشق إليه الطريق الوعر ومعه خليل ، لم يصدق عادل عينه ، أعاد رأسه مرةً إخرى إلى جدار المقبرة وهو يحيطها بنظرته وجسده مستسلم للحزن .
قطع خليل الصمت المدوى وقال له :
- الرجل اللى كنت بتعمل عنده .. هو من الصباح بيسأل عنك
تبعته كلمات رشيد قائلا :
- عادل ياحبيبى أنت مو تعرف أننا جئنا لمصر .. أنا أرسلت لك أكثر من برقية ومن الصباح وأنا انتظرك فى البلد .
بدد عادل صمته المتوتر وهو يربض تحت تأثير وقع المفاجأة عليه وقال :
- مين أنت أنا ماأعرفك ؟!! - عادل أنا رشيد ليش ماتعرفنى ، بسرعة نسيتنى
ارتعشت شفتا عادل وعاد صمته من جديد فقال رشيد :
- مروه ومازن فى القاهرة جاءوا معى لمصر لأجل نعيش معك ، ماعاد لنا مكان فى العراق .
قال ذلك وتذكر أنه فى مدافن الموتى فدنا من القبروسلم على الموتى وقرأ الأدعية وهو مطرق خاشع وعادل يلاحقه بدقة .
بعد أن فرغ :
- قم ياعادل بنا .
- لفين ؟!
- مروه تنتظرك
واستجاب عادل لدمعه مرة أخرى وأعرض عن وجه رشيد وقال له :
- فى السجن ؟
أحاطه رشيد بيديه ومسح الدمع له وقال :
- عرفت كل شىء حصل لك ، اصبر يابنى .. إن شاء الله هيعوضك ربنا عما فقدته فى الحياة ... انظر لحالى كيف فقدت أهلى ووطنى وخرجت من العراق سراً ، مثلك فقدت أهلك .. أنا وأنت شبه واحد .
قال عادل بهمس :
- مفيش حد حصل له زى ماحصل لى .
فقال له رشيد وهو ما زال يحوطه بيديه بقوة :
- غدا بتنصلح الأمور .
وقال خليل :
- أخوه كامل فيه البركة ، وابنه أحمد بكره يخرج من السجن
قال رشيد على الفور :
- وكلنا أهله كنا تعاهدنا على هذا فى بغداد
لم ينس عادل هذا الزمان الجميل ، لم ينمح من ذاكرته ، كان يتفجر فى أعماقه بين الأحيان وهو ملتاع غير مصدق ما حدث معه وما جرى حوله ولكنه فى ذات الوقت لم ينس أيام السجن والعذاب فتملص من بين يدى رشيد ودفعه بيده قائلاً :
- أنتم السبب فى اللى حصل لى .
فقال رشيد :
- أنا مالى ذنب فيما جرى .. صدقنى أنا لم أدخلك السجن ، سلمى هى من أرشدت عنك خوفاً منك أن تكشف حقيقتها لى واستغلت معرفتها بعلاقتك مع جعفر وبلغت عنك ولكن ربنا انتقم منها بيدى .. هى ماتت ياعادل
- ماتت ؟!!
وجلس الرجل متربعاً مثل خليل وقال لعادل :
- أنا كنت بتمنى لك كل خير وأريد لك حياة كريمة مع ابنتى .. أما تذكر يوم أن قلت لك انزل أنت وهى لمصر .. كنت أريد أن الحق بك وبها ولكن للأسف ضحكوا عليك وجعلوك تظن أنى أخطط لكى أجعلك تعمل ضد وطنك ، ونجحوا فى أن يوهموك ، والآن أقولها لك صراحةً إنى كنت أخطط لأجل الهرب من العراق وحتى أقدر أجىء لمصر فألقى من يستقبلنى وهو زوج ابنتى عادل .. هل تظن إنه كانت تعجبنى عصابات الإجرام ومن يحكمون العراق .
- ولكنك كنت تدافع عنهم .
- كان لابد أن أدافع خوفاً أن يزل لسانك أمام أحد المصريين فهم لهم عيون فى كل مكان وساعتها هيكون الهلاك لى ولك ولأولادى .. وما حدث بينك وبين سلمى ودخولك السجن بعدها أربك حساباتى واجعل نفسك مكانى كيف تقبل أن يخونك أحد مع إنسانةٍ تظن أنها تحبك.
- أنا موش خاين قلت من قبل كدا .
- هذا تأكدت منه وكانت تؤكده لى مروه كل حين بصمتها ودمعها وتأكدت منه لما حققت مع جعفر وعرفت إنهم يعلمون مع المخابرات الأمريكية
وأكمل قائلا :
هل تعرف بأنى أفسدت القضية برمتها حتى أخرجك ويمكن أن يكون جعفر خرج الآن .
قال خليل للرجل :
- يبقى جئت علشان تنضم للمعارضة ؟
- لا ياابنى هون فى مصر مو فى معارضة عراقية ولكنى تخليت عن منصبى وجئت أنا وأولادى مثل كثير من العراقيين اللى فروا لمصر والحمد لله معى فلوس كثيره هنبدأ بها حياتنا أنا وعادل حتى ترجع الأمور إلى طبيعتها .
فقال خليل :
- هل تظن أن صدام هيسقط فى يوم ما ؟
- وهل استمر الظلم والطغيان حتى يستمر ويبقى صدام ؟
فقال خليل بابتسامةٍ على غير ميعاد :
- إياكم ساعتها عادل يسافر معكم وتخلوه يسيبنا
فقال رشيد وهو ينظر إلى عادل :
- هو وابنتى مروه حران فى تحديد طريقة حياتهما .
وبدأ يظهر على وجه عادل الارتياح فقال خليل له :
- ارجع ياصديقى عادل زى ماكنت ، ارجع لملابس الموضه والعطر والجمال ، ارجع يا فتى القرية الجميل
وأمسكه رشيد من يده وقال له :
- قم يا عادل وانفض عنك رمال المدفن وارجع لتغير ملابسك فمروه تنتظرك
فرش عادل وجهه بالابتسامة ومشى وهو فاقد لإرادته ملقياً أحزانه وراء ظهره وألقى نظرة من بعيد إلى القرية وإلى الحاجة مريانه وابنها غريان العائدين من الجبانة .

******-******-******
[5]
شادية
حاولت شادية الهروب من حبها وعبرت الأسوار المنيعة ونجحت أن تبقى لقلبها شيئاً واحداً هو أن تنظر لحبيبها من مكان بعيد فتسعد إن كان سعيداً أو تتألم إن كان متألماً أو تحيا مادامت حياته باقية وطيفه يسكن حولها , ولقد نجحت بالفعل أن تدفع قلبها الى ذلك وتجاوزت ليالى الحزن وهموم الانكسار فى أيامها الأخيرة ولكن وجه سامى اختفى الآن فهل تستطيع أن تتجاوز ذلك ؟ وهل تستطيع البقاء فى البيت بغير أمها وهى التى كانت السبب فى قتلها ؟ ومن الذى قتلها ؟! إنه أخوها وهى التى دفعته لذلك .
إن كل شىء تحطم فى حياتها ولذا فكرت فى الانتحار لتتجاوز الآمها وهناك بين بللورات الرمال وأخاديد الجبانة ستلتقى بأحبتها وهى غير وجلة من الناس بعيداً عن كل الأزمنة والأمكنة .
حتى اليوم التالى ودفن الموتى لم تظفر من النوم بعدة دقائق ، نشب الحزن مخالبه فى أضلعها واحتضن وجهها الزاهى فجعله مسوداً كظيماً .
- أنا مقدرش أتحمل الحياة لأنى مستحقش الحياة
هكذا قالت وهى تناجى جدران غرفتها الصماء وتحكى لها عن قصة الحب المستحيل الذى تحول فى نهايته إلى دماء وأشلاء ودموع وحزن لا نهاية له , وتحكى لها عن حبيبين لم يدركا أن هناك ميراثاً هائلاً من الخوف والأنانية من الأحاسيس والمحاذير فجدفا فى بحر الحب بلا نهاية وهما يعلمان أن زورقهما سيصطدم فى النهاية بالتقاليد والدين ولكنهما عاندا فتحطم وغرق بهما .
إن الإنسان يجب أن يكون قوياً ويعمل حساب كل شىء ويتخطى تلك الأسلاك الشائكة ويعبر فوق هذا البحر من ألالغام فإن أصابة جرح من جراح القلب خمده حتى لا يجعله ينزف طوال العمر بلا توقف طالما أن ارتباطه بمن يحب مستحيلاً وحوله كل هذا الميراث من الخوف والمحاذير والقوانين الثابتة التى لا تتغير من الدين .
أخذت تبحث فى دولابها عن حبوب مهدئة للأعصاب كانت عندها من يوم فرح ناصر ، لم تستخدمها مرةً واحدةً وهى اليوم تريد أن تبلعها كلها مرةً واحدةً .
بحثت فى مكتبها فلم تجدها وقلبت فى ملابسها وفتحت صندوق مجوهراتها وحاجتها الخاصة وألقت بها على الأرض فوقعت عيناها على المصحف الصغير الذى أعطاه لها علىّ ، أمسكته بيدها ، كان لا يزال محتفظاً ببعض رائحة كفه وموضع أنامله ، أصبح علىّ مرئياً أمامها بكلماته ونصائحه ، صوت الآذان الله أكبر.. الله أكبر انبعث من مسجد الفاروق المغلق منذ أحداث العنف .. صوت التكبير زلزلها وهز كيانها فقعدت وفتحت المصحف لتقرأ فيه بعض الآيات وهى تمسح دموعها والآذان يملأ جنبات الغرفة .
******-******-******
[6]
الحاجة مريانة
المحروم من الحب محروم من الحياة ، سيعيش تعساً وقاسياً وغليظاً محروماً من السعادة معزولاً ومنبوذاً ومتمرداً ، إنه غاضب يخاصم الواقع ويناهض المجتمع ، وإذا أردت أن تعيد إنساناً للحياة فضع فى طريقه إنساناً يحبه فالحب طمأنينة وسكينة وفرحة والحب حرية .
لم تنتظر الحاجة أن تجف دماء أولادها وحتى منتصف الطريق من مكان الرهبان إلى القرية فكرت وقدرت وقالت لغريان :
- كنت بتحب مريم ياغريان وأنا هزوجها لك .
تسمر مكانه وأذهلته المفاجاءة ثم أعاد عينيه إلى الجبانة وإلى أهله الراحلين هناك وتناثرت دموعه فقالت له :
- ماتحزن ياولدى لازم تستعيد ثقتك بالحياة .. بص لى .. كان كريماً معك الله وأبقى لك مريم موش كدا ؟
ثم استدركت وقالت :
- زى ماأبقاها لى علشان أروح أنا وهى كل يوم للكنيسة ، وآدى الأمور بدأت ترجع زى ما كانت عليه .
وشدته إلى الجسر وهو مثقل بالوجع وعادا أدراجهما يتوغلان فى القرية .
كانت الشمس تفرش ضوءها فوق كل شىء وحفيف الأشجار وأصوات العصافير يعزفان أغنيةً ريفيةً جميلةً .. المعالم بدأت تتضح على الطريق ، المئذنة والمنارة شامختان من بعيد فى صفحتى الأفق ، والناس تروح وتجىء على الجسر ، انتزعوا من صدورهم زمن الخوف وهتكوا أستار الحزن ، السحب التى كانت متراكمة فى الفضاء ذابت وغمرت القرية بالسماء الصافية .
اخترقت العجوز مريانه الأفق وألقت عينيها الى المئذنة ومنارة الكنيسة وقالت :
- شايف الحب .. موش هتعيش القرية بغير حب .. ضعاف احنا من غيره ومحرومين من الأمان .





********************************************************************************************

هذه الرواية كتبتها فى سجن الفيوم تحديداً .. ظللت مايزيد على عامين ونصف العام أكتب مشاهدها فهى ليست مقسمة إلى فصول بل إلى مشاهد هى أقرب إلى التقنية السينمائية وهذا مادفع أحد النقاد أن يقول لى إن تحويلها إلى فيلم سينمائى سيصبح سهلاً لأى مخرج .. هذا الشكل سبقنى فيه أساتذة عظام كان آخرهم صديقى علاء الأسوانى فى عمارة يعقوب يان ولم ينشأ هذا الشكل من فراغ فأنا لست روائياً محترفاً ولكنى مجرب أكثر من الحرفى الكامن فى نفسى .
كنت أسهر فى الليل أكتب هذه الرواية بعيداً عن ضوضاء الزنازين المزدحمة وكان من حولى يتصورون أنى أكتب شعراً أو رسائل غرام إلى زوجتى وحين علم بعضهم بأنها رواية كانوا يهزأون بى !!
وللعلم الروائيون داخل صفوف الجماعات الإسلامية قليلون دائماً نظراً لأنهم يحبسون أنفسهم إما فى الروايات التاريخية أو يحبسون أنفسهم فى قالب الأدب الإسلامى وحين كانت المبادرة وبدأت السجون فى راحة حقيقية لنا كونت الجماعة لجان متعددة كان منها اللجنة الأدبية التى كنت عضواً فيها .. كنا نناقش كل أسبوع أهم الأعمال التى كتبها الأعضاء ونقوم بعمل الندوات الأدبية فى العنابر والمنتديات الشعرية وكنت فى خلاف دائم مع أعضاء هذه اللجنة الذين كانوا يقولون عنى أنى علمانى ولهذه الكلمة أسباب أراها حيث أن الأدب كائن حى متطور وهناك ثوابت لابد أن نحافظ عليها ولكن هناك متغيرات لابد أن نراعيها فى العمل الأدبى وخصوصاً إذا كان العمل واقعياً مثل روايتى التى خاضت فى إحدى القرى المصرية فى صعيد مصر فكيف أكون واقعياً ؟ هذه هى المعادلة التى كان لايستطيع إخواننا أن يتفهموها .. كيف نناقش قضية العشق والدين أو كيف نطرح قضايا الجنس ؟ إنه المفهوم الصعب إذا أردنا ان نطرحه ككتب التراث للسلف ويومها لن تصبح الرواية رواية ولكنها ستصبح كتاباً فى مصطلح الحديث أو أصول الفقه .
إن نجاح الكاتب فى أن يوصل منظوره الروائى إلى القارىء وأنت إذا قرأت رواية الشيخ عبادة وتعمقت فى علاقة المسيحى بالمسلمة ووصلنا فى النهاية إلى أن الدين يقدم على العشق أو قرأنا عن على وشعبان وصراعهما الدائم داخل الجماعة ثم قتل على برصاص ثأرى ثم استغلال الجماعة لهذا الحادث لوصلنا فى النهاية إلى رجوع شعبان وهذا ماأرادته كتب مراجعات الجماعة فلافرق كبير ولكن ماكتبته أنا هو فى أسلوب قصصى يصعب أن تقول عنه أنه منهج إسلامى .. المهم النتيجة التى سيقبلها الجميع وهذا هو خلافى مع أصحاب التراث داخل السجن .. وهو كان خلافاً هامشياً لم يفسد للود قضية وأنا أذكر أن أحدهم وهو الأخ عبد التواب أبو القاسم كان لاينادينى إلا بكلمة سلطان أى سلطان الرواية فى السجن وهذا الأخ من كتاب موقع الجماعة على النت حالياً .
لرواية الشيخ عباده نقطة بداية هى الحاجة مريانة المسيحية المتدينة ونقطة نهاية هى الحاجة مريانة أيضاً ولقد قصدت من ذلك تتابع الحداث ثم العودة لنقطة البداية لإعطاء القارىء التوهم بحقيقة العودة إلى الحال الطبيعى للقرية .
كان الزمن الطبيعى للرواية هو احتلال العراق للكويت وتسلسلت الرواية وتتابعت فى لافتات متحركة استخدمت فيها بعض الأحداث التاريخية وأعطيت للقارىء إطلالة على سلوك صدام والسجون فى العراق ومقارنتها بالسجون قى مصر ثم كيفية نشأة الجماعة فى قرية مصرية وكيفية دخول الأفراد فيها والأسباب التى تدفعهم لذلك وكيف انتشرت الجماعة والجيل الثانى من الشباب وصراعه مع الجماعة وأقباط مصر والمهجر وتلك النشأة المشابهه للجماعة الإسلامية ثم العنف ونهايته .
يصعب على أى كاتب أن يلخص روايته وإلا لن تصبح رواية ولذا أتركها هى ومنظورها للقراءة .
لم تؤثر المبادرة على فى طرحى لبعض القضايا فى الرواية ولكنها ساعدتنى فى أن أحصل على الورق الذى أكتب فيه الرواية فقد كانت الأقلام والورق من الممنوعات .
قال لى أحد الكتاب فى جريدة الجمهورية أن روايتك زئبقية أى سيفهمها كل واحد بمنظوره وهذا بالفعل ماحصل فقد فهمها أفراد الجماعة على أنها هجوم عليهم مما سبب لى بعض المشكلات وقال لى الباز فى مقر صوت الأمة بالقاهرة أنه كان يريدنى أن أتكلم بصراحة عن الجماعة وأننى كمن كان وراءه سيف مسلط على رقبته وهو يكتب.. هذا السيف هو سيف الأمن وسيف الجماعة

كذلك أنا أعذر من غضب منى من الجماعة لأننا لم نتعود على النقد او مراجعة الأخطاء إلا فى وقت قريب مع ندوات مبادرة وقف العنف وكان صعباً على الرفاق أن يتقبلوا منى ذلك
لقد قبض علي فى أكثر من ثلاثة عشرة مرة إحداها فى القضية 490 أمن دولة عليا عام 86 ( إعادة تشكيل تنظيم الجهاد ) عام 87 أحداث نادى الواى بالمنيا ( جمعية الشبان المسيحيين ) 88 أحداث جامعة المنيا 89 احداث سينما ملوى بالاس 93 إلى 2006 احداث العنف فى ملوى .
كنت المسئول الإعلامى فى الجماعة بملوى والمسئول عن النشاطات الدعوية ومسئول لجنة الإعلام
لى مجموعة قصصية بعنوان أغنية لموج البحر وكتاب تحت الطبع بعنوان اغتيال الشريعة وكتاب آخر قاربت من الانتهاء منه وهو أنا وهؤلاء ومبادرة وقف العنف .
فصول الكتاب الأخير تتلخص فى أنا وهم فى المسجد – حسن السحيمى باىباى ياسعد – قضية الفنية العسكرية – أنا ومدعى النبوة – تغيير المنكرات – معسكرات الجماعة ألخ الخ عن الفترة فى ماقبل العنف والسجون ثم فصل عن فترة أحداث العنف لفصل الثالث عن الرحلة فى السجون والفصل الأخير عن مبادرة وقف العنف ومشاهدتى لها فى فصول جديدة لم تحكى من قبل وأنا ارى أن الكتاب الأخير سيحقق رواج
ولكننى أتمنى ان تنشر الرواية على حلقات فى بعض الجرائد فهى تستحق وهى لم تأخذ حظها إلى الآن رغم ان روايات اقل منها قد أخذت حظوظاً كثيرة نظراً للعلاقات وتلك الشبكة من المعارف فى الإعلام العربى .
أرى ان أدب السجون لم يأخذ حقه رغم أن تجربة السجون المريرة كفيلة بأن تخرج أدباء كثيرين كما أن الأدباء فى مصر لايهتمون كثيراً بالأدباء الشبان فماذا لو كان هذا الشاب من إحدى الجماعات الإسلامية وكان مممن قضى نصف عمره فى السجون وأذكر أننى حين ذهبت بمجموعتى القصصية إلى الهيئة العامة للكتاب فى القاهرة وتكلفت عشرات الجنيهات فى السفر للعاصمة إلا أن المسئولين لم يفكروا فى ان ينظروا إلى إلا حينما عرفوا أن لى رواية منشورة من قبل .











#ماهر_فرغلى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإنتماء للجماعات والحق الأوحد
- أزمة الوعى لدى الحركات الإسلامية


المزيد.....




- فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن ...
- مغن كندي يتبرع بـ18 مليون رغيف لسكان غزة
- الغاوون ,قصيدة عامية بعنوان (العقدالمفروط) بقلم أخميس بوادى. ...
- -ربيعيات أصيلة-في دورة سادسة بمشاركة فنانين من المغرب والبحر ...
- -بث حي-.. لوحات فنية تجسد أهوال الحرب في قطاع غزة
- فيلم سعودي يحصد جائزة -هرمس- الدولية البلاتينية
- “مين بيقول الطبخ للجميع” أحدث تردد قناة بطوط الجديد للأطفال ...
- اللبنانية نادين لبكي والفرنسي عمر سي ضمن لجنة تحكيم مهرجان ك ...
- أفلام كرتون طول اليوم مش هتقدر تغمض عنيك..  تردد قناة توم وج ...
- بدور القاسمي توقع اتفاقية لدعم المرأة في قطاع النشر وريادة ا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ماهر فرغلى - رواية الشيخ عبادة للمؤلف ماهر فرغلى