أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد إبراهيم محروس - دير العاشق ..















المزيد.....

دير العاشق ..


محمد إبراهيم محروس

الحوار المتمدن-العدد: 2373 - 2008 / 8 / 14 - 08:22
المحور: الادب والفن
    



على امتداد الشوف، الطريق الذي أعرفه جيدًا، أدرك حدوده بقلبي وعقلي قبل عينيّ، هناك تلك المساحة الشاسعة من الفراغ الممتد وكأنه بحر من أمواج الصحراء، تقبع مساكن دير العاشق..منذ فترة، بل منذ، ومنذ.. كنت قد اعتدت المكان، اعتدته بعد أن جلبني جدي من على صدر أمي رضيعًا لم أزل.. ورماني هنا في دير العاشق ..الصحراء المسكونة بالأشباح والبشر.. الرمال الصفراء التي تتحول في الليل لبلورات من اللؤلؤ .. على الصحراء أن تعطيك الأمان إن كنت أحد أبنائها, الأم التي تحتضن كانت هي.

أول شارع في دير العاشق يسكن بيت من دورين، يقطنه حسن الشاكي.. ممثل قديم من أيام أفلام الأبيض والأسود .. عاش في العاصمة سنوات .. حلم أن يخرج من دير العاشق وجه يناطح نجوم العالم، يحكي كثيرًا عن هوليود، وعن ممثل مصري تم اختياره صدفة؛ ليحل محله في أحد الأفلام؛ لمرضه وقتها، وكيف صار هذا الممثل يقرع أبواب هوليود.. بينما اختفى حسن الشاكي عن السينما ، غاب لسنوات ، وعاد إلى دير العاشق كما ذهب ، وجهًا عاد فقط . لم يهتم سكان الدير بحسن الشاكي بقدر ما اهتموا بالشجرة العجوز التي أثمرت فجأة بعد عودته بأيام بثمرة غريبة.. وما أقلقهم في عودة الشاكي غياب روحية.. سيسأل عنها ، وعندما يخبرونه بهروبها وراء شاب انجليزي كان في رحلة سياحية إلى الدير ، واغتصب من عيونها الحياة ؛ فهربت معه .. عشقت الانجليزي .. وهربت . مات الشاكي وهو حي .. مات في بيته حيث أصبح الناس يسمعون شكواه ليل نهار ..بينما تئن حيطان داره من الضجيج .. بعد خطوات عن بيته، منزل واسع به الشجرة العجوز الغريبة، اعتدت أن أرى بطة صغيرة، تخرج منه، تعبث في الرمال قليلا، ثم تعود، كان منزل روحية..

طفلا كنت عندما هربت روحية ، وطفلا كنت وأنا ألمح ممرات دير العاشق تتكاثر فجأة بالبشر ..بحثوا عن الإنجليزي وروحية كثيرًا ، ودون فائدة .. من الصعب عليّ تخيل دير العاشق دون حسن الشاكي، ودون البطة التي صارت عجوزًا..يقال إن البطة البيضاء العجوز هي روح روحية التي اغتصبها الإنجليزي بعد هروبها معه؛ وقتلها؛ فعادت لتسكن روحها البطة العجوز.. قليلون هم من يعترفون بطول حياة هذه البطة .. البعض قال إنها تقطع الطريق في صمت منذ سنوات عديدة، ودوما تختفي عن بيت الشاكي..ثلاثون عامًا أو أكثر.. والشاكي لا يعترف بما يقال ..يوما أراد أن يهجم علي بيت روحية، أن يبحث عن البطة البيضاء ويقتلها، ولكنها اختفت, وكأنها تعلن تحديًا آخر..ليالٍ طويلة خرج متسللا إلى بيت روحية ليقتل البطة.. ولكن دون جدوى؛ فشل كما فشل في الذهاب لهوليود كما كان يحلم أو يزعم، كنت ألمحه في أوقات كثيرة في رحلة ذهابه ولا أهتم.. البعض تقول أشياء أخرى عن رحلات الشاكي الليلية.. قال أهل الدير: إن البطة العجوز تتحول ليلاً إلى فتاة رائعة الحسن، وإنها لا تقل جمالا عن روحية، بل هي روحية نفسها، وإنها تسلب الشاكي عقله، فيظل يمارس الحب طوال الليل، وعند النهار تضيع منه ذاكرة الأمس.. ويعثر الأهالي على طفل رضيع فجأة أول كل عام..

كنت أسمع الحكايات المتواترة بشغف طفل، ومع الأيام كبر الشاكي وشاخ، أصابه التعب، مل من حكاية هوليود، وملت أذن الناس منه ومن سماعها.. ولكن رحلته الليلية إلى بيت روحية لم تقل، بل إنه راح يزرع حديقتها بالأزهار لتلف حول الشجرة العجوز ، التي لم تعد تثمر ، ولكنه واصل في سقيها ، حتى أصبح الناس فجأة ؛ فرأوا الشجرة مورقة من جديد .. كنت وقتها أكبر ، وتتكون ملامحي ، أرى شخصيتي المنطلقة للمجهول ..لدير العاشق بكل حكاياته وغموضه.. وقصة روحية والشاكي التي أخذت شكلا من أشكال الأسطورة.. وطفل كل عام.. وأرفض الذي بداخلي لكل هذا.. الخبال يكبر مع الأيام.. مستني حكاية روحية والشاكي ، مست جزءًا من روحي المتعطشة للحياة .. بعد سنوات، ليلاً.. تقربت من الشاكي ، كان يقارب السبعين من العمر ، وكنت شابًا يافعًا .. وكان الزمان يختلف، كنت أريد أن أسمع الأسطورة من بين شفتيه، ولكنه لم يحك كثيرًا.. قال إنه أحب روحية حبًا مستحيلا، وإنه سافر، وعاد وهو يحمل قلبه بين يديه، ولكنها كانت اختفت..موضوع اختفائها وهروبها مع الإنجليزي والبطة العجوز، خبال أهل دير العاشق، خبال.. ولكن عندما يرتبط اسمك بأسطورة ما ، من الصعب أو المستحيل أن تنقدها .. لم أقتنع كليًا بما قاله وقتها .. هناك إحساس خفي أن الأسطورة ينقصها ضلع ما ..

يوما بعد يوم، بدأ ضعف الشاكي يظهر قويا للعيون..وازداد اقترابي منه، لازمته كثيرًا، علمني أشياء كثيرة، التطلع للسماء، انتظار الحلم، معرفة النجوم وأسمائها. واختفت ظاهرة طفل كل عام فجأة كما ظهرت فجأة.. دعكت ظهره اليوم بالزيت الساخن، رأيته يتململ في سريره ويهمهم.. اقتربت من شفتيه همس: الشجرة العجوز أروها.. البطة البيضاء.. ثم غرق في غيبوبة .. فشلت في أن أجعله يصحو.. وجدت قدميّ تسيران تجاه بيت روحية مدفوعًا بقوة غريبة لا أعرفها، وشعور غامض..وبداخلي هاجس غريب أنني الموعود بالسّر .. الموعود بالأسطورة .. الشجرة العجوز وما أخفيه..أميل لأسقيها .. الليل يمارس طبيعته السرمدية، أن يخيف البشر..والقمر شحيح الضوء، وخطواتي المبعثرة على رمال الصحراء منذ سنوات.. لمحتها تقترب ، وتقترب ، بلا خوف .. ملت بجسدي بغتة ، لتصطدم يداي بها ، وأحملها .. أتطلع فيها .. البطة العجوز، رأسها قريبة من فمي وكأنها تريد تقبيلي. أسحب ما أخفيه تحت ملابسي في قسوة، يد تطبق على عنقها، والسلاح الذي بين يدي يلمع في الظلام.. ثوان وكانت ترفرف بين يدي بينما دماؤها تنسكب على الأرض بعنف رهيب وبصورة غير طبيعية أسفل الشجرة العجوز.. وكأنه الحلم رميتها من بين يدي، وكأنه الحلم عدت جريًا إلى بيت الشاكي.. وداخلي يقول إن الخبل اختفى للأبد.

عدت لأجد الشاكي فارق الحياة .. لم أعرف هل بكيت عليه أم لا. ماتت الأسطورة بداخلي .. ولكن ما أقلقني بشدة هو ظهور بطة بيضاء تضرب الرمال بأرجلها وكأنها تبحث عن سر ما.. سر لكل ما حدث .. البعض ما زال يقول :إن النواح الليلي الصادر من بيت روحية ، والبطة التي تخرج الآن ليلا ، هي روح روحية الحزينة على الشاكي ، روح الأسطورة .. وبدأت أقوال أخرى تتناثر ، وتتساءل عنيّ .. وعن ذهابي الليلي لبيت روحية .. وشجرة عجوز تثمر من جديد فاكهة حمراء لون الدم..وتتوالد الأساطير دون جدوى .. والآن عاد طفل كل عام يظهر من جديد..



#محمد_إبراهيم_محروس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أتوبيس (6)


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد إبراهيم محروس - دير العاشق ..