عدنان شيرخان
الحوار المتمدن-العدد: 2374 - 2008 / 8 / 15 - 10:28
المحور:
سيرة ذاتية
احتفلت جمهورية جنوب افريقيا مؤخرا ومعها اجزاء كبيرة من العالم بعيد ميلاد نيلسون مانديلا التسعين، تلقى الرجل آلاف برقيات التهاني، كتب له الزعيم الكوبي (المعتزل الحكم لدواعي صحية) فيديل كاسترو مهنئا وواصفاه اياه (رمز الانسانية الاكثر نبلا)، خاطبه : (لا الوشاية ولا الكراهية أثرتا في مقاومتك الفولاذية، لقد عرفت كيف تقاوم، وأصبحت من دون معرفة ولا قصد، رمز الإنسانية الاكثر نبلا، ستقيم في ذاكرة الأجيال المقبلة). عند مانديلا وامثاله تنغلق الابواب عن الكلام، وتبدو الكلمات صغيرة امام هذا الجبل الشامخ، على عكس لحظات مدح الطغاة، الكلمات اكبر منهم ومن عنجهيتهم الفارغة، تصطف امة من الشعراء والكتاب لتذل نفسها طوعا وكرها مادحة من لا يستحق ان يقال بحقه حرفا واحدا.
كانت بلاده تخضع لحكم الاقلية البيضاء، القائم على التمييز والفصل العنصري الشامل (الابارتهايد)، والتي كانت تهدف في المقام الاول إلى خلق إطار قانوني يحافظ على الهيمنة الاقتصادية والسياسية للاقلية البيضاء ذات الأصول الأوروبية، امتد العمل بهذه السياسة بصرامة الى ان تم الغاءها بين الاعوام ( 1990 ـ 1993)، لم يكن للاغلبية السوداء بموجب هذه السياسة حق الانتخاب ولا المشاركة في الحياة السياسية أو إدارة شؤون البلاد، بل أكثر من ذلك كان يحق لحكومة الأقلية البيضاء أن تجردهم من ممتلكاتهم أو تنقلهم من مقاطعة إلى أخرى، وبسبب طبيعة المجتمع القبلية، كان الانتقال من مكان لآخر يمثل انتهاكا للمقدسات وحرمانا من حق العيش على ارض الآباء والأجداد والى جانب الأهل وأبناء النسب الواحد.
لعب وعي مانديلا المتقدم دورا كبيرا في صقل شخصيته، انخرط في العمل السياسي لمعارضة النظام العنصري، واصبح سريعا قائدا لحملات المعارضة والمقاومة. كان يدعو في البداية للمقاومة غير المسلحة ضد سياسات التمييز العنصري، ولكنه غير آرائه بعد إطلاق النار على متظاهرين عزل في مجزرة شاربفيل العام 1960. بدأت رحلة مانديلا الطويلة مع السجن بعد العام 1961 عندما أصبح رئيسا للجناح العسكري للمجلس الإفريقي القومي، أعتقل وحكم عليه لمدة 5 سنوات بتهمة السفر غير القانوني الى الجزائر، والتدبير للإضراب والعصيان. وفي العام 1964 اعتقل مرة أخرى بتهمة التخطيط لعمل مسلح، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة. عبر سنوات سجنه السبعة وعشرين، أصبح النداء بتحرير مانديلا من السجن رمزا لرفض سياسة التمييز العنصري.
وفي العام 1980 ارسل مانديلا من سجنه رسالة للمجلس الإفريقي القومي قال فيها:( إتحدوا وجهزوا وحاربوا، بين سندان التحرك الشعبي، ومطرقة المقاومة المسلحة، سنسحق الفصل العنصري)، ورفض في العام 1985 عرضا بإطلاق سراحه مقابل إعلان وقف المقاومة المسلحة، الا أنه رفض العرض. وبقي في السجن حتى شباط 1990 عندما أثمرت مثابرة المجلس الإفريقي القومي، والضغوط الدولية عن إطلاق سراحه بأمر من رئيس الجمهورية فريدريك ويليام دى كليرك، الذي أعلن أيقاف الحظر الذي كان مفروضا على المجلس الإفريقي. وحصل نيلسون مانديلا مع الرئيس فريدريك دكلارك في العام 1993 على جائزة نوبل للسلام. شغل مانديلا منصب رئاسة المجلس الإفريقي بين عامي (1991 ـ 1997)، وأصبح أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا (من 1994 إلى 1999). وعبر مدة حكمه شهدت جنوب إفريقيا إنتقالا كبيرا من حكم الأقلية إلى حكم الأغلبية. تقاعد عن العمل السياسي العام 1999، لكنه تابع تحركه مع الجمعيات والحركات المنادية بحقوق الإنسان حول العالم. وتلقى عددا كبيرا من الميداليات والتكريمات من رؤساء وزعماء دول العالم. في حزيران العام 2004 قرر نيلسون مانديلا ذو الـ 85 عاما التقاعد و ترك الحياة العامة، لتقدمه في السن، ورغبته في أن يقضي ما تبقى من عمره بين عائلته. في العام 2005 اختارته الأمم المتحدة سفيرا للنوايا الحسنة.
انحنى العالم تحية لهذه الشخصية الاسطورية، سميت احياء وساحات وشوارع وحدائق باسمه في دول متعددة، وحصل على شهادات شرف من السوربون الى هارفارد ومواطن شرف من اليونان الى كندا. ولكن في تناقض حاد في السياسة الاميركية وصفه الرئيس الاميركي السابق بيل كلنتون : ( انه هدية للبشرية)، وقال عنه الرئيس جورج بوش حين قلده الميدالية الرئاسية للحرية (وهي اعلى وسام في اميركا) بانه( اكثر السياسيين قدسية في زماننا)، وهو وزعماء آخرين من المؤتمر الوطني الافريقي على قائمة الارهاب وممنوعون من السفر الى اميركا منذ اكثر من 30 عاما، وفي خطوة متأخرة صوت الكونجرس الاميركي في ايار الماضي لصالح شطب اسم مانديلا والمؤتمر الوطني الافريقي من قائمة الارهاب، يومها قال السيناتور جون كيري : (اليوم تحركت الولايات المتحدة أخيرا باتجاه التخلص من العار الكبير المتمثل بتشويه سمعة هذا الزعيم العظيم بسبب وضع اسمه على قائمة الإرهاب). وقال دونالد باين وهو عضو ديمقراطي بمجلس النواب الامريكي: (الموافقة على قانون حذف اسم نيلسون مانديلا واخرين عملوا بلا كلل لانهاء نظام الفصل العنصري القمعي والمنافي للانسانية في جنوب أفريقيا من القائمة الاميركية لمراقبة الارهابيين انتصار كبير للعدالة.) واستطرد قائلا ( أشعر برضا لانه مكننا من اظهار احترامنا وتقديرنا الكبير لرجل يحظى بحب واعجاب في انحاء العالم).
في الوقت الذي يرحل فيه الطغاة الى مزبلة التأريخ غير مأسوف عليهم، تطاردهم لعنات ضحاياهم، يسمو مانديلا وأمثاله فوق الاجناس والاعراق والاراء، في وطنه الام جنوب افريقيا تبجله جميع فئات المجتمع بمن فيهم البيض الذي حارب من اجل الاطاحة بحكمهم، وقورن عالميا بغاندي والبابا والام تيريزا، اصبح رمز النضال من اجل الحرية، نجح عبر شجاعته وقيادته في كسر معقل التمييز العنصري وحول جنوب افريقيا الى بلد ديمقراطي متعدد الاعراق.
في عيد ميلاده التسعين، قابل الجميع بوجهه البشوش المتفائل، قال إنه سعيد جداً بأنه عاش ليبلغ التسعين من العمر، وان الفضل في طول عمره يعود إلى الطريقة التي قاد فيها حياته، انضباطه الحديدي في نظامه الغذائي وتمارينه الرياضية.عندما سئل إذا ما تمنى لو أنه قضى وقتاً أكبر مع عائلته، أجاب بنعم، مضيفاً: ( ولكني لم أندم، لأن الأمور التي جذبتني كانت دوما أمورا ترضي روحي).
#عدنان_شيرخان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟