أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد باسل سليمان - تطور النقد الأدبي الفلسطيني 1870-1922















المزيد.....



تطور النقد الأدبي الفلسطيني 1870-1922


محمد باسل سليمان

الحوار المتمدن-العدد: 2330 - 2008 / 7 / 2 - 09:39
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


بعد أن عرف النقد الأدبي في العقد الأول من القرن العشرين كعلم وكنوع من الآداب العربية، قفز خليل بيدس عبر "نفائسه" بهذا النوع قفزة طويلة ورائعة، عندما وصّف الرواية ووضع الشروط التي يجب توفرها في الكاتب ليكون روائياً، بقوله "... والروائي إن لم يعاشر العامة ويدرس أحوالهم، أو لم يكن منهم، ويعيش بينهم، أو لم يكن فيه قوة التصور ومهارة التصوير، وبراعة الوصف، ولم يكن فيه النظرة الأدبية الصادقة إلى كل حادث.... ولم يكاشفه الإلهام والوحي والنبوه فليس بروائي عبقري.
"وهو إن لم يقرأ مئات الروايات ومئات التواريخ ولم يطلع على حوادث الكون، ويلج كل مجتمع، ويدرك معنى الحياة وأسرارها وأساليبها، وينتزع غرض روايته من حوادث الحياة وطبيعة الإنسان، ويجعلها منطبقة على الحقيقة والواقع فليس بروائي متفنّن. " وهو إن لم يكن نبياً يرى ببصيرته ما لا يراه غيره، وإن لم يكن شاعراً يحلّق في سماء الخيال، وإن لم يكن عالماً إجتماعياً يعلم الأحوال ويطلع على كل شأن من الشؤون، فليس بروائي ماهر...
"والرواية الحقيقية الفنية هي التي ترمي إلى المغازي الحكيمة أو الأغراض الأدبية، وإلى تمجيد الفضائل أو التنديد بالرذائل، وإلى تهذيب الأخلاق وتنوير العقول وتنقية القلوب وإصلاح السيره... (41)".
وإذا كان توصيف الرواية وأوصاف الراوي التي وضعها خليل بيدس هي واحدة من أهم قواعد تركيب البناء الهيكلي للرواية، فهي في الوقت نفسه تكوين من نظرية نقدية تليدة يمكن أن يكون حجر الأساس في هذه النظرية، لأن هذا التكوين قد أضيف إليه أو أضيف إلى ما جرى التوصل إليه عبر السجالات والمراجعات بين الأدباء من تعريفات للنقد الحديث، وما اعتبر كمعامل لقياس مستوى النتاجات الأدبية بمنظور جديد ومختلف.
إن المفاهيم الجديدة للأدب التي طرحها الكاتب خليل بيدس جعلته من كثر تقاربه مع الناقد روحي الخالدي وكأنه امتداد له. فكلاهما " يعدان الأدب كأنما هو علم الإنسان ينبغي على من يمارسه أن يكون على علم ودراية بكثير من الشؤون. ومن حيث عنايتهما بالمضمون: وحرصهما على أن يحمل عظة وحكمة وعبرة... لننهض بالأمة ونقدم لها ما ينفعها في سيرها إلى الأمام... والروائي هو من يكتب للعامة وهم السواد الأعظم من كل أمة...(42)".
وينضم إلى هذا التيار التجديدي في العقد نفسه ضلعه الثالث أي الكاتب خليل السكاكيني الذي لم يقصر دعوته إلى الحداثة على الأدب والنقد الأدبي وإنما إلى بقية أنواع الآداب وكذلك اللغة، إضافة إلى وسائل النهضة الأخرى، وذلك من خلال تأكيده على أهمية الحداثة في التعليم أيضاً باعتبار ذلك شرطاً لديمومة الحياة لأي أمة. وقد كانت الحياة رائده وغايته أبداً في كل المجالات. وأجمل ذلك في رأي صريح له لخصه بقوله: "إذا أردتم أن تكون لكم موسيقى وغناء، أو شعر أو أدب أو أي فرع من الفنون الجميلة. بل إذا أردتم أن يكون لكم وجود، فليكن فيه حياة وإلا فلستم إلا هياكل بالية"(43).
كان انتماء السكاكيني إلى الحدااثة جذرياً وتأسيسياً في الأدب وفي النقد وفي اللغة أيضاً. ومع ذلك فإن قراءة متأنية في رفضه لنهج التقليد والمحاكاة توصلنا إلى أنه كان موضوعياً. فهو في بعضه حاد وفي بعض منه لين، خصوصاً وإن بعض أتباع هذا التيار وسدنته كانت لهم إسهامات كبرى في تطوير الآداب واللغة والنقد في المرحلة الثانية من عمر النهضة، وذلك لأن المحاكاة أخذت ترتكز على نتاجات فحول أدباء صدر الإسلام والعباسيين؛ فكان أن زالت الركاكة وحل مكانها متانة السبك وجزالة اللفظ وإشراق الديباجة. وأكثر من ذلك أنه كان من أبرز ملازميه الأديب محمد إسعاف النشاشيبي رأس التيار الكلاسيكي في فلسطين الذي يعترف له السكاكيني بدور هام في تطوير الآداب واللغة، ويثمن عالياً قيمة نتاجاته الأدبية وسمو مكانتها في الأدب الفلسطيني. وقد تشارك معه وحنا العبسي في تحرير مجلة الأصمعي التي أصدرها حنا العيسى في القدس بتاريخ 1/9/1908م، وكانت أدبية نصف شهرية.. وعمل ثلاثتهم كهيئة تحرير لها، مما ساعد على استقطاب العديد من الكتاب والأدباء، وكان من بينهم السيدة منانة الصيداوي قرينة الصحافي عادل جبر محرر صحيفة الترقي.(44)
وبصدور المجلة فقد اجتمع صيف النقد وشتاؤه فوق سطح "الأصمعي" فتقاطع الكلاسيك مع الرومانتيك في المشترك الإيجابي بينهما.
و "كان إسعاف مولعاً ببديع الزمان الهمذاني ينسج على منواله في كتاباته. وكنت أنا (خليل السكاكيني) مولعاً بأبي الطيب المتنبي، وكان حنا العيسى مولعاً بالأصمعي. فتوزعتا على هؤلاء الثلاثة. أما إسعاف فكنيناه أبو الفضل، وأما أنا فكان نصيبي كنية المتنبي وهي أبو الطيب، وأما حنا العيسى فكنيناه أبا سعيد وهي كنية الأصمعي. وعرفنا في ذلك الحين بهذه الكنى. وشاعت على الألسنة"(45).
إن تجربة "الأصمعي" كانت نبتاً أخضر يانعاً لما كان قد غرسه روحي الخالدي من بذور معارف جديدة عن الأدب والنقد الأدبي ومن مفاهيم (وطنية) للحداثة في الأدب والنقد الأدبي واللغة، غير مفرطة في تمثلها لما يقابلها من (العالمية)، وكذلك في رفضها لكل الموروث الأدبي عندما يكون ما فيه لا يعبر عن الحياة؛ ولا يكون للسواد الأعظم من الناس مقتصراً على أهل البلاط. وكانت تجربة الأصمعي ثمرة للرعاية التي أولاها خليل السكاكيني لتلك البذور حين وقر لها الحماية من عاتيات تأثير التقليد وأزاجيفه الدينية. فاتسمت أنواع الأدب بالعصرنة وهي تعبر عن السواد العظم من الناس بمفردات حيوية من لغة عربية حيّة. فجاء النقد الأدبي وكأنه جهاز فحص لمستوى الأدب، يحدد الفرق بين درجات الموات والحياة فيه.
وتجلت (وطنية) حداثة اللأدب والنقد الأدبي الفلسطيني في الإطار الذي اكتملت صورته النهائية على يد خليل السكاكيني بعد أن وضع أسس وقواعد تلك الحداثة، مركزاً على الاعتدال في التجديد الذي يقوم على جعل اللغة وسيلة لا غاية، ويمجد الأصالة والطبع في الأسلوب لا التقليد والتكلف، بحيث يكون الأدب صورة عصره ويدّل عليه، ولا يكون خارج دائرة زمان ومكان صاحبه. وذلك لأن الثقافة أفضل من البلاغة في التعبير لأنها تجعل المكان الأول للمعاني، وأما الألفاظ فتحل بالمكان الثاني، فيتحقق بذلك الوضوح ويتلاقى التعقيد.
ويرى السكاكيني أن الأسلوب يجب أن يكون غاية في الوضوح، بعيداً عن الغموض. ويعكس الصراحة والصدق والإلهام والبساطة."وإن من أسباب نزعتي إلى هذا الأسلوب أنه يوافق مزاجي، فليس شيء أكره غليّ من أن يتكلف المرء ما ليس من شأنه. وكم حدثتني نفسي أن أقابل ما أراه من إسراف بعضهم في التكلف بإسرافي في الابتذال لعلهم يرجعون عن تكلفهم فأرجع عن ابتذالي. ولكل شيء آفة من جنسه...
"إن هذا الأسلوب هو أسلوب هذا الزمان. ولكل زمان لغته وأسلوبه. وإذا أردنا أن نتقدم فلا بد أن نخضع للغة زماننا. لو أدركت زمان الحريري لما كتبت إلا سجعاً، ولو أدركت زمن أبي العتاهية لجعلت حديثي كله شعراً. ولكن أحمد الله ألف مرة أني لم أدرك زمان الحريري ولا زمان أبي العتاهية، وإن كان العهد بيني وبينهما غير بعيد... (46)".
ويحدد خليل السكاكيني تعريفه للأسلوب بما هو أكثر دقة في الوضوح عندما يقول: " فالأسلوب الطبيعي للكتابة أن يكتب الإنسان كما يفكر وكما يحدث، فمن حاول أن يكتب مالا يفكر فيه، أو يحدث به هو أو غيره ومالا يلائم الحياة في شيء، فقد تكلف. وقد يكون تفكيره أو حديثه لنفسه، وأما كتابته فلا.
وإذا أراد الكاتب من أصحاب المذهب القديم أن يكتب فلا يستوحي عقله أو قلبه، ولكنه يستوحي القدماء، يفتش عما قالوه في موضوعه في كل مظنة فيستعير معانيهم وألفاظهم ويدعيها لنفسه...
"كان القدماء يستحسنون: (التضمين) بمعنى أن يأخذ الكاتب أو الشاعر شطراً من شعر غيره بلفظه ومعناه، و(الإستعانة) وهي أن يأخذ بيتاً كاملاً، و(الإبداع) وهو أن يعرف معنى ما يأخذه من أقوال غيره عن مراد صاحبه...، و(الإقتباس) وهو أن يُضّمن الكاتب أو الشاعر كلامه شيئاً من القرآن أو الحديث، و (التلميح) وهو أن يشار في الكلام إلى قصة معلومة، أو بيت مشهور أو مَثَلٌ سائر، و(العقد) وهو أن يأخذ الشاعر كلاماً منثوراً فينظمه بأن يزيد عليه أو ينقص منه حتى ينطبق على وزن الشعر.
وأما اليوم فإن أصحاب المذهب الجديد لا يميلون إلى شيء من هذا. وإنك لا تجد فيما يكتبونه كلمة... ليست لهم، أو لا يعنونها. وإذا لم يكن بد للكاتب أو الشاعر أن يستعير معاني غيره ويستعين بألفاظه فعليه أن لا يسرف في ذلك، وإلاّ كان كلامه صدى مردد؛ هذا إذا لم يكن مسروقاً. وعلى أن يكون ما يستعيره من المعاني وما يستعين به من الألفاظ مما يعنيه ويقتضيه الحال الذي هو عليه؛ وإلا فقد يكون ما يعينه أو يقتضيه الحال شيئاً وما يكتبه آخر. وهذا هو التكليف بل الجمود بل النفاق(47) ".
وكان كتاب وأدباء الاتجاه التقليدي يكثرون من استحضار القديم الذي لا فائدة منه، خصوصاً وأن جل استعمالهم للكلام بلفظه أو بمرادفه يكون تكراراً وفي غير مواطنه في معظم الأحيان. وقد أصبح هذا الأمر واحدة من قضايا الخلاف بين التيارين التقليدي والتجديدي الذي لا يدعو إلى تكرار الكلام بلفظه أو بمرادفه إلا في المواطن التي نصّ عليه البيانيون تفادياً من الحشو وذهاباً إلى الإيجاز... وهو لا يفيد اللغة في شيء سوى ان نراعي أصولها...(48)
لم تكن طريق التجديد في الأدب والنقد واللغة سالكة أو غير وعرة، إلا قليلاً، كما يمكن أن يخمنها أدباء ونقاد اليوم، بل على العكس فقد كانت كذلك. وخطرة أيضاً، لأن المجددين واجهوا تياراً موغلاً في المحافظة، وأربابه صناع أدب البلاط؛ الذي لم يكن ثمة غيره لأن العامة لا يليق لهم أدب أو فن. وأكثر من ذلك كان أولئك الأرباب أحد تكوينات السلطة. ويحاربون بقوتها ويستمسكون بما في الدين من محافظة؛ سلاحاً يستخدمونه في حماية القديم على اعتبار أنه جزء من التراث ومن الدين أيضاً.
وخاض التجديديون على صعيد آخر أولى معارك الصراع الطبقي على جبهة الأدب، حيث كانت مواجهتهم تعبيراً عن طرح أدبهم، الذي هو من نتاجهم بصفته أدب البرجوازية (بكل شرائحها المتوقعة) مع أدب الإقطاع الذي تطور عبر هذا الصراع ومع الزمن حتى وصل إلى مرحلة ما سمي بأدب الأرستقراطية. وتشكل هذا الأدب حين اعترف التقليديون بأهمية القبول ببعض أشكال التجديد التي فرضت نفسها كضرورة في الأدب والنقد واللغة. ومن فرط تشبثهم بالموقع قبلوا المغادرة على مضض، ولكنهم لم يتنازلوا برغم ذلك عن أحقيتهم في التمييز؛ فلجأوا إلى أسلوب (المنفخة) في الحياة وفي الأدب باستخدام المفرد المتكلم ضمير الجمع بدل استخدام ضمير المفرد المتكلم. فكان الواحد منهم يقول "نحن عملنا" بدلاً من قوله "أنا عملت"،...الخ.
لقد خيضت معارك ضارية عبر هذا الطريق بين أتباع المذهبين. وكان للأديب خليل السكاكيني فيها صولات وجولات مع سدنة التقليديين بدءاً من صديقه وملازمه محمد إسعاف النشاشيبي إلى الأمير شكيب أرسلان. وقد شهدت الصحف المحلية والعربية وقاعات المحاضرات واللقاءات وقائع هذه المعارك وما دار فيها من سجالات ومراجعات وردود. وكانت جريدة السياسة القاهرية واحدة من أهم هذه الساحات. وقد اكتسبت تلك السجالات والمراجعات أهميتها الخاصة بما استطاعته وقائعها والتفاعلات خلالها وخلاصاتها من إظهار قدرة على تعيين وتحديد مفاهيم وسمات التيار التجديدي بشكل أكثر دقة وتفصيلاً، من امتعها بعوامل تمييز وضحت بشكل نهائي الخلاف بين التيار التجديدي والتيار التقليدي.
وكان من أبرز ما رآه الأديب خليل السكاكيني على هذا الصعيد: "...إن التطور ناموس عام. فما من عنصر من عناصر الحياة إلا خاضع له رضينا أم كرهنا. ومن لا يؤمن بهذا الناموس فقد جهل كثيراً.. ولا بد أن تكون قد رأيت أن اللغة خاضعة لهذا الناموس وأنه ما من سبيل لإخراجها عن حكمه...
ومن آثار التطور في اللغة، أن الناس كانوا يميلون إلى الإكثار في الكلام فصاروا يميلون في هذا العصر الأخير إلى الإيجاز... ومن تلك الآثار أن الناس كانوا يميلون إلى التكلف في الكتابة فصاروا يميلون إلى الأساليب الطبيعية فيها. كما كانوا يتكلفون في كل شيء فصاروا طبيعيين في كل شيء...(49)".
ورأى السكاكيني أن "الكلام ثلاثة أنواع: إما أن يكون مساوياً للمعنى المراد لا ينقص عنه ولا يزيد عليه، وهو المساواة. وإما أن ينقص عنه، وهو الإيجاز. وإما أن يزيد عليه، وهو الإطناب. أما المساواة فمقبولة مطلقاً. وأما الإعجاز والإطناب فلهما مواطن وشروط نصّ عليها البيانيون. وليس فيما نصّوا عليه ما يجيز أن يكيل الكاتب المترادفات كيلاً. وأنت إذا تفقدت كلام العرب في أشعارهم وأمثالهم وخطبهم ورسائلهم علمت أنهم يميلون إلى الإيجاز وأنهم يكرهون التطويل الممل، بل إن عندهم نوعاً من الحذف يقال له (الاكتفاء)، فبدلاً من أن يقولوا:"لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" قالوا: "لا حول ولا". ومنهم من يختصر هذا فيقول: "لا ولا"، فما قولك في عصر كادت تغلب فيه لغة التليغرافات، فلو كان الكاتب يدفع ثمن كل كلمة يقولها لما سلك من طرق الأداء إلا أخصرها وأوضحها. ولو كان ينقد عن كل كلمة يقولها لما وجد من يشتري له قولاً(50)".
والأسلوب كما حُدّد مفهومه ببعض ما ذكر من قواعد المذهب التجديدي كان السكاكيني يراه للشعر كما هو للنثر، وكما يراه للأدب فهو للنقد كذلك؛ وهو للغة أيضاً.
أحدث الإنتصار التدريجي للتيار التجديدي تأثيرات مباشرة وواسعة طالت حتى بعض أعضاء التيار التقليدي البارزين في فلسطين، فأخذوا بسبب تلك التأثيرات ينزعون إلى الأرستقراطية في هذا الزمان الذي ازدهرت فيه الحرية والاستقلال والقومية والمساواة وألفاظ ومعاني جديدة مثل الديمقراطية. وصار الكتاب لا يكتبون للخاصة ولا لتسلية الأمراء والكبراء أو التملق لهم أو السخر منهم، ولا للتفصح أو المدح، بل لعامة الناس ولفيما ينفعهم في هذه الحياة. ولكنهم لم يؤثروا الأساليب الحديثة التي تتناسب وحدها مع ما حدث لديهم من تطور، بل احتفظوا بأساليب كتابتهم، حرصاً على نزعاتهم غير المحدودة إلى التميز. فهم ظلوا يبالغون في التأنق وتخير الألفاظ، ولو خرجوا على الكلفة فذلك ليؤكدوا أرستقراطيتهم.
ويرى خليل السكاكيني في هذا التكلف سخافة الأرستقراطيين خصوصاً وأنهم قسموا الكلام إلى رصين ومبتذل، أو سمين وهزيل. وما الرصين السمين في عرفهم إلا الغريب المهجور، وما المبتذل الهزيل إلا المفهوم المأنوس. ولا تشيع لفظة على ألسنة الناس إلا أصبحت عندهم مبتذلة هزيلة لا يليق بأمثالهم أن يتسَفّلوا إلى استعمالها. وربما امتنعوا عن الكتابة بتاتاً إذا اضطروا أن يكتبوا بلغة الناس...
وفي بعض الأحيان تشعر وكأنهم يكتبون إلى لا أحد من الخاصة أو العامة، عندما تجدهم مضطرين إلى تفسير ألفاظهم في ذيل كل صفحة، وقد يكون التفسير أطول من المتن وأغمض...
ويسأل السكاكيني الأدباء الأرستقراطيين عن الفئات التي يكتبون لها فيقول: "إذا كنتم تكتبون للخاصة فلا حاجة إلى هذا التفسير، بل لا حاجة إلى كل ما تكتبون. وإذا كنتم تكتبون للعامة فكلفوا خاطركم واكتبوا بلغة الناس...
ثم لو فرضنا أن هذه الألفاظ الغريبة التي يسميها الأرستقراطيون جزلة فخمة، وإن تلك التراكيب التي يسمونها أنيقة الديباجة أصبحت شائعة، فماذا يعملون؟. هل يخترعون ألفاظاً وتراكيب جديدة. أم يغضبون كما غضب الصاحب بن عباد على صاحب الألفاظ فقال: لو أدركت عبد الرحمن بن عيسى مصنف "كتاب الألفاظ" لأمرت بقطع يده. فسئل عن السبب فقال: جمع شذوذ العربية الجزلة في أوراق يسيرة وأضاعها في أفواه صبيان المكاتب؛ ورفع عن المتأدبين تعب الدراسة والحفظ الكثير والمطالعة الكثيرة الدائمة. لِمَ تغضب أيها الصاحب بن عبّاد على عبد الرحمن بن عيسى؟ ألأنه رفع عن المتأدبين تعب الدرس والحفظ والمطالعة. لا، إنما غضبت لأنه حاول أن يجعل من صبيان المكاتب وعامة المتأدبين أرستقراطيين مثلك، وليس شيء أثقل وأشد على الأرستقراطي من ان يدانيه أحد من العامة.
لقد أحسن عبد الرحمن بن عيسى في تقريب منال اللغة من المتأدبين فهو يستحق على ذلك الشكر الجزيل، ولكنه أساء من حيث لا يدري. إذ قيّد أقلام الكتاب بعده بتلك الألفاظ التي جمعها قلم يحيدوا عنها. وإذا استعمل أحدهم غير ألفاظه قالوا: هذا ليس عربياً، فكان كتابه هذا أول عهد اللغة العربية بالجمود والتكلف(51).
ويرى مؤرخوا النقد الأدبي والاختصاصيون في علوم الأدب واللغة أن أهم سمات وصفات "الأسلوب" في المذهب الرومانتيكي هي البساطة. وإن من أبرز خصائصه "اجتناب الألفاظ والتعابير التقليدية المتوارثة التي كانت تدل على معان حيّة في نفس قائليها الأوائل وفي بيئاتهم. واستخدام الألفاظ التي تدل على حياتنا في عصرنا هذا. ومن خصائصه أيضاً (الإبتعاد عن) التطويل والتكرار واستخدام المترادفات، فعصرنا الحاضر عصر اقتصادي ينزع إلى الإيجاز والإختصار، والعناية بالمعنى أولاً، فهو الغاية؛ وليست اللغة سوى وسيلة. ويجب تجنب الألفاظ الغريبة واستخدام الألفاظ القريبة الملموسة؛ (وكذلك عدم استعمال) الإستعارات والتعبيرات الخيالية واللغة الشعرية واستخدام الألفاظ المحددة الدلالات الواضحة المعاني التي لا تقبل الزيادة أو النقصان بحيث تقرر بها الحقائق. وتجنب التكلف واستخدام الأسلوب الطبيعي فيكتب الكاتب كما يفكر وكما يتحدث...(52)".
ويرى مؤرخوا النقد إن الأسلوب في المذهب التجديدي يجعل نتاجات الكاتب أو الأديب المتحقق، مشرقة العبارة، ناصعة البيان، متسلسلة التفكير، قريبة إلى الفهم، خفيفة على النفس وذلك ليسرها ووضوحها. "فهو ولا غرابة في ذلك يخاطب عقول قارئيه أو سامعيه في موضوعات عقليه ومحاكمات ذهنية، فيحسن التفكير والتعبير؛ ويبلغ غايته في التوضيح والإفهام. من هنا تتجرد ألفاظه من ألوانها وأنغامها وظلالها. ويتعرّى تعبيره من الغلالة الرقيقة التي تكشف عما تحتها فتحيطها بهالة من الأماني والتصورات والتخيلات والأشواق والأوجاع، تنفعل بها الناس إنفعالاً لم تكن لتنفعله لو رأت الصورة حقيقية مقررة وواقعة...(53)".
وتجاوب المتلقي مع وجدانيات الكاتب يكون عقلياً لأنه يفهم ما يكتب، فتثيره الحادثة لا صورتها الفنية في تعبيره. وغالباً ما يثير عوامل الإنفعال لدى المتلقي وصف الحادثة في الصحف، أو على لسان أحد كتاب المذكرات أو الشهادات.
ومع أن من أبرز قواعد ونظريات النقد الأدبي لدى التيار الرومانتيكي التشديد على ضرورة الإقلاع عن الزخارف البديعية والإيغال في البيانيات، فإن هذا لا يعني إنكار أهمية الجمال الفني، وإن ما يرفضه جعل الشكل غاية. والدليل على تقدير هذا التيار للجمال الفني رفضه لنظرية "النقد بالذوق الموهوب"، ولذا لا يجوز أن "ننكر التأنق، لأنه فطرة في بعض الناس. فقد ترى (زيداً) على غناه ووجاهته يخرج من بيته في الصباح بدون أن يغسل وجهه، على حين ترى جاره على فقره وخموله لا يخرج من بيته إلا نظيف الجسم والثوب، حسن الهندام، مسرّح الشعر.
والتأنق دليل علو في النفس وسلامة في الذوق. وهو مدعاة إلى الرقي ولكن على أن لا يظهر المتأنق أنه متأنق، وبعبارة أخرى أن لا يتأنق لأجل التأنق؛ وإلا كان دليلاً على سخافة العقل وفساد الذوق وكان مدعاة إلى التدني...(54)".
وإذا كان هذا الموقف من الجمال الفني في السلوك وعاديات الناس، فهل يليق بالأديب الحداثي أن لا يعبر عن ذلك بمثل ما هو عليه في الطبيعة، وكما تشي به حقيقته في الحياة دون مبالغة أو نزوع إلى مفردات الدهشة والإفتتان المفرطة؟.
أحدثت النتاجات الأدبية والنقدية الجديدة ومقارباتها، والمراجعات والنقاشات التي أطّرت تلك المقاربات، تطوراً ملحوظاً في أنواع الأدب المختلفة وفي النقد الأدبي، تجاوز الأدب الفلسطيني إلى الأدب العربي أيضاً، خصوصاً وإن المشاركة لم تكن مقتصرة على الأدباء الفلسطينيين بين بعضهم البعض، وإنما بين بعضهم وأدباء عرب آخرون من لبنان وسورية ومصر. وكانت النتيجة المباشرة تحدد الصفات والسمات التي أخذت تتمتع بها تيارات الأدب والنقد، وتساوقها انتمائياً مع التصنيفات الجديدة التي أصبح عليها المجتمع الفلسطيني. فحيث تراجع الإقطاع في الريف (والمدينة) لصالح الأرستقراطية بمفهومها التقليدي، حافظ الأدب الكلاسيكي (جديدة وقديمة) على كونه أدباً لتلك الأرستقراطية. ودلل الأدب الجديد على ظهور طبقة جديدة هي طبقة البرجوازية. واعتبر هذا الأدب أدبها، لأنه من حيث اختلافه مع سمات الأدب التقليدي بدا "كتعبير إيجابي عن مشاعر هذه الطبقة بكل ما يشتبك فيها من عوامل وارتباطات.
ومن هنا جاءت هذه البداية التي أحس بها الدكتور إسحق موسى الحسيني لدى الأستاذ خليل السكاكيني والتي "تبشر بنهاية تخالف نهايات غيره من المعاصرين. وتتحرر من الأوهام. إنها التصاق بالواقع، والتعبير عن الواقع السليم...
ومع أن تعابير أنواع الأدب الجديد قد عكست مثولية الطبقة الجديدة في المجتمع في الوقت الذي تراصفت معها تعابير الطبقة القديمة والأيلولة الطبقية التي أصبحت عليها، إلا أن "التعبير الأدبي جميعه في هذه المرحلة على هاتين الشاكلتين لم يكن صحيح البناء رغم جمود القوالب في الاتجاه الأول (الكلاسيكي)، وسليم البنية يتحرك مع الحياة في الاتجاه الثاني (الرومانتيكي)... وإنما كان هنالك تعبير يطلع فيه كثير من الضعف والاضطراب...(55)".
وفي ضوء هذه الحقائق يغدو من غير الإنصاف، بغض النظر عن موقع خيار اصطفافنا مع أي من الاتجاهين، أن لا نعترف بأن كليهما لم يكن إلا ثمرة جهود كبيرة بذلها الأدباء من أجل بلوغ غاية التصنيف، ربما لا تقل عن تلك الجهود التي بذلها المجتمع لتحديد مواصفات بناءه الطبقي، وسمة كل طبقة من طبقاته.
لم تعد مواصفات النقد الأدبي التقليدي في خواتم المرحلة الأولى من حياة الأدب الفلسطيني المعاصر شبيهة بالمعارف النقدية التي اشتغل بها السيد عباس الخماش أو السيد سليم اليعقوبي أو السيد حبيب خوري أو الشيخ علي الريماوي أو غيرهم، وذلك لأن قيم الأدب التقليدي ما زالت تُعد كما كانت عليه أيام سلطان هؤلاء في الأدب والنقد معاً؛ وذلك لأن الصيغ الجديدة التي آلت إليها لم تبلغ درجة التحولية التي تجبّ ما قبلها. صحيح أن التحولات لفظت بعض المفاهيم الأدبية والنقدية واستعاضت عنها بجديد من نفس جنسها التقليدي، وهو ما يدلل على أن قبول التحولات بدا وكأنه برغم قبوله سيظل يستذكر المحافظة، وهذا ما يشي في المجتمع، بأن انتقال الإقطاع إلى الأرستقراطية كان تغييراً في السلوك والوظيفة الاجتماعية وليس في الفكر أبداً. وبذلك ظلت السمات العامة للنقد على نفس المقاسات التقليدية التي لا تسمح لتطورات الحياة ببلوغ ما يمكن الأدب لأن يشب عن الطوق ويفقد مواصفاته أو يتخلى عن بعضها. ولذلك فقد ظل الأدب دينياً محافظاً وتقليدياً حتى عندما لم يعد أدب الإقطاعية، وإنما أدب الأرستقراطية. وظل أدباء الاتجاه الكلاسيكي يهتمون بالتراث العربي القديم موضوعاً وأسلوباً. وعامل النقد الحاسم لديهم هو القالب اللغوي، إذ يهتمون به أكثر من الاهتمام بالمضمون وبالموضوع نفسه. ويقوم أسلوب هذا التيار على التعقيد وضخامة التراكيب وغرابة الألفاظ. وكانت النتاجات الإبداعية لعامة الكتّاب تبدو ركيكة في الأسلوب وضعيفة التراكيب خصوصاً أن معظمها لم تتجاوز الخطب والقصائد التي كانت تتلى في حفلات المناسبات العامة، أو مقالات أدبية وتاريخية تنشر في الصحف والمجلات.
وقد عُرّف الشعر وفق هذا التيار بأنه "الكلام البليغ المبني على الاستعارات والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والرّوي. مستقل كل جزء منها في غرضه عما قبله وبعده. الجاري على منهاج الأساليب المخصوصة به.
والنقد الأدبي وفق قواعد التيار التقليدي لا يقوم على أسس ذوقية أو جمالية علمية. وأكثر من ذلك أنه يمكن القول أن النتاجات الأدبية في بداية عصر النهضة كانت تخلو من أي نقد باستثناء التقريظ الذي يحتفل بشكل رئيسي بالدوافع الشخصانية البحتة. وهو في المرحلة الثانية لم يلحظ التقدم الذي أحرزته الآداب تساوقاً مع تطورات جوانب الحياة الأخرى بعد إعلان دستور سنة 1908م والنهضة الصحافية العارمة التي شهدتها فلسطين بدءاً من عشية ذلك الإعلان.
لقد تحول التقريظ إلى أنماط إعجاب بالأعمال الأدبية بلغة مفخمة تحتفل باللفظ أكثر من احتفالها بالمعنى دون الكشف عن علاقة العمل الأدبي بمعاني الحياة. وأكثر من ذلك فإن ملامح النقد الأدبي كانت تتمثل القيم الدينية الأصولية التي كانت تكتسح النتاجات الأدبية لمعظم أدباء التيار التقليدي. ويكاد يعتريه بعض شوائب النفاق المبتذل لأن النتاجات الأدبية كانت شبه مكرسة لمدح السلاطين وولاتهم من كافة المراتب بما فيها المخاتير والوجهاء من ذوي المال والنفوذ.
ويعتبر من رواد هذه المرحلة الشاعر سليم اليعقوبي الذي لقب نفسه "حسان فلسطين" تيمناً بحسان بن ثابت شاعر الرسول، والشاعر يوسف النبهاني، والشاعر علي الريماوي، وكانت كتاباتهم تقوم على التقليد، ويبدو بعضها ضعيفاً ولا يقوم على مقاييس نقدية معاصرة. وقد ظلت نتاجاتهم محافظة تنتصر للسلطة وترفض الإصلاح ومن ينادي به. وكان هذا الاتجاه لا يقتصر على أدباء من فلسطين فحسب، وإنما من سورية ولبنان أمثال شكيب أرسلان. وظل هذا الاتجاه سياستها على نفس موقفه المؤيد للحكومة والمعارض لحركة النضال الاستقلالي المطالبة بالتحرر والإنفصال عن تركيا، إلى أن لفظت الحكومة التركية هذا الإتجاه العثماني من صفوفها، فأخذ يتظاهر بالعروبة ويتمسح بقادة الدعوة لها، وينسج علاقات تعاون مع المنابر الصحافية التحررية والوطنية، كما فعل الشيخ علي الريماوي عندما أخذ يشهر تغير مواقفه السياسية وآراءه ضمن مقالات وقصائد ينشرها في معظم الصحف بما فيها جريدة "الإنصاف" التي كانت تصدر في القدس ويملكها بندلي الياس مشحور، ومجلة "النفائس" الشهيرة.
بشكل عام فإن موضوعات أدباء التيار التقليدي في هذه المرحلة قد اختلفت عما كانت عليه بعد أن أصبحت تتناول الموضوعات التي جدّت في الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية، ولكنها ظلت إنشائية مفخمة في المنثور. والمنظوم منها ظل يقوم على البناء التقليدي للقصيدة ذات الوزن الواحد والقافية الواحدة، وتشابهة مع نظم القدماء في الأسلوب، وبناء الصور، والاعتماد على الزخرف اللفظي أكثر من الاعتماد على وضوح المقال.
وتعزز الاتجاه التقليدي في هذه المرحلة بعودة محمد إسعاف النشاشيبي من لبنان بعد أن أنهى تعليمه في مدرسة الحكمة في بيروت، التي شربته قيم المحافظة والتقليد في الأدب. وانضم محمد إسعاف النشاشيبي إلى الحلقات الأدبية في القدس وإلى تيار الكلاسيكية في الحركة الأدبية الفلسطينية، وظهر نشاطه الواسع عبر مقالاته الكثيرة والمتنوعة في الصحف والمجلات الفلسطينية. وكذلك في مراسلاته لبعض الصحف العربية.
كان النشاشيبي في كتاباته يمثل بعمق الاتجاه المحافظ الذي يميل إلى التأنيق والزخرفة، وإلى قوة التعبير وجزالته؛ ويرى أن العودة إلى تقليد القدماء هي الأساس الذي يجب أن يسير عليه الأدباء.
وبرغم تقليدية النشاشيبي إلا أنه كان على إطلاع واسع بالثقافة الأوروبية والثقافات الأخرى، فقد كان في كتاباته ومناظراته يكثر من الاستشهاد بأقوال الفرنسيين والأمريكيين. ويقدر أهمية التطور الذي بلغته المدنية الأوروبية الحديثة... حتى عندما يرى بعض مظاهر السلبية في هذه المدنية.
وكان إسعاف النشاشيبي غيوراً على القديم حرصاً على حمايته باعتباره تراثاً قيماً، وجذراً حياً لجميع المعارف الثقافية والأنواع الأدبية، وقد عكس هذه المواقف بدفاعاته المختلفة عن هذا التراث مع مختلف الأدباء. وفي هذا السياق قامت بين النشاشيبي وأمين الريحاني مراجعات حول التقليد والقديم، ولكنها لم تظهر في جريدة فلسطين (اليافاوية)، في حين أن المراجعات بين خليل السكاكيني وشكيب أرسلان حول نفس الجوانب الأدبية والنقدية احتلت مكانة بارزة على صفحات جريدة السياسة القاهرية.(56)
كان محمد إسعاف النشاشيبي محافظاً يرى إن الكتابة يُعْتدّ بها إذا كانت بأسلوب عصر الجاهلية وصدر الإسلام. ويرى أنه على الأدباء أن يكثروا من استعمال المحسنات البلاغية وانتقاء الألفاظ الثقيلة والعبارات القصيرة المتقطعة؛ ولا يأنس بالسهل من التعابير، وكان هذا هو أسلوب النشاشيبي في الكتابة. ولذلك كانت هوامشه في الغالب أكثر من متونه لحاجته إلى شرح ألفاظه ومعانيه للقراء.
وكان محمد إسعاف النشاشيبي يتمتع بمكانة في التيار الكلاسيكي كتلك التي كان يتمتع بها صديقه خليل السكاكيني على رأس المدرسة الرومانتيكية. وكان من أبرز أدباء التيار التقليدي في هذه المرحلة سليم حسن اليعقوبي وعلي الريماوي والشاعر إبراهيم الدباغ الذي يتمتع باحترام وتقدير شديدين في مصر وفلسطين، وتحتفل بنتاجاته الأدبية الصحف والمجلات في كل منهما.
لقد كرس إسعاف النشاشيبي جهوده للدفاع عن التقليد بمفاهيم مرنة تلحظ متغيرات الحياة. وباستخلاصات أبحاثه ودراساته التي بذل فيها تلك الجهود تحددت أوصاف وسمات المذهب الكلاسيكي الأساسية في الأدب والنقد الأدبي واللغة. وكل ما استجد بعد ذلك يمكن إدراجه في إطار الإضافات والتفاصيل. ومع أننا أتينا تقريباً على معظم هذه السمات في مجالي الأدب والنقد الأدبي عند تناول المذهب الرومانتيكي ونقاشنا لاختلاف المذهبين عن بعضهما البعض حول البناء الفني، والتراكيب ودرجة الدينامية في النص...الخ؛ إلا أن جهود النشاشيبي قد حددت بدقة سمات التيار الكلاسيكي عندما حسمت دراساته بشكل قاطع ما يتصل بأولوية المعنى أم اللفظ؛ حين قال "... وأما قولهم أن المعوّل عليه هو المعنى لا اللفظ، وأن أمر الثاني ليس بذي بال، فهو قول أملاه الخبث والعجز والجهل...
"وإن انبرى لنا زنيم في العلم فقال: إن الأمة لا تفقه القول إن اتصف بما تبغيه منا وان المعاني لتعمى عليها، أجبناه إن كنت تعني بالأمة جهالها فهؤلاء لا يعبأ بهم عاقل، وهؤلاء لا يبالون أصح القول أم سقم. والجاهل خارج عن الدائرة لا يجري عليه حكم ولا يعد في الناس...(57)".
وكان من أبرز التطويرات التي أدخلها إسعاف النشاشيبي على قواعد التيار الكلاسيكي، الإقرار بأن لكل عصر لغته، وإن لطبقية العصر سلطاناً يفعل فعله ويسم أوجه الحياة العامة به.
ومن جانب آخر خفف النشاشيبي من التشدد في الدعوة لاعتماد الأسلوب التقليدي البحت في الكتابة، وذلك حينما رد على المعيبين على أتباع التقليد تشنجهم في التعصب لهذا الأسلوب بقوله: "...وأما قولك بأنك تهرب من استعمال الغريب الوحشي غير الفصيح ولا تريد أن تتقعرّ في كلامك، ومقصودك بهذا القول أنك لا تهوى التوعر والتعقيد، فمن دعاك إلى هذا ومن حببّه إليك. وأي أديب ذي ذوق قال لك أن استعمال الغريب الوحشي الذي أنقذ الإنتخاب الطبيعي اللغة منه منذ أحقاب؛ محمود مندوب إليه...
"ليس الغريب غير الفصيح الذي سمعت البلغاء يعيبونه، ما غرب معناه عنك وعن أشكالك. فقد قال ابن رشيق في العمدة: الكلمة الوحشية هي التي لا يعلمها العالم المبرر والإعرابي القُحّ...(58)".
ويسجل للأديب محمد إسعاف النشاشيبي التصويبات التي حققها حول ما يتصل بـ "نهج البلاغة" ونسبتها للإمام علي بن أبي طالب، ويرى وجاهة في رأي بعض الأولين الذين يشككون في صحة ترابطية هيكلية النصوص كمؤلف وضع وفق تصميم وترتيب كاتبه، الذي لا يجزمون أنه "علي بن أبي طالب".
وتسائل عن المثالب في التفسيرات التي قدمها أولئك الأولون باعتبار أن "النهج ما هو إلا جمع من هنا وهناك. فخطبة قطري بن الفجاءة في "ذم الدنيا" ذكرها إبن عبد ربه في كتابه العقد الفريد". وخطب لطائفة من المحدثين يؤيد مثل هذا الافتراض، خصوصاً وأن ألفاظها الموّلدة كالأزل والأزلية ومباحثها التوحيدية الكلامية، لم تدر بها العرب إلا في القرنين الثاني والثالث الهجريين.
وقد ضل بن أبي الحديد إذ قال: إن علياً كان يعرف آراء المتقدمين والمتأخرين ويعلم العلوم كلها.
ويتناول النشاشيبي المزاعمية الطافحة لأهمية بعض الكتب والتآليف المتصلة بالأحاديث النبوية أو التفسيرات القرآنية أو الحكم أو الأقوال المأثورة، فيشكك في صدقية كينونتها التأليفية الزمانية والمكانية معاً؛ وكذلك في نسبتها للمؤلف الذي قدمت على أنها من إنتاجه.
ويستند المحققون والباحثون في هذا الشأن على استنادات برهانية تقوم على غربة التراكيب اللفظية، ودلالات المعاني عن تلك التي كانت رائجة التداول في ذلك الزمان والمكان؛ خصوصاً في عصر صدر الإسلام.
ويكاد إسعاف النشاشيبي يجزم بثقة أن سبباً رئيسياً من بين أسباب أخرى إضافية، يقف وراء ظهور مثل هذه الكتب ونسبتها لمن زعم بأنهم مؤلفوها، يعود إلى المكانة المثالية والرمزية السياسية أو الاقتصادية أو الدينية أو الروحية لأولئك (المؤلفين) في الأوساط الشعبية، والتي كانت تستمد دائماً من حسب ونسب المنسوب إليه التأليف؛ والمكانة القيادية التي تبوأها أو كان يستحقها وسرقت منه. وهنا تقتضي الضرورة أن نستذكر بأن في الموروث ما يساعد على مثل هذا الاعتقاد، حتى عندما يكون في جزء منه افتراضياً. ويمكن أن يُفسر ذلك من متابعة بعض المعطيات ووقائع بعض الأحداث التي دأب عليها الأقدمون وتتصل بتبجيل العظمة وإبراز تفوقه. وفي هذا السياق قال النشاشيبي "...دأْب على مثل هذا المغرمون في نابغتهم وعظيمهم أو صاحب نحلتهم، فإن كلفهم به (أي كتابه) يُغطّى على أبصارهم، فينسبون إليه كل صنع باهر لم يصنعه، وكل قول بليغ لم يقله، وينعتونه بكل نعت غريب. ويروون عنه كل أمر عجيب، وربما يألهوه...(59)".
وبالاستئناس بمثل هذا التعليل لكيفيات النقل والتجميع والنسبة يستطيع النشاشيبي رد الكثير من الخطب والأقوال والكلام والحكم إلى أصحابها، ويذكر مظانّها. ويعيد الظاهرة إلى دوافعها بقوله "...إن كتب اللغة لتنبئنا بأن الرواة كانوا يتقربون إلى الخلفاء والسلاطين والنبهاء في الدولة برواياتهم. فكانوا يصنعون الأحاديث ويختلقون ما لم يكن، ابتغاء خير يأملونه عند من يعملون سلعتهم الأدبية إليه، أو أجْلَ تبريرهم لأقرانهم برواية قول أو شعر استبدوا هم بمعرفته... "وربما صاغ العلماء والأدباء الحديث لينصروا مقالة لهم أو لنحلة، كما فعلت جماعة علي في تزوير بعض خطبه. وكما فعل هؤلاء في اختلاق الكلام المعزو إلى فاطمة والمنشور في كتاب (المنظوم والمنثور) لأحمد بن أبي طاهر، ليضعوا من مقدار صديق النبي وليحزنوا به شيعتهم. وإنه ليستبعد العاقل أن تدنو نفس فاطمة فتُقْبل في كمّة من حفدتها وتدخل على أبي بكر في حشد من المهاجرين والأنصار ثم تنشئ تئن أنين الأمة وتَخنُّ خنينها من أجل قرية لا تساوي دمعة واحدة من دموع أم الحسن التي دمعها في الحوادث غال. وإن لغة ذلك القول تنادي على أنه مزّور(60)
ومع أنه يسجل للأديب محمد إسعاف النشاشيبي الريادة في استخدام أسلوب المقاربة اللغوية والأدبية في التحقيق في الوقائع والأحداث التاريخية، وفي فحص المؤلفات والكتب الموضوعة، بالقياس على المستوى والواقع الأدبي واللغوي الذي كان قائماً إبان تلك الأحداث، إلا أنه يسجل عليه وهو يورد المناقشة في بعض ما ورد حول فاطمة في كتاب "المنظوم والمنثور" أن النشاشيبي قد تمترس وراء خندق سُنّيته دفاعاً عن أبي بكر، وتناسى أن فاطمة طعنت في أهلية نتائج اجتماع "سفيفة بني ساعدة" المشهور وأنها رفضت مبايعة أبي بكر كخليفة لأبيها، لأنه ليس الأحق بذلك برغم قرارات السفيفة. وأن فاطمة قد عوقبت على هذا الموقف، كما يقول المجددّون من أصحاب الرواية الأخرى لتاريخ الإسلام، وأن أبا بكر حرمها من ميراث أبيها "لأن الأنبياء لا يورثون"، وأن فاطمة وحفدتها (وهم عائلة الرسول محمد وسلالته) قد سُبوا وذاقوا الأمرين طيلة حكم الأمويين(61). وإن هذه (السُنّية) تجيز لأي من الشيعة أو المحايدين التشكيك في تصويباته لكتاب "نهج البلاغة" ونسبته إلى علي بن أبي طالب، مثلما هو الأمر في بعض كتب التفسير والأحاديث.
كان الأديب محمد إسعاف النشاشيبي قيمة أدبية ذات أثر كبير في نهضة وتطور الأدب والنقد الأدبي، أهلته لأن يكون على رأس التيار التقليدي بجدارة، وعكست نلك القيمة نفسها بالمزايا والخصائص الجديدة التي أصبح يتمتع بها هذا التيار. لقد طوّر النشاشيبي أساسيات قواعد النقد الأدبي التقليدي، دون أن يهدم أياً من أركانه. فأولى الشكل عناية فائقة ولكنه لم يهمل المضمون وهو يفتتن بالفن الشكلي.وعمق مفهوم النقد التأثري في المنهج عبر دراسات نقدية اتسمت بمفاعلات تطبيقية لأركان الشعر العربي.
وكان للنشاشيبي مراجعات ونقاشات مع النقاد الفلسطينيين والعرب حول أساليب الكتابة وطرائق النقد ودورها في تنمية الآداب واللغة العربية. وكان من أهم وأبرز تلك المراجعات فلسطينياً تلك التي جرت بينه وبين الأديب خليل السكاكيني، وعربياً مراجعاته لأطروحات الأديب أمين الريحانيي؛ وكان بضمنها مقالاً حمل عنوان "اللغة العربية والأستاذ الريحاني"، رد فيه على ما ورد في مقال الأستاذ الريحاني "الذي غاب فيه التقليد والإعراب. وهجّن (اصطلاحات واستعارات يشغف بها المقلدون)، وعَدّ الإنشاء فناً، والتجاوز في الفن والكلف خسران، واللغة ذريعة، واتخاذ الذريعة غاية ضلال. ورأى أننا محتاجون إلى الذي هو أنفع، إلى العلم العربي الحق، فلا يجوز أن يشغلنا الكلام المزوّق عنه".
ويتناول الأستاذ النشاشيبي هذه العيوب واحداً واحداً. ويبرأ منها كلها. ومما يقوله في مراجعته: "...فنّ اللغة فنّ، وفن إنشائها فَنّ، فلا تسألوا الفصيح البليغ في المقال أن يذر فصاحته وبلاغته، وذا الفن أن يهجر فنه وينزل من عليائه إلى فنائه، ويزايل عزلته، ويماشي جماعته، ويبتذل أسلوبه وهو يستطيع صيانته. ودعه يفنن في الإنشاء كيف شاء...(62)".
مذاهب لغوية
إن المنجزات التي حققتها حركة النهضة القومية في العقد الأول من بداية القرن العشرين فتحت أبواب الإتصال مع العالم الخارجي على مصاريعها، فتعددت آليات التبادل في التناقل والإطلاع والاقتباس والمحاكاة بين أنواع الأدب الفلسطيني وما يماثلها من آداب الشعوب الأخرى، وخصوصاً الأجنبية. وتجاوزت التفاعلات النهضوية في مجال الثقافة ديناميات الحراك في أنواع الأدب المختلفة، وطاولت اللغة العربية؛ خصوصاً بعد أن أصبحت مثقلة بمسؤوليات خلق مفردات جديدة تعبر عن معاني وألفاظ جديدة في تداولية معيشة العرب اليومية. وأمام حقائق الواقع المتسارع التغيير بفعل جموح تفاعلات النهضة، بدت اللغة العربية وكأنها في مختبر فحص أهليتها الدينامية وقدرتها الإنجابية والاستيعابية. فتزايد الاهتمام بمراجعة علومها ونظريات قواعدها ووظيفتها ودورها. وتكاثرت الآراء وتنوعت المجالات المختلفة ذات الصلة باللغة. واختلف الأدباء والعلماء واتفقوا بين بعضهم البعض، وفق ما أمكن استقراؤه بسهولة من المراجعات بينهم؛ والتي احتلت حيزاً كبيراً من مساحات الصحف والمجلات في ذلك الزمان. على أن علم اللغة أو الفلسفة اللغوية يقوم على كونها "حياة وتقاليد وأخلاق ومقدسات... وصاحب اللغة من يعني بها لنفسها ويكتب ويخطب ويتكلم بها، ويحاول إعلاء شأنها، ويفكر على أساليبها، وينظر إليها نظرة افتخار وتقديس". ولكن العلماء اختلفوا حول جوانب تفصيلية. فحيث رآها بعضهم "غاية في حد ذاتها" رآها بعض آخر "وسيلة" وهو لا يرى مانعاً من تناول العلوم بغيرها في الوقت الحاضر ما دام ذلك غير ممكن بها حالياً(63)".
ومن بين الاختلافات والتوافقات بين العلماء حول "علم اللغة" أو "علم مقابلة اللغات" يُستشرف بسهولة وجود تقاطع مشترك يتمثل في الإقتناع بأن الحراك في الرأي حولها تعبير عن ازدهار في الفكر وفي الأدب، عكسه تطور النهضة للتعبير عن تقدم الحياة. أي أن المستوى اللغوي مرتبط بالمستوى الحضاري للأمة.
وبشكل عام تتصف المراجعات الألسنية حول اللغة بنفس عوامل التصنيف التي اعتمدها الأدباء في الأدب والنقد الأدبي، وتعيين اتجاهات المصنفات بين التيار التقليدي والتيار التجديدي; حيث حفلت المراجعات بآراء في اللغة وقواعدها، وفي النحو والإعراب وغيرها؛ كانت فسحة الإختلاف بينهما واسعة وكانت رؤى تطورها المتوقعة مختلفة لا بل ومتناقضة في بعض الأحايين.
وكان محمد إسعاف النشاشيبي رأس المذهب التقليدي أو الكلاسيكي في اللغة، حيث أجلها بتطرف شديد إلى حد العشق المستمد من الإقتناع بكمال الحبيبة، فمدحها وأطراها وبجّلها وقدسها. وأحزنه كثيراً عندما اكتشف أن السلف كان غير مدرك لأهمية وقيمة اللغة العربية، ولذلك أهملها وتخلى عن مسؤولية الدفاع عنها أمام اعتداءات العابثين وسياسات المعتدين من المتسلطين. وفي إطار ممارسة هذه الدفاعات وضع في سنة 1911م كتابه "اللغة العربية وسوء حالها"، الذي أعرب فيه عن ثورته على قومه وغضبه عليهم لجحودهم فضل اللغة العربية. ودفعه هذا الحرص إلى نبش ما عظم من الموروث وقراءته وإبداء رأي لغوي فيه، ثم جمعه وتقديمه إلى الأجيال العربية الجديدة التي يريدها عارفة مكانة لغتها؛ فتقدم لها ما تستحقه من الاحترام. وكان باكورة ما عمله على هذا الصعيد جمعه كتاب "أمثال أبي تمام" على الطريقة التي كان قد جمع بها الصاحب بن عباد "أمثال المتنبي". ويقول إسعاف النشاشيبي أنه قد قرأ من أجل ذلك قرابة أربعمائة كتاب من كتب الأدب واللغة، وبذل خلال قراءته، أو سعيه من أجل الحصول على تلك الكتب، جهوداً مضنية قال النشاشيبي حولها الكثير، ومنها قوله "غدوت إلى ديوان حبيب، وأنشأت أختار من قلائده وفرائده ما أختار، وأوضح في اللفظ الغريب من الأمثال ما أوضح، وأعلق على بعضها من النوادر الأدبية والنكات اللغوية ما يمزج اللذة بالفائدة سالكاً في ذلك سبيل الإيجاز هرباً من تبرم القارئ وملله(64)".
ويرى السكاكيني " أن اللغة هي الأمة، والأمة هي اللغة. وضعف الأولى ضعف الثانية، وهلاك الثانية هلاك الأولى. وكل قبيل... جد حريص على أن يستمر كونه وعلى ألاّ يبيد، فهو يستمسك بلغته للاحتفاظ بكينونته. واللغة ميراث أورثه الآباء للأبناء. وأحزم الورّاث ضائن ما ورث. وأسفههم في الدنيا مضيّع. وأن العربية لو لم تكن الجمال الأجمل ، ولو لم تكن اللغة المصطفاة... ولو لم تكُ لغة عجباً ما اختارها الدهر لقرآنها(65)...".
وتتجمع كل مزايا المذهب اللغوي القديم التطبيقية في أداء مهمة صيانة اللغة وتعزيزها وترقيتها وتوفير أسباب انتشارها وتعوّد الإقبال عليها في شعوبها. ويتمسك أرباب هذا المذهب باعتبار "اللغة العربية هي لغة مُضَرْ. وهذا هو مبعث اعتزازهم الرئيس بهذه اللغة التي لا يمكن أن تكون فوق أهميتها لغة أخرى. "وهذه العربية التي هَيّمنا حبها وليس ثمة عاذل، وعبدناها ولا يعيب عبادتها عندنا إلا جاهل؛ لن يثبت في هذا الكون حولها... إلا إذا عرفت الغربية هذه المدنية. لأن العربية كالغربية ربّة مدنية، وحالها بصحبة المدنيات مشتهر... (وهي) لما ظعنت عن جزيرتها لاقت في طريقها المدنية الإغريقية فما صعّرت عنها خدها ولا تعّبست، وما أدلت بفضلتها (وإنها لذات فضيلة) ولا تعجرفت، واستقنت بأنها أعلم منها. فأطالت الجثوم بين يديها، وحدثت عنها(66)...".
ويسجل للأديب إسعاف النشاشيبي أنه برغم تشدده في المذهب التقليدي فقد جعل للعقل متسعاً في ميدان أبحاثه ودراساته ومراجعاته، إلى حد بدا فيه وكأنه متساوق مع بعض أطروحات المذهب التجديدي في موضوعة علاقة اللغة بتطور الحياة. وهو برغم دفاعه المستميت عن اللغة العربية في أصولها وجذورها وصيرورتها المتجددة في مراحل حياتها المختلفة، خصوصاً في عصور الحضارة الإسلامية حين استوعبت التجديد، في الوقت الذي حافظت فيه على مُضَريتها؛ لا يتنكر لمذهب "النشوء والترقي" في اللغة. وهو يرى أن "...لغات العالم كافة، أي لغات التصور والفكر إنما أصلها لغات الأصوات وقد ورثها الأناس عن الآخرين من قردة آخر الوقت المعدني، كما ورثوا عنها سواها... وقد آثرت الطبيعة فطين منها للغة العربية كما آثرت غيرهم من الأمم بغيرها... ولكن هذه اللغة لم تكن في أول يوم أنيقة مجوّدة كما حملها إلينا (الكتاب) المعجز، وقصائد شعرائها. فقد كانت مثل شقائقها، فشذّبها الشعر وصقلها حتى عادت كالوذيلة المشوّقة. وهذا صنع الإنتخاب الطبيعي..."
والنشاشيبي لا يقبل من المجددين ولا من غيرهم الافتراض بأن "الزمان ليضيق عن الإحاطة بالعربية والتوغل في آدابها، وإن سنة ارتقاء اللغات تخالف شريعة المتمسكين بالقديم. وأن المُعّول عليه هو المعنى وليس اللفظ، وما أمر اللفظ عند العلماء بذي بال. وأقاويلهم هذه أضاليل وأباطيل. والباطل مضمحل فلا تَغُرّنك جولته. وللحق الحكم في كل حين فاسمع حكمه...
"...وإن مذهب النشوء لم يخالفنا (المجدّدون) ولم نخالفهم حوله في حال... وأنه المذهب الذي يقول: إن كائنات الكون نشأت نشوءاً وارتقت ارتقاء لهو القائل أيضاً إن العالي يسفل والخطير يحقر. وإن الأمة التي تبلغ قمة بحدها وتكاد تلمس السماء بيدها تتدحرج القمة إلى أهضام الوادي... فاللغة العربية تبدلت يوم كانت في الجزيرة ووصلت إلى الذي وصلت إليه، ثم جاء الخطر فوقفها. وظعنت أفاريق من أهلها عن مرابعهم، ولابسوا الأعاجم فكادت العجمة تقتادهم إليها. وكاد المعرّبون يتراطنون لولا أن جد القوم في حفظها وروايتها. وقد كانت العربية تمشي منذ ذلك الحين القهقرى لا اليقدميّة...
وقد عاب إسعاف النشاشيبي على العلماء والأدباء الذين يحتفلون بشيمة البديع المتكلف، سوء ما يقومون به. وذلك لأن اللجوء إليها، الذي يراد منه بلوغ النكتة البديعية في النّص ما يقوّض قواعد اللغة العربية تقويضاً مبيداً(67)..."
من هنا نرى أن المذهب التقليدي يقوم على تقديس القديم ويدعو إلى الغَزل على منواله، والتمسك بقيمه والدفاع عنها وعن قابليتها وأهليتها في كل العهود. وأرباب المذهب التقليدي وفي مقدمتهم النشاشيبي مفتونون بالقدامى، وذلك لأن "المتقدمين هم الأعلون وهم المتقدمون وهم المُجَلّون في حَلَبة العلم العربي والأدب؛ وهم السابقون. وإن دأبنا في هذا الزمان أن نستهديهم وهم هُداة الحائر فيهدون. ونأْتمَ بهم وهم الأئمة فيرشدون. ونسألهم من فضلهم وهم الكرام فيحسنون. ونجودهم الجود من شناشنهم فيجودون(68)...".
وخاض إسعاف النشاشيبي في سبيل الدفاع عن المذهب الكلاسيكي معارك أدبية كثيرة (كان بعضها ضار) عبر مواجهاته ومساجلاته مع الأدباء والألسنين الفلسطينيين والعرب، وفي المقدمة منها مراجعاته مع الأديبين خليل السكاكيني وأمين الريحاني. ووضع النشاشيبي من أجل ذلك الدفاع عدداً من الكتب في أوقات مختلفة، كان من أبرزها كتابه "قلب عربي وعقل أوروبي" و"العربية وشاعرها الأكبر أحمد شوقي"، التي أمدت المذهب التقليدي في اللغة بما فيه من زخم وقدرة إحاطة. فبدا النشاشيبي أصيلاً شامخاً يمضي في اللغة كما مضى في الأدب وفي النقد الأدبي.
واهتم إسعاف النشاشيبي عند دفاعه عن اللغة العربية ليس بالانتصار لها وحمايتها فحسب، وإنما العمل عل "خلق جيل عربي أصيل تكون ملكة اللغة متمكنة من نفسه وقلبه وفكره، فيخدم بذلك اللغة خدمة تطبيقية عملية أكثر مما يخدمها بالنظريات!. ومن هنا تمسك بالأسباب التي جعلت مؤلفات النشاشيبي ومراجعاته عملانية تطبيقية، فبدت آثاره جهداً إيجابياً في حياة اللغة. والنشاشيبي وإن لم تتميز بنظريات فلسفية في علم اللغات. إلا أنه كان علماً بارزاً من أعلام اللغة في المذهب القديم. وأصبحوا ينسبون إليه كل تقعرّ أو غرابة في اللغة(69)..."
إن المذهب التقليدي ودفاعات النشاشيبي المستميتة عنه، والتي ابتدأت في رسم تحديدات ملامحه قبل مائة عام تؤشر إلى أن مدلولات مفاهيم معاصرة عن الحداثة في اللغة قد حسم بعضها بشكل نهائي، وبعضها الآخر لا زال موضع نقاش حيوي بين ذوي التخصص من الألسنيين والناقدين وعلماء الأدب واللغة والأدب المقارن. فيتحدث المعاصرون عن الحداثة باعتبارها الفردانية في الرؤية المباشرة والعمقة والتبصر والاستشراف. ويرون أن تعاونهما لا بل وحتى اختلافها بين حداثي وآخر حول الموضوع نفسه لا يقلل من سماتها أو يطعن في أهليتها الحداثية. وأنهم يرون جميعهم أن فصاحة التفكير وجودة التعبير عندما يكون بعامية اللغة، يجعل منها أفصح الفصاحة؛ لأنه يعكس بتلقائية مباشرة مدى تأثير التغير في السياقات الاجتماعية إلى الحد الذي يجيز تعريف الاختلاف بين الحداثيين بأنه هو الحداثة.
وإذا كنا لا نستطيع بلوغ مثل هذه التوصيفات واستلهاماتها في الإنتاجات لأنواع الأدب في تلك المرحلة، فإن مؤشراتها تبدو ملحوظة في اللغة وفي بعض جوانب النقد الأدبي.
كان رموز تيارات اللغة حتى وهم يدافعون عن اتجاهاتهم، ويكابدون من أجل تأسيس أطر لآرائهم يتربعون على سدة رئاستها، يختلفون أحياناً مع مراصفيهم في الاتجاه نفسه، في حين نجدهم متفقون مع أندادهم في الاتجاه المقابل.
وعلى سبيل المثال فببقدر ما كان الكاتب خليل السكاكيني واثقاً من دعوته الأدبية وأميناً لرسالة المذهب الرومانتيكي، الذي أسهم بشكل رئيس في وضع قواعده ونظرياته وآليات العمل التطبيقي له، ومحارباً شجاعاً في مواجهة المذهب الكلاسيكي وخصماً عنيداً لقادة هذا المذهب وأتباعه؛ فإنه كان يحب الأديب إسعاف النشاشيبي ويحرص على مجالسته ويقدره ويرضى عن أصالته. ويعود هذا الرضا إلى تقديره العالي لأهمية دفاع النشاشيبي عن اللغة العربية طوال حياته ، وخصوصاً مواجهته لإؤلئك المستغلين الذين يتخفون تحت شعار التجديد لا عن أصالة وممارسة وطول درس، بل عن استسهال وضعف وعجز من معاناة الجهد في معرفة لغتهم وإجادتها وإدراك أسرارها. ومن هنا كان إسعاف النشاشيبي ومدرسته اللغوية ضرورة من الضرورات، لئلا يسيء الناس دعوة السكاكيني وينحدروا بها.
وتبارى المذهب التجديدي مع المذهب التقليدي والاتجاهات الوسطية الأخرى في الجهود التي بذلت للدفاع عن اللغة وحماية التراث اللغوي الزاخر. وكذلك في أعمال تنقيته من شوائب العجمة ورطانة التتريك الغرائبية وما نتج عنهما من التباس في دلالات المعاني والألفاظ إبان تفاقم سياسة الطورانية العنصرية ضد القوميات غير التركية خلال العقين الأخيرين من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين. وفي أحيان كثيرة كانت جهود جميع الإتجاهات تبدو متساوقة عندما يتعلق الأمر باحترام اللغة العربية والاعتزاز بها، وضرورة الإهتمام بتطويرها وتمكينها من استعادة قوتها وديناميكيتها ومكانتها الرفيعة التي كانت عليها حين نهضة دولة العباسيين العلمية والثقافية.
تتأسس قواعد المذهب التجديدي (الرومانتيكي) في اللغة على اعتبار أن اللغة وسيلة لا غاية، وهي تعبير عن الحياة، ويفترض أن تكون في دينامية تتمتع بقابليات تطور دائمة، لأن "التطور ناموس عام، وما من عنصر من عناصر الحياة إلا خاضع له رضينا أم كرهنا. ومن لا يؤمن بهذا الناموس فقد جهل كثيراً... وتتطور اللغة في ألفاظها وأساليبها تطوراً مستمراً في توءدة وخفاء. فلكل عصر بل لكل إقليم في كل عصر لغته وأسلوبه، حتى إنك تستطيع أن تعرف القول من أي عصر أو من أي إقليم هو، حتى وإن كنت لا تعرف قائله..."(70)
ودعوة هذا التيار إلى التجديد في اللغة لا تعني أن لأربابه موقف سلبي من اللغة، بل لأنهم من الشغوفين بها والغيارى عليها، والمعجبين بخصائصها والمتمكنين منها. وإن دعوتهم إلى التجديد فيها ليس سوى نتيجة لطول تمرسهم بالبحث في معرفتها وحقائق واقعها وضرورة تطويره، عن طريق النتائج التي توصلوا إليها في أبحاثهم العلمية، وما عرفوه من خلال هذه الأبحاث من مزايا تفردها عن اللغات الأخرى. حيث أن فيها من الحروف الفخمة مالا تقابل به لغة أخرى. وهي أيضاً تمتاز بأنها لغة إيجاز، بدليل أنها لغة إعرابية واشتقاقية غنية بأفعالها وحروفها. وأنها تحمل الإضمار والتقديم والتأخير والحذف أكثر من غيرها. وفوق ذلك هي لغة شعرية، إضافة إلى خصائص أخرى(71).
ومن بين ما تقوم عليه دعوة المذهب الرومانتيكي إلى التجديد في اللغة حرصه على تأهل اللغة لكي تماشي الحياة في نموها وتطورها، وتصبح قادرة بفعالية على التعبير عنها، فتمثل العصر لأنها مرآته. وهذا يقتضي نبذ ما في اللغة من الألفاظ والتراكيب التي لا تصلح لهذا العصر من جهة، واستيعاب ألفاظ وتراكيب جديدة اقتضتها الاستعمالات الحياتية في العصر الجديد من جهة أخرى.
ودعا أرباب هذا المذهب إلى توخي الحذر والاهتمام أثناء القيام بعمليتي الاستغناء والإستعاضة، من الوقوع في الأخطاء اللغوية أو في الركاكة.
ويأخذ أصحاب المذهب التجديدي على أصحاب المذهب التقليدي مآخذ كثيرة ذات علاقة باللغة. وربما يكون أفظعها "إصرارهم على استعمال التراكيب المحفوظة التي لا ترتبط بعصرهم "برغم أنهم ينزعون بشكل عام إلى قبول انطباق مذهب التطور على اللغة، "فهذه التراكيب وتراكيب أخرى لاكتها الأفواه حتى كادت تمجها، ومع ذلك لا نزال حريصين على استعمالها، ولا نتحول عنها يمنة أو يسرة. إن اللغة لا تكون حية إلا إذا انطبقت على حياة الأمة التي تستعملها. وما استعمال لغة البداوة في عهد الحضارة إلا من قبيل إحلال الشيء في غير محله(72)...".
وتصدى رواد المذهب التجديدي، ومعهم أيضاً نظراؤهم من المذهب التقليدي إلى دعوات القبول بالأخطاء اللغوية الشائعة، ما دامت توصل إلى المتلقى المضمون المطلوب؛ مؤكدة صوابيتها الإستعمالية برغم خطأيتها اللغوية. لأنه لا يجوز أبداً التوافق مع الذين يقولون: خطأ شائع أبلغ من صحيح محصور، وذلك لما في هذا من خطورة على مستقبل اللغة.
وعلى هذا الصعيد ثمنّ الأديب خليل السكاكيني أهمية دور الصحف باعتبارها وسيلة الاتصال الجماهيري الرئيسي في ذلك الزمان، في الحفاظ على حيوية اللغة وتطويرها، والاهتمام بتصحيح الأخطاء اللغوية التي تعج بها المواضيع المنشورة بها. ودعا المحررين والكتاب إلى الإقلاع عن استعمال الأخطاء الشائعة. كما توجه إلى رؤساء التحرير مناشداً إياهم تدخلهم المباشر لتصويب ذلك أثناء مراجعتهم للمواد والمواضيع التي يجري تجهيزها للنشر في الجرائد والمجلات. وأشاد بما قام به على هذا الصعيد الشيخ إبراهيم اليازجي في مجلته "الضياء".
ويعرض الأديب خليل السكاكيني في مقالة له بعنوان "لغة الجرائد" نشرها في جريدة "السياسة" المصرية بعض هذه الأخطاء الشائعة في زمانه، ويقول : ... من تلك الأغلاط قولهم: فلان كفوء لهذا الأمر أي أهل له وقوّام به، وهو من ذوي الكفاءة بالأمر. وإنما الكفوء النظير، نقول: هو كفوء لفلان، أي معادل له. والكفاءة، المصدر من ذلك، فقولاً لا كفاءة بيننا. وأما المعنى الذي يريدونه فهو من معاني كفى المعتل. يقال استكفيته أمر هذا، أي كلفته القيام به فكفانيه، وهو كاف لهذا الأمر وكفي له، أي قوّام به وهو من أهل الكفاية. وقولهم أمكن له أن يفعل كذا، ولا يمكن له أن يفعل كذا، يعدّونه باللام وهو متعدّ بنفسه.
وقولهم: عوّدته على الأمر تعوّد عليه واعتاد عليه، والصواب حذف الجار في الكل.
وقولهم أمر هام بصيغه الثلاثي، والأصح مهم أي بصيغة الرباعي.
وقولهم هل سنفعل كذا، وهل سيؤدي هذا إلى كذا، يريدون النص على الاستقبال في الفعل فيأتون بالسين بعد هل وهو خطأ لأن هل إذا دخلت على المضارع خصصته للاستقبال مثل السين وحينئذ يجتمع حرفان لمعنى واحد، والصواب هو حذف السين(73)..."
إن التجديد ليس غاية ومبتغى في المذهب الرومانتيكي بقدر ما هو آلية تقتضيها مواكبة الأدب والفن واللغة للتطورات التي تحدث في جوانب الحياة المختلفة، لكي يكتسب كل واحد منها قابليات التعبير عنها بصدق ووضوح. وإذا كان التجديد في الأدب يتوخى دائماً تحقيق غاية تطوير المضمون والأسلوب، فإنه في بعض الأحايين ليس ضرورياً بالنسبة للغة، لا بل ربما يكون التقليد هو الضرورة عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن الأصالة. وكان مثل هذا موضع تقدير واحترام وتثمين عال من أتباع المذهب التجديدي. وعلى سبيل المثال فإن الأديب خليل السكاكيني لم ينكر على الأدباء المقلدين دورهم وأهميته في مرحلة معينة، حيث "تجدد عهد الفصاحة. ولعمري أنها لفائدة عظيمة يستحق عليها كل من اشتغلوا باللغة الثناء الطيب ولو كانوا مقلدين... لم تكن للأمة لغة فصارت لها لغة، وإنها للغة غنيّة. ولم يكن لها أدبيات فصارت لها أدبيات وإنها لأدبيات راقية. وما إحياء لغة انقطع عهد الألسنة بها منذ أمد بعيد، وما إحياء أدبيات كاد يعفها الزمان، بالمطلب السهل الذي يتم في زمن قصير مثل هذا الزمن الذي مضى منذ أول هذه النهضة إلى اليوم ولولا همة أولئك الأبطال زعماء النهضة، وما رزقوا من الذكاء والجَلَد. وهيهات أن يعود الزمان بمثلهم...
"يكفيهم فضلاً أنهم وصلوا ما انقطع من سلسلة نسبتنا إلى السلف الصالح، وانزلونا منهم منزلة الأبناء من الآباء بعد أن كنا أدعياء لا أصل لنا ولا فصل... ولم يبق لنا بعد أن أجبّزنا دَوْري التقليد، أي دور التشويش ودور الإتقان إلاّ أن ننزل من اللغة منزلة أبنائها منها(74)...".
من هنا نتبين أن المذهب التجديدي من خلال كتابات ومواقف وآراء رموزه في تلك المرحلة، وفي مقدمتهم الأديب خليل السكاكيني قد اضطلع بمهمة محاربة الأغلاط اللغوية والحفاظ على سلامة الفصحى من جهة، ومواجهة التقليد الذي لا يتناسب مع روح العصر من جهة ثانية. وكذلك اعتنى المذهب التجديدي بأولوية إعطاء الفن قدره بدون الكيل بمعيار "النقد بالفن الموهوب" الذي لا يصلح لمثل ذلك أبداً.
كانت معركة تبلور النقد الأدبي حامية الوطيس بين الإجتهادات المختلفة. وقد راكمت جهود أتباعها المختلفين من كل الاتجاهات ما ساعد على تحقق النقد الأدبي، كأحد أنواع الأدب العربي في فلسطين.
وكذلك عَبّر عن التفاعل بين اختلافات الرؤى والمواقف والاجتهادات، بما ساعد على اصطفاف المواقف المتقاربة في تيارات، تطورت فيما بعد واختزلت في اثنين؛ دعي أحدهما بالمذهب التقليدي وعرف الآخر باسم المذهب التجديدي. وكان بين المذهبين من الاختلاف ما جعلهما في تناقض وصراع دائمين، تحدد في ضوء ديمومة الديناميكية في الحركة الأدبية في فلسطين لعقود طويلة.
وبرغم ضراوة الصراع بين المذهبين إلا أن إسعاف النشاشيبي زعيم المذهب التقليدي كان يرتبط وخليل السكاكيني زعيم المذهب التجديدي بنوع من العلاقة الخاصة جداً؛ برغم أن الأول ابن الإقطاع الذي أصبح أرستقراطياً في حين أن الثاني من الطبقة الوسطى. كان بينهما قدر مشترك كبير يجعل أحدهما يقدر الآخر، ويرضى عن أصالته وإخلاصه لمذهبه. فحرص النشاشيبي على عدم التكلف، وعلى التأنق الأصيل في الكتابة، وعلى قبول النشوء في اللغة. وأشهر سخطه على الضعف والركاكة وكان يظهر دائماً بمثل هذه المزايا غير ذلك من رزن الخصال ورصين الأفعال. وهذا ما جعل السكاكيني يحب ملازمته ويرتاح إلى صداقته والتواصل الأدبي والثقافي معه.
وبهذا كله تتضح مظاهر وقواعد المذهب التقليدي، وكذلك مظاهر وقواعد المذهب التجديدي. ومع أن الاختلاف بين المذهبين تناقضي وبيّن، إلا أن أياً منهما لم يصطدم بالآخر لأي غرض إزاحي، فتوازيا في المسار حيناً وتقاطعا حيناً، والتقيا نادراً في حين ثالث. ويعود ذلك بشكل رئيس إلى أصالة كل منهما. وبسبب هذا التاكتيك في علاقة كل منهما بالآخر فقد انتفع من كل منهما العامة والخاصة، واتسعت بهما حياة الأدب وحياة النقد. واتجها نحو الأمام فكانت قوية مداميك الأساس في صرح الحياة الأدبية الذي استكملت عملية بناءه في المراحل اللاحقة بنفس هؤلاء الأدباء والعلماء والألسنيون ومن رفدهم وأنضم إليهم عبر كل عقود التجايل المتتالية.**
* محمد سليمان كاتب وباحث فلسطيني يقيم في رام الله – فلسطين .

** "اعتبرت سنة 1870م السنة الأولى من عمر النقد الأدبي الفلسطيني، لأن أقدم النصوص النقدية التي وقعت اليد عليها حتى الآن يعود تاريخ نشرها إلى تلك السنة. وهو قصيدة تقريظ نظمها السيد عباس الخماش (أحد أفاضل مدينة نابلس) لمجلة "الجنان البيروتية" وصاحبها المعلم بطرس البستاني. واشتهرت باسم "الدرر الحسان في مدح الجنان" وقد نشرت في مجلة "الجنان"، الجزء 16 سنة 1870م، ص"498.



#محمد_باسل_سليمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سؤال الهوية بين المثاقفة والعولمة
- الصحافة في قطاع غزة
- المثاقفة، تفاعلات واستيعابات
- الصحافة حارسة اللغة العربية في فلسطين
- مقهى الصعاليك
- امهات المطابع واثرها في نشوء الثقافة الفلسطيني
- نشوء المسرح في فلسطين
- القوانين البريطانية وتطور الصحافة الفلسطينية
- العولمة والاستقلال الثقافي


المزيد.....




- مقتل فلسطينية برصاص الجيش الإسرائيلي بعد مزاعم محاولتها طعن ...
- الدفاع المدني في غزة: العثور على أكثر من 300 جثة في مقبرة جم ...
- الأردن: إرادة ملكية بإجراء الانتخابات النيابية هذا العام
- التقرير السنوي لـ-لعفو الدولية-: نشهد شبه انهيار للقانون الد ...
- حملة -شريط جاورجيوس- تشمل 35 دولة هذا العام
- الصين ترسل دفعة من الرواد إلى محطتها المدارية
- ما الذي يفعله السفر جوا برئتيك؟
- بالفيديو .. اندلاع 4 توهجات شمسية في حدث نادر للغاية
- هيئات بحرية: حادث بحري جنوب غربي عدن
- وزارة الصحة في غزة تكشف عن حصيلة جديدة للقتلى والجرحى نتيجة ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد باسل سليمان - تطور النقد الأدبي الفلسطيني 1870-1922