-1-
منذ أشهر، ونحن نراقب ونلاحظ مدى سلطان المؤسسات الدينية العراقية على مجريات السياسة العراقية الجديدة. وكنا نخشى أن يمتد سلطان المؤسسات الدينية العراقية على أجهزة الحكم العراقي الحالية، ويستبدل العراقيون استبداد البساطير باستبداد العمائم على مختلف ألوانها، ليصبح الوضع في العراق كما يقول أهل الشام (كيكي كيكي.. زي ما رحتي زي ما جيتي) بمعنى (كأنك يا بو زيد ما غزيت). ولعل نقطة الضعف هنا، تكمن في أن مجلس الحكم العراقي يضم بين جنباته من ضمن ما يضم من أطياف سياسية، ممثلين عن أحزاب دينية متشددة، تريد أن تنتهز فرصة قيام العراق الجديد، لكي تحقق ما كانت تطمح وتطمع أن تحققه في ظل ديكتاتورية البساطير السابقة.
-2-
على الأحزاب الدينية المختلفة والمتمثلة في مجلس الحكم العراقي أن تعلم أن العراق لن يتخلّى عن علمانيته التي أساء اليها إساءة كبيرة الحكم السابق. وأن انهيار الحكم السابق، لا يعني أن يتمَّ حكم العراق الآن حكماً دينياً على طريقة حكم "طالبان" المنهار في أفغانستان. فافغانستان التي كانت مثلاً عظيماً للتخلف والجهل وحكم القرون الوسطى، استطاعت بفضل نخبها الجديدة أن تضع دستوراً للبلاد يستبعد الكثير من الأحكام الدينية التي لم تعد تصلح للقرن الحادي والعشرين والتي تعتبرها المؤسسات الدينية في العالم لعربي عابرة للتاريخ، وتصلح لكل زمان ومكان.
على العراقيين أن يكونوا أكثر شجاعة من الأفغانيين الذين قالوا بالأمس على لسان الناطق باسم اللجنة الأفغانية المستقلة لحقوق الإنسان أحمد نادر النادري قال: لقد عملت اللجنة على إزالة الشريعة من الدستور، وتضمينه مبدأ الحرية الدينية في المقام الأول. ولقد فعلنا ذلك لأنه من السهل جداً استخدام الشريعة ضد الحقوق الأساسية للناس على حد زعمه. وقال رئيس المحكمة القضائية العليا خوجا أحمد صادقي: إذا أردنا أن نطبق الشريعة بشكل صحيح، فليست هناك أية ضرورة لقطع الأيدي. وأضاف صادقي أن أحكام الإعدام ستكون نادرة جداً في ظل ما أسماه التطبيق الصحيح للشريعة الإسلامية. ولا يخفى علينا ما تضمنه الدستور الأفغاني الجديد من حقوق للمرأة وهي حقوق تعتبر تحريراً كاملاً للمرأة من قوانين القرون الوسطى التي كانت تطبق على نساء تلك القرون بظروفهن الاجتماعية والاقتصادية المُعينة والتي لم تعد صالحة لنساء القرن الحادي والعشرون من العرب والعجم.
-3-
العراقيون والعراقيات الآن يتحسسون رؤوسهم، فهل ستبقى هذه الرؤوس مرفوعة رفعة الحداثة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المبتغاة، أما أنها سوف تُنكّس من جديد تحت سياط صيحات رجال المؤسسات الدينية المتشنجة والذين وجدوا في غياب الديكتاتورية المنهارة، فرصة لهم لفرض ديكتاتورية دينية أقسى وأعنف وأشد ظلماً من الديكتاتورية المنهارة.
العراقيون والعراقيات لا يريدون الندم أو التحسر ولو لثانية واحدة على انهيار الديكتاتورية العراقية السابقة نتيجة لما يواجهوه الآن من ديكتاتورية دينية عاتية تمثلت في إلغاء قانون الأحوال المدنية الذي كان سائداً في العراق منذ الثلاثينات حتى الآن، وكان من المفترض أن يتم تغييره إلى قانون أكثر تقدماً وتطوراً وحداثة من هذا القانون، لا أن يتم إلغاء هذا القانون واستبداله بقوانين صدرت قبل 1500 سنة لنساء القرن السابع والثامن الميلادي، وليس لنساء القرن الحادي والعشرين!
كما تمثلت سيطرة الديكتاتورية الدينية على مجلس الحكم العراقي من قبل حين التزمت مجلس الحكم الصمت المخيف أمام ظاهرة فرض الحجاب بمختلف الأساليب على المرأة العراقية، من ضغط ومن تهديد وأذى وحتى فرضه على المسيحيات. كما تمثلت سيطرة الديكتاتورية الدينية على مجلس الحكم العراقي حين صمت هذا المجلس صمت أهل الكهف عن ظاهرة التنكيل بالمسيحيين، وخصوصا في البصرة، على أيدي متطرفين إسلاميين جهلة، متأثرين بفتاوى أئمة جوامع مهووسين متعصبين، ومنهم من ينظر لما وراء الحدود الشرقية، كما قال عزيز الحاج!
فما معنى كل هذا؟
-4-
إن الحداثة التي يتطلع إليها العراقيون في العراق الجديد ليست الحداثة السياسية المتمثلة فقط بدستور جديد، وانتخابات جديدة، وحرية إعلام، وحرية تشكيل الأحزاب، وغير ذلك. إن كل هذا لا يكفي ثمناً للتضحية الكبيرة التي قام بها الشعب العراقي، ومن وقفوا في ظهر الشعب العراقي، من حلفاء ومساندين وداعمين.
إن ثمن التضحية الكبرى التي قام بها كل هؤلاء هو الحداثة الشاملة الكلية التي لا تتجزأ للعراق الجديد بحلاوتها ومرارتها، والتي تتمثل أول ما تتمثل في أن كل كلمة وكل جملة وكل سطر في قوانين العراق الجديد من سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية يجب أن تمثل تمثيلاً تاماً العراق الجديد في القرن الحادي والعشرين، والذي هو ليس جزءاً من العالم العربي المتخلف، ولكنه جزء لا يتجزأ من المجتمع الدولي الحديث والمعاصر.
وفي ظني أن العراقيين والعراقيات لن يقبلوا بأقل من هذا، وإن قبلوا بأقل من هذا فسوف يترحمون هم وأبناؤهم وأحفادهم سراً وجهراً غداً على الديكتاتورية المنهارة التي كانت أكثر انفتاحاً اجتماعياً مما يدعو اليه مجلس الحكم العراقي الذي تخلص من الديكتاتورية السياسية السابقة، ووقع – للأسف - تحت ضغط الديكتاتورية الدينية الجديدة. وتلك هي مصيبة المصائب، وخسارة الخسائر الكبرى.
-5-
إن مسؤولية أمريكا وبريطانيا وباقي الحلفاء في العراق الآن مسؤولية كبيرة. فهذه الجيوش الجرارة التي اقتلعت الديكتاتورية العراقية، وهذه الدماء الغزيرة من العراقيين ومن حلفاء العراقيين، وهذه الأموال الطائلة التي صُرفت والتي سوف تُصرف مستقبلاً.. هذا الثمن الغالي جداً، هل تكون نتيجته أن نعود بالعراق إلى العمل بأحكام القرون الوسطى الاجتماعية؟
وهل تكون نتيجة هذا الثمن الغالي جداً والنادر في تاريخ الشعوب الحديث أن نضع مقدرات العراق وقوانينه بأيدي رجال المؤسسات الدينية الذين ما زالوا يخاطبون المجتمع الدولي بخطاب القرون الوسطى، ولا يلتزمون حدودهم في عدم التدخل بالسياسة والاكتفاء بالدعوة إلى الهداية الروحية، دون زج الدين المُقدّس بفن السياسة المُنجّس، ودون زج الدين الثابت بالسياسة المتحولة، ودون زج تعاليم السماء الروحية بألاعيب السياسة الأرضية.
إذن، ماذا فعلنا بالعراق عندما نستبدل بساطير الديكتاتورية بعمائم المؤسسات الدينية؟
وماذا فعلنا عندما نستبدل الديكتاتورية السياسية بالديكتاتورية الدينية؟
أرجو أن لا يضطر العراقيون والعراقيات في الغد إلى ترديد قول أهل الشام:
(كيكي كيكي.. زي ما رحتي زي ما جيتي) و (كأنك يا بو زيد ما غزيت.) وأن أهل العراق جميعاً هربوا من تحت الدلف الديكتاتوري السابق، إلى تحت مزاريب المؤسسات الدينية!
* كاتب ومفكر أردني.