لاشك بان الإنسان كونه ، نظريا على الأقل ، أفضل مخلوقات الله ، فهو خلق في أحسن تقويم ، وميز بالعقل ، وعلم البيان ، وهكذا بدا صورة من خالقه .. هكذا تبدو اللوحة من الخارج ، ولكن ..
من الداخل تبدو الصورة قاتمة ، وأقصد بالداخل هنا واقعنا ، فالداخل مفقود ، والخارج مبدع مولود.
الإنسان في مجتمعاتنا العربية موجود للضرورة ، فهو يكمل صورة الأنظمة ولاتكتمل الدول إلا بوجوده. أما حقوق إنسانيته وكرامته ومواطنته ، فهي آخر ميزة يمكن أن يتمتع بها وهو كائن على قيد الحياة ، أما إن ووري الثرى – يحدث كثيرا ألاّ يوارى مواطن الثرى- فهو لحظتها فقط يكون إنسانا ، وتختلف طريقة مواراته عن طريقة أشقائه من الحيوانات، فهو على الأغلب يغسل ويكفن ويصلى عليه ، ويحضر مراسم دفنه على الأقل عشرة أشخاص ، وربما أقيم له عزاء ، والغريب ، الغريب حقا أن الناس حين يوارون هذا الإنسي الذي هو مثلهم يقولون : رحمه الله ، ارتاح من الحياة ، مع إن الحياة ممتعة أو هكذا يفترض فيها أن تكون ، فكيف نرتاح من الحياة ؟!
قديماً قال المتنبي : كفى بك داء أن ترى الموت شافيا،
وصحيح أن مناسبة قوله لهذه الحكمة تختلف عن مناسبة تذكرنا لها لكن لاضير من الاستعانة بها ، اليوم تسمع كثيرا من الناس يقولون : كم أتمنى الموت ، ولمَ لا؟ فهذه الحياة التي ابتدأت بصرخة وشهقة والتي كان ينبغي لها أن تكون مختلفة عن هذه الحياة هي عبء إضافي وحِملٌ ثقيل يئن حامله من ثقله ، ويحق له أن يتمنى إزاحته عن كاهله ، هكذا تبدو اللوحة بشكل عام..
المواطن العربي الذي يشبه أي مواطن آخر في أية دولة أخرى ، ويولد بالطريقة نفسها ، كالفرنسي والانكليزي والروسي…… نعم هو يولد بالطريقة نفسها ، فلكل واحد منهما أم حملته وهناً على وهنٍ ثم استلقت على على ظهرها لتخرجه الى النور ووصرخ كل واحد منهما الصرخة ذاتها ثم انفجر باكيا وهنا يتوقف وجه الشبه ، ولكن مايميز ابن الافرنجية الكافرة/ حسب تعبير بعض مشايخنا الموقرين/ هو أنه سيذهب بعد قليل الى مدرسة تحترم طفولته وسيعيش حياة تحترم مراهقته وسيجد إن أحب أن يعمل عملا ينال منه أجرا محترما ، وإن أحب أن ينتمي لأي حزب أو أي تيار فكري او ديني أو ثقافي فسيكون بإمكانه فعل ذلك دون أن يخشى جرجرة وقبوا مظلماً ومجموعة لاتنتهي من الركلات واللعنات وسيلا جارفا من البصاق والتعذيب ، وسيصل ذلك الأوربي الىعمر الكهولة وهو موقن بأنه لن يكون مضطرا لمد يده للآخرين ، وسيظل مستمتعا بإنسانيته حتى يوارى الثرى ، وبهذا يعود ليتشابه مع ذلك العربي الذي شاءت الأقدار أن يولدا معا في يوم واحد ، أليست معادلة حقوق إنسانية طريفة "يولدان ويموتان" ولكن مايتخلل الفترة الفاصلة بين الولادة وبين الموت هي فترة يمكن تسميتها اصطلاحا حياة، وليس ضروريا أن تكون هذه الحياة هانئة كما لايتوقف المنادون بحقوق الإنسان يجاهرون ويعلنون ويطالبون، فقد قيل" والكلام على ذمة قائله" بأن الناس كلهم سواسية ، وتعلمنا ، نحن المسلمين، بأن الحياة الدنيا ليست إلا متاعا قليلا ، وأذكر مما أذكر من طفولتي أو مراهقتي أن جدتي رحمها الله كانت حين ترى ، تلفزيونيا طبعا، الرخاء الذي يعيش فيه الغربيون تطلق آهة حسرة وتقول متنهدة: ربنا وربهم واحد وهم بالعذاب أشد ، وهكذا اقتنعنا بأن حياتنا ليست سوى معبر الى آخرتنا التي سنتنعم بها ، فنسينا ما لنا وما علينا أيضا ، وطولبنا بأشياء وأفعال وتصرفات تستهلك ماتبقى من مساحة في حيواتنا ، فبدونا ، واللوحة الآن بلا إطار يؤطرها، مسالمين إيجابيين مستسلمين وحين أتى من يوقظنا وينبهنا بأن لنا حقوقا في حياتنا وعلينا أن نحصل عليها تلعثمنا وارتبكنا أيما ارتباك ولم نفهم أو لم نستطع أن نفهم ماالذي تعنيه حقوقنا وكيف تبدو ، وهكذا حتى تمكنا أخيرا من استيعاب الفكرة شيئا فشيئا فأردنا إطلاق ألسنتنا فما أتيح لنا ذلك لأن أولي الأمر منا أمرونا أن نسكت ولأن الله أوصانا بأن نطيعه ورسوله وأولي الأمر منا، فقد امتثلنا لما أمرنا به ، أو تظاهرنا بالامتثال ، وصرنا نحوك مؤامراتنا في ظلمات الأقبية وفي المستودعات الرطبة وفي البيوت المراقبة من قبل الأجهزة الساهرة على رعايتنا وأمننا ، حتى صرنا والحالة هذه ، أشبه بالوطاويط لانخرج إلا ليلا وفي النهارات ننكفئ على أنفسنا ونؤنس نزقنا المتصاعد بعبارات الحمد لله والشكر لأفضاله ونعمه.
***
وصلتني رسالة من صديق يدعوني فيها لأن أشترك معه في كتابة قصيدة نحتج فيها على احتلال العراق فاعتراني نوع من الخوف ، هل من حقي أن أشترك معه في ذلك الفعل فربما لايكون مشروعا؟ هل سيوافق الرقيب القابع متأبطا مقصه على أن نقوم بذلك؟ والأمر الأهم .. هل سأتمكن من تخدير الرقيب المتنامي في أحشائي كابن حرام لأفعل ما أريد دون أن يخنقني؟!!!