أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أبو الحسن سلام - حوارية القطع والوصل في الحديث عن المسرح الشعرى















المزيد.....



حوارية القطع والوصل في الحديث عن المسرح الشعرى


أبو الحسن سلام

الحوار المتمدن-العدد: 2376 - 2008 / 8 / 17 - 06:35
المحور: الادب والفن
    


مهدي بندق والثالث المرفوع في النقد غير المشروع:
إن المفكر الحق هو ذلك الإنسان المتأمل، لقلق ، المتجدد والمتفاعل مع عالمه عبر إثارته القضية تلو القضية ، والزوبعة تلو الزوبعة.
قلت في مقدمة الفصل إن الشاعر الناقد مهدي بندق هو واحد من أولئك الأشخاص المثيرين للشغب الفكري؛ فأينما حل تسبقه العواصف الفكرية وتلحق به الزوابع النقدية وتحيط به الرياح الخماسينية الانتقادية وهو نفسه ريح خماسين فكرية ليس لها موسم محدد. فهي تهب في أية لحظة ودون سابق إنذار لأنه مسكون بالفكر النقدي.
ومهدي بندق شاعر ، وشاعر مسرحي مفكر .. فالفكر يمسك بلجم صوره الشعرية الجامحة ويقودها نحو مضيفها المتأمل القادر ذهنه على استضافتها على مائدة الحوار الحافل بأصناف الجدل ، ومهدي بندق صاحب مشروع فكري، أخشى القول: إنه مشروع لا يشاركه فيه أحد. إذ يرى وأظن أنه الوحيد بيننا الذي يرى – أن العقلية المصرية قديمها وحديثها هي والعقلية العربية عقلية واحدة !! فلا فرق عنده بين عقلية الماء وعقلية البيداء. ومثل ذلك التصور الواحدي؛ يتصل بمنبع دوجماطيقي لاشك سواء لاحظ صاحبه ذلك أو لم يقصده – ولأن كل صورة محددة في الذهن – سلفاً- تتشرب بالمياه التي تتدفق من حولها وتصطبغ بها ومعها الإحساس بعلاقاتها القريبة والبعيدة ورجع الأفول الذي جاءت إلينا منه؛ لذلك ومن هذا المنطلق قلت إن بندق صاحب مشروع فكري يتوسل بالمسرح شعراً فيتخذه منبراً يتقنع خلفه فكره أو بالأحرى فكرته الأثيرة التي ما ينفك ينوّع في عرضها – لا استعراضها – ظاناً أنه قادر عن طريقه في الحصول على كسب تأييد قرّاء منتجه في الشعر المسرحي أو المسرح الشعري لطرحه الفكري الذي رابط حوله طوال مشواره مع المسرح منذ سبعينيات القرن العشرين بدءاً من مشاركته معي في تأسيس جمعية الدراما بالإسكندرية.
وهو كعادته في إثارة العواصف الفكرية التي يخلط فيها الشعر بالمسرح والسياسة والدين والفلسفة – من أجل جهد تنويري لحوح لم يثمر حتى الآن – ظهرت له سلسلة مقالات في جريدة (التجمع) حول ما أسماه (غياب المسرح الشعري في مصر) ، وقد ضمها إلى دراسة نقدية حول دراسات نظرية ونقدية للمسرح الشعري وقدم لها بثلاث مقدمات في كتاب صدر له أخيراً تحت عنوان (سوسيولوجيا المسرح الشعري في مصر) (2005) . وقد استوقفني طرح بندق الناقد وانتزعني انتزاعاً من خلوتي النقدية التفكيكية – بلغة نقاد ما بعد الحداثة – مع مسرحيته الشعرية الأخيرة (الشريفة بنت صاحب السبيل) (2001) مما اضطررت معه إلى وقفة اضطرارية لتفكيك مركزية طرحه الذي أدلى به كتابة عبر سلسلة المقالات المشار إليها – والمتضمنة في كتابه المذكور- والتي تغيب فيها المسرح الشعري المصري محمولاً على أسبابه التي حاول دعم زعمه بها وليته اغتابه فحسب ولم يغيّبه.
ومن المعلوم أن ظهور شيء ما يدل عليه وجود ذلك الشيء وجوداً مادياً بالمعاينة أو بالشواهد الصحيحة الثابتة المقبولة والمعترف بها.
أما غيابه فدليله عدم وجوده وجوداً مادياً ثابتاً للعيان. أما تغيبه فكامن في وجوده وجوداً سلبياً – وجوداً غير فاعل وغير متفاعل – ومن ثم منعدم الأثر لأسباب قد تكون نابعة من ذلك الشيء نفسه أو هي من خارجه أو من كليهما. من هنا فإن القول بغياب المسرح الشعري هو قول يحتاج إلى مراجعه.
هل المسرح الشعري في ثقافة العرب المعاصرين وليس المصريين فحسب هو فن أدبي غائب أم متغيب وهل هو فن مسرحي غائب أم هو فن متغيب عن العرض المسرحي؟! أم أن النقد المسرحي للنص المسرحي الشعري أو لعرضه هو الغائب أو المتغيب؟
لقد أثارت مقالات مهدي بندق المشار إليها عدداً من التساؤلات والقضايا كل منها يشكل لغماً فكرياً ونقدياً يجب أن يحرص على نزعه خبراء المفرقعات الفكرية النقدية والانتقادية وما أكثر الانتقاديين في الحقل المسرحي وغير المسرحي في مصر.
ومعلوم لأهل الاختصاص في ذلك الحقل أن المسرح يقود متلقيه إلى الحقيقة بما يصطنعه من المفاجآت وعناصر الإثارة بالتشويق والتوتر وآفاق التوقعات حتى يستحضر الماضي والمستقبل والمسكوت عنه في الحاضر المعيش ويبعّد القريب ويقرّب البعيد، ويحرك الضمائر مرة ويغيرها مرة. وأنه يسعى إلى تحقيق ذلك كله عبر طريق من طريقين طريق الخيال الفائق والموهم تحقيقاً للاكتمال الفني للنص وللعرض المسرحي . وسواء أكتب النص المسرحي شعراً أم كتب نثراً فإنه لا يفارق هذا الهدف أو ذاك ولا يسمى الإبداع إبداعاً ما لم ينشد الحقيقة الفنية ويقود إليها متسلحاً بكل العناصر التقنية التقليدية والمبتكرة سواء بسواء.
ذلك أن أديب المسرح وفنانه يحقق فرديته بالخبرة المكتسبة بينما يحقق تفرده بالاكتشاف. فالاكتسابات الفردية تتحقق بالموهبة والخبرة، على حين يتحقق التفرد عن طريق العلم الذي تتوج به الموهبة والخبرة نفسيهما.
وإذا كانت التنمية الثقافية والفنية أو المهنية بشكل عام من مهام النقد الأساسية في كل الحقول المعرفية على المستويين النظري والتطبيقي ؛ فلاشك أن ما وجهه الناقد مهدي للمسرح الشعري المصري من لطمات تأملية نقدية يستهدف دون أدنى شك استنهاض حمية الشعراء والنقاد والباحثين الدراميين من أجل تفعيل الإبداع وتلقيه ليلعب الدور المؤثر في تغيير أنماط الثقافة وأنساق الحياة إلى ما يحسن به المجتمع حياته المشتركة لا من أجل رد لطمة بندق النقدية أو الانتقادية إليه ولكن من أجل حماية خدودهم الوردية من لطمة التاريخ الأدبي والفني وهي لطمة أعنف وأقسى، فبندق بنقده ذاك إنما يحذر كل شاعر صعّر خديه تحت الأضواء لجمهور المسرح.
لكن فات بندق الناقد أن المسرح سواء أكتب بلغة صائتة بالشعر أو بالنثر أم بلغة الجسد الصامتة أو بلغة الصورة أم بلغة الإيقاعات التي تخلو من المعنى المباشر دون خلوها من الدلالة ، لا يتحقق ولا يكون مسرحاً دون ثلاثة أضلاع يتشكل منها معماره . فات بندق أن المسرح عرض يشكل النص أساسه المعماري – حالة اعتماده على لغة الصوت وسيلة تعبيرية اتصالية رئيسية – والعرض يقوم على فنون متعددة كالتمثيل والتشكيل والموسيقى والمؤثرات والإضاءة المسرحية وفنون الدعاية والتسويق والإنتاج والجمهور والنقاد –
فالمسرح شأنه شأن كل منتج ثقافي لا قيمة له دون نشره (رواجه أو تسويقه) هذا من ناحية الإنتاج المسرحي لا من ناحية إنتاج نص مسرح شعري. ذلك أن عملية إنتاج عمل أدبي خاصة عندما يكون مسرحية شعرية لا تتوقف على الشرط الذاتي الخاص بالشاعر المسرحي الخبير والمحترف أو الهاوي – وإنما لابد من توافق ذلك الشرط مع الشرط الموضوعي، إلاّ إذا كان ذلك الشاعر يعمل على إقحام الشعر بالمسرح أو المسرح بالشعر! وماذا عن استعداد الذوق الإنتاجي والذوق الجماهيري لتلقي المسرحية الشعرية نصاً أو عرضاً . وماذا عن الجهد النقدي الحقيقي؟ ألم يكن منفصلاً عن بيئته وعن عصره؟! وهنا نعاود التأكيد على أن قيمة الفكر وقيمة الإبداع في نشره لأنه ما أنتج إلاّ ليكون جسر اتصال تعبيري بين صاحبه ومجتمعه وعصره، خطط صاحبه لذلك أم لم يخطط! ولا غرو أن شروط فن من الفنون الأدبية أو الفنية زمانية كانت أم مكانية أم زمكانية هي شروط ذاتية من حيث إبداعها وموضوعية من حيث تلقيها. فللشعر شروطه الخاصة وللمسرح شروطه الخاصة وهي في ذات الوقت شروط عامة يتقيد بها هذا الفن أو ذاك، حتى مع تجاوز الشاعر أو الكاتب والفنان المسرحي للشروط الخاصة بحقل الفن الذي يعمل فيه، ويبدع من خلاله، فإنه يتقيد مع ذلك بشروط جديدة أو مبتكرة بديلة أو إضافية ولدت مع عمله الإبداعي المبتكر والتجريبي فلا إنتاج بلا شروط أو قيود. فهي قيود لا تأتي من خارج العملية الإبداعية في الأدب شعراً أو نثراً وفي الفن مسرحاً أو تشكيلاً أو موسيقى وإنما يستدعيها الإبداع نفسه لأن الإبداع نظام أيضاً طالما أنه مادة وشكل وتعبير وتلقٍ يستهدف التأثير.
وهنا يبرز سؤال أراه ضرورياً. إلى أي مدى يمكن اعتبار ما كتب بالشعر المسرحي مسرحاً ؟ وإلى أي حد تمكن الإنتاج الشعري المسرحي أو المسرحي الشعري من مزاوجة الشعر بالمسرح . فالشعر صورة ذهنية ومعنوية مسموعة بموسيقاها وإيقاعاتها تؤدى أداء فردياً بالإلقاء أو التوقيع أو التنغيم ، والمسرح صورة مرئية مسموعة حاضرة التلقي في زمن إرسالها المتعدد الوسائل وهو زمن تلقيها نفسه الذي يكون جماعياً. ولأن الصورة الشعرية – غالباً – ما تحتاج إلى زمنين لترجمتها : زمن الصورة الذهنية إلى الصورة المعنوية فإنها تشكل عقبة أمام الجمهور المتلقي لها في العرض المسرحي ، حيث تتخذ بعض الصور الشعرية في المسرح لباساً ذهنياً، يحتاج جمهور العرض المسرحي الذي يحضر مسرحية شعرية إلى زمنين حتى يصل إلى معنى الصورة، وليس إلى زمن واحد؛ هو الشرط الأساسي لتجسيد عملية الحضور المسرحي الذي هو الخاصية الرئيسية المشتركة بين العرض المسرحي وجمهوره المتلقي له، سواء عن طريق المعايشة الشعورية والوجدانية المتبادلة أو عن طريق الدهشة المدركة. فجمهور العرض المسرحي الشعري إذن مطالب أولاً في حل إزار الصورة الشعرية عن طريق الترجمة الذهنية وبذلك يستغرق الزمن الأول، ثم عليه أن يتبع حله لإزار الصورة الشعرية، بوقفة يتلمس فيها المعنى ويعايشه. وهنا يدخل في الزمن الثاني. وبذلك تفوته متابعة الحوار المناسب على ألسنة الشخصيات التي يجسدها ممثلو العرض وتغفل عينه عن رؤية الصور وحركة الممثلين والمناظر والضوء. وهنا نقف تمام الوقوف أمام الثالث المرفوع الذي حدثتنا عنه فلسفة أرسطو، (حيث الشيء لا يكون موجوداً وغير موجود في آن واحد) وإنما يكون موجوداً أو غير موجود في الآن الواحد والمكان الواحد. بمعنى أن وجود الشيء وعدم وجوده في وقت واحد ومكان واحد مرفوع عنه التصديق. على ما تقدم فإن استغراق جمهور المسرح في تعرية المعنى الذهني للصورة المسرحية أولاً ليتسنى له ثانياً ملامسة المعنى المباشر أو الظاهر ومداعبته عقلياً ووجدانياً يؤدي إلى ضياع الصورة التالية لها والمتتابعة؛ باعتبار أن الأداء التمثيلي أو المسرحي قولاً وحركة لن يتوقف حتى يفعل المتلقي المسرحي فعلته مع الصورة الذهنية المركبة أو المتدثرة في إزارها الشعري التخييلي.
وهذه المشكلة لا تظهر عند تلقي النص الشعري مسرحية كانت أم قصيدة عن طريق القراءة المنفردة، وإنما يظهرها الأداء الحي في العرض المسرحي الشعري، دون أن تقتصر على كتابة شاعر بعينه إذ أنها تعد ظاهرة أو مشكلة عامة في الكتابة للمسرح الشعري ، نجدها في قول الصوفية في بكائيتهم الدرامية الشعرية أمام الحلاج المصلوب في مسرحية صلاح عبد الصبور :
" كان يقول :
إذا غسلت بالدماء هامتي وأغصني
فقد توضأت وضوء الأنبياء
كان يريد أن يعود إلى السماء
كأنه طفل سماوي شريد
قد ضلّ عن أبيه في متاهة المساء
كان يقول :
كأن من يقتلني محقق مشيئتي
ومنفذ إرادة الرحمان
لأنه يصوغ من تراب رجل فانٍ
أسطورة وحكمة وفكرة "
ومثل تلك الصورة الشعرية الكثير عند كل شعراء المسرح العالمي أو العربي ذلك أن الصورة الفنية الشعرية هي مرادف للتعريف المجازي أو الاستعاري، أي أنها شكل من أشكال التشبيه والتورية أو الكناية أو الاستعارة بأنواعها.
ومثال ذلك كثير في مسرح مهدي بندق الشعري ، خاصة وأنه مسرح مواجهة يلعب فيها الفكر الدور الأول وتظهر فيه تقنية المسكوت عنه ، وهو دوماً محل تفسير المتلقي، عن طريق استنجاده بالإحالات المعرفية، تمييزاً بين رواسب الثقافة التراثية وما يلتمع منها ببصيص ضوء حداثي لا يؤمن بمعنى أوحد للنص، بل يراه في معانيه المتعددة. وليس هذا فحسب بل يتخطى فكر الحداثة ذاك إلى ما بعده لينفي عن النص تمام المعنى بكشفه عما سكت عنه وينفي النسقية ومركزية الخطاب:
" فيم اندفاعك مثل هذي الريح يا بنت السبيل؟
وكأن هذا الكون منذور لما أنت اشتهيت ؟!
وكأنك الأحلامُ تنشر عطرها في كل واد
حلمُ المحبة كرمةٌ ، والخيرُ نخلٌ ،
والمحبة أقحوان يبتسم.
هلا أفقتِ الآن مثل الريح في يدها الهباء
لن تركلي كل الطغاة عن العروش بما حَلُمتِ
حتى إذا رسمت عيونك وردة ترنو إلى حضن يضم
لرأيت طاغية جديداً غارسا فيك القتاد
إنها يا أخت أبدان تسلت الرغام
وأسلمت للذل أمراس القياد
فتشيها .. لن تخرجي من جيبها
إلاّ قناعاً أو نقاباً أو حجاباً
إنها يا أخت جبّ قد غدونا في حناياه ذئاباً
فاردميه والحقينا بثمود أو بعاد
لا تحلمي بالغوث حين يكون مشروطاً بغمض العين عن شرٍ يُراد
واتبعيني نحو مملكة الجماد
اتبعيني نحو مملكة الجماد "
إن المتحدث هنا ليس إلاّ الشخصية القناع ، تلك التي تحمل خطاب الكاتب أو الشاعر، وهو هنا خطاب سياسة، خطاب موقف، خطاب محمول على تيار الوعي، وهو هنا وعي المؤلف متقنعاً خلف الشخصية، ولأنه رسم في صورة شعرية، فقد خفتت حدة المباشرة إلى حد كبير. غير أن الفكرة الرئيسية التي تصلنا عبر الترجمة المعنوية تكشف عن موقف تنويري يعكس ملتبسات التوجه العام للعامة في غيبة مقصودة من الحاكم الذي غرق في وحل ذاته، ومن ثم فالخطاب في هذه المناجاة التحريضية للغير وليس لذات المتناجي – ولا أقول المونولوج – لأن التناجي هو نتيجة المعاناة إذ يكشف عن حالة يأس المتحدث ، وهي نتيجة صراع بين العقل والمشاعر أي أنها استحالت من تقنية المونولوج إلى تقنية المناجاة لأنها لا تصور صراع العقل مع المشاعر داخل الشخصية الواحدة نفسها بل تعطينا نتيجة صراع داخلي قد انتهى وأدى إلى موقف تتخذه الشخصية . ونلاحظ ما في هذه المناجاة من صور تحتاج إلى تأمل يترجمها من حالة الذهنية إلى ترجمة معنوية. وهو ما يستغرق من المتلقي زمنين لا زمناً واحداً. وهذا يشكل ما يمكن أن أطلق عليه السكتة الاتصالية المعنوية لا الجمالية أو ما اصطلحتُ على تسميته بالثالث المرفوع في المسرح الشعري لأن التعبير باعث على الابتهاج – هنا - حتى مع خفوت أصوات المعاني الفرعية ذلك أن فن المسرح هو فن الحضور المتفاعل بالمعايشة المعنوية والجمالية أو بالإدراك المتفاعل عن طريق التغريب عند بريشت وعند المسرح الشرطي (لمايرهولد) حيث التفاعل الإدراكي يكون شرطاً من شروط الحضور المسرحي الذي يتخذ التلقي بوساطته موقفاً اجتماعياً وجمالياً أيضاً. لقد مر النص المسرحي المصري بمراحل متباينة من التعبير النثري ومن التعبير الشعري فكان شوقي وكان صلاح عبد الصبور ومهران السيد والشرقاوي وجويده وداود وسويلم وأبو سنة إلى جانب من تمثل مسرحه بلغة النثر. كذلك مر المسرح السكندري من حيث النصوص بمراحل متباينة ما بين التوسل إلى الفكرة بالتعبير النثري بالفصحى أو بالعامية، وبالتعبير الشعري الفصيح أو العامي فكان التعبير الشعري الدرامي لبيرم عامي اللهجة فصيح التعبير، بليغه ، وكان التعبير الشعري الدرامي للشاعر أحمد السمره في مسرحيتيه (ساق من ذهب) و (رئبال) وكان التعبير الشعري للشاعر المسرحي الناقد مهدي بندق تعبيراً شعرياً درامياً فصيح اللغة والفكر والجماليات فصيح المشاعر أيضاً!! وجاء تعبير شخصيات أبي الحسن سلام *شعراً مسرحياً فصيحاً أوعامياً في المشاعر والفكر والبيئة. أما تعبير أنور جعفر فكان نثرياً فصيحاً وعامي التعبير الشعوري بما يناسب البيئة – غالباً – باستثناء مسرحيتة (ماسار) حيث الصراع ينحو إلى الركود في الكثير من خطه الدرامي ، وكان تعبير السيد حافظ درامياً نثرياً محاطاً ببعض الفضول – خاصة في بدايات نصوصه – وإن كان قد كتب عدداً من مسرحيات الطفل بنهج تنويري سلس . أما دربالة فمسرحه اجتماعي سياسي في باطنه، وتشكل أعماله مشروعاً مسرحياً اجتماعياً ويتبقى أن أقول إن لكل منهم مشروعاً مسرحياً يتوشح بالتاريخ ويسقطه على الواقع المعيش. فمهدي يتخذ من الواقع المصري القديم والوسيط والحديث وتاريخه ما يسقطه إسقاطاً تنويرياً أو تثويرياً على واقعنا المعيش: ( هل أنت الملك تيتي – مقتل هيباشيا الجميلة – آخر أيام إخناتون- حتشبسوت بدرجة الصفر – بسماتيك .. وبسماتيك – الشريفة بنت صاحب السبيل – غيط العنب 82 – ليلة زفاف إلكترا – ريم على الدم – السلطانة هند – غيلان الدمشقي)
ومع كل تقديرنا لجهود شعراء المسرح المصري الحديث في إرساء قواعد المسرحية الشعرية الحديثة وتقديرنا لجهود نقادنا الكبار من الرواد في تقويم تجارب رواد المسرح الشعري في مصر، والذين أثر غيابهم الجبري بالرحيل عن عالمنا سلباً بانطفاء جذوة التأليف للمسرح الشعري وحميمية تلقيه جماهيرياً ونقدياً لتغييب الذائقة الجمالية والحنين الرومنسي لدى جمهور المثقفين بغيبة الطبقة الوسطى ولتغيب الفكر النقدي والموضوعية والخبرة لدى قطيع النقد واستحواز نفر غير جاد من هواة النقد على أعمدة الصحف المخصصة للنقد الأدبي والفني، ولسيادة العروض المناسباتية والمهرجاناتية واستحوازها على فلسفة الإدارة الثقافية والفنية في المسرح والسينما بل في كل مجالات الثقافة في مصر، وربما لا نبالغ إذا قلنا في البلاد العربية مما ترتب عليه تعطيل عملية التجويد الفني والإبداعي وتهميش الخبرات إلى جانب جمود مخيلة بعض الخبرات في جيل الريادة المسرحية عند الخمسينيات والستينيات وترك الحبل على غاربه لشباب هواة المسرح الذين يحق أن يوصفوا بشباب (مسرح كليب) لتأسس عروضهم على صور متجاورة لا رابط فكري لها.
كل تلك العوامل لا شك تغيّب المسرحية الشعرية عن الولادة بل عن إثبات الهوية على خشبة المسرح بالنسبة للعديد من المسرحيات التي كتبت قسراً بلغة الشعر .
حوارية القطع (1)
حول الطرح الرئيسي لقضية غياب المسرح الشعري في مصر بزعم غياب من هو ند الآلهة – حسبما رأى الناقد الشاعر مهدي بندق – وحول تشككه فيما إذا ما كان المصريون القدماء قد أنتجوا أدباً مسرحياً غير شعري؟!
وحول الأسباب التي حمل عليها رأيه ذاك، إذ رأى أن المصريين القدماء كانوا منمطين مع أنهم عاشوا حالة الاستقرار المدني على عكس اليهود الذين منعهم انكفاؤهم على ذاتهم (الجيتو) من القدرة على إنتاج مسرح شعري ، وكأنهم قد أنتجوا في القدم مسرحاً على الإطلاق!!
فهو يرى – فيما زعم - أن سبب امتناع الفنان المصري القديم عن إبداع مسرحية شعرية هو أن المصريين القدماء شكلوا نمطاً مذعناً للملك الإله والملك نصف الإله. هذا هو السبب الأول – في رأيه – الذي حال بين الفنان الفرعوني وفن المسرح الشعري.
أما السبب الثاني – في رأيه – فهو يسحبه على كل القدماء من الأمم التي تقاعست عن إنتاج المسرحية الشعرية. حيث اشترط الأستاذ بندق على من يتصدى لكتابة مسرحية شعرية سواء في العصور الغابرة أو الوسيطة والناهضة أوالحديثة والمعاصرة أن يكون قادراً على مواجهتها وإدارة الحوار معها أي أنه يشترط أو يوجب على من تسول له نفسه بكتابة مسرحية شعرية أن يكون (كليماً للآلهة). وليس هذا فحسب؛ بل يرتب على ذلك الشرط المبدئي جواباً، إذ من المنطقي والمقبول عقلاً أن الحوار لا يتحقق إلاّ بقدرة طرفي الحوار بادئ ذي بدء على الكلام . لذلك يقول الأستاذ بندق : (إذا كان للآلهة أن تتكلم فعليها أيضاً أن تستمع إلى كلمة الإنسان) هو إذاً يشترط إلى جانب الندية قبول الإله للآخر (الإنسان: الشاعر المسرحي الذي هو ندٌ له) أي أنه يريد إلهاً ديمقراطياً – ولو كان ذلك قد تحقق فهل كان من الممكن وجود نظام كوني أو شكل واحد للوجود؟! في ظني أن الأستاذ بندق يريد إلهاً عولمياً !!
هو إذن يرى أن المسرح الشعري هو الطريق الوحيد لحوارية الإنسان مع الآلهة (ولم ينس أن يشترط مقدرة الآلهة - الطرف الثاني في الحوارية – على الكلام وعلى الإنصات للإنسان الذي هو ند له – الشاعر المسرحي-)
وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل معنى ذلك أن كل من كتب مسرحية شعرية كان نداً للإله؟ أو بمعنى آخر هل كان كليم الله ؟! وبمعنى أكثر اقتراباً أو مباشرة: هل شوقي وصلاح عبد الصبور والشرقاوي وعزيز أباظه ومحمد مهران السيد وأنس داود وأحمد سويلم وأبو سنه ومهدي بندق نفسه بالإضافة إلى عشر شعراء آخرين في مصر كتبوا المسرحية الشعرية هل كانوا أنداداً للآلهة – أقصد للإله باعتبارهم عاصروا الوحدانية – حتى يمكن أن ينعم عليهم الناقد بلقب شاعر مسرحي؟! أم هو يراهم – فيما عداه طبعاً- ليسوا من مبدعي المسرحية الشعرية؟!
لكن الشرط الأكثر غرابة من جملة الشروط كان شرطاً أخيراً استنه الناقد المفكر بندق لمن تسول له نفسه أن يقترب من حقل المسرحية الشعرية فهو يشترط على الشاعر المسرحي لكي يكون نداً للآلهة أن يموت وهو يعلل ذلك بقوله : "لأن الموت هو التجربة الإنسانية العظمى التي ترفع الإنسان إلى مرتبة يكون فيها نداً للآلهة" أي أنه يستوجب موت الشاعر أولاً حتى يصبح نداً للآلهة !! وعند ذلك يحوز على لقب الشاعر المسرحي !! ولا أدري أية آلهة؟! ففي عصرنا لا توجد آلهة * فالشاعر المسرحي إذن هو الوحيد الذي يتمكن من أن يقف نداً للإله – كما وقف إبليس في التراث الديني مواجهاً للرب- غير أن الشاعر يجب أن يموت أولاً حتى يصبح نداًَ للإله . وهنا نتساءل هل هو الموت الميتافيزيقي أم هو الموت الفيزيقي؟! أظن أن الأستاذ بندق قد قصد الموت الميتافيزيقي باعتبار أن فكرة الآلهة هي فكرة ميتافيزيقية. وهنا يصبح من المنطق أن يحادث الميتافيزيقي ميتافيزيقياً ( فكلاهما في الميتافيزيقا شرق) ومع وجهة النظر تلك – إن صحت – أو صح حدسي بأن المفكر الشاعر مهدي بندق قد قصد إليها ؛ فإن كلا المتحاورين (الإله والشاعر المسرحي) هما في جميع الأحوال لابد وأن يكونا كائنين ماديين، إلاّ إذا استنسخ من (كليم الله) - في الرؤيا- ذلك الشاعر المسرحي المزعوم أو كل الشعراء المسرحيين – المقترحين بتصور مهدي بندق – فبغير ذلك – لا تعترف الثقافة الدينية التراثية العالمية أو هي لم تعرف بشراً غير (موسى – طفل الماء في اللغة المصرية القديمة- تحاور مع الله عن بعد ( الإله في السماء وموسى على جبل في طور سيناء وبينهما صواعق نارية إمعاناً في الرهبة وفي القداسة) وهذا ما سقط من تصور بندق لحوارية الشاعر المسرحي مع الإله!
ولعل تصور بندق يكون قريباً من فكرة (التوابع والزوابع) – مع الاعتذار لابن شهيد الأندلسي- أو هي ربما قريبة من فكرة (وادي عبقر) حيث يحاور الشاعر شيطانه الذي يلهمه عن طريق تلك المحاورة أو (حلم اليقظة المطوّل) بالقصيدة وراء الأخرى. فإذا كان ظني كذلك فإن فكرة الإلهام التي قال بها أفلاطون قديماً تكون قد بعثت أو أراد لها المفكر والناقد مهدي بندق أن تبعث في عصر الميديا.
ولا ندري على وجه اليقين - على فرضية وجود ند للإله - هل يتحادثان شعراً أم نثراً!!
على إننا وإحقاقاً للحق وتأكيداً للمصداقية في عملية نقد النقد نسجل للناقد بندق أنه قد تزحزح قليلاً عن رأيه السابق وفي كتابه نفسه إذ رأى في الإمكان أن يتحدث المسرح غير الشعري مع الإله شريطة أن تكون للإله قدرة على الكلام. ليس هذا فحسب بل مع وجوب استماعه لمكلمه. وبذلك يجوز حديثهما في المسرحية النثرية وفي (مسرح الصورة وفي مسرح الجسد والسرد التشكيلي) حيث رأى أن الندية "تجد تعبيرها الأمثل في المسرح الشعري"
ولاشك عندي في أن (نظرية الحلول) كان لها أثر في طرح بندق لفكرة ندية الشاعر المسرحي بوصفه صاحب التعبير الأمثل من ناحية وللناثر المسرحي والمصور المسرحي (تأليفاً مسرحياً) كذلك. يقول بندق في مقاله:
"إن ذلك الذي يطرحه تأكيد على أنه يعيش حقاً لأنه يضع نفسه نتيجة لطرحه هذا حالة (الشاعر المسرحي الذي هو ند للإله) وذلك لعمري قريب من أصحاب نظرية الحلول الصوفية ؛ المتمثلة في قول الحلاج محادثاً ربه:
" أنا أنت وأنت أنا نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا "
ذلك القول الذي وضع الحلاج على شفا حفرة من الخطر، وهي الحال التي ينتصح بها مهدي متبعاً قول نيتشه لكل من يسعى إلى اللذة: (اللذة هي الابنة الشرعية للخطر) وقوله: (إذا أردتم أن تعيشوا فعيشوا في خطر) يقول الشاعر بندق في مقاربة فكرية من موقف الحلاج الحلولي المتلذذ بوضع نفسه على حافة الخطر:
" ولأن اللذة هي الابنة الشرعية للخطر، فإن الأخطار الروحية والسياسية الناجمة عن مثل هذا التفكير لخليقة بخلق الفن الحقيقي"
ويبدو لي أن المفكر الشاعر مهدي بندق تواق إلى الشهادة مثلما تاق إليها الحلاج ونالها. يقول الحلاج في مسرحية صلاح عبد الصبور على ألسنة الصوفية الذين ينعونه:
" كان يقول:
إن من يقتلني سيدخل الجنان
لأنه بسيفه أتم الدورة
لأنه أغاث بالدماء إذ نخس الوريد
شجيرة جديبة زرعتها بلفظي العقيم
فدبت الحياة فيها . طالت الأغصان
مثمرة تكون في مجاعة الزمان
خضراء تعطي دون موعد ، بلا أوان "
" هل نحرم العالم من شهيد "
ومهدي بندق يرتب على ذلك التوق إلى حياة الخطر التي صنعت منه الشاعر المسرحي و(الند الإلهي) غياب المسرح الشعري عند المصريين الفراعنة؛ لأنهم في نظره لم يواجهوا في تاريخهم الطويل مثل هذه التجربة الروحية والفكرية ، فهم لم يعانوا معاناة روحية ، بل كانت معاناتهم جسدية : " لذلك عاشوا كأنماط لا يحيون، ويموتون في النهاية موتهم الفيزيقي ، والأسوأ أنهم يموتون أثناء العيش موتاً فلسفياً "
ولو كان الفراعنة قد ماتوا موتاً فلسفياً في حياتهم – كما زعم الأستاذ بندق فلم شيّدت الأهرامات والمعابد الشوامخ ولماذا التحنيط؟ ولماذا أبدع الفنان المصري القديم مثله الأعلى في فن النحت؟ ألم يكن فن النحت المصري وليد معاناة الفنان المصري القديم؟! فإذا كانت التماثيل والمنحوتات منتشرة في كل بقعة من بقاع وادي النيل العظيم أفلا يدل ذلك على أن عدد الفنانين المصريين القدماء كان من الكثرة بمكان وأن إنتاجهم وإبداعاتهم الفنية النحتية كثيفة؟ وأنهم عاشوا حياة الحرية؟ وهل يبدع الفنان إذا كان سجين النمط الحياتي أو الفكري أو السياسي؟ أليس الفن هو المعادل الموضوعي للحرية؟ أليست الحرية قرينة الفن ما أن تظهر يظهر الفن توأماً لها ؟!
ومن قال إن حياة الخطر والابتهاج الذاتي أو اللذة تنتج الشاعر المسرحي فحسب كما لو كانت (حضّانة الإبداع) ومن قال إن فن النحت ليس منظومة شعرية تجسد مونولوج الذات في تمثال واحد وديالوج الذات والذات المعارضة في التكوين الأسري الذي يجسده تمثال الفرعون وعند قدميه يقبع أفراد أسرته ؟! إن من يرى النحت المعلق في سقف معبد ("حتحور- بدندرة في قنا)؛ يرى أندر دراما نحتية على جدرانه الخارجية ، وفي ردهاتها وحجراته الداخلية .. تلك التحفة الفنية الفريدة والعبقرية حيث كل سنتيمتر واحد من أعمدته يسجل عنصراً أو تكويناً درامياً بعناصر النقش البارز على أعمدة الجانب الشرقي من الردهة الرئيسية تشخيصاً للحياة الدنيا الذي يسجل فكرة الميلاد وفكرة الغياب الأبدي إبداعاً درامياً سيريالياً.
وبعناصر النقش الغائر على أعمدتها في الجانب الغربي تشخيصاً للحياة الآخرة. وفي غرفة الميلاد بالطابق العلوي في السقف لوحة مستنسخة يرى الناظر المتطلع إليها الشمس - نطفة الميلاد - تتسلل أشعتها من فم "حتحور" في تكوينها الجسدي الذي ينحني على شكل حرف (ل) في رسمه العربي لتخرج من رحمها وليدها الشعاع (أوزوريس) والإبداع كل الإبداع في تكوين الجنين في رحمها.. فلا فرق على الإطلاق بين صورته التي نعرفها الآن وصورته المنقوشة في تلك اللوحة النحتية الدرامية. والأكثر غرابة هو أن النظر إلى الجنين في تلك اللوحة * التي تتوج سقف غرفة الميلاد في معبد (دندرة/حتحور) يعطيك من كل اتجاه تنظر إليه شكلاً جديداً ذا دلالة مختلفة وبذلك أنت تنظر إلى أربع لوحات في لوحة واحدة مع تنقلك حولها من كل جوانبها.
إن من يتأمل هذا الأثر النحتي الدرامي العبقري ، إن من ينظر متأملاً تمثال رمسيس الثاني في معبد الكرنك وكلتا يديه (يمين) حيث يتجه كفاه في ناحية واحدة ، الكف اليمنى في اتجاه فخذه اليمنى وظهر كفه اليسرى في اتجاه فخذه اليسرى . سيجد ذلك التكوين مغايراً لطبيعة اتجاه كف الإنسان ، - ولا شك أن مثل ذلك التصوير متفرد وفكرة القداسة تنبع من التفرد الذي يحتم المغايرة في شكل الاتصال وفي دلالته وقيمته. ألا يكون الفنان الذي أبدع ذلك التمثال متمرداً على الطبيعة ليس هذا فحسب بل هو متماس مع الحديث القدسي الذي يصف الله في التراث الإسلامي بأن (كلتا يديه يمين) .
أظن أن الذي رأى مثل ذلك الإبداع سوف يتريث كثيراً ويتردد في قبول ما طرحه الأستاذ مهدي حيث رأى أن المصريين لم يواجهوا في تاريخهم الطويل مثل هذه التجربة الروحية والفكرية ، ومن ثم نفى عنهم المعاناة الروحية التي افترضها شرطاً لإبداع المسرح الشعري ، ووصفهم بأنهم "عاشوا كأنماط لا يحيون ويموتون في النهاية موتهم الفيزيقي " كما اتهمهم بأنهم يموتون في أثناء العيش موتاً فلسفياً " لو كان الفراعنة قد ماتوا موتاً فلسفياً في حياتهم . لقد شيدوا من الأهرامات ما يربو على المائة هرم ؟ كما كان التحنيط مدفوعاً بفكرة الخلود التي كان مقابلها عند اليونان وعند الهنود فكرة الاستنساخ ؟ وكلاهما فكرتان فلسفيتان ، صنعت الأولى أمة أحيتها فكرة، كما أحيت اليونان فكرة ؟!
لقد كان فن النحت المصري وليد معاناة الفنان المصري القديم؟ وكانت التماثيل والمنحوتات المنتشرة في كل بقعة من بقاع الوادي العظيم وليدة معاناة واستشعار للذة الخطر في عالم ما بعد الموت الفيزيقي؛ أفلا يدل ذلك على أن عدد الفنانين المصريين القدماء قد كان من الكثرة بمكان ؟ وهل يجب أن يكون الشعر والدراما في اللغة المكتوبة والمنطوقة فحسب ؟ أليس الشعر صوراً وتخييلاً وموسيقى وإيقاعات مسموعة بعضها محمول على صوت فردي وبعضها محمول على أصوات متعددة ، وفي حالة من الحضور المتضاد في إطار وحدة ؟ فهل إذا نظر ناظر متأمل إلى أحد تماثيل المصري القديم ألا يجد الصورة والتخييل ويستشعر الموسيقى والإيقاعات رؤية وإنصاتاً وسكوناً وضوءاً وظلالاً وبروزاً وغوراً وتجريداً وتجسيماً ملموساً ومتنوعاً ما بين الخشونة والنعومة ، ما بين الحدة والانسيابية ، وهل الشعر سوى ذلك؟!
يقول شوبنهاور : " كل الفنون تطمح إلى أن تكون موسيقية "
وبعد كل ما قدمته من أراء في حوارية القطع أنتقل إلى حوارية الوصل .
حوارية الوصل (1)
وللوصل مع أراء الشاعر المسرحي والناقد مهدي بندق فإني أتفق معه على أن الشاعر المسرحي المصري القديم لم يطمح إلى أن يكون نداً للإله أو الآلهة – ولمهدي بندق أن يرفض كل إثبات علمي بأنه كانت للمصريين عروض مسرحية ، وله أن يهمشها إن رأى رأي القائلين بأنها لم تزد عن كونها عروضاً طقسية مرتبطة بشعيرة دينية احتفالية بالإله أوزيريس – لكن هل حاول أن يحلل نصاً من تلك النصوص قياساً على القواعد الأرسطية – تجاوزاً مع أنها تسبق تجربة اليونان المسرحية بنحو ألفي عام – ليرى هل هي دراما أم مجرد عبث هواه !!
ولو كان لمهدي أن يرى بعد ذلك كله – أن المصري القديم عاش وهو الميت موتاًَ فلسفياً فلماذا أجهد نفسه بكتابة سلسلة من المسرحيات الشعرية عن نماذج فلسفية نابضة في تاريخ ملوك الفراعنة وأناسها البسطاء في مسرحياته : (هل أنت الملك تيتي؟ ) ( آخر أيام أخناتون) ( حتشبسوت بدرجة الصفر) (بسماتيك .. و بسماتيك). ألا يناقض بذلك نفسه ؟ ألا يهدم مشروعه الفكري التنويري ؟ أم إنه يقول في مسرحياته شيئاً ويقول عكسه تماماً في نقده ؟!
لست أظن أن مفكراً أو ناقداً يمكنه أن ينكر على الفنان النحات المصري القديم أنه كان – وفق مصطلح بندق الأثير – (نداً للآلهة) بما أنشأ من العدم : منحوتات درامية شعرية في صور تكوينية لا حصر لها ؛ فكان بذلك يدير حواراً مرئياً مع الآلهة ؛ نظراً لمعاناة فلسفية واستشعار لخطر آت لاريب فيه في عالم سيرحل إليه رغماً عنه.
ولست أظن كذلك أن مهدي بندق ينكر أن لكل أمة أساليبها الإبداعية المجسدة لمثلها العليا. لقد كان المثل الأعلى لليوناني القديم هو النظر إلى الآلهة على أنها الآخر المتعالي ومع ذلك كانت نظرته إلى ذلك المتعالي أو (الأنا الكلية العليا) نظرة الند للند . لذلك حاوره محاوره كلامية كرفيق خيالي متعالٍ عبر كتاباته الفكرية والأدبية ، وحاوره محاورة كلامية بوساطة الشعر المسرحي كما هو معلوم في نصوص شعرائهم الكبار. وكان المثل الأعلى للمصري القديم هو النظر إلى الآخر المتعالي نظرة الند للند لذلك حاوره محاورة غير كلامية بوساطة المنحوتات الدرامية وعمارة الخلود ، لعلمه بأن ليس لآلهته مقدرة على المباشرة الكلامية . ثم من قال إن الحوار مقصور على لغة الكلام؟! هل إذا شاهدت (باليه بحيرة البجع أو كسارة البندق) لتشايكوفسكي أو (جاينيه) لخاتشادوريان هل ترى الصورة غير شعرية ؟ إنها مسرح شعري بلغة غير كلامية هي لغة الحركة بموسيقاها الداخلية وإيقاعاتها جنباً إلى جنب مع الموسيقا الأوركسترالية . أليس المسرح هو فن الفعل ؟ وهل لغة الكلام غير أداة للفعل الاتصالي؟ كذلك لغة الجسد ولغة الصورة بوصفها المعادل التشكيلي والتعبيري للحدث في الدراما المسرحية ، هي لغة فعل اتصالي ممتع ومقنع فمؤثر. ومن الذي يجزم بأن مبدع تلك العروض الراقصة لم يعش حياة الخطر ولم ينتش بلذة عذاب الروح ؟ ومن الذي يستطيع الجزم بأن النحات المصري القديم مثله مثل الشاعر الفرعوني لم يعش حياة الخطر وعذابات الروح؟ إن كل فنان حقيقي يعيش على شفا حفرة من الخطر ويتلذذ بعذاب الروح ويعاني معاناة فلسفية ، حتى ولو كان ذلك عبر اللاوعي. فكل تجربة إبداعية حقيقية (زمنية أو مكانية) هي رحلة معاناة والتذاذ بعذابات الروح ، فما لم يتلذذ المبدع في أثناء التفكير في مشروع إبداعه وفي عملية الخلق فلن يخرج للعالم إنتاجاً تلتذ له أرواح المتلقين ، ومن ثم يسقط من قاطرة تاريخ الإبداع الإنساني العالمي .
لاشك أن صور الصراع في نصوص المسرح المصري القديم كانت بين الآلهة بعضها بعضاً . وهذا ما يبعد الإنسان – في التعبير الدرامي المصري القديم – عن أن يقف في مواجهة مباشرة مع الآلهة . – هذا مخصوص بالإنسان العادي – حتى وإن مددنا حبل الاتصال بين فكر الإنسان المصري العادي القديم وفكره عبر العصور المتتالية ورموزها وصولاً إلى فكر إنساننا المصري المعاصر – فربما لن نجد تلك الندّية التي تحيّر في البحث عنها الأستاذ بندق أبداً .
إننا لا نتكلم عن المصري العادي وإنما نتكلم عن الفنان الشاعر المبدع . إن كل عملية خلق أدبي أو فني حقيقية تعكس تلك الندية التي افتقدها الناقد المفكر مهدي بندق عند الشعراء المصريين والفنانين الفراعنة – فهو عندما يقف أمام (موناليزا) دافينشي فيراها من كل الزوايا التي يقف فيها تنظر إليه مبتسمة مثلما هو ينظر إليها . أي يقوم بينه وبينها حوار بالنظرات فإن روحه تهتف (الله!! ما أبدع هذا) وبالمثل عندما يقف أسفل لوحة الميلاد في معبد (حتحور / دندرة) فيرى رؤى ذات دلالات مختلفة في زوايا وقوفه المتعددة . وسيجد روحه تهتف (الله !! ما أبدع هذا !) وسيفعل ذلك لو وقف أمام تمثال رمسيس وزوجه وولديه عند قدميه في غير نسبة ولا تناسب من حيث المضمون الاجتماعي والمنظور التقديسي مع تقدير فني وهندسي دقيق للنسبة والتناسب في التكوين والشكل الجمالي. ولاشك أن لذلك المضمون دلالاته في تراتبية الأسرة المصرية القديمة وهو أمر لا يبتعد عن التصوير الدرامي لكن عن طريق فن النحت وهو فن غير كلامي.
ثم أليس في دراما الفلاح الفصيح (باطوم) بمواجهته الصدامية المباشرة للحكام والولاة تلك التي وقف بها أمام الفرعون الإله ما يفض حيرة المفكر التفكيكي مهدي بندق المحوّمة حول فكرة المسرح الشعري في مصر – تحديداً – بحوّامة استقرائية مشرعة القلم ، والكاميرا ؛ ليسجل عليها حالة الغياب في كشف الحضور النقدي !!
لا أشك في أن الأستاذ بندق حينما طرح كل تلك القضايا قد أراد أن يلقي بعدد من الأحجار في بركة الحركة الفكرية والنقدية الراكدة . ولا أظن أنه قد استهدف طرح شعارات مجردة ، فهو خير من يعرف أن كل تحديد للمعنى يؤدي كما قال (إيسر) " إلى تجربة شديدة الفردية لذلك المعنى . ولأن كل ما يفكر فيه المرء هو جزء من عالمه الذهني" ؛ لذلك أرجح أن يكون طرحه هذا طرحاً يستهدف إدارة جدل حول ذلك الذي طرحه . من هذا المنطلق أدير معه المسائل التي تعرض لها بصورة قاطعة وحادة بما رأيت عدم توافقه مع منهج الجدل المادي والتاريخي الذي آمن به وربما ما يزال به مؤمن .
حوارية القطع (2)
ويستوقفني من جملة ما طرح من أحكام في قوله الذي يمهد به لرأيه حول تمرد (أنتيجوني) في مسرحية سوفوكليس الخالدة إذ يقول: " بين التقديس والتمرد ولدت النزعة الدرامية تعبيراً عن الصراع الكامن بين طبيعة الفرد وثقافة الجماعة " وهو يؤسس على ذلك الرأي – على صحته – فكرة تمرد (أنتيجوني) منفردة على المقدس الذي هو في نظره ثقافة الجماعة أي المجتمع في (طيبة) وحقيقة الأمر – عندي – إنها لم تتمرد على ثقافة الجماعة ولكن الذي تمرد على المقدس هو كريون الذي فرض قانوناً مغايراً لقانون البشر وثقافتهم الإنسانية التي تعتبر دفن الميت حرمة وقداسة ما بعدها قداسة. فكريون انفرد بفرض مغايرة ؛ تمرد فيها على قانون البشر في التعامل مع موتاهم. فكان بذلك الفعل الخارج على ثقافة الجماعة محركاً للصراع . إذن لم تكن أنتيجوني خارجة على ثقافة الجماعة.
ولا أدري كيف يرى مهدي بندق أن قانون المدينة في مسرحية أنتيجوني لسوفوكليس حرّم إقامة شعائر دفن الميت الذي استعدى الأغراب في حياته ضد وطنه !! فلو كان صحيحاً فلما وقف كبير الكهنة (تريزياس) ضد قرار كريون بعدم دفن جثة بولينكس ابن أوديب ولما وقف ابن كريون نفسه (هايمون) ضد قرار والده؟ ولما وقفت مجموعة الكورس وهي المعبرة عن الرأي العام ضد قرار كريون ؟! إنه قانون كريون الحاكم الفرد وليس قانون المدينة ؛ فلقد كان هناك رأي عام معارض وقوي ضد قرار كريون بتحريم دفن ابن أوديب ، وقانون الحاكم ليس قانون المدينة ذلك أن القرار لم يصدر عن مجمع كبار الناس في أمة اليونان ؛ فالقول بأن تحريم دفن ميت هو قانون المدينة شبيه بالقول الرسمي في مصر الآن بأن قانون الطوارئ هو قانون المدينة وليس قانون الحاكم المتسلط ؛ الدولة ليست هي الحاكم وليست هي النخبة الحاكمة.
ترى لو أن عربياً دخل العراق وقاوم الغزاة والمحتلين الأمريكيين والبريطانيين واستشهد فقرر المجلس العراقي (العميل) الذي يحكم العراق الآن عدم دفن جثته ، هل يكون ذلك قانون المدينة. وهل المدينة سوى شعب وحاكم ودستور وقوانين تنظم العلاقة بينهما على نحو يحقق العدالة والأمن والحريات، فأين المدينة مما هو حاصل في العراق أو في فلسطين ؟! المسألة بالنسبة لأنتيجوني ماثلة في أن رأس الأسرة الحاكمة كريون حرم دفن أحد الأخوين الشقيقين لأنتيجوني وهو المستعين بجند أجانب ضد أخيه الذي سقطت شرعية حكمه للبلاد بانتهاء فترته التي اتفق عليها مع أخيه بعلم النخبة الحاكمة سياسياً ودينياً. أي باتفاق أقرته المدينة. وهو قانون . وكان عليه تسليم الحكم لأخيه ولكن امتناعه أدى إلى قتال بينهما – على عادة القدماء : قائد جيش ينازل قائد الجيش المضاد والنصر لمن يقتل خصمه – غير أنهما قتل كل منهما الآخر – ومع أن المدينة كانت منوطة بالحرص على تنفيذ قرارها السابق وتسليم الحكم لبولينكس دون أن تلجأه إلى استعانة أجنبية في الحصول على حقه. غير أن المدينة لم تقم بواجبها في حفظ تعهداتها – وهذا ما يذكرنا بحال العرب مع العراق والكويت قبل حروب الخليج وبعدها – وإنما تركت الأمر للحاكم الفرد كريون الذي ناصر مغتصب حق أخيه في تبادل السلطة وتدويرها فناصر الأخ المستميت على كرسي الحكم. إن خروج أنتيجوني على قرار تعليق جثة بولينكس لوحش الطير هو خروج على قانون الأسرة الحاكمة فهي أحد أفرادها وهو ما يخشى معه الحاكم الفرد استعداء الشعب على الأسرة الحاكمة وهو أمر يخشى منه أن يطيح بالأسرة الحاكمة نفسها ، إذن فقرار كريون خروج فج على ثقافة المدينة اليونانية بل على الثقافة الإنسانية كلها . ولا أعرف شعباً اعتنق ثقافة عدم دفن الموتى أو حرق جثثهم ونثرها في الأنهار أو عبر المزارع ، حتى الهنود الحمر وهم يعلقون موتاهم في الفضاء فإنهم يحفظونها إذ يعلقونها في السماء رمزاً لحالة السمو.
إن قرار كريون إذن هو نابع من ثقافته الانفرادية الاستبدادية وحدها ولو رجع مهدي إلى نص أنتيجوني سيجد ما يؤكد قولي :
" الجوقة : إذا فماذا تريد منا ؟
كريون : أن لا ترقوا ولا تلينو لمن يخرج على أمري
الجوقة : ليس بين الناس من فقد الرشد إلى حيث يسعى إلى الموت "

هل تعد تلك السلبية والخوف من الموت الذي تصرح به المدينة ممثلة في الجوقة سوى حالة من حالات الاعتراض السلبي فهل يعد خوفهم من بطش حاكم متسلط وهم أعضاء شورى المدينة ونخبتها هو ثقافة المدينة بأسرها أم هي فحسب ثقافة النخبة. وهل في كلامهم تأييد للحاكم المطلق بقدر ما هو اعتراض عليه وإن كان اعتراضاً سلبياً . وهاهم في حديثهم مع أنتيجوني :
" الجوقة : ربما كان تشريف الموتى نحواً من التقوى ولكن من إليه السلطان لا
يقبل الخروج عن أمره "
أين قانون المدينة هنا ؟! إنه قانون الحاكم وهذا ما يؤكده رئيس الجوقة:
"رئيس الجوقة: ما أرى فإن هذا الشقاء لا يأتي من قبل غيره بل هو مصدره"
فأين هي ثقافة المدينة هنا ؟ ومن الذي خرق قداسة المدينة ؟
ولعله يوافقني على أن كريون وهو الحاكم المستبد هو الذي تمرد على الثقافة الإنسانية المتحضرة في موقفه من عدم دفن جثة ابن أخته بولينكس ابن أوديب، ولم تكن أنتيجوني هي المتمردة على قانون المدينة المتحضرة ولعله يراجع معي التحذيرات المعارضة لقراره غير الحضاري وأهمها تحذيرات الكاهن الأكبر تيريزياس لكريون نفسه :
" تعلم أن أمرك قد عاد إلى الحرج "
" المدينة تشقى بهذا الشؤم وأنت مصدر هذا الشقاء "
" ألقيت في بطن الأرض كائناً كان يعيش على ظهرها ، ولأنك
أخزيت نفسك . حبست حياً في القبر وخليت جثة بالعراء
بعيداً عن آلهة الموتى في غير ما ينبغي لها من الشرف والمأوى.
ليس لك هذا الحق بل ليس لك ولا لأي إله من آلهة السماء ،
هذا عدوان تقترفه لذلك ترقبك الآلهة اللاتي يعاقبن المجرمين
ويوكلن هادس بالانتقام . وستتردى في مثل الشر الذي جنيته "
هذه هي ثقافة المدينة وهذا هو قانونها . وما فعله كريون كان خروجاً فاحشاً على ذلك القانون على عكس ما زعم الأستاذ بندق في استعراضه النقدي المستطرد ولو كان ما زعمه صحيحاً لما صاح تريزياس في وجه كريون :
" .. إنما تنهض مخاصمة لك كل المدن المضطربة ، حيث الجثث الممزقة لم تظفر من القبور إلاّ ببطون الكلاب وسباع الوحش والطير ذات الأجنحة"
ولعل مهدي يوافقني على أن فكرة القداسة تنبع عن تفرد الرمز أو الموضوع أو الشخص بميزة يستحيل أن تكون لغيره. وهذا التفرد ، يفرض المغايرة في شكل الاتصال بين المتفرد رمزاً كان أم فكرة أم موضوعاً أم شخصاً والمتصل به عن بعد وهمي صانع لتلك الهالة التقديسية – حتى وإن كان قريباً منه مكانياً أو زمانياً – إذن فلا قداسة لشيء إلاّ عن طريق نظرة المتصل بذلك الشيء التي ترى فيه ميزة يتفرد بها على سائر الأشياء وأن تلك الميزة المتفردة التي لم يحزها غيره تملك له ضراً أو نفعاً. وعلى سبيل المثال فتمثال رمسيس الثاني وله يدان كلتاهما (يمين) يجعل رمسيس الثاني متفرداً ، إذ أنه حاز شيئاً يستحيل أن يكون لغيره وهو أن يده اليمنى لا تقابلها اليد اليسرى وباطن كفها في اتجاه الداخل نحو جسمه ، بل تتجه كفه اليسرى إلى خارج جسمه – أي جهة اليمين – وفي معتقد المسلم – وفق الحديث القدسي أن يدي الله كلتيهما يمين – وهذه صفة ليست لبشر ، وكون تمثال رمسيس الثاني له يدان كلتاهما يمين فإن ذلك أمر مستحيل حدوثه في عالم البشر ، وبذلك يتوجب تقديسه ، فهل كان تقديسه لأنه يمتلك تميزاً وتفرداً وفق رسمه في تمثاله أم لأنه كان رمز النافع الضار في ممارساته مع المصريين في حكمه الذي اقترب من عامه السبعين ؟!
ولو أن ابن الماء (السيناوي) الذي تمرد على رمسيس الثاني – حسب زعم بعض الروايات التاريخية – أو تمرد على (مرنبتاح) بعده – حسبما سجل تاريخ مرنبتاح عن عصابة اليهود من قطّاع الطرق الذين قام بطردهم خارج الحدود ، فإنه في الحالتين قد تمرد على المقدس (الملك / الإله) ومع هذا فإن ذلك التمرد لم يلد تعبيراً درامياً مع أنه في ذاته دراما صراعية غير أدبية .

حوارية الوصل (2)
يعرف كل مبدع وناقد أن التوتر والقلق سمتان من أهم السمات التي تلازم المفكر الحقيقي والمبدع الحقيقي أديباً : (شاعراً كان وناثراً أم كان فناناً ، شريطة أن يكون التوتر إيجابياً ، بمعنى أن يكون نابعاً من إشكالية كونية أو إنسانية ، عامة وغير ذاتية ينتظم في إطارها عدد من المشكلات المترابطة والتي يتم التصدي لها مجتمعة.
ولهذا فإن مثل ذلك النوع من المفكرين والمبدعين يثير الزوابع والزعابيب الفكرية في أي مكان يحل فيه. والشاعر الكاتب المسرحي مهدي بندق أحد هؤلاء، فهو مثير للزعابيب الفكرية أو لرياح الخماسين الفكرية من وقت إلى آخر. وهذا في حد ذاته عمل إيجابي لأنه يدفع ببعض المفكرين المبدعين الذين على شاكلته إلى اتخاذ مصدات فكرية تحيل غبار الإثارة الفكرية عبر المرشحات التأملية لتنقية الفكر وتصفية آثاره مما علق به من تناقضات، إيماناً بما يؤمن به بندق نفسه ويعلنه دوماً من أنه مع التعددية ومع لا معصومية العلم وقابليته للصواب والخطأ مثلما كان حال الإمام الشافعي في قالته الشهيرة :
" رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب "
ومثلما هو الحال في تاريخنا المعاصر وفق فلسفة كل من تشارلز ساندرز بيرس وكارل بوبر وبول فيرآبند بل وإدوارد سعيد وجاك دريدا من الوشاية بعالم جديد يقوم في أساسه على رفض سطوة النظرية مرتكناً إلى إعادة النظر في كافة المسلمات اليقينية متحرراً من النفعية الغيبية مطيحاً بالأساطير السياسية فلا أبوية بونابرتية . ولا مؤامرة تاريخية ولا إمكانية مطلقاً للعودة إلى عصر ما (ذهبي أو فضي !! )
ومن على هذه الأرضية الفكرية المتجددة نفسها ، وقفت محاوراً للصديق الشاعر المسرحي والمفكر مهدي بندق في موضوع واحد من جملة ما طرحه في كتابه هذا من موضوعات وقضايا متعددة شاء أن يقدم بها للموضوع الرئيسي لكتابه وهو موضوع غياب المسرح الشعري في مصر.
ولأنني أسير في دراساتي النقدية في المسرح – نصه وعرضه – بنفس النهج الذي يقترحه مهدي بندق من أن قراءة دراسة أدبية ما ينبغي أن تقرأ وفق معايير نسبية (تقبل التفنيد والتخطئة بمقدار ما تلجأ هي إلى تفنيد الأسس النظرية التي انطلقت منها تلك الدراسات المقروءة وتخطئتها) – فيما وقعت فيه من أخطاء . وهذا لا يبتعد عن نظرية تفكيك مركزية الخطاب والأنساق والكشف عما فيها من تناقضات- وأظن أن مهدي يتفق معي على أن ما يقترحه لم يخرج عن نظرية التفكيك وهي نسق فلسفي نقدي أيضاً.
ومعنى ذلك أن رفض نسق ثقافي أو فكري ما ، هو إحلال لنسق جديد محله ، لأن كل عملية بناء تحتاج إلى عملية هدم كما يذكرنا (جيته) وبغير ذلك نسقط في هاوية العدم فالأنساق لا تفنى ولا تأتي من العدم فما أن ننفي نسقاً يولد غيره.
وإذا كان اقتراح مهدي بندق على الباحثين بأن يوقفوا بحوثهم الأدبية على محددات الحاضر وفحص إمكانات الانتقال منها إلى مستقبل الأدب ومستقبل للبشرية أكثر تحرراً وجمالاً " بل يحبذ – خشية وقوع ناقد النقد – في براثن الأدلجة أن يفيد من تصويب ناقد آخر لنقد ذلك الناقد (ناقد) *. وبذلك يفيد الفائدة المثلى من تصويب يتابع بناقد آخر. فنقد النقد ليس عملاً فردياً بل هو إنجاز مشترك تؤديه ثقافة بأسرها لغد تصنعه بأيديها، دون انتظار "موعد مع القدر"

وهذا لعمري يذكرني بفكر المودودي عن الحاكمية حيث كل المسلمين خلفاء لله على الأرض مع العلم بزجر مهدي بندق لفكر المودودي بالطبع ومناقضته بل منافحته له.
ولو أن هذا المطمح الخير كان يمكن تحقيقه لما اضطر الأستاذ مهدي إلى أن يجهد نفسه في تأليف هذا الكتاب ، ولما احتاج الظرف السوسيولوجي الحالي إلى خروج جماعات (كفاية) و (صحافيون من أجل التغيير) و(شايفينكو) ولا احتاج المجتمع إلى أن يبح صوته في مظاهرات تطالب بتعدد المرشحين للرئاسة والجهر بالصوت (الحياني) (لا للتوريث) ولا كانت أمريكا وإسرائيل تمتطينا وتعربد فينا ليل نهار. كم ناقد حقيقي في بلدنا ، بل كم ناقد زائف (ينقد ليأكل) ثم هل نشأ العقل العربي نشأة نقدية ؟ هل في المجتمع العربي ومن ثم المصري من يقبل بوجهة نظر الآخرين؟! إن عقلاً كعقل الشاعر المسرحي مهدي بندق مليء بزخم الأفكار في (نسق) ديالكتيكي، أفكار تتصارع مع أفكار في عقله النابض عبر حياة فكرية وإبداعية مشاكسة قلقة، في مجتمع لا حياة فيه لمن لا يسكنه القلق ؛ لذلك نراه في كتابه هذا ، بل في إبداعاته الشعرية والمسرحية وفي كتاباته الفكرية التحليلية منها والتفكيكية في حوارية متصلة منقطعة ما بين نص ونص وكتاب وآخر، فهو يحاور نفسه.
الأفكار تحاور بعضها في عقله مما يرى معه قارئه العادي أنه يكتب في كل ما يكتب على طريقة (مسرح توفيق الحكيم الذهني) – مع بعد الشقة بين التوجهين الفكريين - إذ يحتاج القارئ فيه إلى زمنين وربما ثلاثة أزمنة لكي يتوصل إلى المعنى المراد من وراء الجملة أو العبارة ولا أقول المحور الفكري الواحد من محاور الكتاب الواحد. فهو كمن يؤمن بقول (أبي تمام الطائي) في رده على (النّظام) كبير المعتزلة حين سأله: "يا أبا تمام لماذا لا تكتب ما يفهم؟" فجاء رد أبي تمام حاداً وقاطعاً – "ولماذا لا تفهم ما يكتب؟"
هذا هو حال المفكرين "يفهمون ولا يفهمون" – ولك أن تبدل في ضبط العبارة لتخرج منها معان متعددة .. فمع أن عنوان الكتاب (سوسيولوجيا المسرح الشعري في مصر) وهو موضوع حاول بندق معالجته في عدد من المقالات المطولة، نشرها في جريدة (التجمع) الأسبوعية في صيف العام الماضي 2004، ثم أعاد نشرها مع دراسة سبقتها إلى النشر بمجلة المسرح المصرية، ثم أعاد نشرها بمجلة (تحديات ثقافية) التي يرأس تحريرها . وفي تلك الدراسة يلعب مهدي دور الناقد الثاني لدراسات نقدية في المسرح الشعري، منها كتابي الموسوم (مقدمة في نظرية المسرح الشعري) * إلاّ أنه في هذا الكتاب (سوسيولوجيا المسرح الشعري) يطرح في مقدمة مطولة تصوره تحت عنوان (مقدمة منهجية – الطريق إلى المسرح الشعري-) يطالب فيها الشعراء والنقاد والدارسين الباحثين بما لا طاقة لهم به بل بما لا قبل لهم به (ص ص 33 – 45) وهي المقدمة الثالثة التي سبقتها المقدمة الثانية بعنوان (مقدمة مقترحة لكل فكر وفن) (ص ص 20-32) وهي أيضاً مسبوقة بمقدمة أولى تحت عنوان (قبل المفتتح) (ص ص 5 – 19) وقد أحسن إذ يجمع فيها أهم المصطلحات التي وردت في كتابه.
وعلى الرغم من أنه يتحدث كثيراً في هذا الكتاب وفي كل أحاديثه ومناقشاته الساخنة عبر كتاباته الإبداعية والفكرية النقدية بالتحليل أو بالتفكيك عن التعددية وإيمانه العميق بها ورفضه القاطع والحاد للنسقية وللأيديولوجية بكل أشكالها ؛ إلاّ أن عنوان المقدمة الثانية لكتابه هذا تنفي ذلك كله: (مقدمة مقترحة لكل فكر وفن) أليس هذا العنوان ينطوي على نسق مقترح يدخل من يأخذ به – إن وجد من يأخذ به – في جلباب أيديولوجي – بغض النظر عما يرمي إليه- وبذلك يكون مهدي قد نقض منذ البداية طرحه الذي يقترحه على شعراء المسرح ونقاده ودارسيه؟!
إن هذه المقدمة الأولى تنطلق من تساؤلات الفكر السياسي الاستنكارية التي تصلح لتكون إشكالية جيدة لبحث في علم اجتماع السياسة إذ تصدر المقدمة على النحو الآتي:
" أسامة بن لادن أم جورج دبليو بوش؟ صموئيل هنجنتون أم سيد قطب؟ نظام الخلافة أم النظام العولمي الجديد؟ " وفيها يلقي مسؤولية محاولة الإجابة عن تلك التساؤلات المركبة في سلة العلماء والفلاسفة، ومن ثم يتخذ تلك الإنابة التي أوكلهم بها نيابة عنه- ربما لشعوره بأن هذا الموضوع أو تلك القضايا – شديدة الأهمية - لا محل لها من الإعراب في كتاب موضوعه (سوسيولوجيا المسرح الشعري)
ولأن الكاتب قد فحص العلماء والفلاسفة واحداً وراء الآخر ثم ألغى وكالته لهم في تولي ذلك الأمر الخطير: (الاشتغال بالمصير الإنساني) الذي تهدده تلك الإشكالية التي صدر بها مقدمته المقترحة الأولى على كل فكر وكل فن – وكأن كل الأفكار موحدة أو متآلفة وكأن كل الفنون كذلك!! إلاّ إذا كان الكاتب والشاعر المفكر يقترح بإعلانه هذا تكوين جبهة من كل صاحب فكر غير فكر هؤلاء ومن كل فنان له موقف غير موقف هؤلاء!! وهذا هو المستحيل بعينه؛ أولاً: لأنه ضد ما ينادي به الكاتب نفسه من التعددية ومن رفض النسق ورفض الأيديولوجيات، فكل جبهة أو تحالف ينطلق من شعار أي من فكرة مسبقة، من نسق أو مفهوم تمت بلورته بلورة قبلية.
ثانياً: مثول تجربة "فاجنر" في محاولته لما يعرف بمفهوم وحدة الفنون وفشلها الذريع معلوم بعد تجربته في الجمع بين الفنون في مسرحه (بيرويت).
ثالثاً: لا تحالف بدون نقد ذاتي وموضوعي لكل طرف من أطرافه.
رابعاً: إن الأستاذ مهدي ينقد هروب الأيديولوجيا السياسية وتسربها متخفية وراء الأدب عبر مسارب البنيوية والتأويلية والوضعية (ص38) ومع أنه يعلن ليل نهار رفضه للشمولية في الفكر وفي السياسة -في مقدمته الأولى المقترحة- إلاّ أنه يضع نسقاً أو مظلة ليقف تحتها الفكر: كل الفكر والفن: كل الفن؛ أي يدعو إلى هجرة النهج الشمولي أو النسق الشمولي في السياسة وصولاً إلى مواقف الفكر كلها وإلى محطات الفنون كلها!! ولا أدري كيف وهو القائل "فالأفكار لا تتراجع بنفس الدرجة التي تتراجع بها أدوات الإنتاج المتخلفة، أو التي تبهت بها العلاقات الاجتماعية المحاثية لتلك الأدوات" (نفسه ص27) وكيف يتحقق ذلك في رأيه وهو الذي يؤكد في الصفحة نفسها " أن جوهر (التراتيبية) يظل صامداً- وإن تغيرت تمظهراته- ما دامت المجتمعات الطبقية قائمة لا تزال" (نفسه ص 27)
على كل حال نترك الحديث التفصيلي في نقد ما هو سياسي لأهل التخصص مكتفين بما عرضنا من الرد المشروع على النقد المشروع فيما يدخل ضمن فرع من فروع تخصصنا وهو (المسرح الشعري).

وأخلص مما تقدم في القول عن غيبة المسرح الشعري التي قررها الشاعر المسرحي والناقد مهدي بندق إلى استخلاصين:
يتمركز الأول حول قراره بحجب لقب (شاعر مسرحي) عن كل من لم يكن نداً للآلهة لأنه غير قادر على مواجهتها أو محاورتها لو كانت لها قدرة على المحاورة أو قدرة على تملك خاصية الحديث. خاصة وأنه لن يستطيع أن يكون أبداً نداً للآلهة طالما أنه لم يمت ميتتها الميتافيزيقية وهو أمر يحيلنا إلى التساؤل –هل شوقي وأباظة والشرقاوي وعبد الصبور وجويدة وبندق وأبو سنة وسويلم وغيرهم من شعراء المسرح الشعري العربي كانوا أنداداً للآلهة ومن ثم يستأهل من كان كذلك منهم أن ينعم عليه بلقب شاعر مسرحي أم أنهم ليسوا شعراء مسرح؟ وهل وصل إلى علم أحد ولو في رؤيا المنام – أن أحداً ممن ماتوا منهم قد تمكن من محادثة الإله بعد أن خرج بميتته الفيزيقية إلى الحياة الميتافيزيقية . وهل ارتقت حالته الميتافيزيقية به فأصبح نداً للآلهة حيث توحدا معاً على المستوى الميتافيزيقي فصح فيهما ما قاله الحلاج في خلوته الحلولية :
" أنا أنت وأنت أنا نحن روحان حللنا بدنا "
أما الاستخلاص الثاني فهو متعلق بما طرحه حول مخالفة أنتيجوني لقانون المدنية فقد كفانا الرد عليه إعلان تيريزياس كبير الكهنة لقرار كريون وهو في نص حواره الذي لا يستطيع أحد إبطاله أو وصفه بالتهافت لأنه شاهد مصدري وما عداه هو محض تفسير لا ثبت له ولا مصداقية.
لذلك أرى أن يراجع الشاعر والناقد الكبير رأيه وهو أول من يطالب الآخرين بأهمية المراجعة عملاًَ بالقول بأن العلم هو ما يقبل التخطئة وبقول الشافعي:
" قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب"

الهوامش :
حوارية القطع والوصل في الحديث عن المسرح الشعري
أ.د/أبو الحسن سلاّم
مهدي بندق والثالث المرفوع في النقد غير المشروع:
إن المفكر الحق هو ذلك الإنسان المتأمل، لقلق ، المتجدد والمتفاعل مع عالمه عبر إثارته القضية تلو القضية ، والزوبعة تلو الزوبعة.
قلت في مقدمة الفصل إن الشاعر الناقد مهدي بندق هو واحد من أولئك الأشخاص المثيرين للشغب الفكري؛ فأينما حل تسبقه العواصف الفكرية وتلحق به الزوابع النقدية وتحيط به الرياح الخماسينية الانتقادية وهو نفسه ريح خماسين فكرية ليس لها موسم محدد. فهي تهب في أية لحظة ودون سابق إنذار لأنه مسكون بالفكر النقدي.
ومهدي بندق شاعر ، وشاعر مسرحي مفكر .. فالفكر يمسك بلجم صوره الشعرية الجامحة ويقودها نحو مضيفها المتأمل القادر ذهنه على استضافتها على مائدة الحوار الحافل بأصناف الجدل ، ومهدي بندق صاحب مشروع فكري، أخشى القول: إنه مشروع لا يشاركه فيه أحد. إذ يرى وأظن أنه الوحيد بيننا الذي يرى – أن العقلية المصرية قديمها وحديثها هي والعقلية العربية عقلية واحدة !! فلا فرق عنده بين عقلية الماء وعقلية البيداء. ومثل ذلك التصور الواحدي؛ يتصل بمنبع دوجماطيقي لاشك سواء لاحظ صاحبه ذلك أو لم يقصده – ولأن كل صورة محددة في الذهن – سلفاً- تتشرب بالمياه التي تتدفق من حولها وتصطبغ بها ومعها الإحساس بعلاقاتها القريبة والبعيدة ورجع الأفول الذي جاءت إلينا منه؛ لذلك ومن هذا المنطلق قلت إن بندق صاحب مشروع فكري يتوسل بالمسرح شعراً فيتخذه منبراً يتقنع خلفه فكره أو بالأحرى فكرته الأثيرة التي ما ينفك ينوّع في عرضها – لا استعراضها – ظاناً أنه قادر عن طريقه في الحصول على كسب تأييد قرّاء منتجه في الشعر المسرحي أو المسرح الشعري لطرحه الفكري الذي رابط حوله طوال مشواره مع المسرح منذ سبعينيات القرن العشرين بدءاً من مشاركته معي في تأسيس جمعية الدراما بالإسكندرية.
وهو كعادته في إثارة العواصف الفكرية التي يخلط فيها الشعر بالمسرح والسياسة والدين والفلسفة – من أجل جهد تنويري لحوح لم يثمر حتى الآن – ظهرت له سلسلة مقالات في جريدة (التجمع) حول ما أسماه (غياب المسرح الشعري في مصر) ، وقد ضمها إلى دراسة نقدية حول دراسات نظرية ونقدية للمسرح الشعري وقدم لها بثلاث مقدمات في كتاب صدر له أخيراً تحت عنوان (سوسيولوجيا المسرح الشعري في مصر) (2005) . وقد استوقفني طرح بندق الناقد وانتزعني انتزاعاً من خلوتي النقدية التفكيكية – بلغة نقاد ما بعد الحداثة – مع مسرحيته الشعرية الأخيرة (الشريفة بنت صاحب السبيل) (2001) مما اضطررت معه إلى وقفة اضطرارية لتفكيك مركزية طرحه الذي أدلى به كتابة عبر سلسلة المقالات المشار إليها – والمتضمنة في كتابه المذكور- والتي تغيب فيها المسرح الشعري المصري محمولاً على أسبابه التي حاول دعم زعمه بها وليته اغتابه فحسب ولم يغيّبه.
ومن المعلوم أن ظهور شيء ما يدل عليه وجود ذلك الشيء وجوداً مادياً بالمعاينة أو بالشواهد الصحيحة الثابتة المقبولة والمعترف بها.
أما غيابه فدليله عدم وجوده وجوداً مادياً ثابتاً للعيان. أما تغيبه فكامن في وجوده وجوداً سلبياً – وجوداً غير فاعل وغير متفاعل – ومن ثم منعدم الأثر لأسباب قد تكون نابعة من ذلك الشيء نفسه أو هي من خارجه أو من كليهما. من هنا فإن القول بغياب المسرح الشعري هو قول يحتاج إلى مراجعه.
هل المسرح الشعري في ثقافة العرب المعاصرين وليس المصريين فحسب هو فن أدبي غائب أم متغيب وهل هو فن مسرحي غائب أم هو فن متغيب عن العرض المسرحي؟! أم أن النقد المسرحي للنص المسرحي الشعري أو لعرضه هو الغائب أو المتغيب؟
لقد أثارت مقالات مهدي بندق المشار إليها عدداً من التساؤلات والقضايا كل منها يشكل لغماً فكرياً ونقدياً يجب أن يحرص على نزعه خبراء المفرقعات الفكرية النقدية والانتقادية وما أكثر الانتقاديين في الحقل المسرحي وغير المسرحي في مصر.
ومعلوم لأهل الاختصاص في ذلك الحقل أن المسرح يقود متلقيه إلى الحقيقة بما يصطنعه من المفاجآت وعناصر الإثارة بالتشويق والتوتر وآفاق التوقعات حتى يستحضر الماضي والمستقبل والمسكوت عنه في الحاضر المعيش ويبعّد القريب ويقرّب البعيد، ويحرك الضمائر مرة ويغيرها مرة. وأنه يسعى إلى تحقيق ذلك كله عبر طريق من طريقين طريق الخيال الفائق والموهم تحقيقاً للاكتمال الفني للنص وللعرض المسرحي . وسواء أكتب النص المسرحي شعراً أم كتب نثراً فإنه لا يفارق هذا الهدف أو ذاك ولا يسمى الإبداع إبداعاً ما لم ينشد الحقيقة الفنية ويقود إليها متسلحاً بكل العناصر التقنية التقليدية والمبتكرة سواء بسواء.
ذلك أن أديب المسرح وفنانه يحقق فرديته بالخبرة المكتسبة بينما يحقق تفرده بالاكتشاف. فالاكتسابات الفردية تتحقق بالموهبة والخبرة، على حين يتحقق التفرد عن طريق العلم الذي تتوج به الموهبة والخبرة نفسيهما.
وإذا كانت التنمية الثقافية والفنية أو المهنية بشكل عام من مهام النقد الأساسية في كل الحقول المعرفية على المستويين النظري والتطبيقي ؛ فلاشك أن ما وجهه الناقد مهدي للمسرح الشعري المصري من لطمات تأملية نقدية يستهدف دون أدنى شك استنهاض حمية الشعراء والنقاد والباحثين الدراميين من أجل تفعيل الإبداع وتلقيه ليلعب الدور المؤثر في تغيير أنماط الثقافة وأنساق الحياة إلى ما يحسن به المجتمع حياته المشتركة لا من أجل رد لطمة بندق النقدية أو الانتقادية إليه ولكن من أجل حماية خدودهم الوردية من لطمة التاريخ الأدبي والفني وهي لطمة أعنف وأقسى، فبندق بنقده ذاك إنما يحذر كل شاعر صعّر خديه تحت الأضواء لجمهور المسرح.
لكن فات بندق الناقد أن المسرح سواء أكتب بلغة صائتة بالشعر أو بالنثر أم بلغة الجسد الصامتة أو بلغة الصورة أم بلغة الإيقاعات التي تخلو من المعنى المباشر دون خلوها من الدلالة ، لا يتحقق ولا يكون مسرحاً دون ثلاثة أضلاع يتشكل منها معماره . فات بندق أن المسرح عرض يشكل النص أساسه المعماري – حالة اعتماده على لغة الصوت وسيلة تعبيرية اتصالية رئيسية – والعرض يقوم على فنون متعددة كالتمثيل والتشكيل والموسيقى والمؤثرات والإضاءة المسرحية وفنون الدعاية والتسويق والإنتاج والجمهور والنقاد –
فالمسرح شأنه شأن كل منتج ثقافي لا قيمة له دون نشره (رواجه أو تسويقه) هذا من ناحية الإنتاج المسرحي لا من ناحية إنتاج نص مسرح شعري. ذلك أن عملية إنتاج عمل أدبي خاصة عندما يكون مسرحية شعرية لا تتوقف على الشرط الذاتي الخاص بالشاعر المسرحي الخبير والمحترف أو الهاوي – وإنما لابد من توافق ذلك الشرط مع الشرط الموضوعي، إلاّ إذا كان ذلك الشاعر يعمل على إقحام الشعر بالمسرح أو المسرح بالشعر! وماذا عن استعداد الذوق الإنتاجي والذوق الجماهيري لتلقي المسرحية الشعرية نصاً أو عرضاً . وماذا عن الجهد النقدي الحقيقي؟ ألم يكن منفصلاً عن بيئته وعن عصره؟! وهنا نعاود التأكيد على أن قيمة الفكر وقيمة الإبداع في نشره لأنه ما أنتج إلاّ ليكون جسر اتصال تعبيري بين صاحبه ومجتمعه وعصره، خطط صاحبه لذلك أم لم يخطط! ولا غرو أن شروط فن من الفنون الأدبية أو الفنية زمانية كانت أم مكانية أم زمكانية هي شروط ذاتية من حيث إبداعها وموضوعية من حيث تلقيها. فللشعر شروطه الخاصة وللمسرح شروطه الخاصة وهي في ذات الوقت شروط عامة يتقيد بها هذا الفن أو ذاك، حتى مع تجاوز الشاعر أو الكاتب والفنان المسرحي للشروط الخاصة بحقل الفن الذي يعمل فيه، ويبدع من خلاله، فإنه يتقيد مع ذلك بشروط جديدة أو مبتكرة بديلة أو إضافية ولدت مع عمله الإبداعي المبتكر والتجريبي فلا إنتاج بلا شروط أو قيود. فهي قيود لا تأتي من خارج العملية الإبداعية في الأدب شعراً أو نثراً وفي الفن مسرحاً أو تشكيلاً أو موسيقى وإنما يستدعيها الإبداع نفسه لأن الإبداع نظام أيضاً طالما أنه مادة وشكل وتعبير وتلقٍ يستهدف التأثير.
وهنا يبرز سؤال أراه ضرورياً. إلى أي مدى يمكن اعتبار ما كتب بالشعر المسرحي مسرحاً ؟ وإلى أي حد تمكن الإنتاج الشعري المسرحي أو المسرحي الشعري من مزاوجة الشعر بالمسرح . فالشعر صورة ذهنية ومعنوية مسموعة بموسيقاها وإيقاعاتها تؤدى أداء فردياً بالإلقاء أو التوقيع أو التنغيم ، والمسرح صورة مرئية مسموعة حاضرة التلقي في زمن إرسالها المتعدد الوسائل وهو زمن تلقيها نفسه الذي يكون جماعياً. ولأن الصورة الشعرية – غالباً – ما تحتاج إلى زمنين لترجمتها : زمن الصورة الذهنية إلى الصورة المعنوية فإنها تشكل عقبة أمام الجمهور المتلقي لها في العرض المسرحي ، حيث تتخذ بعض الصور الشعرية في المسرح لباساً ذهنياً، يحتاج جمهور العرض المسرحي الذي يحضر مسرحية شعرية إلى زمنين حتى يصل إلى معنى الصورة، وليس إلى زمن واحد؛ هو الشرط الأساسي لتجسيد عملية الحضور المسرحي الذي هو الخاصية الرئيسية المشتركة بين العرض المسرحي وجمهوره المتلقي له، سواء عن طريق المعايشة الشعورية والوجدانية المتبادلة أو عن طريق الدهشة المدركة. فجمهور العرض المسرحي الشعري إذن مطالب أولاً في حل إزار الصورة الشعرية عن طريق الترجمة الذهنية وبذلك يستغرق الزمن الأول، ثم عليه أن يتبع حله لإزار الصورة الشعرية، بوقفة يتلمس فيها المعنى ويعايشه. وهنا يدخل في الزمن الثاني. وبذلك تفوته متابعة الحوار المناسب على ألسنة الشخصيات التي يجسدها ممثلو العرض وتغفل عينه عن رؤية الصور وحركة الممثلين والمناظر والضوء. وهنا نقف تمام الوقوف أمام الثالث المرفوع الذي حدثتنا عنه فلسفة أرسطو، (حيث الشيء لا يكون موجوداً وغير موجود في آن واحد) وإنما يكون موجوداً أو غير موجود في الآن الواحد والمكان الواحد. بمعنى أن وجود الشيء وعدم وجوده في وقت واحد ومكان واحد مرفوع عنه التصديق. على ما تقدم فإن استغراق جمهور المسرح في تعرية المعنى الذهني للصورة المسرحية أولاً ليتسنى له ثانياً ملامسة المعنى المباشر أو الظاهر ومداعبته عقلياً ووجدانياً يؤدي إلى ضياع الصورة التالية لها والمتتابعة؛ باعتبار أن الأداء التمثيلي أو المسرحي قولاً وحركة لن يتوقف حتى يفعل المتلقي المسرحي فعلته مع الصورة الذهنية المركبة أو المتدثرة في إزارها الشعري التخييلي.
وهذه المشكلة لا تظهر عند تلقي النص الشعري مسرحية كانت أم قصيدة عن طريق القراءة المنفردة، وإنما يظهرها الأداء الحي في العرض المسرحي الشعري، دون أن تقتصر على كتابة شاعر بعينه إذ أنها تعد ظاهرة أو مشكلة عامة في الكتابة للمسرح الشعري ، نجدها في قول الصوفية في بكائيتهم الدرامية الشعرية أمام الحلاج المصلوب في مسرحية صلاح عبد الصبور :
" كان يقول :
إذا غسلت بالدماء هامتي وأغصني
فقد توضأت وضوء الأنبياء
كان يريد أن يعود إلى السماء
كأنه طفل سماوي شريد
قد ضلّ عن أبيه في متاهة المساء
كان يقول :
كأن من يقتلني محقق مشيئتي
ومنفذ إرادة الرحمان
لأنه يصوغ من تراب رجل فانٍ
أسطورة وحكمة وفكرة "
ومثل تلك الصورة الشعرية الكثير عند كل شعراء المسرح العالمي أو العربي ذلك أن الصورة الفنية الشعرية هي مرادف للتعريف المجازي أو الاستعاري، أي أنها شكل من أشكال التشبيه والتورية أو الكناية أو الاستعارة بأنواعها.
ومثال ذلك كثير في مسرح مهدي بندق الشعري ، خاصة وأنه مسرح مواجهة يلعب فيها الفكر الدور الأول وتظهر فيه تقنية المسكوت عنه ، وهو دوماً محل تفسير المتلقي، عن طريق استنجاده بالإحالات المعرفية، تمييزاً بين رواسب الثقافة التراثية وما يلتمع منها ببصيص ضوء حداثي لا يؤمن بمعنى أوحد للنص، بل يراه في معانيه المتعددة. وليس هذا فحسب بل يتخطى فكر الحداثة ذاك إلى ما بعده لينفي عن النص تمام المعنى بكشفه عما سكت عنه وينفي النسقية ومركزية الخطاب:
" فيم اندفاعك مثل هذي الريح يا بنت السبيل؟
وكأن هذا الكون منذور لما أنت اشتهيت ؟!
وكأنك الأحلامُ تنشر عطرها في كل واد
حلمُ المحبة كرمةٌ ، والخيرُ نخلٌ ،
والمحبة أقحوان يبتسم.
هلا أفقتِ الآن مثل الريح في يدها الهباء
لن تركلي كل الطغاة عن العروش بما حَلُمتِ
حتى إذا رسمت عيونك وردة ترنو إلى حضن يضم
لرأيت طاغية جديداً غارسا فيك القتاد
إنها يا أخت أبدان تسلت الرغام
وأسلمت للذل أمراس القياد
فتشيها .. لن تخرجي من جيبها
إلاّ قناعاً أو نقاباً أو حجاباً
إنها يا أخت جبّ قد غدونا في حناياه ذئاباً
فاردميه والحقينا بثمود أو بعاد
لا تحلمي بالغوث حين يكون مشروطاً بغمض العين عن شرٍ يُراد
واتبعيني نحو مملكة الجماد
اتبعيني نحو مملكة الجماد "
إن المتحدث هنا ليس إلاّ الشخصية القناع ، تلك التي تحمل خطاب الكاتب أو الشاعر، وهو هنا خطاب سياسة، خطاب موقف، خطاب محمول على تيار الوعي، وهو هنا وعي المؤلف متقنعاً خلف الشخصية، ولأنه رسم في صورة شعرية، فقد خفتت حدة المباشرة إلى حد كبير. غير أن الفكرة الرئيسية التي تصلنا عبر الترجمة المعنوية تكشف عن موقف تنويري يعكس ملتبسات التوجه العام للعامة في غيبة مقصودة من الحاكم الذي غرق في وحل ذاته، ومن ثم فالخطاب في هذه المناجاة التحريضية للغير وليس لذات المتناجي – ولا أقول المونولوج – لأن التناجي هو نتيجة المعاناة إذ يكشف عن حالة يأس المتحدث ، وهي نتيجة صراع بين العقل والمشاعر أي أنها استحالت من تقنية المونولوج إلى تقنية المناجاة لأنها لا تصور صراع العقل مع المشاعر داخل الشخصية الواحدة نفسها بل تعطينا نتيجة صراع داخلي قد انتهى وأدى إلى موقف تتخذه الشخصية . ونلاحظ ما في هذه المناجاة من صور تحتاج إلى تأمل يترجمها من حالة الذهنية إلى ترجمة معنوية. وهو ما يستغرق من المتلقي زمنين لا زمناً واحداً. وهذا يشكل ما يمكن أن أطلق عليه السكتة الاتصالية المعنوية لا الجمالية أو ما اصطلحتُ على تسميته بالثالث المرفوع في المسرح الشعري لأن التعبير باعث على الابتهاج – هنا - حتى مع خفوت أصوات المعاني الفرعية ذلك أن فن المسرح هو فن الحضور المتفاعل بالمعايشة المعنوية والجمالية أو بالإدراك المتفاعل عن طريق التغريب عند بريشت وعند المسرح الشرطي (لمايرهولد) حيث التفاعل الإدراكي يكون شرطاً من شروط الحضور المسرحي الذي يتخذ التلقي بوساطته موقفاً اجتماعياً وجمالياً أيضاً. لقد مر النص المسرحي المصري بمراحل متباينة من التعبير النثري ومن التعبير الشعري فكان شوقي وكان صلاح عبد الصبور ومهران السيد والشرقاوي وجويده وداود وسويلم وأبو سنة إلى جانب من تمثل مسرحه بلغة النثر. كذلك مر المسرح السكندري من حيث النصوص بمراحل متباينة ما بين التوسل إلى الفكرة بالتعبير النثري بالفصحى أو بالعامية، وبالتعبير الشعري الفصيح أو العامي فكان التعبير الشعري الدرامي لبيرم عامي اللهجة فصيح التعبير، بليغه ، وكان التعبير الشعري الدرامي للشاعر أحمد السمره في مسرحيتيه (ساق من ذهب) و (رئبال) وكان التعبير الشعري للشاعر المسرحي الناقد مهدي بندق تعبيراً شعرياً درامياً فصيح اللغة والفكر والجماليات فصيح المشاعر أيضاً!! وجاء تعبير شخصيات أبي الحسن سلام *شعراً مسرحياً فصيحاً أوعامياً في المشاعر والفكر والبيئة. أما تعبير أنور جعفر فكان نثرياً فصيحاً وعامي التعبير الشعوري بما يناسب البيئة – غالباً – باستثناء مسرحيتة (ماسار) حيث الصراع ينحو إلى الركود في الكثير من خطه الدرامي ، وكان تعبير السيد حافظ درامياً نثرياً محاطاً ببعض الفضول – خاصة في بدايات نصوصه – وإن كان قد كتب عدداً من مسرحيات الطفل بنهج تنويري سلس . أما دربالة فمسرحه اجتماعي سياسي في باطنه، وتشكل أعماله مشروعاً مسرحياً اجتماعياً ويتبقى أن أقول إن لكل منهم مشروعاً مسرحياً يتوشح بالتاريخ ويسقطه على الواقع المعيش. فمهدي يتخذ من الواقع المصري القديم والوسيط والحديث وتاريخه ما يسقطه إسقاطاً تنويرياً أو تثويرياً على واقعنا المعيش: ( هل أنت الملك تيتي – مقتل هيباشيا الجميلة – آخر أيام إخناتون- حتشبسوت بدرجة الصفر – بسماتيك .. وبسماتيك – الشريفة بنت صاحب السبيل – غيط العنب 82 – ليلة زفاف إلكترا – ريم على الدم – السلطانة هند – غيلان الدمشقي)
ومع كل تقديرنا لجهود شعراء المسرح المصري الحديث في إرساء قواعد المسرحية الشعرية الحديثة وتقديرنا لجهود نقادنا الكبار من الرواد في تقويم تجارب رواد المسرح الشعري في مصر، والذين أثر غيابهم الجبري بالرحيل عن عالمنا سلباً بانطفاء جذوة التأليف للمسرح الشعري وحميمية تلقيه جماهيرياً ونقدياً لتغييب الذائقة الجمالية والحنين الرومنسي لدى جمهور المثقفين بغيبة الطبقة الوسطى ولتغيب الفكر النقدي والموضوعية والخبرة لدى قطيع النقد واستحواز نفر غير جاد من هواة النقد على أعمدة الصحف المخصصة للنقد الأدبي والفني، ولسيادة العروض المناسباتية والمهرجاناتية واستحوازها على فلسفة الإدارة الثقافية والفنية في المسرح والسينما بل في كل مجالات الثقافة في مصر، وربما لا نبالغ إذا قلنا في البلاد العربية مما ترتب عليه تعطيل عملية التجويد الفني والإبداعي وتهميش الخبرات إلى جانب جمود مخيلة بعض الخبرات في جيل الريادة المسرحية عند الخمسينيات والستينيات وترك الحبل على غاربه لشباب هواة المسرح الذين يحق أن يوصفوا بشباب (مسرح كليب) لتأسس عروضهم على صور متجاورة لا رابط فكري لها.
كل تلك العوامل لا شك تغيّب المسرحية الشعرية عن الولادة بل عن إثبات الهوية على خشبة المسرح بالنسبة للعديد من المسرحيات التي كتبت قسراً بلغة الشعر .
حوارية القطع (1)
حول الطرح الرئيسي لقضية غياب المسرح الشعري في مصر بزعم غياب من هو ند الآلهة – حسبما رأى الناقد الشاعر مهدي بندق – وحول تشككه فيما إذا ما كان المصريون القدماء قد أنتجوا أدباً مسرحياً غير شعري؟!
وحول الأسباب التي حمل عليها رأيه ذاك، إذ رأى أن المصريين القدماء كانوا منمطين مع أنهم عاشوا حالة الاستقرار المدني على عكس اليهود الذين منعهم انكفاؤهم على ذاتهم (الجيتو) من القدرة على إنتاج مسرح شعري ، وكأنهم قد أنتجوا في القدم مسرحاً على الإطلاق!!
فهو يرى – فيما زعم - أن سبب امتناع الفنان المصري القديم عن إبداع مسرحية شعرية هو أن المصريين القدماء شكلوا نمطاً مذعناً للملك الإله والملك نصف الإله. هذا هو السبب الأول – في رأيه – الذي حال بين الفنان الفرعوني وفن المسرح الشعري.
أما السبب الثاني – في رأيه – فهو يسحبه على كل القدماء من الأمم التي تقاعست عن إنتاج المسرحية الشعرية. حيث اشترط الأستاذ بندق على من يتصدى لكتابة مسرحية شعرية سواء في العصور الغابرة أو الوسيطة والناهضة أوالحديثة والمعاصرة أن يكون قادراً على مواجهتها وإدارة الحوار معها أي أنه يشترط أو يوجب على من تسول له نفسه بكتابة مسرحية شعرية أن يكون (كليماً للآلهة). وليس هذا فحسب؛ بل يرتب على ذلك الشرط المبدئي جواباً، إذ من المنطقي والمقبول عقلاً أن الحوار لا يتحقق إلاّ بقدرة طرفي الحوار بادئ ذي بدء على الكلام . لذلك يقول الأستاذ بندق : (إذا كان للآلهة أن تتكلم فعليها أيضاً أن تستمع إلى كلمة الإنسان) هو إذاً يشترط إلى جانب الندية قبول الإله للآخر (الإنسان: الشاعر المسرحي الذي هو ندٌ له) أي أنه يريد إلهاً ديمقراطياً – ولو كان ذلك قد تحقق فهل كان من الممكن وجود نظام كوني أو شكل واحد للوجود؟! في ظني أن الأستاذ بندق يريد إلهاً عولمياً !!
هو إذن يرى أن المسرح الشعري هو الطريق الوحيد لحوارية الإنسان مع الآلهة (ولم ينس أن يشترط مقدرة الآلهة - الطرف الثاني في الحوارية – على الكلام وعلى الإنصات للإنسان الذي هو ند له – الشاعر المسرحي-)
وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل معنى ذلك أن كل من كتب مسرحية شعرية كان نداً للإله؟ أو بمعنى آخر هل كان كليم الله ؟! وبمعنى أكثر اقتراباً أو مباشرة: هل شوقي وصلاح عبد الصبور والشرقاوي وعزيز أباظه ومحمد مهران السيد وأنس داود وأحمد سويلم وأبو سنه ومهدي بندق نفسه بالإضافة إلى عشر شعراء آخرين في مصر كتبوا المسرحية الشعرية هل كانوا أنداداً للآلهة – أقصد للإله باعتبارهم عاصروا الوحدانية – حتى يمكن أن ينعم عليهم الناقد بلقب شاعر مسرحي؟! أم هو يراهم – فيما عداه طبعاً- ليسوا من مبدعي المسرحية الشعرية؟!
لكن الشرط الأكثر غرابة من جملة الشروط كان شرطاً أخيراً استنه الناقد المفكر بندق لمن تسول له نفسه أن يقترب من حقل المسرحية الشعرية فهو يشترط على الشاعر المسرحي لكي يكون نداً للآلهة أن يموت وهو يعلل ذلك بقوله : "لأن الموت هو التجربة الإنسانية العظمى التي ترفع الإنسان إلى مرتبة يكون فيها نداً للآلهة" أي أنه يستوجب موت الشاعر أولاً حتى يصبح نداً للآلهة !! وعند ذلك يحوز على لقب الشاعر المسرحي !! ولا أدري أية آلهة؟! ففي عصرنا لا توجد آلهة * فالشاعر المسرحي إذن هو الوحيد الذي يتمكن من أن يقف نداً للإله – كما وقف إبليس في التراث الديني مواجهاً للرب- غير أن الشاعر يجب أن يموت أولاً حتى يصبح نداًَ للإله . وهنا نتساءل هل هو الموت الميتافيزيقي أم هو الموت الفيزيقي؟! أظن أن الأستاذ بندق قد قصد الموت الميتافيزيقي باعتبار أن فكرة الآلهة هي فكرة ميتافيزيقية. وهنا يصبح من المنطق أن يحادث الميتافيزيقي ميتافيزيقياً ( فكلاهما في الميتافيزيقا شرق) ومع وجهة النظر تلك – إن صحت – أو صح حدسي بأن المفكر الشاعر مهدي بندق قد قصد إليها ؛ فإن كلا المتحاورين (الإله والشاعر المسرحي) هما في جميع الأحوال لابد وأن يكونا كائنين ماديين، إلاّ إذا استنسخ من (كليم الله) - في الرؤيا- ذلك الشاعر المسرحي المزعوم أو كل الشعراء المسرحيين – المقترحين بتصور مهدي بندق – فبغير ذلك – لا تعترف الثقافة الدينية التراثية العالمية أو هي لم تعرف بشراً غير (موسى – طفل الماء في اللغة المصرية القديمة- تحاور مع الله عن بعد ( الإله في السماء وموسى على جبل في طور سيناء وبينهما صواعق نارية إمعاناً في الرهبة وفي القداسة) وهذا ما سقط من تصور بندق لحوارية الشاعر المسرحي مع الإله!
ولعل تصور بندق يكون قريباً من فكرة (التوابع والزوابع) – مع الاعتذار لابن شهيد الأندلسي- أو هي ربما قريبة من فكرة (وادي عبقر) حيث يحاور الشاعر شيطانه الذي يلهمه عن طريق تلك المحاورة أو (حلم اليقظة المطوّل) بالقصيدة وراء الأخرى. فإذا كان ظني كذلك فإن فكرة الإلهام التي قال بها أفلاطون قديماً تكون قد بعثت أو أراد لها المفكر والناقد مهدي بندق أن تبعث في عصر الميديا.
ولا ندري على وجه اليقين - على فرضية وجود ند للإله - هل يتحادثان شعراً أم نثراً!!
على إننا وإحقاقاً للحق وتأكيداً للمصداقية في عملية نقد النقد نسجل للناقد بندق أنه قد تزحزح قليلاً عن رأيه السابق وفي كتابه نفسه إذ رأى في الإمكان أن يتحدث المسرح غير الشعري مع الإله شريطة أن تكون للإله قدرة على الكلام. ليس هذا فحسب بل مع وجوب استماعه لمكلمه. وبذلك يجوز حديثهما في المسرحية النثرية وفي (مسرح الصورة وفي مسرح الجسد والسرد التشكيلي) حيث رأى أن الندية "تجد تعبيرها الأمثل في المسرح الشعري"
ولاشك عندي في أن (نظرية الحلول) كان لها أثر في طرح بندق لفكرة ندية الشاعر المسرحي بوصفه صاحب التعبير الأمثل من ناحية وللناثر المسرحي والمصور المسرحي (تأليفاً مسرحياً) كذلك. يقول بندق في مقاله:
"إن ذلك الذي يطرحه تأكيد على أنه يعيش حقاً لأنه يضع نفسه نتيجة لطرحه هذا حالة (الشاعر المسرحي الذي هو ند للإله) وذلك لعمري قريب من أصحاب نظرية الحلول الصوفية ؛ المتمثلة في قول الحلاج محادثاً ربه:
" أنا أنت وأنت أنا نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا "
ذلك القول الذي وضع الحلاج على شفا حفرة من الخطر، وهي الحال التي ينتصح بها مهدي متبعاً قول نيتشه لكل من يسعى إلى اللذة: (اللذة هي الابنة الشرعية للخطر) وقوله: (إذا أردتم أن تعيشوا فعيشوا في خطر) يقول الشاعر بندق في مقاربة فكرية من موقف الحلاج الحلولي المتلذذ بوضع نفسه على حافة الخطر:
" ولأن اللذة هي الابنة الشرعية للخطر، فإن الأخطار الروحية والسياسية الناجمة عن مثل هذا التفكير لخليقة بخلق الفن الحقيقي"
ويبدو لي أن المفكر الشاعر مهدي بندق تواق إلى الشهادة مثلما تاق إليها الحلاج ونالها. يقول الحلاج في مسرحية صلاح عبد الصبور على ألسنة الصوفية الذين ينعونه:
" كان يقول:
إن من يقتلني سيدخل الجنان
لأنه بسيفه أتم الدورة
لأنه أغاث بالدماء إذ نخس الوريد
شجيرة جديبة زرعتها بلفظي العقيم
فدبت الحياة فيها . طالت الأغصان
مثمرة تكون في مجاعة الزمان
خضراء تعطي دون موعد ، بلا أوان "
" هل نحرم العالم من شهيد "
ومهدي بندق يرتب على ذلك التوق إلى حياة الخطر التي صنعت منه الشاعر المسرحي و(الند الإلهي) غياب المسرح الشعري عند المصريين الفراعنة؛ لأنهم في نظره لم يواجهوا في تاريخهم الطويل مثل هذه التجربة الروحية والفكرية ، فهم لم يعانوا معاناة روحية ، بل كانت معاناتهم جسدية : " لذلك عاشوا كأنماط لا يحيون، ويموتون في النهاية موتهم الفيزيقي ، والأسوأ أنهم يموتون أثناء العيش موتاً فلسفياً "
ولو كان الفراعنة قد ماتوا موتاً فلسفياً في حياتهم – كما زعم الأستاذ بندق فلم شيّدت الأهرامات والمعابد الشوامخ ولماذا التحنيط؟ ولماذا أبدع الفنان المصري القديم مثله الأعلى في فن النحت؟ ألم يكن فن النحت المصري وليد معاناة الفنان المصري القديم؟! فإذا كانت التماثيل والمنحوتات منتشرة في كل بقعة من بقاع وادي النيل العظيم أفلا يدل ذلك على أن عدد الفنانين المصريين القدماء كان من الكثرة بمكان وأن إنتاجهم وإبداعاتهم الفنية النحتية كثيفة؟ وأنهم عاشوا حياة الحرية؟ وهل يبدع الفنان إذا كان سجين النمط الحياتي أو الفكري أو السياسي؟ أليس الفن هو المعادل الموضوعي للحرية؟ أليست الحرية قرينة الفن ما أن تظهر يظهر الفن توأماً لها ؟!
ومن قال إن حياة الخطر والابتهاج الذاتي أو اللذة تنتج الشاعر المسرحي فحسب كما لو كانت (حضّانة الإبداع) ومن قال إن فن النحت ليس منظومة شعرية تجسد مونولوج الذات في تمثال واحد وديالوج الذات والذات المعارضة في التكوين الأسري الذي يجسده تمثال الفرعون وعند قدميه يقبع أفراد أسرته ؟! إن من يرى النحت المعلق في سقف معبد ("حتحور- بدندرة في قنا)؛ يرى أندر دراما نحتية على جدرانه الخارجية ، وفي ردهاتها وحجراته الداخلية .. تلك التحفة الفنية الفريدة والعبقرية حيث كل سنتيمتر واحد من أعمدته يسجل عنصراً أو تكويناً درامياً بعناصر النقش البارز على أعمدة الجانب الشرقي من الردهة الرئيسية تشخيصاً للحياة الدنيا الذي يسجل فكرة الميلاد وفكرة الغياب الأبدي إبداعاً درامياً سيريالياً.
وبعناصر النقش الغائر على أعمدتها في الجانب الغربي تشخيصاً للحياة الآخرة. وفي غرفة الميلاد بالطابق العلوي في السقف لوحة مستنسخة يرى الناظر المتطلع إليها الشمس - نطفة الميلاد - تتسلل أشعتها من فم "حتحور" في تكوينها الجسدي الذي ينحني على شكل حرف (ل) في رسمه العربي لتخرج من رحمها وليدها الشعاع (أوزوريس) والإبداع كل الإبداع في تكوين الجنين في رحمها.. فلا فرق على الإطلاق بين صورته التي نعرفها الآن وصورته المنقوشة في تلك اللوحة النحتية الدرامية. والأكثر غرابة هو أن النظر إلى الجنين في تلك اللوحة * التي تتوج سقف غرفة الميلاد في معبد (دندرة/حتحور) يعطيك من كل اتجاه تنظر إليه شكلاً جديداً ذا دلالة مختلفة وبذلك أنت تنظر إلى أربع لوحات في لوحة واحدة مع تنقلك حولها من كل جوانبها.
إن من يتأمل هذا الأثر النحتي الدرامي العبقري ، إن من ينظر متأملاً تمثال رمسيس الثاني في معبد الكرنك وكلتا يديه (يمين) حيث يتجه كفاه في ناحية واحدة ، الكف اليمنى في اتجاه فخذه اليمنى وظهر كفه اليسرى في اتجاه فخذه اليسرى . سيجد ذلك التكوين مغايراً لطبيعة اتجاه كف الإنسان ، - ولا شك أن مثل ذلك التصوير متفرد وفكرة القداسة تنبع من التفرد الذي يحتم المغايرة في شكل الاتصال وفي دلالته وقيمته. ألا يكون الفنان الذي أبدع ذلك التمثال متمرداً على الطبيعة ليس هذا فحسب بل هو متماس مع الحديث القدسي الذي يصف الله في التراث الإسلامي بأن (كلتا يديه يمين) .
أظن أن الذي رأى مثل ذلك الإبداع سوف يتريث كثيراً ويتردد في قبول ما طرحه الأستاذ مهدي حيث رأى أن المصريين لم يواجهوا في تاريخهم الطويل مثل هذه التجربة الروحية والفكرية ، ومن ثم نفى عنهم المعاناة الروحية التي افترضها شرطاً لإبداع المسرح الشعري ، ووصفهم بأنهم "عاشوا كأنماط لا يحيون ويموتون في النهاية موتهم الفيزيقي " كما اتهمهم بأنهم يموتون في أثناء العيش موتاً فلسفياً " لو كان الفراعنة قد ماتوا موتاً فلسفياً في حياتهم . لقد شيدوا من الأهرامات ما يربو على المائة هرم ؟ كما كان التحنيط مدفوعاً بفكرة الخلود التي كان مقابلها عند اليونان وعند الهنود فكرة الاستنساخ ؟ وكلاهما فكرتان فلسفيتان ، صنعت الأولى أمة أحيتها فكرة، كما أحيت اليونان فكرة ؟!
لقد كان فن النحت المصري وليد معاناة الفنان المصري القديم؟ وكانت التماثيل والمنحوتات المنتشرة في كل بقعة من بقاع الوادي العظيم وليدة معاناة واستشعار للذة الخطر في عالم ما بعد الموت الفيزيقي؛ أفلا يدل ذلك على أن عدد الفنانين المصريين القدماء قد كان من الكثرة بمكان ؟ وهل يجب أن يكون الشعر والدراما في اللغة المكتوبة والمنطوقة فحسب ؟ أليس الشعر صوراً وتخييلاً وموسيقى وإيقاعات مسموعة بعضها محمول على صوت فردي وبعضها محمول على أصوات متعددة ، وفي حالة من الحضور المتضاد في إطار وحدة ؟ فهل إذا نظر ناظر متأمل إلى أحد تماثيل المصري القديم ألا يجد الصورة والتخييل ويستشعر الموسيقى والإيقاعات رؤية وإنصاتاً وسكوناً وضوءاً وظلالاً وبروزاً وغوراً وتجريداً وتجسيماً ملموساً ومتنوعاً ما بين الخشونة والنعومة ، ما بين الحدة والانسيابية ، وهل الشعر سوى ذلك؟!
يقول شوبنهاور : " كل الفنون تطمح إلى أن تكون موسيقية "
وبعد كل ما قدمته من أراء في حوارية القطع أنتقل إلى حوارية الوصل .
حوارية الوصل (1)
وللوصل مع أراء الشاعر المسرحي والناقد مهدي بندق فإني أتفق معه على أن الشاعر المسرحي المصري القديم لم يطمح إلى أن يكون نداً للإله أو الآلهة – ولمهدي بندق أن يرفض كل إثبات علمي بأنه كانت للمصريين عروض مسرحية ، وله أن يهمشها إن رأى رأي القائلين بأنها لم تزد عن كونها عروضاً طقسية مرتبطة بشعيرة دينية احتفالية بالإله أوزيريس – لكن هل حاول أن يحلل نصاً من تلك النصوص قياساً على القواعد الأرسطية – تجاوزاً مع أنها تسبق تجربة اليونان المسرحية بنحو ألفي عام – ليرى هل هي دراما أم مجرد عبث هواه !!
ولو كان لمهدي أن يرى بعد ذلك كله – أن المصري القديم عاش وهو الميت موتاًَ فلسفياً فلماذا أجهد نفسه بكتابة سلسلة من المسرحيات الشعرية عن نماذج فلسفية نابضة في تاريخ ملوك الفراعنة وأناسها البسطاء في مسرحياته : (هل أنت الملك تيتي؟ ) ( آخر أيام أخناتون) ( حتشبسوت بدرجة الصفر) (بسماتيك .. و بسماتيك). ألا يناقض بذلك نفسه ؟ ألا يهدم مشروعه الفكري التنويري ؟ أم إنه يقول في مسرحياته شيئاً ويقول عكسه تماماً في نقده ؟!
لست أظن أن مفكراً أو ناقداً يمكنه أن ينكر على الفنان النحات المصري القديم أنه كان – وفق مصطلح بندق الأثير – (نداً للآلهة) بما أنشأ من العدم : منحوتات درامية شعرية في صور تكوينية لا حصر لها ؛ فكان بذلك يدير حواراً مرئياً مع الآلهة ؛ نظراً لمعاناة فلسفية واستشعار لخطر آت لاريب فيه في عالم سيرحل إليه رغماً عنه.
ولست أظن كذلك أن مهدي بندق ينكر أن لكل أمة أساليبها الإبداعية المجسدة لمثلها العليا. لقد كان المثل الأعلى لليوناني القديم هو النظر إلى الآلهة على أنها الآخر المتعالي ومع ذلك كانت نظرته إلى ذلك المتعالي أو (الأنا الكلية العليا) نظرة الند للند . لذلك حاوره محاوره كلامية كرفيق خيالي متعالٍ عبر كتاباته الفكرية والأدبية ، وحاوره محاورة كلامية بوساطة الشعر المسرحي كما هو معلوم في نصوص شعرائهم الكبار. وكان المثل الأعلى للمصري القديم هو النظر إلى الآخر المتعالي نظرة الند للند لذلك حاوره محاورة غير كلامية بوساطة المنحوتات الدرامية وعمارة الخلود ، لعلمه بأن ليس لآلهته مقدرة على المباشرة الكلامية . ثم من قال إن الحوار مقصور على لغة الكلام؟! هل إذا شاهدت (باليه بحيرة البجع أو كسارة البندق) لتشايكوفسكي أو (جاينيه) لخاتشادوريان هل ترى الصورة غير شعرية ؟ إنها مسرح شعري بلغة غير كلامية هي لغة الحركة بموسيقاها الداخلية وإيقاعاتها جنباً إلى جنب مع الموسيقا الأوركسترالية . أليس المسرح هو فن الفعل ؟ وهل لغة الكلام غير أداة للفعل الاتصالي؟ كذلك لغة الجسد ولغة الصورة بوصفها المعادل التشكيلي والتعبيري للحدث في الدراما المسرحية ، هي لغة فعل اتصالي ممتع ومقنع فمؤثر. ومن الذي يجزم بأن مبدع تلك العروض الراقصة لم يعش حياة الخطر ولم ينتش بلذة عذاب الروح ؟ ومن الذي يستطيع الجزم بأن النحات المصري القديم مثله مثل الشاعر الفرعوني لم يعش حياة الخطر وعذابات الروح؟ إن كل فنان حقيقي يعيش على شفا حفرة من الخطر ويتلذذ بعذاب الروح ويعاني معاناة فلسفية ، حتى ولو كان ذلك عبر اللاوعي. فكل تجربة إبداعية حقيقية (زمنية أو مكانية) هي رحلة معاناة والتذاذ بعذابات الروح ، فما لم يتلذذ المبدع في أثناء التفكير في مشروع إبداعه وفي عملية الخلق فلن يخرج للعالم إنتاجاً تلتذ له أرواح المتلقين ، ومن ثم يسقط من قاطرة تاريخ الإبداع الإنساني العالمي .
لاشك أن صور الصراع في نصوص المسرح المصري القديم كانت بين الآلهة بعضها بعضاً . وهذا ما يبعد الإنسان – في التعبير الدرامي المصري القديم – عن أن يقف في مواجهة مباشرة مع الآلهة . – هذا مخصوص بالإنسان العادي – حتى وإن مددنا حبل الاتصال بين فكر الإنسان المصري العادي القديم وفكره عبر العصور المتتالية ورموزها وصولاً إلى فكر إنساننا المصري المعاصر – فربما لن نجد تلك الندّية التي تحيّر في البحث عنها الأستاذ بندق أبداً .
إننا لا نتكلم عن المصري العادي وإنما نتكلم عن الفنان الشاعر المبدع . إن كل عملية خلق أدبي أو فني حقيقية تعكس تلك الندية التي افتقدها الناقد المفكر مهدي بندق عند الشعراء المصريين والفنانين الفراعنة – فهو عندما يقف أمام (موناليزا) دافينشي فيراها من كل الزوايا التي يقف فيها تنظر إليه مبتسمة مثلما هو ينظر إليها . أي يقوم بينه وبينها حوار بالنظرات فإن روحه تهتف (الله!! ما أبدع هذا) وبالمثل عندما يقف أسفل لوحة الميلاد في معبد (حتحور / دندرة) فيرى رؤى ذات دلالات مختلفة في زوايا وقوفه المتعددة . وسيجد روحه تهتف (الله !! ما أبدع هذا !) وسيفعل ذلك لو وقف أمام تمثال رمسيس وزوجه وولديه عند قدميه في غير نسبة ولا تناسب من حيث المضمون الاجتماعي والمنظور التقديسي مع تقدير فني وهندسي دقيق للنسبة والتناسب في التكوين والشكل الجمالي. ولاشك أن لذلك المضمون دلالاته في تراتبية الأسرة المصرية القديمة وهو أمر لا يبتعد عن التصوير الدرامي لكن عن طريق فن النحت وهو فن غير كلامي.
ثم أليس في دراما الفلاح الفصيح (باطوم) بمواجهته الصدامية المباشرة للحكام والولاة تلك التي وقف بها أمام الفرعون الإله ما يفض حيرة المفكر التفكيكي مهدي بندق المحوّمة حول فكرة المسرح الشعري في مصر – تحديداً – بحوّامة استقرائية مشرعة القلم ، والكاميرا ؛ ليسجل عليها حالة الغياب في كشف الحضور النقدي !!
لا أشك في أن الأستاذ بندق حينما طرح كل تلك القضايا قد أراد أن يلقي بعدد من الأحجار في بركة الحركة الفكرية والنقدية الراكدة . ولا أظن أنه قد استهدف طرح شعارات مجردة ، فهو خير من يعرف أن كل تحديد للمعنى يؤدي كما قال (إيسر) " إلى تجربة شديدة الفردية لذلك المعنى . ولأن كل ما يفكر فيه المرء هو جزء من عالمه الذهني" ؛ لذلك أرجح أن يكون طرحه هذا طرحاً يستهدف إدارة جدل حول ذلك الذي طرحه . من هذا المنطلق أدير معه المسائل التي تعرض لها بصورة قاطعة وحادة بما رأيت عدم توافقه مع منهج الجدل المادي والتاريخي الذي آمن به وربما ما يزال به مؤمن .
حوارية القطع (2)
ويستوقفني من جملة ما طرح من أحكام في قوله الذي يمهد به لرأيه حول تمرد (أنتيجوني) في مسرحية سوفوكليس الخالدة إذ يقول: " بين التقديس والتمرد ولدت النزعة الدرامية تعبيراً عن الصراع الكامن بين طبيعة الفرد وثقافة الجماعة " وهو يؤسس على ذلك الرأي – على صحته – فكرة تمرد (أنتيجوني) منفردة على المقدس الذي هو في نظره ثقافة الجماعة أي المجتمع في (طيبة) وحقيقة الأمر – عندي – إنها لم تتمرد على ثقافة الجماعة ولكن الذي تمرد على المقدس هو كريون الذي فرض قانوناً مغايراً لقانون البشر وثقافتهم الإنسانية التي تعتبر دفن الميت حرمة وقداسة ما بعدها قداسة. فكريون انفرد بفرض مغايرة ؛ تمرد فيها على قانون البشر في التعامل مع موتاهم. فكان بذلك الفعل الخارج على ثقافة الجماعة محركاً للصراع . إذن لم تكن أنتيجوني خارجة على ثقافة الجماعة.
ولا أدري كيف يرى مهدي بندق أن قانون المدينة في مسرحية أنتيجوني لسوفوكليس حرّم إقامة شعائر دفن الميت الذي استعدى الأغراب في حياته ضد وطنه !! فلو كان صحيحاً فلما وقف كبير الكهنة (تريزياس) ضد قرار كريون بعدم دفن جثة بولينكس ابن أوديب ولما وقف ابن كريون نفسه (هايمون) ضد قرار والده؟ ولما وقفت مجموعة الكورس وهي المعبرة عن الرأي العام ضد قرار كريون ؟! إنه قانون كريون الحاكم الفرد وليس قانون المدينة ؛ فلقد كان هناك رأي عام معارض وقوي ضد قرار كريون بتحريم دفن ابن أوديب ، وقانون الحاكم ليس قانون المدينة ذلك أن القرار لم يصدر عن مجمع كبار الناس في أمة اليونان ؛ فالقول بأن تحريم دفن ميت هو قانون المدينة شبيه بالقول الرسمي في مصر الآن بأن قانون الطوارئ هو قانون المدينة وليس قانون الحاكم المتسلط ؛ الدولة ليست هي الحاكم وليست هي النخبة الحاكمة.
ترى لو أن عربياً دخل العراق وقاوم الغزاة والمحتلين الأمريكيين والبريطانيين واستشهد فقرر المجلس العراقي (العميل) الذي يحكم العراق الآن عدم دفن جثته ، هل يكون ذلك قانون المدينة. وهل المدينة سوى شعب وحاكم ودستور وقوانين تنظم العلاقة بينهما على نحو يحقق العدالة والأمن والحريات، فأين المدينة مما هو حاصل في العراق أو في فلسطين ؟! المسألة بالنسبة لأنتيجوني ماثلة في أن رأس الأسرة الحاكمة كريون حرم دفن أحد الأخوين الشقيقين لأنتيجوني وهو المستعين بجند أجانب ضد أخيه الذي سقطت شرعية حكمه للبلاد بانتهاء فترته التي اتفق عليها مع أخيه بعلم النخبة الحاكمة سياسياً ودينياً. أي باتفاق أقرته المدينة. وهو قانون . وكان عليه تسليم الحكم لأخيه ولكن امتناعه أدى إلى قتال بينهما – على عادة القدماء : قائد جيش ينازل قائد الجيش المضاد والنصر لمن يقتل خصمه – غير أنهما قتل كل منهما الآخر – ومع أن المدينة كانت منوطة بالحرص على تنفيذ قرارها السابق وتسليم الحكم لبولينكس دون أن تلجأه إلى استعانة أجنبية في الحصول على حقه. غير أن المدينة لم تقم بواجبها في حفظ تعهداتها – وهذا ما يذكرنا بحال العرب مع العراق والكويت قبل حروب الخليج وبعدها – وإنما تركت الأمر للحاكم الفرد كريون الذي ناصر مغتصب حق أخيه في تبادل السلطة وتدويرها فناصر الأخ المستميت على كرسي الحكم. إن خروج أنتيجوني على قرار تعليق جثة بولينكس لوحش الطير هو خروج على قانون الأسرة الحاكمة فهي أحد أفرادها وهو ما يخشى معه الحاكم الفرد استعداء الشعب على الأسرة الحاكمة وهو أمر يخشى منه أن يطيح بالأسرة الحاكمة نفسها ، إذن فقرار كريون خروج فج على ثقافة المدينة اليونانية بل على الثقافة الإنسانية كلها . ولا أعرف شعباً اعتنق ثقافة عدم دفن الموتى أو حرق جثثهم ونثرها في الأنهار أو عبر المزارع ، حتى الهنود الحمر وهم يعلقون موتاهم في الفضاء فإنهم يحفظونها إذ يعلقونها في السماء رمزاً لحالة السمو.
إن قرار كريون إذن هو نابع من ثقافته الانفرادية الاستبدادية وحدها ولو رجع مهدي إلى نص أنتيجوني سيجد ما يؤكد قولي :
" الجوقة : إذا فماذا تريد منا ؟
كريون : أن لا ترقوا ولا تلينو لمن يخرج على أمري
الجوقة : ليس بين الناس من فقد الرشد إلى حيث يسعى إلى الموت "

هل تعد تلك السلبية والخوف من الموت الذي تصرح به المدينة ممثلة في الجوقة سوى حالة من حالات الاعتراض السلبي فهل يعد خوفهم من بطش حاكم متسلط وهم أعضاء شورى المدينة ونخبتها هو ثقافة المدينة بأسرها أم هي فحسب ثقافة النخبة. وهل في كلامهم تأييد للحاكم المطلق بقدر ما هو اعتراض عليه وإن كان اعتراضاً سلبياً . وهاهم في حديثهم مع أنتيجوني :
" الجوقة : ربما كان تشريف الموتى نحواً من التقوى ولكن من إليه السلطان لا
يقبل الخروج عن أمره "
أين قانون المدينة هنا ؟! إنه قانون الحاكم وهذا ما يؤكده رئيس الجوقة:
"رئيس الجوقة: ما أرى فإن هذا الشقاء لا يأتي من قبل غيره بل هو مصدره"
فأين هي ثقافة المدينة هنا ؟ ومن الذي خرق قداسة المدينة ؟
ولعله يوافقني على أن كريون وهو الحاكم المستبد هو الذي تمرد على الثقافة الإنسانية المتحضرة في موقفه من عدم دفن جثة ابن أخته بولينكس ابن أوديب، ولم تكن أنتيجوني هي المتمردة على قانون المدينة المتحضرة ولعله يراجع معي التحذيرات المعارضة لقراره غير الحضاري وأهمها تحذيرات الكاهن الأكبر تيريزياس لكريون نفسه :
" تعلم أن أمرك قد عاد إلى الحرج "
" المدينة تشقى بهذا الشؤم وأنت مصدر هذا الشقاء "
" ألقيت في بطن الأرض كائناً كان يعيش على ظهرها ، ولأنك
أخزيت نفسك . حبست حياً في القبر وخليت جثة بالعراء
بعيداً عن آلهة الموتى في غير ما ينبغي لها من الشرف والمأوى.
ليس لك هذا الحق بل ليس لك ولا لأي إله من آلهة السماء ،
هذا عدوان تقترفه لذلك ترقبك الآلهة اللاتي يعاقبن المجرمين
ويوكلن هادس بالانتقام . وستتردى في مثل الشر الذي جنيته "
هذه هي ثقافة المدينة وهذا هو قانونها . وما فعله كريون كان خروجاً فاحشاً على ذلك القانون على عكس ما زعم الأستاذ بندق في استعراضه النقدي المستطرد ولو كان ما زعمه صحيحاً لما صاح تريزياس في وجه كريون :
" .. إنما تنهض مخاصمة لك كل المدن المضطربة ، حيث الجثث الممزقة لم تظفر من القبور إلاّ ببطون الكلاب وسباع الوحش والطير ذات الأجنحة"
ولعل مهدي يوافقني على أن فكرة القداسة تنبع عن تفرد الرمز أو الموضوع أو الشخص بميزة يستحيل أن تكون لغيره. وهذا التفرد ، يفرض المغايرة في شكل الاتصال بين المتفرد رمزاً كان أم فكرة أم موضوعاً أم شخصاً والمتصل به عن بعد وهمي صانع لتلك الهالة التقديسية – حتى وإن كان قريباً منه مكانياً أو زمانياً – إذن فلا قداسة لشيء إلاّ عن طريق نظرة المتصل بذلك الشيء التي ترى فيه ميزة يتفرد بها على سائر الأشياء وأن تلك الميزة المتفردة التي لم يحزها غيره تملك له ضراً أو نفعاً. وعلى سبيل المثال فتمثال رمسيس الثاني وله يدان كلتاهما (يمين) يجعل رمسيس الثاني متفرداً ، إذ أنه حاز شيئاً يستحيل أن يكون لغيره وهو أن يده اليمنى لا تقابلها اليد اليسرى وباطن كفها في اتجاه الداخل نحو جسمه ، بل تتجه كفه اليسرى إلى خارج جسمه – أي جهة اليمين – وفي معتقد المسلم – وفق الحديث القدسي أن يدي الله كلتيهما يمين – وهذه صفة ليست لبشر ، وكون تمثال رمسيس الثاني له يدان كلتاهما يمين فإن ذلك أمر مستحيل حدوثه في عالم البشر ، وبذلك يتوجب تقديسه ، فهل كان تقديسه لأنه يمتلك تميزاً وتفرداً وفق رسمه في تمثاله أم لأنه كان رمز النافع الضار في ممارساته مع المصريين في حكمه الذي اقترب من عامه السبعين ؟!
ولو أن ابن الماء (السيناوي) الذي تمرد على رمسيس الثاني – حسب زعم بعض الروايات التاريخية – أو تمرد على (مرنبتاح) بعده – حسبما سجل تاريخ مرنبتاح عن عصابة اليهود من قطّاع الطرق الذين قام بطردهم خارج الحدود ، فإنه في الحالتين قد تمرد على المقدس (الملك / الإله) ومع هذا فإن ذلك التمرد لم يلد تعبيراً درامياً مع أنه في ذاته دراما صراعية غير أدبية .

حوارية الوصل (2)
يعرف كل مبدع وناقد أن التوتر والقلق سمتان من أهم السمات التي تلازم المفكر الحقيقي والمبدع الحقيقي أديباً : (شاعراً كان وناثراً أم كان فناناً ، شريطة أن يكون التوتر إيجابياً ، بمعنى أن يكون نابعاً من إشكالية كونية أو إنسانية ، عامة وغير ذاتية ينتظم في إطارها عدد من المشكلات المترابطة والتي يتم التصدي لها مجتمعة.
ولهذا فإن مثل ذلك النوع من المفكرين والمبدعين يثير الزوابع والزعابيب الفكرية في أي مكان يحل فيه. والشاعر الكاتب المسرحي مهدي بندق أحد هؤلاء، فهو مثير للزعابيب الفكرية أو لرياح الخماسين الفكرية من وقت إلى آخر. وهذا في حد ذاته عمل إيجابي لأنه يدفع ببعض المفكرين المبدعين الذين على شاكلته إلى اتخاذ مصدات فكرية تحيل غبار الإثارة الفكرية عبر المرشحات التأملية لتنقية الفكر وتصفية آثاره مما علق به من تناقضات، إيماناً بما يؤمن به بندق نفسه ويعلنه دوماً من أنه مع التعددية ومع لا معصومية العلم وقابليته للصواب والخطأ مثلما كان حال الإمام الشافعي في قالته الشهيرة :
" رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب "
ومثلما هو الحال في تاريخنا المعاصر وفق فلسفة كل من تشارلز ساندرز بيرس وكارل بوبر وبول فيرآبند بل وإدوارد سعيد وجاك دريدا من الوشاية بعالم جديد يقوم في أساسه على رفض سطوة النظرية مرتكناً إلى إعادة النظر في كافة المسلمات اليقينية متحرراً من النفعية الغيبية مطيحاً بالأساطير السياسية فلا أبوية بونابرتية . ولا مؤامرة تاريخية ولا إمكانية مطلقاً للعودة إلى عصر ما (ذهبي أو فضي !! )
ومن على هذه الأرضية الفكرية المتجددة نفسها ، وقفت محاوراً للصديق الشاعر المسرحي والمفكر مهدي بندق في موضوع واحد من جملة ما طرحه في كتابه هذا من موضوعات وقضايا متعددة شاء أن يقدم بها للموضوع الرئيسي لكتابه وهو موضوع غياب المسرح الشعري في مصر.
ولأنني أسير في دراساتي النقدية في المسرح – نصه وعرضه – بنفس النهج الذي يقترحه مهدي بندق من أن قراءة دراسة أدبية ما ينبغي أن تقرأ وفق معايير نسبية (تقبل التفنيد والتخطئة بمقدار ما تلجأ هي إلى تفنيد الأسس النظرية التي انطلقت منها تلك الدراسات المقروءة وتخطئتها) – فيما وقعت فيه من أخطاء . وهذا لا يبتعد عن نظرية تفكيك مركزية الخطاب والأنساق والكشف عما فيها من تناقضات- وأظن أن مهدي يتفق معي على أن ما يقترحه لم يخرج عن نظرية التفكيك وهي نسق فلسفي نقدي أيضاً.
ومعنى ذلك أن رفض نسق ثقافي أو فكري ما ، هو إحلال لنسق جديد محله ، لأن كل عملية بناء تحتاج إلى عملية هدم كما يذكرنا (جيته) وبغير ذلك نسقط في هاوية العدم فالأنساق لا تفنى ولا تأتي من العدم فما أن ننفي نسقاً يولد غيره.
وإذا كان اقتراح مهدي بندق على الباحثين بأن يوقفوا بحوثهم الأدبية على محددات الحاضر وفحص إمكانات الانتقال منها إلى مستقبل الأدب ومستقبل للبشرية أكثر تحرراً وجمالاً " بل يحبذ – خشية وقوع ناقد النقد – في براثن الأدلجة أن يفيد من تصويب ناقد آخر لنقد ذلك الناقد (ناقد) *. وبذلك يفيد الفائدة المثلى من تصويب يتابع بناقد آخر. فنقد النقد ليس عملاً فردياً بل هو إنجاز مشترك تؤديه ثقافة بأسرها لغد تصنعه بأيديها، دون انتظار "موعد مع القدر"

وهذا لعمري يذكرني بفكر المودودي عن الحاكمية حيث كل المسلمين خلفاء لله على الأرض مع العلم بزجر مهدي بندق لفكر المودودي بالطبع ومناقضته بل منافحته له.
ولو أن هذا المطمح الخير كان يمكن تحقيقه لما اضطر الأستاذ مهدي إلى أن يجهد نفسه في تأليف هذا الكتاب ، ولما احتاج الظرف السوسيولوجي الحالي إلى خروج جماعات (كفاية) و (صحافيون من أجل التغيير) و(شايفينكو) ولا احتاج المجتمع إلى أن يبح صوته في مظاهرات تطالب بتعدد المرشحين للرئاسة والجهر بالصوت (الحياني) (لا للتوريث) ولا كانت أمريكا وإسرائيل تمتطينا وتعربد فينا ليل نهار. كم ناقد حقيقي في بلدنا ، بل كم ناقد زائف (ينقد ليأكل) ثم هل نشأ العقل العربي نشأة نقدية ؟ هل في المجتمع العربي ومن ثم المصري من يقبل بوجهة نظر الآخرين؟! إن عقلاً كعقل الشاعر المسرحي مهدي بندق مليء بزخم الأفكار في (نسق) ديالكتيكي، أفكار تتصارع مع أفكار في عقله النابض عبر حياة فكرية وإبداعية مشاكسة قلقة، في مجتمع لا حياة فيه لمن لا يسكنه القلق ؛ لذلك نراه في كتابه هذا ، بل في إبداعاته الشعرية والمسرحية وفي كتاباته الفكرية التحليلية منها والتفكيكية في حوارية متصلة منقطعة ما بين نص ونص وكتاب وآخر، فهو يحاور نفسه.
الأفكار تحاور بعضها في عقله مما يرى معه قارئه العادي أنه يكتب في كل ما يكتب على طريقة (مسرح توفيق الحكيم الذهني) – مع بعد الشقة بين التوجهين الفكريين - إذ يحتاج القارئ فيه إلى زمنين وربما ثلاثة أزمنة لكي يتوصل إلى المعنى المراد من وراء الجملة أو العبارة ولا أقول المحور الفكري الواحد من محاور الكتاب الواحد. فهو كمن يؤمن بقول (أبي تمام الطائي) في رده على (النّظام) كبير المعتزلة حين سأله: "يا أبا تمام لماذا لا تكتب ما يفهم؟" فجاء رد أبي تمام حاداً وقاطعاً – "ولماذا لا تفهم ما يكتب؟"
هذا هو حال المفكرين "يفهمون ولا يفهمون" – ولك أن تبدل في ضبط العبارة لتخرج منها معان متعددة .. فمع أن عنوان الكتاب (سوسيولوجيا المسرح الشعري في مصر) وهو موضوع حاول بندق معالجته في عدد من المقالات المطولة، نشرها في جريدة (التجمع) الأسبوعية في صيف العام الماضي 2004، ثم أعاد نشرها مع دراسة سبقتها إلى النشر بمجلة المسرح المصرية، ثم أعاد نشرها بمجلة (تحديات ثقافية) التي يرأس تحريرها . وفي تلك الدراسة يلعب مهدي دور الناقد الثاني لدراسات نقدية في المسرح الشعري، منها كتابي الموسوم (مقدمة في نظرية المسرح الشعري) * إلاّ أنه في هذا الكتاب (سوسيولوجيا المسرح الشعري) يطرح في مقدمة مطولة تصوره تحت عنوان (مقدمة منهجية – الطريق إلى المسرح الشعري-) يطالب فيها الشعراء والنقاد والدارسين الباحثين بما لا طاقة لهم به بل بما لا قبل لهم به (ص ص 33 – 45) وهي المقدمة الثالثة التي سبقتها المقدمة الثانية بعنوان (مقدمة مقترحة لكل فكر وفن) (ص ص 20-32) وهي أيضاً مسبوقة بمقدمة أولى تحت عنوان (قبل المفتتح) (ص ص 5 – 19) وقد أحسن إذ يجمع فيها أهم المصطلحات التي وردت في كتابه.
وعلى الرغم من أنه يتحدث كثيراً في هذا الكتاب وفي كل أحاديثه ومناقشاته الساخنة عبر كتاباته الإبداعية والفكرية النقدية بالتحليل أو بالتفكيك عن التعددية وإيمانه العميق بها ورفضه القاطع والحاد للنسقية وللأيديولوجية بكل أشكالها ؛ إلاّ أن عنوان المقدمة الثانية لكتابه هذا تنفي ذلك كله: (مقدمة مقترحة لكل فكر وفن) أليس هذا العنوان ينطوي على نسق مقترح يدخل من يأخذ به – إن وجد من يأخذ به – في جلباب أيديولوجي – بغض النظر عما يرمي إليه- وبذلك يكون مهدي قد نقض منذ البداية طرحه الذي يقترحه على شعراء المسرح ونقاده ودارسيه؟!
إن هذه المقدمة الأولى تنطلق من تساؤلات الفكر السياسي الاستنكارية التي تصلح لتكون إشكالية جيدة لبحث في علم اجتماع السياسة إذ تصدر المقدمة على النحو الآتي:
" أسامة بن لادن أم جورج دبليو بوش؟ صموئيل هنجنتون أم سيد قطب؟ نظام الخلافة أم النظام العولمي الجديد؟ " وفيها يلقي مسؤولية محاولة الإجابة عن تلك التساؤلات المركبة في سلة العلماء والفلاسفة، ومن ثم يتخذ تلك الإنابة التي أوكلهم بها نيابة عنه- ربما لشعوره بأن هذا الموضوع أو تلك القضايا – شديدة الأهمية - لا محل لها من الإعراب في كتاب موضوعه (سوسيولوجيا المسرح الشعري)
ولأن الكاتب قد فحص العلماء والفلاسفة واحداً وراء الآخر ثم ألغى وكالته لهم في تولي ذلك الأمر الخطير: (الاشتغال بالمصير الإنساني) الذي تهدده تلك الإشكالية التي صدر بها مقدمته المقترحة الأولى على كل فكر وكل فن – وكأن كل الأفكار موحدة أو متآلفة وكأن كل الفنون كذلك!! إلاّ إذا كان الكاتب والشاعر المفكر يقترح بإعلانه هذا تكوين جبهة من كل صاحب فكر غير فكر هؤلاء ومن كل فنان له موقف غير موقف هؤلاء!! وهذا هو المستحيل بعينه؛ أولاً: لأنه ضد ما ينادي به الكاتب نفسه من التعددية ومن رفض النسق ورفض الأيديولوجيات، فكل جبهة أو تحالف ينطلق من شعار أي من فكرة مسبقة، من نسق أو مفهوم تمت بلورته بلورة قبلية.
ثانياً: مثول تجربة "فاجنر" في محاولته لما يعرف بمفهوم وحدة الفنون وفشلها الذريع معلوم بعد تجربته في الجمع بين الفنون في مسرحه (بيرويت).
ثالثاً: لا تحالف بدون نقد ذاتي وموضوعي لكل طرف من أطرافه.
رابعاً: إن الأستاذ مهدي ينقد هروب الأيديولوجيا السياسية وتسربها متخفية وراء الأدب عبر مسارب البنيوية والتأويلية والوضعية (ص38) ومع أنه يعلن ليل نهار رفضه للشمولية في الفكر وفي السياسة -في مقدمته الأولى المقترحة- إلاّ أنه يضع نسقاً أو مظلة ليقف تحتها الفكر: كل الفكر والفن: كل الفن؛ أي يدعو إلى هجرة النهج الشمولي أو النسق الشمولي في السياسة وصولاً إلى مواقف الفكر كلها وإلى محطات الفنون كلها!! ولا أدري كيف وهو القائل "فالأفكار لا تتراجع بنفس الدرجة التي تتراجع بها أدوات الإنتاج المتخلفة، أو التي تبهت بها العلاقات الاجتماعية المحاثية لتلك الأدوات" (نفسه ص27) وكيف يتحقق ذلك في رأيه وهو الذي يؤكد في الصفحة نفسها " أن جوهر (التراتيبية) يظل صامداً- وإن تغيرت تمظهراته- ما دامت المجتمعات الطبقية قائمة لا تزال" (نفسه ص 27)
على كل حال نترك الحديث التفصيلي في نقد ما هو سياسي لأهل التخصص مكتفين بما عرضنا من الرد المشروع على النقد المشروع فيما يدخل ضمن فرع من فروع تخصصنا وهو (المسرح الشعري).

وأخلص مما تقدم في القول عن غيبة المسرح الشعري التي قررها الشاعر المسرحي والناقد مهدي بندق إلى استخلاصين:
يتمركز الأول حول قراره بحجب لقب (شاعر مسرحي) عن كل من لم يكن نداً للآلهة لأنه غير قادر على مواجهتها أو محاورتها لو كانت لها قدرة على المحاورة أو قدرة على تملك خاصية الحديث. خاصة وأنه لن يستطيع أن يكون أبداً نداً للآلهة طالما أنه لم يمت ميتتها الميتافيزيقية وهو أمر يحيلنا إلى التساؤل –هل شوقي وأباظة والشرقاوي وعبد الصبور وجويدة وبندق وأبو سنة وسويلم وغيرهم من شعراء المسرح الشعري العربي كانوا أنداداً للآلهة ومن ثم يستأهل من كان كذلك منهم أن ينعم عليه بلقب شاعر مسرحي أم أنهم ليسوا شعراء مسرح؟ وهل وصل إلى علم أحد ولو في رؤيا المنام – أن أحداً ممن ماتوا منهم قد تمكن من محادثة الإله بعد أن خرج بميتته الفيزيقية إلى الحياة الميتافيزيقية . وهل ارتقت حالته الميتافيزيقية به فأصبح نداً للآلهة حيث توحدا معاً على المستوى الميتافيزيقي فصح فيهما ما قاله الحلاج في خلوته الحلولية :
" أنا أنت وأنت أنا نحن روحان حللنا بدنا "
أما الاستخلاص الثاني فهو متعلق بما طرحه حول مخالفة أنتيجوني لقانون المدنية فقد كفانا الرد عليه إعلان تيريزياس كبير الكهنة لقرار كريون وهو في نص حواره الذي لا يستطيع أحد إبطاله أو وصفه بالتهافت لأنه شاهد مصدري وما عداه هو محض تفسير لا ثبت له ولا مصداقية.
لذلك أرى أن يراجع الشاعر والناقد الكبير رأيه وهو أول من يطالب الآخرين بأهمية المراجعة عملاًَ بالقول بأن العلم هو ما يقبل التخطئة وبقول الشافعي:
" قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب"



#أبو_الحسن_سلام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفن بين ثقافة الاباحة وثقافة المنع
- أشكال الفرجة الشعبية وعناصرها في المسرح العربي (سيميولوجيا ا ...
- توازن الصورة الفنية بين المسرح والفن التشكيلى (1)
- مسرح إبسن بين المتخلفات والمتغيرات المعرفية المتلازمة
- محمد صلاح الدين عبد الصبور يوسف الحواتكي
- التعبير المسرحي الشعري بين التأمل الذاتي والانفتاح على المعن ...
- بيرجنت وفن الإهانة
- تعليقا ً على دراسة ازدواجية اللغة لمهدى بندق


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أبو الحسن سلام - حوارية القطع والوصل في الحديث عن المسرح الشعرى