أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - سامر خير احمد - كتاب - سباق العصبية والمصلحة الصراع على الثقافة الوطنية لحسم الصراع السياسي - الأردن 1948 – 2002















المزيد.....



كتاب - سباق العصبية والمصلحة الصراع على الثقافة الوطنية لحسم الصراع السياسي - الأردن 1948 – 2002


سامر خير احمد

الحوار المتمدن-العدد: 713 - 2004 / 1 / 14 - 03:18
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


المقدمة
يقوم الكتاب على فكرة أساسية مفادها أن في المجتمع الأردني –كما في معظم مجتمعات الدول النامية- نوعان من الثقافة يعيشان حالة سباق مستمرة فيما بينهما للسيطرة على "الثقافة الوطنية" التي تتشكل منهما معاً بحصص تتفاوت من ظرف لآخر.
هذان النوعان هما:
-       ثقافة عصبية الدم الجماعية.
-       ثقافة المصلحة الفردية.
واذا كان الكتاب يرصد التنافس والسباق بين الثقافتين المذكورتين فانه لا يفعل ذلك باعتبار ان هذا التنافس كان "شريفاً" وطبيعياً تحكمه التطورات الثقافية الحاصلة في المجتمع، بل باعتباره كان جزءاً من الصراع السياسي بين السلطة والمعارضة، اذ حاول كل طرف ان يدعم الثقافة التي تقويه وتنصره، وهكذا فإن الكتاب يدرس الخلفية الثقافية للصراع السياسي في الأردن، ويفسر التصرفات السياسية التي كان الهدف منها توجيه قيم الناس وسلوكياتهم.
وفي الكتاب محاولة لتحليل الطريقة التي عاش بها الشعب في الأردن أكثر الفترات التاريخية حرجاً على الأمة العربية، والمتمثلة أساساً بسنوات النصف الثاني من القرن العشرين، وصولاً الى الحالة العالمية غير المسبوقة في آخر القرن نفسه ومطلع القرن التالي، ذلك أن فهم تلك السنوات الصعبة –باعتبار الشعب الأردني واحداً من الشعوب العربية التي عاشت تجربة واحدة كان لها النتائج الكارثية نفسها- يمكن أن يوفر وسيلة لتفسير تلك النتائج ومعرفة أسبابها.  
                                                             
                                                     سامر خير أحمد
                                                           عمان
                                                             9 كانون الثاني 2003 م
                                                                              6 ذو القعدة 1423 ﻫ


تعريفات
 
ما هما " الثقافة الوطنية " و " الثقافة الوطنية الأردنية " ؟
 
تعريف "الثقافة الوطنية" ملتبس إلى حد بعيد، كالتباس مفهوم "الثقافة" نفسها ، فهذه الأخيرة قد تعني الاكتساب المعرفي، ولذلك فالمثقف هو واسع الاطلاع والمعارف، وقد تعني نمط وأسلوب الحياة؛ أي أنها مجموعة من العناصر المتشابكة القائمة على عادات وتقاليد وعلوم وفنون ومعتقدات واخلاق وقوانين(1).
تذهب معظم المؤلفات في موضوع "الثقافة الوطنية الأردنية"(2) إلى التعامل معها على اعتبارها مجموعة المعلومات عن الإنجازات الأردنية التي تعزز معرفتها من قبل الفرد الأردني انتماءه لوطنه وافتخاره به.
هكذا يفعل مثلاً المؤلف "محمد عليان عليمات" في كتابه "مدخل إلى الثقافة والتربية الوطنية"، إذ يقول في مقدمته: "راودتني نفسي منذ أمد بعيد أن أخوض غمار الكتابة في مجال الثقافة العامة والتربية الوطنية، وكان الحافز لهذا ما كنت أشاهده وألاحظه من خلال مقابلاتي ببعض الطلبة ومناقشاتهم في المعلومات  الوطنية والتاريخية، وكم أحزنني عندما فوجئت بان كثيراً منهم ليس لديه أدنى معلومات عن الوطن وتاريخه ومقوماته ومرتكزات بقائه وسر احترامه الدولي والإقليمي"(3). ولهذا فان المؤلف يركز في فصول الجزء الأول من كتابه على دراسة الأهمية التاريخية للأردن وقيام الثورة العربية الكبرى ثم دور الأردن في الصراع العربي الإسرائيلي في حدثين رئيسيين هما معركة الكرامة وحرب تشرين (رمضان) عام 1973 وكذلك دور القوات المسلحة في التنمية الوطنية. فيما ينصرف في الجزء الثاني من الكتاب نفسه لدراسة تطور الفنون العسكرية وصولاً إلى بحث تطور القوات المسلحة الأردنية وتنظيمها وصنوفها .
وينهج المؤلفان "قاسم محمد الدروع" و "عبد الله راشد العرقان" المنهج نفسه في كتابهما "نحو تربية وطنية هادفة"، حيث يؤكدان أن بحثهما إنما هو في الثقافة الوطنية الأردنية بقولهما في المقدمة: "رأينا أن من واجبنا الوطني أن نضع أمام أبنائنا واخوتنا  أبناء هذا الوطن الغالي أمورا ارتأينا وجودها بين أيديهم ،فكان  هذا الجهد المتواضع ضمن التوجيه الوطني ليعزز مفهوم الثقافة الوطنية للناشئة لعل وعسى أن يكون مرجعاً سهلاً وخصباً"(4).
       ولذلك فان موضوعات الكتاب تتوزع على التربية الوطنية ودراسة التطور السياسي للأردن الحديث والقوات المسلحة الأردنية ونظام الحكم في الأردن والتنمية الاجتماعية والتراثيات والرموز والشعارات الوطنية .
أما المحامي إبراهيم بكر فيقدم في محاضرة له بعنوان "واجب الشباب في المحافظة على الثقافة الوطنية" تعريفاً مشابهاً للثقافة الوطنية الأردنية ولكن من الزاوية العروبية القومية المتوائمة مع نهج تفكيره، فيرى أن الثقافة الوطنية "هي الثقافة التي تدفع باتجاه التقدم الداخلي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وإقامة الديمقراطية وتعميم المعرفة على الجماهير العربية و التي تدفع في نفس الوقت باتجاه إلحاق الهزيمة بالإمبريالية وبخاصة  الأمريكية والتي تدفع باتجاه إلحاق الهزيمة بالصهيونية ، كل ذلك على طريق وجنباً إلى جنب باتجاه تحقيق الوحدة السياسية للامة العربية"(5). أي أن الثقافة الوطنية عنده هي تلك المعلومات التي تدفع معرفتها باتجاه تحقيق الأهداف التي ذكرها.
غير أن مثقفين عرب آخرين، يقدمون تعريفاً مختلفاً لمفهوم الثقافة الوطنية. هكذا يذهب عبد الرحمن منيف إلى الاعتقاد أن الثقافة الوطنية هي "محصلة لمجموعة من الروافد والتعبيرات المتضافرة والمتفاعلة والتي تؤدي في النتيجة إلى خلق ملامح وأشكال هي وحدها التي تعبر عن هموم وطموحات شعب معين في مرحلة تاريخية معينة وهي وحدها التي تعكس المزاج النفسي والاتجاهات الحقيقية"(6). كذلك يرى فيصل دراج أن "معنى الثقافة الوطنية يفيض عن حدود المكتوب والمقروء ويشمل القيم والمعايير والممارسات كلها فتكون الثقافة الوطنية ممارسة كتابية وممارسة عملية في آن"(7). ويتجه سعد الله ونوس الاتجاه ذاته إذ يعرف الثقافة الوطنية بأنها ما يتولد نتيجة الوعي التاريخي المركب على مستويين : مستوى التاريخ المحلي ، ومستوى التاريخ الكوني حيث التفاعل مع ما في العالم من اتجاهات وغايات(8). أما حسين مروة فيقول متبنياً النهج نفسه أن "المعنى البديهي للثقافة الوطنية يأتي من كونه تعبيراً عن حقيقة واقعة بالفعل أي عن حقيقة اجتماعية تاريخية قائمة وشاهدة ، بمعنى انه ما من مجتمع له خصائص المجتمع التاريخية إلا وهو ينتج ثقافته الوطنية ، أي ثقافته المرتبطة والمتأثرة بمجمل خصائصه التاريخية"(9).
وهكذا فان الثقافة الوطنية حسب تعريفات هؤلاء المثقفين العرب لا علاقة لها بالإنجازات ذات الطابع الوطني؛ الحكومي أو الشعبي، إنما هي مجموعة القيم والمعايير التي تتحدد في ضوئها سلوكيات وممارسات أفراد شعب ما، بل ويمكن بمعرفتها التنبؤ باتجاهات السلوكيات والممارسات هذه عند هذا الشعب في كل مرحلة؛ أي في كل فترة زمنية لها ظروفها الخاصة.
.   .     .
سيتبنى هذا البحث التعريف الأخير للثقافة الوطنية، ولذلك فان "الثقافة الوطنية الأردنية" ستكون مجموعة القيم والمعايير التي حددت سلوكيات وممارسات الأردنيين خلال الفترة الزمنية المبحوثة، والتي قاد تغيرها من مرحلة إلى أخرى إلى تغير طبيعة تلك السلوكيات والممارسات .
.   .     .
محاور البحث والإشكاليات المتصلة به
 
في ضوء اعتماد هذا التعريف، تبرز اثنتان من الإشكاليات الرئيسية، أولاهما مكانة العلوم الطبيعية والرياضة و الإنسانية التي ابتدعها أو شارك فيها أردنيون في هذه الثقافة الوطنية، ذلك أن هذه العلوم هي نتاج انساني للبشرية كلها من جهة، وهي عمل نخبوي لا علاقة أساسية له بتطور القيم والمعايير من جهة ثانية، صحيح أن درجة تطور المجتمع  تنعكس على نتاج  أفراده، غير أن الفرد يمكن أن يقدم نتاجه المرموق بينما هو يجمد تفاعله مع مجتمعه (محيطه) أو أن يقدمه خارج بلاده. الإشكالية نفسها يتعرض لها "حسين مروة" في تعريفه للثقافة الوطنية ، فيقول: "هناك إشكالية لوضع تعريف علمي للثقافة الوطنية ينبع من التشابك و التداخل بين جملة من العلاقات الموضوعية التي يتضمنها هذا التعبير 0 0 ذلك بناءً على أن الثقافة ليست هي بذاتها تتحرك وتنمو وتتطور بما هي نشاط اجتماعي أي بما هي مرتبطة عضوياً وديناميكياً بكل قوى الحياة التي تنتج تاريخ المجتمع وتطوره المادي والروحي (الفكري) 0 0  وهذا الارتباط العضوي والديناميكي لا ينحصر في ما بين الثقافة وقوى الحياة في مجتمعها المعين أي المجتمع المنتج لهذه الثقافة بالفعل مباشرة 0 0 بل ترتبط بسائر القوى البشرية المنتجة لتاريخ التطور المادي والروحي للعام ككل 0 0 ولذلك تنتج إشكاليات مثل مكانة العلوم الطبيعية والرياضية والإنسانية في (مفهوم) الثقافة الوطنية"(10). من هنا ، سيتم في هذا البحث فصل هذه العلوم والنتاج العلمي عن الثقافة الوطنية الأردنية التي هي متعلقة بسواد المجتمع لا بنخبه، وسيتم التطرق لهذا النتاج من زاوية خدمته لنهج البحث وللتعريف المعتمد إياه: كما هو الحال في الفصل الأخير مثلاً.
الإشكالية الثانية التي تبرز في وجه البحث، هي مدى خصوصية وتمايز الثقافة الوطنية الأردنية، ذلك أن الأردنيين ليسوا "أمة" قائمة بذاتها ، بل أن قيمهم ومعاييرهم  ارتبطت على الدوام بحقيقة كونهم جزءً من الأمة العربية من جهة وأمة المسلمين من جهة ثانية ، فإلى أي حد يمكن وصف ثقافة وطنية متمايزة للأردنيين عن انتماءاتهم تلك؟ إن الكتاب يأخذ ذلك كله بالاعتبار ، ففي الوقت الذي يعالج فيه تطور قيم  ومعايير الأردنيين في ضوء ظروفهم الخاصة، الداخلية، وهي الظروف  الأساسية التي ولدت ثقافة وطنية أردنية متمايزة موضوعياً عن الثقافات  الوطنية الأخرى، فانه يأخذ بالاعتبار تلك الارتباطات والانتماءات الحقيقية والمؤثرة.
بناءً على ما تقدم، تتوزع محاور الكتاب (في مدخل وثلاثة فصول) على دراسة الأرضية التي قامت عليها الثقافة الوطنية الأردنية المعاصرة، والعوامل التي خلقتها، والتطور التاريخي لهذه الثقافة الوطنية، وانعكاساتها في سلوكيات عامة.
يتولى المدخل تحديد مجموعات القيم والمعايير المتنافسة داخل المجتمع الأردني، ويدرس حالة المجتمع قياساً إلى هذه القيم والمعايير عشية ولادة الثقافة الوطنية الأردنية المعاصرة.
بعد ذلك، يبحث الفصل الأول ولادة هذه الثقافة الوطنية الأردنية المعاصرة، ويحدد العوامل التي قادت إليها، والفترة الزمنية التي شهدت هذه الولادة .
أما الفصل الثاني فيدرس التطور التاريخي داخل الثقافة الوطنية الأردنية منذ نشأتها، وصفيا وتحليلياً .
وينصرف الفصل الثالث –الأخير– إلى بحث انعكاسات هامة للثقافة الوطنية الأردنية على السلوك العام للأردنيين، مستخدماً تحليل خطابهم لتوصيف هذه الانعكاسات.
وينتظر من هذه المحاور أن تكون مجتمعة قادرة على إعطاء صورة موضوعية للثقافة الوطنية الأردنية – حسب التعريف المعتمد – خلال الفترة مدار البحث .
وتدعيماً لمضامين مادة الكتاب فقد أُلحق به عدد من الجداول التي تشرح عواملاً ساهمت في تطور جوانب من الثقافة الوطنية الأردنية، وذلك في الملحق رقم (1) .


هوامش التعريفات
 
(1) حاتم بن عثمان ، العولمة والثقافة ، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ،1999) ، ص 84 . ويقول بن عثمان : " لقد كثر استعمال ملفوظ " الثقافة " وحشره في شتى السياقات والمجالات رغم تعدد معاني الكلمة ومدلولاتها ، إذ توصل علماء الاجتماع إلى حصر  يزيد عن المائة وستين تعريفاً مختلفاً في شأنها ، منها الوصفي والتاريخي والاجتماعي والنفسي والوراثي ، وتباعدت المعاني وتفاوتت حسب غايات الحصر أو الشمولية".
 (2) يلاحظ أن الغالبية العظمى من الأبحاث التي قام بها أردنيون حول هذا الموضوع أعدت ابتداءً من العقد الخير من القرن العشرين (التسعينات) وهي مرحلة كان لها ظروفها التي  تستفز هذا المفهوم داخلياً وخارجياً.
 (3) محمد عليان عليمات ، مدخل إلى الثقافة والتربية الوطنية ،(دار حنين ،عمان ،1994) ، ص 7 .
(4) قاسم محمد الدروع وعبد الله راشد العرقان ، نحو تربية وطنية هادفة ، (بلا دار نشر ، عمان ، 1999) ، ص 13 .
 (5) المحامي إبراهيم بكر ، حقوق الإنسان في الأردن ، (مكتبة عمان ،عمان ، 1995) ، ص 145.
 (6) عبد الرحمن منيف ، " الثقافة الوطنية واقع وتحديات " ، كتاب قضايا وشهادات ،(شتاء 1992) ، العدد 6 ، ص 17.
 (7) فيصل دراج ، " الكوني والعالمي والثقافة الوطنية " ، كتاب قضايا وشهادات ، ( ربيع 1992) ، العدد 5 ، ص 7.
 (8) سعد الله ونوس ،" الثقافة الوطنية والوعي التاريخي " ، كتاب قضايا وشهادات ،(خريف 1991) ، العدد 4 ، ص 5.
 (9) حسين مروة ، " مفهوم الثقافة الوطنية " ، كتاب قضايا وشهادات ، ( خريف 1991) ، العدد 4 ، ص 40.
 (10) المصدر السابق ، ص ص 42 – 48.      
 
 
 
 
مدخــل
 
مجتمعات الدول النامية كلها تتنازعها ثقافتان رئيسيتان، الأولى ثقافة تقليدية، على اختلاف معناها من مجتمع لآخر، والثانية انفتاحية متأثرة بما أصاب العالم الحديث –خلال القرنين التاسع عشر و العشرين- من تغييرات.
في المجتمعات العربية(1)، و المجتمع الأردني أحدها،تبنى الثقافة التقليدية على المورثات، و تقوم العلاقات بين أفراد المجتمع تبعا لذلك على الأسس المورثة من حيث قيمة الفرد نسبة إلى المجموعة فتتضاءل قيمة الفرد و تتضخم قيمة المجموعة، وهي الأسس التي خلفتها ظروف تاريخية معينة(قوامها الحاجة للأمن من جهة ونوعية علاقات الإنتاج من جهة ثانية) ولكنها في المجتمعات المعاصرة باتت أيضا صنوا للهوية و تعبيرا عنها حتى لو انتفت تلك الظروف التاريخية.وقد يحب البعض أن يسمي هذه الثقافة بالقبلية أو المناطقية أو العائلية، أو أي مصطلح آخر يدل على المفهوم نفسه في الكيفية التي تقوم بها العلاقات في المجتمع،و سنسميها في هذا الكتاب "ثقافة عصبية الدم" لأن العلاقات فيها تقوم على أساس القربى و صلات الدم، وسنشير لها اختصاراً باسم "ثقافة العصبية".
 أما الثقافة الانفتاحية في المجتمع الأردني –كما في معظم المجتمعات العربية- فقد اختارت أن تتجاوز العلاقات التقليدية التي تقوم على التعاضد على أساس "الدم"، و ذلك نتيجة لظروف تاريخية خاصة بها من حيث الإحساس بالأمن و طبيعة عملية الإنتاج، أو لأنها تعرضت للانفتاح منذ وقت طويل بحيث انقطعت الصلة بينها و بين أسس المجتمعات التقليدية. إن العلاقات في هذه الثقافة الانفتاحية تقوم على "المصلحة"، ولكن ليس بالمعنى النفعي الانتهازي بالضرورة, بل بمعنى أن الفرد يعطى قيمة اكبر من ناحية علاقته بالمجموعة، ويتجه بذلك لإقامة علاقاته مع المجتمع على أساس المصلحة التي يراها. وهذه الثقافة موجودة بصيغتها النقية في مجتمعات المدن في الغرب المعاصر و لذلك يعتقد أن للانفتاح على الغرب علاقة أساسية بوجودها في المجتمعات العربية. ولذلك، سنسمي هذه الثقافة "ثقافة المصلحة".
لقد ورثت ثقافة العصبية من حاجة المجتمعات إلى التعاضد و التجمع لمواجهة خطر خارجي ما، و هي ثقافة سادت المجتمعات العربية منذ القدم.و لذلك وجدت هذه الثقافة بيئة مناسبة لها في العصور الحديثة في كل من حياة البادية؛ حيث خطر الغزو بين القبائل، وفي حياة القرية؛ حيث خطر الجوع إذا لم يعط العمل إنتاجا كافيا، و هكذا احتاج البدو إعلاء قيمة الجماعة لان في الاتحاد قوة، و احتاجها الفلاحون لإقامة علاقات إنتاج جماعية تضمن إنجاز العمل الذي لا يقوى عليه الفرد بالضرورة.
أما ثقافة المصلحة فقد وجدت في حياة المدينة انسب بيئة لازدهارها لتضاءل الخطر الخارجي و انتفاء الحاجة المباشرة للتجمع. وهكذا أعلى أهل المدينة قيمة الفرد حيث لا خطر من غزو على أساس قبلي، و حيث تعتمد عملية الإنتاج على الفرد و قدراته وهذا بعد أن كانت المدن هي مركز الالتقاء بالغرب و الانفتاح عليه.
إن هذه العلاقة الأولية بين طريقة تولد الثقافة والمكان الذي تنتشر فيه، لا تربط الثقافة والمكان تبادلياً بحيث يكون وجود إحداهما دليلا لوجود الآخر، أو أن يكون احدهما سببا للآخر، فالعلاقة هنا ذات اتجاه واحد فقط؛ بمعنى أن وجود المدينة لا يستلزم بالضرورة قيام ثقافة المصلحة، بينما أن ثقافة المصلحة لا تقوم إلا في بيئة مدنية، وهكذا من الطبيعي ان نجد مدناً تسودها ثقافة العصبية، بينما لا يمكن أن نجد ثقافة المصلحة في القرية التقليدية. والأمر طبعا يرجع إلى إن السبب الأصلي لتولد الثقافة هو الحاجة لها، و بذلك، فإن تراجع ثقافة ما لصالح ثقافة أخرى يحدث فقط اذا ضعفت الحاجة لها وباتت الثقافة الاخرى اكثر قدرة على تلبية ما هو مطلوب من "الثقافة".
    و يتبين أن وجود نمطي الثقافة هذين سببه تأثر المجتمع بكل من العوامل الطبيعية،  والثقافات الخارجية المعاصرة له.             
و يحسن هنا أن نحدد المفاهيم التي تتشكل منها كل واحدة من هاتين الثقافتين الرئيسيتين، وتدل عليها في آن:
أ-  ثقافة العصبية:
1- تقوم علاقات التضامن بين الأفراد على أساس صلات القربى بينهم.
     2- قيمة الفرد –منفرداً- ضئيلة، وقيمة الجماعة عظيمة.
     3- تتحدد قيمة الفرد وفقا لقيمة الجماعة التي ينتمي لها.
     4- كبير الجماعة يمثل أفرادها،و هو يتحدد على قواعد من صلات القربى أيضاً؛ إما بوراثة موقعه أو بحكم كونه اكبر المترابطين بالقربى سناً.
و يمكن أيضاً تضمين هذه الثقافة مفهوماً عن المرأة، حيث تعتبر فيها مركزاً للشرف، و يكون مطلوباً بالتالي من الذكر حمايتها و الدفاع عنها لان ذلك دفاع عن شرفه، و يقود ذلك عملياً إلى تحجيم مكانة المرأة مقابل رفع مكانة الرجل.
و يمكن القول أن واقع القبيلة العربية التي تعيش في البادية يمثل خير تعبير عملي عن مفاهيم هذه الثقافة.
ب - ثقافة المصلحة:
  1- تقوم علاقات التضامن بين الأفراد على أساس المصالح المشتركة و التي يمكن أن تكون اقتصادية أو سياسية - فكرية أو غير ذلك من الصلات التي يصنعها الفرد لنفسه لا التي يولد ضمنها.
  2- قيمة الفرد كبيرة و قيمة الجماعة التي تتشكل على أساس صلات القربى ضئيلة.
 3- تتحدد قيمة الفرد وفقاً لقدراته و إنجازاته.
 4- الفرد يمثل نفسه بنفسه، و حين يقيم مجموعة صلات على أساس المصلحة و يصير عندها منتمياً لمجموعة، فان من يمثله يتحدد على قاعدة أهليته لخدمة المصلحة التي تشكلت المجموعة بسببها.
و لفظ "الفرد" في مفاهيم هذه الثقافة يكاد ينطبق على الرجل والمرأة معاً.
ويمكن القول أن المدينة الغربية المعاصرة هي التعبير العملي عن مفاهيم هذه الثقافة، أما المدينة العربية التي احتكت بالغرب فهي الأكثر تعبيراً عنها في المجتمعات العربية.
 يتميز المجتمع الأردني بان هذين النوعين من "الثقافة" يتنازعانه بدرجة أكبر من المجتمعات العربية الأخرى، فهو من الناحية الجغرافية يقع في منطقة وسطى بين المجتمعات العربية الأكثر انفتاحا في شمال بلاد الشام، و تلك الأكثر تقليدية في شبه الجزيرة العربية، وهو من الناحية الديمغرافية يختلط فيه من يتبنى هذه الثقافة مع من يتبنى تلك, كما أن للأردن من الظروف التاريخية المعاصرة ما يعزز هذا التنازع الثقافي, وهذه كلها أمور يتعرض لها البحث بالتحليل.
وإذا افترضنا  أن تاريخ المجتمع الأردني المعاصر يبدأ مع تأسيس إمارة شرقي الأردن عام 1921، على اعتبار أن الإمارة الجديدة سعت –خلال عملها لفرض سلطتها – الى تغيير طبيعة العلاقات بين المجموعات التي تشكل منها مجتمع "الدولة" الناشئة، ولأنها - مع تأسيسها - أحضرت إلى الأرض الأردنية شخصيات شامية و حجازية أدت أدواراً رئيسية في تاريخ الإمارة، فان هذا "التنازع" الثقافي المشار إليه تأخر حتى مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، حين ساعدت ظروف ديمغرافية و أيديولوجية و انفتاحية جديدة على منح حضور ملموس ل"ثقافة المصلحة" جنباً إلى جنب مع "ثقافة العصبية" الطاغية في حضورها حتى ذلك التاريخ. شكل سكان القرى، أي الفلاحون، خلال فترة الامارة (85%) من مجموع السكان(2)، إلا أن معظم هؤلاء كانوا بدواً في الأصل تحولوا للإقامة في القرى منذ نهاية القرن التاسع عشر و خلال النصف الأول من القرن العشرين بفضل توافر الأمن و الاستقرار(3). بينما توزع ال(15%) الباقون من السكان بين القبائل البدوية و سكان تجمعات اقرب إلى القرى الكبيرة منها إلى المدن، في السلط وعمان و اربد و الكرك و معان(4).
وهكذا،سادت ثقافة العصبية بين سكان الإمارة، الذين كان عددهم في عام 1921 نحو ربع مليون نسمة، ارتفع مع نهاية عهد الإمارة عام1946 إلى نحو نصف مليون نسمة.
  اتصفت القرى بقلة عدد سكانها، إذ كان معدل سكان القرية الواحدة خلال الثلاثينات –مثلاً-نحو (400) نسمة(5)، يعيشون في بيوت متراصة محدودة عدد الغرف و منتظمة في هيكل يبنى على أساس علاقات العصبية و صلات القربى، إذ تنقسم القرية الواحدة إلى عدة حارات يسكن كل واحدة منها حمولة (أسرة ممتدة) إذا كانت القرية كبيرة و تسكنها أكثر من حمولة واحدة، أو فرع من حمولة إذا كانت القرية صغيرة. كما ويكون لكل حمولة رئيسها الذي يتحدث باسمها ويمثلها أمام الحمايل الأخرى ويحظى بسلطة واسعة على أفرادها. وفي هذه القرى لم يكن هناك طبقات اجتماعية لأن إنتاجية الأرض جعلت الفوارق بين سكانها ضئيلة(6)، وبالتالي فلا علاقات أخرى بين الناس سوى تلك التي على أساس القربى. أما في البادية فالقبيلة أكبر الوحدات الاجتماعية، وهي تنقسم إلى عدة عشائر، ولكل قبيلة أو عشيرة زعيم (شيخ) يمثلها و يتحدث باسمها وله سلطة واسعة على أفرادها، وهذه المشيخة تكون وراثية في الغالب. والوحدة الاجتماعية الهامة في حياة البدوي هي (الخمسة) أي جميع أقاربه الذكور من جهة الأب الذين هم في دائرة الجد الخامس، وهؤلاء يتضامنون في الخصومات و قضايا الدية و الثأر، فإذا وقعت حادثة قتل بين فردين من قبيلتين فان أقارب المقتول المصنفين في هذه الدائرة كلهم لهم الحق في طلب الثأر، بينما أقارب القاتل كلهم ضمن الدائرة نفسها مطلوبين للثأر على اعتبارهم شركاء في المسؤولية عن الجريمة (7). وكما يتضح فكل هذه العلاقات أساسها القربى وصلات الدم، لا بل –و كما أسلفنا– فان حياة البادية تمثل التعبير النقي الخالص عن ثقافة العصبية ومفاهيمها. 
        ويمكن القول أن "ثقافة المصلحة" التي تزدهر في الحياة المدنية بدأت تحرز بعض الحضور في القرى الكبيرة التي أخذت تتحول إلى ما يشبه المدن بفعل تحولها إلى مراكز للإدارة و السياسة و الاقتصاد، خاصة العاصمة عمان التي جاءتها عائلات شامية من سوريا و فلسطين شاركت في الحكم و الإدارة، بحيث تشكلت في أواخر أربعينات القرن العشرين البيئة الملائمة لنمو ثقافة المصلحة، حتى إذا حضرت الظروف التي غيرت الواقع الثقافي في المجتمع الأردني مع بداية عقد الخمسينات، بات الأردن يشهد ثقافة وطنية مزدوجة، أي ثنائية ، تتنازعها مفاهيم "العصبية"و" المصلحة" معاً مما أدى في العقود التالية إلى قيام ثقافة مركبة عند السواد الأعظم من الناس، بينما ظلت كل من "ثقافة العصبية"و"ثقافة المصلحة" تتجلى بشكلها النقي التام عند فئات قليلة العدد فقط، وهذه مسألة يتعرض لها الكتاب بالتفصيل.
وقبل البحث في كيفية انتقال المجتمع الأردني إلى الثقافة المركبة، وهي المهمة التي يضطلع بها الفصل الأول، يحسن النظر في العوامل التي صنعت الواقع الثقافي عشية هذا الانتقال، وهو الواقع الذي سادته ثقافة العصبية التقليدية الموروثة، تقطعها بعض نقاط ثقافة المصلحة:
1- الإدارة الجديدة: رغم أن الحكم الجديد في إمارة شرقي الأردن أحدث بعض التغييرات في العلاقات داخل المجتمع الأردني بحكم قيام سلطة مركزية لها أجهزة مختصة في تسيير الأمور و لديها قوة عسكرية تتدخل لفرض الواقع الجديد، إلا انه لم يقدم خطاباً انقلابياً يسعى لتغيير سيطرة العادات والتقاليد القبلية، بل انه حاول أن يحفظ لشيوخ العشائر بعض امتيازا تهم سعياً لكسبهم في صفه ،وأولى اهتماماً خاصاً بالبدو(8)، إضافة إلى أن الهيكل العام الخارجي للحكم هو ذاته الهيكل الأبوي الشائع في المجتمع.
2- السياسيون غير الأردنيين: كان غير الأردنيين الذين تولوا المناصب الحكومية الأساسية في السنوات الأولى من عهد الإمارة اقرب إلى "ثقافة المصلحة" ومفاهيمها بحكم انتمائهم الحزبي كقادة لحزب الاستقلال، فعلى سبيل المثال ضمت أول حكومة في شرقي الأردن أربعة سوريين وفلسطيني واحد واثنين من الحجاز إضافة لاردني واحد فقط.غير أن تأثير هؤلاء السياسيين لا يتوقف عند إدخال بعض مفاهيم ثقافة المصلحة، وإنما يولد نقيضه أيضا، فقد عمل الشباب الأردنيين المتعلمين على التحالف مع بعض زعماء العشائر أملاً في الحصول على مكاسب جديدة في الإدارة و الحلول محل هؤلاء الموظفين العرب غير الأردنيين(9)، و هو ما يكرس-حكماً-الثقافة التقليدية التي تقوم عليها سلطة زعماء العشائر.
3 - التعليم: في بداية عهد الإمارة، كانت نسبة الذين يعرفون القراءة و الكتابة بين السكان قليلة جداً، وكانوا يحصون على الأصابع في كل قرية(10)، وخلال عهد الامارة نمت العملية التعليمية بصورة بطيئة، فقد ارتفع عدد المدارس الحكومية من(44) مدرسة عام1922 إلى(77) مدرسة عام1946، وارتفع عدد خريجيها خلال الفترة نفسها من(3316) طالب و طالبة إلى (10729) طالب وطالبة، و كان عدد خريجي المدارس الثانويةعام1947(46) طالباً وطالبة فقط. وكانت أعداد المدارس الخاصة قليلة جداً تتوزع على مدارس الطوائف و عدد الدارسين فيها محدود كذلك إذ بلغ في نهاية الثلاثينات على سبيل المثال (3571) طالباً وطالبة. أما التعليم الجامعي و الذي كان يتركز في جامعات الدول العربية المجاورة لعدم وجود جامعة في الأردن وقتها فقد كان محدوداً، و قد بلغ عدد الطلبة الأردنيين الموفدين إلى الجامعة الأمريكية في بيروت عام1928 خمسة طلاب، و بلغ عدد الطالبات الموفودات إلى دار المعلمات الابتدائية في القدس ثلاث طالبات، وظلت مديرية المعارف تحافظ على هذه الأعداد لعدة سنوات (11). وهكذا فان هذا الواقع التعليمي لم يكن يدفع لتغيير الثقافة السائدة في المجتمع الأردني.
4- الحياة الاقتصادية و علاقات الإنتاج: شكلت البادية 83.5%من إجمالي مساحة شرقي الأردن في عهد الإمارة، و هي مساحة قليلة سقوط الأمطار و تصلح في فصل الربيع لرعي الماشية فقط(12) بينما اعتمد أكثر من 85% من سكان الإمارة على الزراعة و تربية الماشية. أما التجارة فكانت في أيدي جاليات سورية و فلسطينية استقرت في البلاد منذ العهد العثماني(13)، فيما الصناعة بدائية و مقتصرة على بعض الصناعات اليدوية و الحرف المحلية(14). إن علاقات الإنتاج التي تقوم في حياة اقتصادية كهذه تعزز ثقافة العصبية الجماعية و تكرس الحاجة لها، خاصة وانه لا ينبني عليها أي نوع من الطبقية الاجتماعية التي يمكن أن تدفع الناس لإقامة نمط جديد من العلاقات على أساس طبقي، ذلك أن المردود المادي الناتج عن تلك الحياة الاقتصادية لم يكن يتفاوت كثيراً بين مالكي الأرض و زارعيها الذين كانوا يستأجرونها مقابل ربع المحصول، وكذلك الحال في البادية(15).
5- الحياة السياسية: رغم أن انعقاد المؤتمر الوطني الأول عام1928 شكل نقطة تحول في الحياة السياسية بطيئة النمو، إلا انه أسسها على أفكار إصلاحية بحتة تعالج قضايا الانتداب و مسؤولية الحكومة أمام مجلس نيابي منتخب و تحسين الأحوال المعيشية و ما إلى ذلك(16)، و تبنت الأحزاب السياسية الجديدة في شرقي الأردن مثل هذه الأفكار، بينما لم تتأسس أو تنتشر أفكار عقائدية ترمي لتغيير الواقع جذرياً. إن هذا الواقع رغم ما يفتحه من آفاق جديدة في الحالة الثقافية في البلاد، فانه لا يؤهلها لتغيير العلاقات الاجتماعية القائمة فيها و بالتالي فتح مجال لانتشار حقيقي لثقافة مغايرة لتلك السائدة.
إن هذه العوامل الرئيسية في حياة المجتمع الأردني في عهد الإمارة، ما كان لها أن تنقل واقعه الثقافي من حالة إلى أخرى بشكل ملموس، و كان من الطبيعي أن تواصل ثقافة العصبية السائدة أصلا سيادتها، مترافقة هذه المرة مع دخول ثقافة جديدة غير ملحوظة هنا وهناك، هي ثقافة المصلحة، وبشكل محدود نتيجة للعوامل التي تم شرحها.
            .    .     .
ولا بد هنا من كلمة عن الأقليات غير العربية و الأقليات غير المسلمة في المجتمع الأردني ومكانها في السياق الثقافي.
ففي المجتمع الأردني أقليتان رئيسيتان من أصل غير عربي، هما الشراكسة و الشيشان. وفيه أقليات مسيحية أكبرها الطائفة الأرثوذكسية، وكذلك طائفة الروم الكاثوليك و طائفة اللاتين و الطائفة البروتستانتية، و هناك أيضا أقلية غير عربية وغير مسلمة هي الطائفة الأرمنية الأرثوذكسية والكاثوليكية(17).
 كان الشراكسة والشيشان يمثلون خلال عهد الإمارة نحو 5.5% من مجموع السكان، فيما كان العرب المسيحيون يمثلون نحو 6.5%منهم(18). وبعد عام 1948، وتضاعف عدد السكان نتيجة الهجرة الفلسطينية، كان طبيعياً أن تنخفض نسبة الشراكسة والشيشان إلى المجموع العام للسكان، فيما كان من بين اللاجئين الفلسطينيين نسبة من المسيحيين، يمكن القول أنها تقارب نسبة المسيحيين الموجودين اصلاً في شرقي الأردن، ذلك أن الإحصاءات(19) تشير إلى أن نسبة المسيحيين إلى مجموع السكان المسيحيين والمسلمين في فلسطين قبل الهجرة تقارب11%، فيما نسبتهم من السكان المسيحيين والمسلمين الذين ظلوا في بلادهم ولم يهاجروا نتيجة حرب عام 1948 تقارب 22%، وهكذا فان نسبتهم من المهاجرين تقارب 7% (بمقارنة أعداد المهاجرين بأعداد الباقين في بلادهم والتي يرد ذكرها في الفصل الأول) بمعنى أن نسبة المسيحيين إلى مجموع سكان الأردن ظلت ثابتة تقريباً .
 قدم الشراكسة و الشيشان إلى البلاد منذ القرن التاسع عشر(20)، ومثل الإسلام رابطة متينة بينهم و بين أهل البلاد العرب، وقد استقروا حول منابع المياه في عمان ووادي السير وصويلح والزرقاء و جرش(21)، ومع مضي الزمن اخذوا يتعلمون اللغة العربية ويمارسون العادات والتقاليد العربية(22)، وزاد اندماجهم في المجتمع نتيجة الزواج والمصاهرة و الحياة اليومية. كما شاركوا منذ عهد الإمارة في الإدارة و الجيش. وإلى جانب الثقافة الخاصة التي تمارسها كل واحدة من هاتين الاقليتين فيما بين أفرادها في مختلف المناسبات، فإن كلا ًمنهما باتت جزءً من الثقافة الوطنية العامة، بحيث أن الحراك التاريخي داخل هذه الثقافة ينطبق عليهما أيضا، غير أنه يمكن القول أن هاتين الاقليتين كانتا منذ وقت مبكر، وفي المراحل التي سبقت مرحلة أعوام (1948-1952) قريبتين إلى ثقافة المصلحة، ربما لاستقرار معظم أفرادها في المدن و كذلك نتيجة للمرجعية الثقافية الاصلية لكل منها، غير أن من المهم ملاحظة أن الوجود على شكل أقلية يدفع لزيادة الترابط بين أفرادها دفاعا عن هذا الوجود (وهذه مسالة تلقائية ومنطقية تكاد تنطبق على أية أقلية في أي مجتمع في العالم)  وهذا يصب بالتالي في صالح ثقافة العصبية  مفاهيمها.و هكذا فانه و في الوقت الذي عبر فيه افراد من هاتين الاقليتين عن نقاط من مفاهيم ثقافة المصلحة قطعت مفاهيم ثقافة العصبية السائدة في عهد الإمارة، فإن حالة الثقافة المركبة ظلت تنطبق على كل منهما طيلة السنوات التالية نتيجة الأسباب الموضوعية التي تنطبق على أكثرية المجتمع الأردني من جهة، ثم نتيجة الظروف الذاتية التي راوحت بين ثقافتي المصلحة و العصبية، و سبق تبيانها، من جهة ثانية.
أما المسيحيون، فهم عرب اقحاح(23)، و لذلك فعاداتهم وتقاليدهم وطرق معيشتهم تتطابق تماما مع ما هو عند العرب المسلمين، وبالتالي فان الثقافة الوطنية تشملهم تماماً كما تشمل المسلمين، وليس من الصائب في الحراك التاريخي للثقافة الوطنية التفريق بين المسلمين والمسيحيين. غير أن ما يميز المسيحيين في هذا السياق أنهم كانوا منذ عهد الإدارة يقطنون المدن و القرى وكانوا أكثر تعليماً ومالاً- بشكل عام- من أكثرية المجتمع(24)، وربما يرجع تقدم تعليم فئات منهم إلى وجود المدارس التبشيرية، ونتيجة لذلك احتلوا مناصب عديدة في الحكم و الإدارة و كان لهم دور هام في الحياة السياسية في البلاد، وهكذا فان أفراداً منهم كانوا أيضاً ممن يقطعون ثقافة العصبية السائدة في سنوات ما قبل مرحلة (1948-1952) بنقاط من ثقافة المصلحة، وكانوا لذلك أكثر استعداداً للانتقال إلى حاله الثقافة المركبة، خاصة كاستجابة للعامل الأيدلوجي الذي سيأتي شرحة في الفصل الأول على اعتبار انه يوفر لهم الشعور بالمساواة والقدرة على التنافس مع الأكثرية المسلمة على أساس القدرات الذاتية دون النظر للانتماءات المحكومة بالوراثة(25). وبشكل عام، فان الفرق الثقافي الوحيد لدى المسيحيين العرب مقارنة بباقي المجتمع هو ذاك المتعلق بالجانب الديني في العبادات و المناسبات.
ويمكن القول أن ما ينطبق على الأقليات غير العربية و الأقليات غير المسلمة في السياق الثقافي ينطبق أيضاً على الطائفة الأرمنية، غير العربية وغير المسلمة، التي اندمجت أيضا في المجتمع الأردني وثقافته وتعلمت اللغة العربية ،كما ظلت تراوحها المفاهيم الناتجة عن وجود الأقلية بين الأكثرية ، وهي التي تدفع في صالح ثقافة العصبية .
في ضوء ما سبق شرحه، لن يتم التمييز في تفصيل حالة الثقافة الوطنية خلال الفصول التالية على أساس القومية أو الدين، إذ أن ما لدى أي من هذه الأقليات من ممارسات ثقافية خاصة إنما تتم على هامش الثقافة الوطنية الرئيسية و لا تؤثر فيها(26)، حتى إنها تعتبر إضافة كمية لهذه الثقافة، لا نوعية. فعلى سبيل المثال يعد ما يجري في مناسبات الأقليات القومية إضافة إلى التراث و الفلكلور الأردني، وهكذا فهناك فرق أردنية للفلكلور و الرقص الشركسي، اعضاؤها من الاقلية الشركسية، الى جانب فرق التراث والفلكلور البدوي و القروى الأردني، وكل منها تشرح ما يجري في المناسبات لا في حياة المجتمع اليومية و ممارسته للمفاهيم الثقافية.
أما الإضافة النوعية فهي تلك التي تتعلق بالاستعداد الفردي و المرجعية الثقافية لكل واحد من أفراد هذه الأقليات، كما لكل واحد من أفراد المجتمع الآخرين .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
هوامش المدخل
(1) يقول حسني عايش في كتابه (سياحة في العقل العربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1998، ص 28)إن في المجتمع العربي توتر ناجم عن وجود ثقافتين مختلفتين تتنازعان على السيادة في مجتمع واحد، و هما:الثقافة الفعلية أو الواقعية (Reality culture)الناتجة عن الاحتكاك بالغرب المتحضر، و الثقافة القيمية (Value culture) الناتجة عن نظام القيم السائدة لديه.
(2) د0 علي محافظة، الفكر السياسي في الأردن، الجزء الأول، (مركز الكتب الأردني، عمان، 1990)، ص 19.
(3) المرجع السابق، ص 19.
(4) د0 علي محافظة، تاريخ الأردن المعاصر عهد الإمارة 1921-1946، (مركز الكتب الأردني، عمان، 1989)، ص ص 139-140.
(5) د.محمد احمد محافظة ، إمارة شرق الأردن نشأتها و تطورها في ربع قرن 1921-1946، (دار الفرقان، عمان، 1990)، ص252.
(6) ا لمرجع السابق، ص 254.
(7) محافظة، مرجع سابق، ص 142.
(8) المرجع السابق ، ص 143.
(9) السابق نفسه ، ص 51.
(10) السابق نفسه، ص50.
(11) السابق نفسه ،ص ص 153-163.
(12) السابق نفسه،ص 124.
(13) السابق نفسه ،ص 127 .
(14) السابق نفسه ، ص130.
(15) سليمان موسى ،التحولات الاجتماعية في الأردن 1945-1970(ورقة عمل مقدمة إلى المؤتمر الدولي الثاني لتاريخ الأردن الاجتماعي،عمان ،تموز 2000) ، ص ص6-7.
(16) انظر بنود الميثاق الوطني الصادر عن المؤتمر في:منيب الماضي و سليمان موسى، تاريخ الأردن المعاصر في القرن العشرين 1900-1959، (مكتبة المحتسب، عمان، 1988)، ص ص291-292.
(17) محافظة، مرجع سابق، ص ص20-21.
(18) يروي الدكتور معن أبو نوار في كتابه (تاريخ المملكة الأردنية الهاشمية، الجزء الأول، المؤسسة الصحفية الأردنية، عمان، 2000، ص 33)انه في عام 1920 كان عدد سكان شرقي الأردن حوالي 230000 نسمة منهم 15000 عرب مسيحيين و 12000 شراكسة و شيشان، و هو ما يتطابق مع النسب المذكورة، كما أن سليمان موسى (مرجع سابق، ص 1)يذكر أن الأقليات غير العربية و غير المسلمة كانت في عام 1945 تمثل 12%من مجموع السكان، و هو ما يتطابق أيضا مع هذه النسب .
(19) انظر : حبيب قهوجي ، العرب في ظل الاحتلال الاسرائيلي منذ 1948 ، ( منظمة التحرير الفلسطينية – مركز الابحاث ، بيروت ، 1972 ) ، ص ص 9 – 10 .
(20) محافظة ،مرجع سابق ،ص 145.
(21) المرجع السابق، ص 145.
(22) موسى، مرجع سابق، ص 1.
(23) المرجع السابق، ص 1.
(24) محافظة، مرجع سابق، ص 146.
(25) انظر : د 0 يعقوب زيادين ، شاهد على العصر ، ( دار الكرمل ، عمان ،2003 )، ص ص 43 – 45 .
(26)  يذكر الدكتور معن أبو نوار (مرجع سابق، ص ص 33-34)أن الفوارق بين الشراكسة و الشيشان و باقي المجتمع ،و المتمثلة باللغة و بعض التصرفات الاجتماعية ، انما كانت تمارس ضمن مجتمعاتهم القبلية.
 
 
 
 
 
 
 
                       
                 الفصل الأول
 
الانتقال إلى الثقافة المركبة
(1952-1948)
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
لم يكن ممكناً لأية عوامل جديدة يشهدها المجتمع الأردني، الذي كانت تحظى فيه "ثقافة العصبية" بحضور كبير و سيادة عظيمة –كما سبق القول - أن تنجز انقلابا ثقافيا يغير وجهة المجتمع، فثقافة العصبية ظلت تستمد قوتها ابتداءً من هذه  المرحلة (1948-1952) من عاملين:
الأول: أخلاقي؛ فهي تعزز جانبها القيمي بربطه بالمفاهيم الدينية، وهكذا يكون من التلقائي أن من سيتبنى مفاهيم جديدة تنتمي لثقافة المصلحة، سيظل في الوقت نفسه محتفظا باحترامه-وربما تقديسه  –لهذا الجانب القيمي.
الثاني: اجتماعي- سياسي ؛ فأدوات التمثيل الاجتماعي التي ترتبط بالعادات والتقاليد ويحتفظ فيها بوجاهة كبير القوم، والتي هي تعبير عن ثقافة العصبية، ظلت جزءاً من النظام السياسي، وبهذا حصلت ثقافة العصبية على ضمانة هامة لاحتفاظ صيغتها النقية بأهميتها ووزنها في الحياة العامة.
    هذا إضافة إلى أن ليس في التغير الثقافي انقلابات مفاجئة، فثقافة المرء والجماعة تظل تعبيراً عن الكنيونية والحضور والهوية، لذلك فان ثقافة جماعة ما لا تتغير  –إن تغيرت –إلا بتعاقب الأجيال وتحول الظروف، وهو أمر ينطبق على البشرية كلها بالضرورة.
أما العوامل الجديدة والمحدثة ابتدءا ًمن هذه المرحلة، فكانت على وجه التحديد تدفع في صالح خلق مساحات ملموسة لثقافة المصلحة. وهكذا فانه في الوقت الذي مثلت فيه مجموعة العوامل الجديدة قوى دفع لثقافة المصلحة، فان العوامل سالفة الذكر مثلت قوى تثبيت لثقافة العصبية، فصارت في المجتمع الأردني "ثقافة مركبة"، و هذا المصطلح سنأتي على بيان معناه التطبيقي في آخر هذا الفصل بعد استعراض تلك العوامل الجديدة.
يمكن القول أن عاملين أساسيين هما اللذان نقلا الحالة الثقافية في المجتمع الأردني خلال نحو أربع سنوات (1948-1952) من الأحادية، المتمثلة بثقافة العصبية، إلى المركبة، متمثلة بالتقاسم الوظيفي بين العصبية والمصلحة.
هذان العاملان هما: تغيير التركيبة الديمغرافية للمجتمع الأردني، في ضوء هجرة الفلسطينيين إلى الأردن على اثر حرب عام 1948 حيث أن لقسم منهم مرجعية ثقافية تختلف عن تلك التي كانت سائدة حينه في شرقي الأردن وهي تستند الى مفاهيم ثقافة المصلحة، ثم دخول المبادئ والأفكار الايدولوجية إلى الأردن وانتشارها بسرعة، ابتداءاً من عام 1948 أيضا، وهي التي يقوم خطابها على تعزيز مفاهيم ثقافة المصلحة، و على التناقض مع مفاهيم ثقافة العصبية.
غير أن هناك أيضا عوامل أخرى ساهمت في هذا الانتقال الثقافي، وساهمت على وجه التحديد في إحداث مفاهيم ثقافة المصلحة و بالتالي خلق الحالة الثقافية المركبة، مثل الاحتكاك مع الغرب المتحضر الذي تتمثل في مدنه المعاصرة الصورة النقية لمفاهيم ثقافة المصلحة، ومثل تطور التعليم وعمليات التحديث، وهذه العوامل كانت حاضرة في المجتمع الأردني منذ المرحلة السابقة لعام 1948، وبالتالي فان ما أحدثته خلال هذه المرحلة (1948-1952) هو تواصل مع التطور الطبيعي الذي كان المجتمع يتحرك باتجاهه لو لم يبرز العاملان الديمغرافي والايدولوجي.
        ونستعرض فيما يلي هذه العوامل، وكيفية إحداثها هذا الحضور الجديد لثقافة المصلحة ومفاهيمها:
 
أولا : تغيُّر التركيبة الديمغرافية
 
نتج عن حرب عام 1948 في فلسطين، أن تدفق مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين إلى الارض الأردنية، وقد استقر هؤلاء في الأردن وحملوا الجنسية الأردنية بموجب قانون الجنسية لسنة 1949.
كان من الطبيعي أن ينقل اللاجئون/المواطنون الجدد إلى البلاد كثيراً من مفاهيمهم التي تكونت في ظروف المجتمع الفلسطيني الخاصة، ومنها ثقافتهم الاجتماعية. ولذلك سيكون مفيداً أن نبحث في البدء في الحالة الثقافية لهؤلاء اللاجئين.
لا توجد إحصاءات(1) يمكن اعتمادها لمعرفة التوزيع الذي كان عليه هؤلاء اللاجئين من ناحية أصل مكان السكن في فلسطين (مدينة، قرية، بادية)، أي البيئة الثقافية التي جاءوا منها، غير أن هناك بعض المؤشرات التي يمكن الخروج منها بنتائج مفيدة في هذا السياق، فقد بلغ عدد العرب في فلسطين في 31/3/1947، أي قبيل الهجرة بقليل، و حسب إحصاءات رسمية،(1,363,387) مليون إنسان(2)  كان نحو 70% منهم يعيشون في القرى(3)، ونحو (7-9)% منهم يعيشون كبدو رحل(4)، وهكذا يظل نحو 20% أو يزيد قليلا يعيشون في المدن. 
ويقدر عدد اللاجئين إلى شرقي الأردن على اثر حرب عام 1948 بنحو مثل عدد السكان الذين كانوا يعيشون على الأرض الأردنية، أي نحو نصف مليون إنسان. ومع ملاحظة أن الهجرة إلى الأردن لم تحدث دفعة واحدة، إذ ذهب بعض اللاجئين إلى لبنان ثم انتقلوا إلا الأردن بعد سنة أو سنتين أو ثلاث، فان احصاءاً رسمياً أجرته وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "اونروا " في عام1954 بين أن مجموع من ينطبق عليهم وصف "لاجئين" في الأردن يبلغ(486.631) ألف شخص(5)، في ذلك العام.
        أما بعد إقامة دولة إسرائيل في أيار من عام1948 وتوقف القتال في أواخر العام نفسه، فان عدد العرب الذين ظلوا في ديارهم بلغ نحو (170.000) ألف شخص توزعوا حسب مكان سكناهم إلى (32.000) ألفاً يسكنون المدن، و(120.000)ألفاً يسكنون القرى، و (18.000)ألفاً في البادية(6)، وهذا التوزيع يقارب النسب السابقة؛ إذ توزع نحو 19%في المدن، 71%في القرى، و 10%في البادية تقريباً. كما أن النسب نفسها تقريبا تظهر في إحصاء رسمي للعرب في الدولة الإسرائيلية الناشئة أجرته عام 1955، إذ بلغ مجموع العرب (198.556)ألف شخص، توزعوا إلى(52.050)ألفاً في المدن؛ أي بنسبة 26.2%، (125.214) ألفاً في القرى؛ أي بنسبة63.1%، و(21.292)ألفا في البادية؛ بنسبة 10.7%(7).
     وبمقارنة النسب التي توزع على أساسها سكان فلسطين العرب قبل الهجرة بالنسب التي توزع على أساسها من بقي منهم على أرضه بعد الهجرة، يكون منطقياً- في ضوء تطابقها تقريباً-افتراض أن اللاجئين توزعوا حسب أصول أماكن سكناهم وفق النسب نفسها:20%من المدن، 70%من القرى، و10%من البادية. وبالذهاب خطوة ابعد في الافتراض ذاته، سنطبق هذه النسب على اللاجئين الفلسطينيين إلى شرقي الأردن، تحديداً.
      أما الحالة الثقافية لهؤلاء اللاجئين فهي متباينة بالضرورة، فالبدو منهم – كماهم أهل البادية في كل البلدان العربية– يصنفون على ثقافة العصبية و مفاهيمها إذ ينقسمون إلى قبائل وعشائر تسودها الأعراف والعادات والتقاليد البدوية، ويتمتع شيخ القبيلة أو العشيرة بنفوذ قوي على أفراد قبيلته أو عشيرته(8). أما أهل القرى، فهم ورغم إنهم ليسوا من أصول بدوية قريبة كما هو حال معظم أهل القرى في شرقي الأردن، إلا إنهم لا يصنفون بطريقة مباشرة على غير ثقافة العصبية، فقد تميزت القرى في فلسطين باحترام أهلها العادات و التقاليد و التمسك بها، وكذلك التماسك بين أفراد الأسرة الواحدة مهم كثرت زوجات الرجل أو كثر الأبناء، فهم يشتركون جميعاً في العمل والكسب، ويتولى الأب الإنفاق على الجميع وله قيادة الأسرة، و يسود الأسرة التعاطف و التواصل و التراحم (9).ودرجت العادة أن تسكن هذه القرى على قاعدة الأسر الممتدة (الحمايل)، إذ يكون لكل حمولة في القرية الواحدة حي خاص بها أو (حارة) لا تشاركها فيه الحما يل الأخرى التي يكون لكل منها حي خاص (حارة) في القرية ذاتها؛ إذا سكنت القرية الواحدة أكثر من حمولة (10).و لكل حمولة أيضا أراضيها المشتركة وشيخها الذي يتمتع بسلطة واسعة على كل فرد فيها(11). ويتبين أن هذه المفاهيم هي جزء من ثقافة العصبية وتعبيراتها.
أما أهل المدن فيتبعون ثقافة المصلحة، على انه من المهم هنا ملاحظة أن ليس كل أهل المدن الفلسطينية عشية الهجرة كانوا من العائلات المدنية الأصلية، فمنهم من كان من أهل القرى الذين ارتحلوا إلى المدن للعمل(12)حين أخذت بعضها تكبر و يزدهر اقتصادها، خاصة مدينة حيفا(13)، وهؤلاء على وجه الخصوص سيكون لديهم ثقافة مركبة جاهزة نتيجة مزاوجتهم في عيشهم بين مفاهيم كل من ثقافتي العصبية و المصلحة. ولقد اكتسب أهل المدن الفلسطينية هذه الثقافة (المصلحة) نتيجة عدة عوامل، أولها الاحتكاك المبكر بالغرب لوجود معظم تلك المدن على ساحل البحر المتوسط(14).ثم لان انتعاش هذه المدن بفضل حركة الاستيراد و التصدير أدى إلى التمايز الطبقي بين الأثرياء والبرجوازية التجارية من جهة والفئات الفقيرة كالعمال والصيادين من جهة ثانية(15).  
           و هكذا يمكن القول أن الهجرة الفلسطينية إلى الأردن حملت ثقافة جديدة، إذ كان نحو 20%من اللاجئين يحمل معظمهم مفاهيم ثقافة المصلحة فيما يحمل بعضهم الباقي مفاهيم ثقافة مركبة نتيجة العمل في المدن. وبذلك، ووفقاً للأرقام سالفة الذكر، فقد وجدت ثقافة المصلحة مساحة مباشرة لها في 10% من المجموع السكاني الجديد في شرقي الأردن المكون من السكان قبل عام 1948 مضافاً اليهم اللاجئين الفلسطينيين إليه، على اعتبار أن عدد اللاجئين يساوي نصف عدد المجموع السكاني الجديد.
أما بشكل غير مباشر، فقد وجدت ثقافة المصلحة مساحات إضافية لها في هذه التركيبة الديمغرافية الجديدة، فمن جهة تميز أهل المدن من اللاجئين بأن لهم تأثير ملموس من ناحية العادات(16)(كتغير طراز اللباس من التقليدي إلى الأوروبي) و كذلك من ناحية النشاط الاقتصادي التجاري والمصرفي(17)، إذ نقل أصحاب رؤوس الأموال طموحاتهم الاقتصادية معهم، خاصة في عمان حيث تمركزوا، و بهذا فاق حضورهم المعنوي نسبتهم الرقمية المحدودة. ومن جهة أخرى، فان مجمل اللاجئين الفلسطينيين، من المدن و القرى، نقلوا معهم خبرات و طباعاً تولدت عندهم نتيجة الظروف السياسية التي مرت بها فلسطين منذ سنوات طويلة سبقت هجرة عام 1948، مثل الخبرة النضالية الممتدة نتيجة مواجهة الاستعمار البريطاني و الحركة الصهيونية على مدار عقود و التي ترافقت مع حياة سياسية و فكرية نشطة تخللها نشوء أحزاب عقائدية(18)، و كذلك مثل الإقبال على التعليم الذي كان يحظى في فلسطين بمكانة متقدمة ترتبط بعمليات الإنتاج و حركة التجارة و كذلك بالتحدي الوطني الناتج عن الاحتكاك المباشر مع الصهيونية(19). ويعني ذلك فيما يعني أن أعدادا من هؤلاء اللاجئين، من مختلف الأصول في بلادهم، تكونت من مثقفين ومهنيين وشرائح واسعة من المتعلمين، وهو ما عزز أجواء نهوض الطبقة الوسطى في الأردن، وبالتالي أتاح المجال لمفاهيم ثقافة المصلحة لتحتل مساحات متزايدة عند أفراد المجتمع، كما وفر الفرصة لإنشاء مزيد من الأدوات التي يمكن أن تصب على المدى الطويل في صالح ثقافة المصلحة، حيث ارتفعت أعداد المدارس و ارتفع أعداد الملتحقين بالدراسة الجامعية في خارج البلاد بصورة ملحوظة (من بضع عشرات في أواخر الأربعينات إلى بضع مئات في مطلع الخمسينات، من الضفة الشرقية وحدها )(20)، وزادت كذلك المؤسسات التجارية و الاقتصادية المختلفة.
إن هذا التغير في التركيبة الديمغرافية لم يحدث أثره الكبير في حالة المجتمع الثقافية لوجوده المجرد و حسب، بل أن الأمر الأكثر أهمية و أعظم تأثيرا ًفيه نتج عن واقع الاندماج الحياتي الطبيعي والتلقائي في المجتمع الجديد، الذي تتخلله المصالح المتبادلة والمشتركة، ومظاهر الترابط كالمصاهرة، هذا إضافة إلى ما فرضته الأحوال السياسية في المنطقة والعالم في تلك السنوات بحيث دفعت أفراد المجتمع لممارسة العمل النضالي والوطني معاً.
وهكذا فان هذا التغير الديمغرافي في المجتمع الأردني قاد في المحصلة إلى خلخلة الحالة الثقافية التقليدية السائدة، إذ رغم انه أضاف مصنفين إضافيين على ثقافة العصبية، فانه أضاف – ولأول مرة بهذا الحجم – مصنفين على ثقافة المصلحة كانوا عظيمي النشاط و التأثير، وهم يضافون بالطبع إلى ما كان في شرقي الأردن من قبل من مصنفين على الثقافة نفسها من المثقفين وأبناء الأقليات الذين يعيشون مفاهيم تلك الثقافة، وهو ما ساهم إلى جانب مجموعة من العوامل الأخرى في نقل المجتمع الأردني إلى حالة "الثقافة المركبة".
 
 
     ثانياً:تأسيس التنظيمات العقائدية
 
يمكن القول أن تأسيس القوى السياسية العقائدية في الأردن حدث بين عامي 1948و 1952، ففي المرحلة الأولى انتقلت التنظيمات العقائدية الى الأردن من البلاد العربية المجاورة؛ فجاءت فكرة البعث من سوريا، و الشيوعية من فلسطين، وجماعة الإخوان المسلمين من مصر. وبعد ذلك، في عام 1952 تحديداً ظهرت التنظيمات العقائدية التي كان للأردن علاقة بمولدها، وهي حركة القوميين العرب وحزب التحرير.
وقد توفرت الظروف الاجتماعية الملائمة لاحتضان الأفكار العقائدية و انتشارها خصوصا بعد حرب عام 1948 وتوحيد الضفتين. فبعد أن كان شرقي الأردن يشهد مع نهاية الحرب العالمية الثانية بعض التغيرات الاقتصادية الاجتماعية التي ساهمت في بلورة طبقة وسطى، مثل ظهور فئات من المهنيين، ونشوء عدد من الصناعات، في الوقت الذي بدا فيه مستوى معيشة السكان متدنيا نتيجة تغيرات ما بعد الحرب حيث ارتفعت الأسعار وزادت معدلات البطالة وهو ما دفع جزءاً من قطاع القوى العاملة الأردنية للعمل في السوق الفلسطينية بلغ عددها (32) ألف شخص يساوي ما نسبة ثلث مجموع القوى العاملة وقتها(21)، فان حرب عام 1948، والهجرة الفلسطينية الناشئة عنها إلى شرقي الأردن، عززت أجواء نهوض الطبقة الوسطى التي مثلت الأرضية المثالية لتقبل الأفكار العقائدية. في هذه الاثناء شهدت البلاد ازدياداً في حجم البطالة إذ باتت تشكل نحو (60%) من إجمالي السكان في سن العمل (22)، وانخفاضاً عاماً في مستوى المعيشة نتيجة تدني الأجور و خسارة فرص العمل في فلسطين، و لم تشفع معدلات النمو الاقتصادي العالية التي شهدتها البلاد في مطلع الخمسينات، والتي قدرت للسنوات 1952-1954 بنحو 10% سنوياً، في تحسين الأحوال المعيشية، حيث نتجت أساساً عن إعادة تشغيل عدد من المؤسسات الصناعية التي كانت قائمة في فلسطين بالاعتماد على المعدات نفسها و العمال أنفسهم (23).
 إلى جانب ذلك ساهمت الظروف الموضوعية إقليمياً دوليا في تعزيز قبول البرامج السياسية الإيدولوجية إذ حاز النضال من اجل عودة الشعب الفلسطيني إلى أرضه و الدفاع عن قضيته وتحرير بلاده أولوية العمل السياسي في وقت باتت فيه دولة إسرائيل الماثلة للعيان تمثل تهديداً مباشراً للطموحات الوطنية والقومية الوحدوية والتحررية والنهضوية وتشكل معوقا لكل المشاريع الحضارية في المحيط العربي. ومن جانب آخر، أدى سعي الجهات الاستعمارية لربط المنطقة بأحلاف عسكرية تحفظ وجودها واستغلالها خيراتها وجلاء الارتباط الموضوعي بين هذه المشاريع الإمبريالية والوجود الصهيوني في فلسطين، إلى تعزيز المشاعر الوطنية المعادية للاستعمار الغربي والساعية لمناهضته، واتخذ هذا الوضع طابعاً أكثر عمقاً في ظل بروز الكتلة الاشتراكية وقيام ثورة يوليو 1952 في مصر التي انتهجت سياسة عربية تحريرية، وظهور حركات التحرر الوطني في كافة أنحاء العالم ساعية للتخلص من الاستعمار العسكري والاقتصادي وأذياله.
وكي نستوضح أثر هذه التنظيمات العقائدية في تعزيز حضور مفاهيم ثقافة المصلحة، نستعرض فيما يلي نشأة كل منها، و مضمون العقيدة التي نادى بها في هذه المرحلة على اعتبارها الخطاب الذي يقيم مفاهيم ثقافة المصلحة و يستند إليها في آن، فباكتساب أي من هذه التنظيمات أعضاء أو مؤازرين جدد –على اختلاف مرجعياتهم الثقافية الأصلية- فإنهم يتجهون بالضرورة لممارسة سلوكيات تمثل ثقافة المصلحة في جزء من حياتهم، هو المتعلق بالعمل العام، ففي هذا السياق ينبني على تبني العقائدية الاعتقاد أن الذي يجمع الناس و ينظم صلاتهم –ومنها انحيازهم لبعضهم –هو أفكارهم و معتقداتهم، لا صلات القربى و الدم، وهذا مفهوم أساسي في ثقافة المصلحة، فيما يكون احتفاظ قسم منهم بسلوكيات تمثل ثقافة العصبية في باقي حياتهم اليومية الخاصة تمثيلاً لانتقالهم إلى الثقافة المركبة.
 
1- حزب البعث العربي
 
كان الأردن أول بلد عربي تنتقل له فكرة البعث خارج بلد مولدها في سوريا(24). فقد شارك عدد من الطلبة الأردنيين الذين كانوا يدرسون في الجامعة السورية خصوصاً في المؤتمر التأسيسي لحزب البعث الذي عقد عام 1947. وفي الوقت نفسه ركز الحزب على نشر أفكاره في الجامعات العربية (في لبنان ومصر و العراق ) وتبع ذلك أن تولى الشباب نقل أفكار البعث إلى بلدانهم. ومن هنا، تكونت أول نواة للبعث في الأردن في مطلع عام 1948 على يد عدد من الطلبة الأردنيين الذين عادوا إلى البلاد مبشرين بفكرة البعث بين طلبة المدارس والمعلمين والمثقفين .
        تميز انتشار حزب البعث في الأردن بالسرعة(25)، ونتج ذلك بصورة رئيسية عن عاملين اثنين، هما:
1- حرب عام 1948 بكل نتائجها السياسية والاجتماعية.
2- المضمون الاجتماعي لعقيدة الحزب؛ إذ كان ربط الفكرة القومية بالاشتراكية تجديداً نوعياً قدمه البعث متجاوزاً الطروحات القومية التقليدية، وكان ذلك قوة دافعة كبيرة لانتشار الحزب خاصة بين أبناء الطبقات التي تخاطبها الاشتراكية.
         إن هذين العاملين، معاً، إلى جانب الأرضية الخصبة التي وفرتها وحدة الضفتين عام 1950، وما يمكن أن يضاف إلى ذلك من عوامل ذاتية خاصة بأعضاء و قيادات الحزب، كلها جعلت البعث ينتشر جماهيريا بسرعة ملحوظ، حيث أخذت حلقاته تتكون وبالذات في أوساط الفئة التي تضررت مباشرة من هزيمة 1948، أي اللاجئين الفلسطينيين، ولوحظ أن معظم أفراد البعث في مرحلة التأسيس كانوا من الطلاب والمثقفين وأبناء الطبقة الوسطى.
تستمر مرحلة تأسيس حزب البعث في الأردن عملياً إلى شهر شباط من عام 1952، وهو التاريخ الذي عقد فيه الحزب مؤتمره التأسيسي (في الأردن) إذ استمرت عمليات نشر أفكار الحزب وتنظيم الكوادر فيه قبل ذلك التاريخ. وخلال ذلك، كان الحزب قد خاض انتخابات مجلس النواب الثاني في عام1950، وفاز اثنان من قياداته بمقعدين في المجلس.
انبثقت عن المؤتمر التأسيسي أول قيادة قطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي في الأردن، وتقدم الحزب بتاريخ  5 شباط 1952 بطلب إلى الحكومة لترخيصه رسمياً، إلا أن الحكومة رفضت ذلك بدعوى مخالفة مبادئ الحزب للدستور، وأعيد تقديم الطلب مرتين بعد ذلك في 23 حزيران 1953 و20 اذار1954 إلا أن الحكومة رفضت الطلب مجدداً. قام الحزب نتيجة لذلك بتقديم دعوى لدى محكمة العدل العليا ضد قرار الحكومة وبتاريخ 28 آب 1955 قررت المحكمة فسخ قرار مجلس الوزراء برفض السماح بتشكيل الحزب، واعتبر حزب البعث العربي الاشتراكي قائماً بصورة علنية منذ ذلك التاريخ.
    تميزت العلاقة بين قيادة البعث في سوريا وتنظيماته في الأقطار العربية بتنظيم محكم، وقد وصل الحزب في الأردن إلى مستوى قيادة فرع في عام 1953(26)، كما أصدر البعثييون في الأردن مجلة أسبوعية اسمها (اليقظة).
تعريف عام بعقيدة البعث وفكره السياسي في مرحلة التأسيس:
 تبنى عقيدة البعث القومية على مبادئه الثلاثة :الوحدة ،الحرية،الاشتراكية(27).
  يعتبر البعث الوحدة العربية قضية حضارية تاريخية نهوضية، تمثل حالة من "التحريض والنضال " تعمل في اتجاه معاكس لكل من التجزئة وظروفها وقواها، سواء كانت الاستعمار و الصهيونية أو الفئات القطرية الانعزالية. وجعل البعث هذه الوحدة معياراً لثورية الأفراد والجماعات و لثورية الأمة كلها، وأساسا للانقلابية في نفوس العرب. واعتبر القومية العربية أساس الانتماء للأمة العربية، والإسلام تراثها وتجربتها الحضارية المبدعة.
أما عن شكل الوحدة العربية في فكر البعث –في مرحلة البدايات- فتبنى على حق العرب في إقامة دولة واحدة على اعتبار إنهم أمة واحدة، وهم إن لم يكونوا موحدين من الناحية العملية فهم موحدون روحياً ونفسياً. وبهذه الصورة تكون الوحدة المطلوبة في هذه المرحلة وحدة اندماجية كاملة. لكنها تنبع من الشعب العربي وجماهيره لا من أجهزة الحكم ووسائلها الدعائية. 
أما الحرية فهي في نظر البعث شرط بناء الجيل العربي الجديد الذي يقيم الوحدة، فهي أكثر من الاستقلال ومن القضاء على الظلم الاجتماعي لأنها تمتد إلى شخصية المجتمع العربي و تتصل بالاتجاه الحضاري للفكرة القومية و بنفسية الأفراد العاملين لأجلها. وبسبب هذه الحرية تزول العبودية والجهل و الطائفية و الإقليمية و التقليد. يشمل مفهوم الحرية عند البعث كذلك موضوعات الديمقراطية والتعددية الحزبية، إذ يرى أن حرية تشكيل الأحزاب تمثل وسيلة لتوحيد الجهود المبعثرة وحرباً على الرجعية وترسيخاً لمفاهيم العدالة والمساواة وعلى المستوى الخارجي جعل البعث مفهوم "الحياد الإيجابي"جزءاً من الحرية على اعتبارها واحدا ًمن المهام الحضارية للعرب.
وعن الاشتراكية، فقد جعلها البعث ذات مهام حضارية تهتم بالوضع الروحي للأمة العربية بحيث تتجاوز الصبغة المادية للمهام الاقتصادية الاجتماعية، فهي لذلك فرع خاضع للمشروع الحضاري العربي يعبر عن نمط العلاقات الاجتماعية الجديدة فيه وطريقة استثماره لخيراته و أسلوب إنتاج مواد عيشه، و هي كذلك وسيلة لإطلاق المواهب و الكفاءات وإشراك الشعب كله في معركة الحضارة. ويرى البعث أن بين القومية العربية والاشتراكية ارتباطاً موضوعياً، إذ ان التناقض الاجتماعي الذي تعبر عنه الاشتراكية يقترن جدلياً بالتناقض الحضاري بين أنصار النهضة العربية وخصومها؛ بين أصحاب المصلحة في الوحدة وأصحاب المصلحة في التجزئة، ذلك أن المستفيدين من حالة التجزئة هم الإقطاعيون و الرأسماليون و الفئات الحاكمة، أما بقية الشعب العربي من فلاحين وعمال ومهنيين وصغار التجار وصغار الموظفين فهم أنصار للوحدة وأصحاب مصلحة فيها.
وهذه المفاهيم الثلاثة (الوحدة والحرية والاشتراكية) مترابطة في مشروع البعث ،إذ تكون الوحدة حالة تنظيم انقلابي يتلازم على الدوام مع الحرية و الاشتراكية، ويقوم على الاتصال بالتراث العربي ،أي بعثه. فالقومية العربية حالة نضال و حالة حداثة و حالة تكامل للأهداف.
ومن هذه الأسس اشتق تنظيم البعث في الأردن برنامجه السياسي في مطلع الخمسينات، مطالباً بعزل الضباط الإنجليز من الجيش و على رأسهم رئيس الأركان ، و بإلغاء المعاهدة الأردنية البريطانية لعام 1948، و بفصل الشرطة والدرك عن قيادة الجيش و إلحاقها بوزارة الداخلية. وطالب البعث أيضاً بحرية الأحزاب السياسية في البلاد وإقامة نظام ديمقراطي برلماني يستند إلى انتخابات نيابية حرة (28).
 
2- الحزب الشيوعي الأردني
       تأسس الحزب الشيوعي الأردني في نيسان من عام 1951، ليرث عصبة التحرر الوطني في فلسطين بعد اندماجها مع الخلايا الماركسية –محدودة العدد – التي كانت موجودة من قبل في شرقي الأردن.
كانت عصبة التحرر الوطني قد أعلنت في عام 1944(29) على ضوء الخلاف بين العرب واليهود في الحزب الشيوعي الفلسطيني حول مسألة الهوية اليهودية، إذ كان اليهود يرون أنهم أمة لها أهميتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية ويرون أن من الممكن تحويل فلسطين إلى دولة مزدوجة القومية، في حين كان العرب يتطلعون إلى قيام دولة ديمقراطية تضم العرب واليهود معاً. ونتيجة الظروف السياسية القائمة في فلسطين وفي العالم الاشتراكي وقتها، فقد انقسم الحزب الشيوعي، و أسس العرب هذه العصبة في حيفا.
حتى أواخر الأربعينات لم يكن في شرقي الأردن سوى عدد محدود من الأفراد الماركسيين، معظمهم من خريجي الجامعات السورية واللبنانية والمصرية(30). وفي مطلع عام 1950 تشكلت قيادة مركزية للشيوعيين شرق الأردنيين كانت على صلة بعصبة التحرر الوطني، وقد سهلت هذه القيادة انتقال العصبة إلى شرقي الأردن واستقرارها في عمان نظراً لما آلت إليه الأحوال في فلسطين.
عقب حرب عام 1948 وقيام دولة إسرائيل ذات العقيدة الصهيونية ثم توحيد الضفة الغربية مع شرقي الأردن، وهي التي اعتبرت جزءاً من القسم العربي بحسب قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 والذي قبله الشيوعيون واعترفوا به حلاً للمسألة العربية اليهودية في فلسطين وذلك على عكس بقية القوى السياسية العربية، باتت المسألة الملحة في نظر الشيوعيين هي مقاومة السيطرة البريطانية على المنطقة، إذ رأت عصبة التحرر الوطني خلال سلسلة من الاجتماعات عقدتها في أوائل عام 1951 أن بريطانيا هي التي منعت قيام دولة ديمقراطية في فلسطين، وهي ذاتها التي باتت تسيطر على كل من شرقي الأردن والجزء العربي من فلسطين (أي المملكة الأردنية الهاشمية بضفتيها) نتيجة للمعاهدة الأردنية البريطانية. ولذلك، رأت اللجنة المركزية للعصبة أن الشعبين الأردني و الفلسطيني لن يستطيعا التحرر من عدوهما المشترك: الاستعمار وحلفائه، إلا بوحدتهما النضالية في سبيل التحرر الوطني و الديمقراطية، فأصدرت قرارها بتحويل اسمها إلى "الحزب الشيوعي الأردني" متوحدة مع بعض أعضاء الخلايا الماركسية في شرقي الأردن بعد حلها لنفسها وحل القيادة المركزية للشيوعيين الأردنيين(31)، لتكون حزباً للطبقة العاملة الأردنية والفلسطينية.
واجه الحزب الشيوعي الأردني تحدياً كبيراً منذ تأسيسه نتيجة سريان قانون مكافحة الشيوعية لعام 1948 في الأردن، والذي كان يقضي بحبس من تثبت عليه تهمة الانتماء للحزب الشيوعي لمدة ثلاث سنوات مع الأشغال الشاقة، وقد عدّل القانون في عام 1953 لتصير مدة العقوبة خمس عشرة سنة، ونصت المادة الثالثة من القانون على معاقبة كل من:1- انتسب لهيئة شيوعية بقصد الترويج للشيوعية 2- انتسب لهيئة شيوعية و اشغل وظيفة أو منصبا فيها أو اشتغل كمعتمد أو مندوب لها 3- دعا للشيوعية بالخطابة أو الكتابة أو التصوير4- نشر أي مستند شيوعي بقصد الترويج للشيوعية 5- وجد في حوزته مستند شيوعي بقصد النشر أو الترويج(32).
و نتيجة لهذا القانون فقد قضى عدد من الشيوعيين فترات طويلة في السجون(33).
        لم يتقدم الحزب –طبعاً- بطلب للحصول على الترخيص وإنما ظل تنظيما سرياً، وأصدر صحيفة "المقاومة الشعبية" بصورة غير علنية.
أنشأ الشيوعيين أيضاً "منظمة أنصار السلام" على اعتبارها جزءاً من الحركة العالمية الداعية لتحريم استخدام الأسلحة النووية، وأصدرت صحيفة أسبوعية اسمها "الفجر الجديد" وقد أخضعت هذه المنظمة لقانون مكافحة الشيوعية حيث تم سجن العشرات من أعضائها في سجن الجفر لمدة ثلاثة عشر شهراً كما منعت صحيفتها من الصدور حتى بعد أن قررت محكمة التمييز- في الدعوى التي رفعت ضد قرار إغلاق الصحيفة – عدم شرعية الإغلاق.
 
      
تعريف عام بعقيدة الشيوعيين الأردنيين وفكرهم السياسي في مرحلة التأسسيس:
   استرشاداً بالماركسية اللينينية ومنهجها الديالكتيكي العلمي، وضع الحزب الشيوعي الصراع الطبقي والاجتماعي مكافئاً للصراع السياسي والديمقراطي الوطني، فطالب بحقوق العمال وتحرير المرأة إلى جانب مطالبته بالاستقلال الوطني وإطلاق الحريات.
وقد أعد الحزب برنامجه الأول بالتعاون مع الحزب الشيوعي السوري –اللبناني و أمينه العام (خالد بكداش)(35)، وكان يرفض وحدة الضفتين على اعتبارها تمثل عقبة أمام قيام الدولة الفلسطينية التي نص عليها قرار التقسيم وسبباً في إخضاع الشعب الفلسطيني لتبعية المعاهدة الأردنية البريطانية بعد إنتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين.
           أعلن الحزب الشيوعي الأردني انه يدافع عن السلم العالمي و يقاوم –كما جاء في برنامجه الأول(36)- "مؤامرات معسكر الاستعمار والحرب الذي يتزعمه الاستعمار الأمريكي لإشعال نار حرب عالمية جديدة جنباً إلى جنب مع جميع الشعوب المحبة للسلام بقيادة الاتحاد السوفيتي الحصن الرئيسي للسلام العالمي"، وانه يناضل من اجل إلغاء المعاهدة الأردنية البريطانية و جلاء جميع القوات الأجنبية عن الأردن ،ومن اجل الاستقلال الوطني ،وكذلك من اجل تنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم (181) الخاص بتقسيم فلسطين، وفي سبيل عودة المشردين إلى ديارهم وعقد صلح ديمقراطي على أساس ذلك القرار. كما أعلن الحزب انه يناضل من اجل توزيع أراضي "الإقطاعيين وكبار الملاكين على الفلاحين " وفي سبيل تأمين حقوق العمال وضمان وجود أعمال لهم وحمايتهم من البطالة، وتأميم جميع المرافق التي يسيطر عليها الاستعمار و جعلها ملكاً للشعب، وكذلك جعل التعليم في جميع مراحله مجانياً وحقاً مضموناً للشعب كله وتحرير العلوم و الثقافة من الأفكار"الاستعمارية والرجعية والعنصرية "، وأنه يناضل لتحرير المرأة الأردنية من القيود الرجعية " ومساواتها بالرجل في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، و كذلك من اجل تحضير البدو وتحقيق استقرارهم وتوزيع الأراضي عليهم. وأعلن الحزب مطالبته ببناء جيش شعبي "متحرر من سيطرة الاستعمار والرجعية يصون استقلال البلاد ومصالح الشعب ويدافع عن السلام العالمي "وكذلك أنه يناضل في سبيل الحريات السياسية وحرية الكتابة والنشر وحرية المعتقدات الدينية وحرية "الفئات الشعبية المختلفة وحقها في التظاهر والإضراب وعقد الاجتماعات العامة" وأيضا حقها في تكوين الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات التي تدافع عن حقوقها وتعبر عن رأيها وتناضل من اجل مطالبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما أعلن الحزب سعيه لقيام مجلس تأسيسي منتخب انتخابا حراً يمثل الشعبين الفلسطيني والأردني "لوضع دستور ديمقراطي يؤمن مصالح الجماهير الشعبية الكادحة في المدن والقرى ويعبرعن إرادتها في حكم نفسها بحرية تامة ويؤمن للشعبين الفلسطيني والأردني أن يقررا بحرية كاملة فيما إذا كانا يريدان الاتحاد مع بعضها أم الانفصال".
كان تبني الشيوعيين قرار تقسيم فلسطين عاملاً هاماً في نفور القوى الحزبية الأخرى منهم، و هي التي رفضت مشروع التقسيم أساساً، هذا إلى جانب الخلافات العقائدية الأساسية بينهم.رغم ذلك، و تحت وطأة ظروف الحريات العامة في الأردن و تقارب المطالب السياسية لقوى المعارضة، أظهرت هذه القوى التعاون فيما بينها في مواجهة السلطات الحاكمة، و تعاون الشيوعيين مع البعث –خصوصاً- في مواقف متعددة، وسغى الشيوعيون لذلك الى جمع قوى المعارضة في جبهة واحدة حيث أسسوا في عام 1954 وبالتعاون مع أصدقائهم وسياسيين تبنوا الفكرة "الجبهة الوطنية" غير أنهم لم ينجحوا في توسيع صفوف الجبهة لتضم قوى أخرى فصارت واجهة سياسية لهم إلى حد بعيد.
 
3- جماعة الإخوان المسلمين
    رغم أن جماعة الإخوان المسلمين في الأردن أنشئت في عام 1946، إلا أن من غير الممكن اعتبارها جزءً من الحركة السياسية إلا بعد وحدة الضفتين(37)في عام 1950 حين تحول سلوكها من أداء مهام دعوية و نفعية عامة يتولاها التجار و المحسنون إلى رفع شعارات إصلاحية على المستوى الاجتماعي و السياسي، وذلك نتيجة انتساب عدد واسع من الشباب وأبناء الطبقة الوسطى لها وكذلك تأثرها بأوضاع الجماعة الأم في مصر.
    تأسست الجماعة بمباركة من الملك عبدالله بن الحسين حيث افتتح المركز العام للجماعة برعايته، بعد أن كان مجلس الوزراء قد قرر في 9/1/1946 الموافقة على الطلب المقدم لتأسيس "جمعية الإخوان المسلمين". وفي عام 1947 وزعت الجماعة مهام هيئتها الإدارية (المكتب العام) وانتخب عبد اللطيف أبو قورة نائباً للشعبة.
كانت الجماعة في الأردن على ارتباط وثيق بقيادة الجماعة في مصر التي أشرفت مباشرة على إنشاء تنظيمها في الأردن وكلفت أحد أعضائها المتمكنين من الخطابة متابعة تأسيس الإخوان في الأردن، فزار البلاد وكان يطوف على المدن ويشرف على تأسيس شعب الإخوان فيها.
ظلت الجماعة على علاقة طيبة بالعائلة الهاشمية المالكة، و قد امتدت هذه العلاقة إلى الجماعة الأم حيث تبادل مؤسس الجماعة حسن البنا و الملك عبدالله رسائل تتضمن إشارات لهذه العلاقة(38). كما تابع الإخوان هذا السلوك بعد تطور أدائهم السياسي في الخمسينات، إذ انحازوا دائماً للملك ضد الشيوعيين والبعثتين في خطبهم ودروسهم التي كانوا يلقونها على الناس.
ولقد تكرس تطور الأداء السياسي للجماعة بعد استقالة رئيسها أبو قورة واختيار محمد عبدالرحمن خليفة مراقباً عاماً لها في أواخر عام 1953، وعلى ضوء وضع تنظيم جديد لها بمساهمة من أحد شباب الإخوان الفارين من مصر و أحد أعضاء "النظام الخاص". وتقدمت الجماعة بطلب إلى رئيس الوزراء من اجل ترخيص الجماعة على اعتبارها "هيئة إسلامية عامة شاملة" بدلاً من كونها جمعية خيرية، وقد وافق رئيس الوزراء على ذلك، وظلت الجماعة تحرص في نشاطاتها على الحصول على الإذن الرسمي حين اللزوم(39).
ورغم أن جماعة الإخوان المسلمين في بداياتها لم تكن محسوبة على قوى المعارضة، إلا أنها أيضا لم تكن خاضعة تماماً لرغبات الجهات الحكومية، إذ كانت تمارس نوعاً من المعارضة للسلوك الحكومي، لم يرق –بالطبع –لأداء القوى السياسية المعارضة الأخرى (التي وجهت معارضتها لنظام الحكم نفسه) لكنه كان يعبر عن رؤى الإخوان العملية، حيث وجه خطباء الإخوان انتقادات شديدة لاتخاذ الحكومة نهجاً غير إسلامي خاصة في جوانب "الكحول والأشكال الأخرى من الفسق" وكذلك تدني مستوى الناهج المدرسية بتركيزها على القيم الغربية. وتحدث الإخوان أيضاً عن علاقة "بعض الحكومات" القوية مع الغرب(40)، ويلاحظ أن المسائل الاجتماعية طغت كثيراً على القضايا السياسية في هذا النهج المعارض.
  ونتيجة لذلك، فقد نظرت القوى القومية واليسارية في هذه المرحلة لجماعة الإخوان على اعتبارها جزءاً من نظام الحكم.
  وقد أصدرت الجماعة صحيفة "الكفاح الإسلامي" الأسبوعية.
يلاحظ أن نشأة جماعة الإخوان المسلمين في الأردن كانت محكومة لظرفين اثنين:
1- رغبة مؤسسيها في تنظيم عمل دعوي إسلامي، يلبي حاجات العاطفة الدينية للمواطنين المسلمين، و ذلك نتيجة إعجابهم بدعوة الإخوان المسلمين في مصر و إنجازاتها، ورغبتهم بتمثل أفكارها وأخلاقياتها (ولكن ليس على الصعيد السياسي).
2- حرص الملك عبد الله على الإفادة من وجود الإخوان المسلمين ودعوتهم في الحفاظ على تقاليد المجتمع وتراثه، خاصة في ظل التغيرات التي اخذ يشهدها العالم عقب الحرب العالمية الثانية والأفكار الجديدة التي أخذت تنتشر في المنطقة العربية، وقد تطور هذا الجانب في السنوات التالية عبر توظيف وجود الإخوان و خطابهم الشعبي لمواجهة قوى اليسار ونفوذها في صفوف الناس، إذ وجه الإخوان نحو خصومهم تهماً تستفيد من العاطفية الدينية مثل الإلحاد ومعاداة الإسلام.
إن هذين العاملين لم يوفرا الظرف الموضوعي اللازم لنشأة الجماعة و حسب، وإنما وفرا لها أيضا الأحوال المناسبة لدفعها قدماً وتطورها، والأهم من ذلك: الحفاظ على وجودها رغم ما أصاب غيرها من حظر وملاحقته في السنوات التالية.
تعريف عام بعقيدة الإخوان وفكرهم السياسي في مرحلة التأسيس:
توضح (المبادئ الأساسية لجماعة الإخوان) التي وضعت عند تأسيسها في عمان، الإطار العام لفكرها وتوجهاتها حيث جاء فيها أن أهداف الجماعة تتخلص في(41)  العمل على تكوين جيل جديد يفهم الإسلام فهماً صحيحاً و يطبقه على نفسه و يعممه، وكذلك الدعوة إلى قيام النظام الإسلامي أساسا لنهضة البلاد العربية، والعمل على جمع كلمة الأندية الإسلامية في البلاد العربية وتوحيد جهودها، وإعداد الشباب وتربيته تربية إسلامية صحيحة، ونشر الثقافة الإسلامية واعتبارها أساسا للمعاهد العلمية في الأقطار العربية، والدفاع عن العقائد الإسلامية وآداب الإسلام وتاريخه وحضارته.
يمكن التعرف إلى الاتجاه الفكري للإخوان المسلمين في فهم الإسلام من خلال كتابات الشيخ حسن البنا مؤسس الجماعة، فهو يجعل فكرة الجماعة شاملة كل المعاني الإصلاحية؛ فهي دعوة سلفية لان الإخوان يدعون إلى" العودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله و سنية نبيه" وهي طريقة سنية لأنهم يعملون بالسنة النبوية في كل شيء، وحقيقة صوفية لأنهم "يعلمون أن أساس الخير: طهارة النفس و نقاء القلب"، وهيئة سياسية لأنهم يطالبون بإصلاح الحكم في الداخل و الخارج، وجماعة رياضية لأنهم يعنون بأجسامهم، ورابطة علمية ثقافية لان طلب العلم فريضة، وشركة اقتصادية لان الإسلام يعنى بتدبير المال, وفكرة اجتماعية لان الإخوان يعملون لحل مشكلات المجتمع الإسلامي(42).
        إلى جانب هذا الطرح العمومي لا يظهر الإخوان في فكرهم الأساسي مواقف متشددة قياسا إلى حركات إسلامية أخرى كانت موجودة أو ظهرت فيما بعد، ويؤكد البنا في حديثه عن سمات جماعة الإخوان المسلمين انها تبتعد عن مواطن الخلاف الفكري إذ حسب الناس "أن يجمعوا على ما يصير به المسلم مسلماً"(43).
  في السياق ذاته، ظلت نظرة الإخوان إلى مسألة العروبة و القومية العربية إيجابية في وقت كانت حركات إسلامية فيه ترفضها نهائياً لصالح الرابطة الإسلامية التي لا تأخذ الهوية القومية بالاعتبار، من هنا تحدث الإخوان عن الوحدة العربية تحت راية الإسلام، واهتموا ببيان النسب العربي للرسول صلى الله عليه و سلم، وبأن العرب مادة الإسلام: إن عزوا عز و إن ذلوا ذل(44)، وأبدى البنا كذلك اهتماماً بمسألة الوطنية، غير انه جعلها عند الإخوان محددة بالعقيدة في حين أنها عند الآخرين معرفة بالحدود الجغرافية (45).
   على أن جماعة الإخوان تركت دائماً مساحة واسعة للاجتهاد في العمل السياسي، ما جعل أداءها يميل إلى البراغماتية بوضوح، فالجماعة لا تجعل في برامجها "مواقف وأحكاما محددة، كما أن رؤاها للمسائل و المواقف ليست بين أن تكون حلالاً أو حراماً..و لكنها اجتهادات في فهم الواقع..واستنباط أحكام الشريعة الإسلامية وتوجيهاتها في المسائل بما يلائم الاحتياجات والمراحل"(46). وقد نظرت الجماعة للمجتمعات العربية والمسلمة على إنها مجتمعات إسلامية أصابها شيء من الانحراف(47).وهو ما يفسر سلوكها الإيجابي من مؤسسات الحكم، والسلبي من الحركات التي تبنت أفكارا غير إسلامية كالماركسية مثلاً، فالجماعة لا تعتبر من سوى الأخوان المسلمين، من المسلمين، خارجاً عن جماعة المسلمين(48).
     يلاحظ عموماً أن الجماعة ركزت في سنواتها الأولى في الأردن على مسألة شمولية العمل الإسلامي، فبدا نشاطها السياسي محدداً في أطر عامة، ومحدوداً قياسا إلى الحركات السياسية الأخرى، كما بدت ميالة للطرح التربوي أكثر من السلوك المطلبي، وهو أمر يتضح في وسائل عملها التي تشمل المحاضرات الثقافية و الاحتفال بالأعياد الدينية الإسلامية و إلقاء الأحاديث الإسلامية والقيام بالزيارات والرحلات وتأسيس المدارس وإعداد أئمة المساجد المؤهلين علما وخلقاً.
         غير أن الإخوان اظهروا انخراطاً اكبر في النشاط السياسي منذ أواخر عام 1953 وبدايات عام 1954، في ظل سلوك أساسي قوامه تأييد الملك ومعارضة الحكومات بالوسائل السلمية والقانونية.
 
4- حركة القوميين العرب
بدأت حركة القوميين العرب نشاطها في الأردن في سنة 1952(50).
         كانت بدايات تأسيس الحركة في عام 1948؛ في ضوء الحرب العربية الإسرائيلية وما نتج عنها من إقامة الدولة الصهيونية على ارض فلسطين وتشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى البلاد العربية المجاورة، حيث تعود أصول الحركة إلى جمعية العروة الوثقى في الجامعة الأميركية ببيروت وهي جمعية طلابية ثقافية كانت توفر مناخات فكرية وسياسية للطلبة ثم إلى كتائب الفداء وهي منظمة شكلت عقب نكبة فلسطين(51) ثم إلى كتائب الفداء العربي وهي منظمة ضمت ثلاثة تنظيمات كانت ظهرت على ضوء حرب فلسطين أيضا، وهي مجموعة من طلاب الجامعة الأمريكية ومجموعة أخرى من الأفراد وثالثة تكونت من عدد من اللاجئين السياسيين المصريين.
 غير أن تأسيس حركة القوميين العرب بصيغتها التي عرفت بها تم في عام 1951، بعد أن حلت كتائب الفداء العربي في ضوء انسحاب المجموعة المصرية منها لأن الآخرين رأوا أن العنف لا يجب أن يكون السبيل الوحيد لتحقيق الأهداف القومية. وكان اقتراح بناء منظمة نضالية جماهيرية كبيرة قد ظهر في جمعية العروة الوثقى الطلابية في الجامعة الأمريكية ببيروت، ونتيجة لذلك انضمت أعداد كبيرة من الطلبة لهذه المنظمة السرية(52)، وقد ركزت الحركة على القضية الفلسطينية وكانت موضوعها الرئيسي، كما كان نشاطها الأساسي بين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
   في عام 1952، كانت الحركة قد ثبتت وجودها في أوساط المخيمات في لبنان، وأخذت تمارس عملها تحت ستار "هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل" وهي منظمة أدت دوراً أساسيا في تعزيز حضور الحركة بين الفلسطينيين. وفي هذه الأجواء، قررت الحركة مد نشاطها ليشمل اللاجئين الفلسطينيين في كل من سوريا والأردن، و قد نجحت الحركة فعلاً في بناء خلايا سرية في هذه البلاد، مرتبطة بالتنظيم الرئيسي في لبنان، خلال وقت قصير.
نشطت حركة القوميين العرب في الأردن منذ ذلك العام، ولاقت قبولا حسنا في أوساط مخيمات اللاجئين الفلسطينيين خصوصاً، كما ضمت أعداداً من المثقفين والمعلمين والطلبة.
  ولم تتقدم الحركة بطلب إلى الحكومة الأردنية لترخيصها كحزب سياسي(53)، إذ اعتمدت على التنظيم السري، وقد انشأ أعضاء بارزون في الحركة وبالتعاون مع شخصيات بعثية "المنتدى العربي" في عمان من أجل بث الأفكار القومية العربية.
 
تعريف عام بعقيدة القوميين العرب وفكرهم السياسي في مرحلة التأسيس:
رفعت الحركة في السنوات الأولى من تاريخها شعار:وحدة، تحرر، ثأر. وهو يقصد عموماً الوحدة الشاملة بين جميع أجزاء الوطن العربي، والتحرر الكامل من الاستعمار بشتى أشكاله، والثأر من دولة إسرائيل بالقضاء عليها(54).
في الأدبيات التي يمكن ردها للحركة خلال مراحلها الأولى، تعرف القومية العربية بأنها "الشخصية الجماعية للأمة العربية، وهي واقع حياة العرب التاريخي واللغوي والجغرافي والثقافي، وكل ما يحوي هذا الواقع من عادات وتقاليد ومصالح وأهداف واحدة"(55)، بحيث ينتمي لهذه القومية كل يتكلم اللغة العربية، وينتسب إلى التاريخ العربي أو يعتز به ويحياه، وينتمي إلى المجتمع الذي يقع جغرافياً ضمن الحدود المعروفة للوطن العربي.
أما أسس القومية العربية، فهي وحدة اللغة، وحدة التاريخ، وحدة العادات والتقاليد، وحدة المصالح، ووحدة الإرادة. وتختلف القومية عن الدين في أنها تمثل وجوداً وواقع حياة في حين يمثل الدين جانباً واحداً من هذا الوجود هو الرسالة، أما إذا تحول هذا الدين إلى حركة سياسية ترتكز على الروابط الدينية لا على الروابط القومية فان ذلك سيخلق تعارضا بين الاثنين.في المقابل، ليس بين القومية والإنسانية أي تعارض، بل أن القومية "هي الطريق السليم للإنسانية السليمة، وعندئذ تصبح القومية المنفصلة عن غيرها كشخصية جماعية متميزة، متصلة اتصالاً وثيقاُ بغيرها كتفاعل وعطاء". أما الماركسية، فهي تتناقض مع فكرة القومية لأنها تعمل على محو القوميات في العالم وإنكار تاريخ المجتمعات وروابطها، كما أنها تعتمد تفسير الكون والتاريخ على أساس العامل المادي وحسب في حين تفسر القومية العالم على أساس العاملين المادي والروحي وكافة العوامل المؤثرة في الوجود.
رأت الحركة أن الأمة العربية تعاني أزمة وجود، لا تحل إلا بالنضال الثوري لتغيير الواقع القائم، على ان يستمد هذا النضال أساسه من القومية العربية، وأهدافه من مستلزمات الوجود القومي العربي التي تتناسب والتقدم الحضاري العام والتجارب والمفاهيم التي اكتسبتها الأمة بحيث تحقق العدالة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، أما أسلوب هذا النضال فيكون عقائدياً (النضال القومي هو العقيدة القومية) وعلمياً يقدم معالجة جذرية شاملة للواقع العربي، وشعبياً يقوم على مختلف فئات الشعب. ويتخذ هذا النضال خطة مفادها أن التحرر السياسي من الاستعمار وأعوانه وإسرائيل هو الطريق إلى التحرر الاقتصادي، وهي خطة تطبق شعار الحركة: وحدة، تحرر، ثأر.
ومن المهم الإشارة إلى أن المفاهيم التي قدمتها الحركة في مرحلة التأسيس شهدت تعديلاً مستمراً سببه تدني الاهتمام بالفكر عند الحركة مقابل التركيز على العمل السياسي والشعبي المباشر، إذ أدى ذاك الحال إلى عدم وضع تعريفات نهائية للمفاهيم الأساسية التي تتضمنها فكرة القومية العربية في أدبيات محددة تمثل الحركة مرجعيتها ومصدرها، وعلى سبيل المثال تغير تعريف القومية العربية من كونها تعبيراًعن الشخصية الجماعية للعرب ليصير "وعي حركة ما على الوجود المتميز المستقل للأمة، و هي تسعى إلى إحالة هذا الوجود المستقل إلى مؤسسات وطنية سياسية واقتصادية واجتماعية" في حين بات التعريف السابق للقومية تعريفاً لمفهوم الأمة. إن ضعف التركيز على جانب الفكر وصياغة نظرية قومية متكاملة كان يغطى باشتقاق مبادئ من مفكرين قوميين مثلوا مراجع أساسية للحركة وقياداتها، أهمهم على الإطلاق قسطنطين زريق ومعه ساطع الحصري وعلي ناصر الدين، وقد أخذت الحركة من أفكارهم شكل بنائها؛ فكانت حركة عقائدية موحدة تؤمن بالعقيدة القومية، وثورية تؤمن بالتغيير الانقلابي الشامل، ومشكلة من قبل مجموعة النخبة التي تقود الجماهير، ورفعت شعار القيادة الجماعية وإن كان هناك شك في إنها طبقته فعلاً.
    يتضح أن فكر حركة القوميين العرب لا يدعم مفاهيم ثقافة المصلحة بالقدر نفسه الذي يدفعها فيه الفكر القومي لدى حزب البعث لأن الحركة تتحدث بشكل غير مباشر عن جمع العرب على أساس عرقهم، وهذه عقيدة تخالف عقيدة البعث التي كانت أكثر انتشاراً منها، ولذلك لم يكن التنظيمان على وفاق رغم مرجعيتها الواحدة (القومية). لكن وجود حركة القوميين العرب كان ايضاً يدعم ثقافة المصلحة من ناحية شكلها التنظيمي، باجتماع الأفراد في أداة تمثيلية غير تقليدية هي الحركة الحزبية على أساس القناعات الفردية.
ورغم ذلك الاختلاف فقد تبنى القوميون العرب في الأردن المطالب السياسية ذاتها التي تبناها حزب البعث(56). وهي المتعلقة بتعريب قيادة الجيش الأردني وإقصاء الضباط الإنجليز وإلغاء المعاهدة الأردنية البريطانية، ثم إطلاق الحريات العامة. وشارك أعضاء الحركة في الانتخابات النيابية، قبل أن يحظر النشاط الحزبي في الأردن منذ نيسان 1957 ويتعرض أفرادها للاعتقال والملاحقة كحال الحزبيين المعارضين الآخرين.
وقد تبنت الحركة في الأردن الدعوة للوحدة بين الأردن والعراق، انسجاماً مع موقفها تجاه قضية الوحدة، ثم تبنت منذ عام 1955 الدعوة للوحدة مع مصر(57) في ضوء صعود نجم الرئيس عبدالناصر وانسجاماً مع أسلوب تطلعها الإيجابي تجاه النظام الناصري.
 
5- حزب التحرير
  تأسس حزب التحرير في القدس عام 1952 على يد الشيخ تقي الدين النبهاني ومعه عدد من زملائه الذين انشقوا عن جماعة الإخوان المسلمين. حيث كان النبهاني يرى أن سبب تخلف المسلمين هو ضياع الناحية الفكرية عندهم وأن النهضة الصحيحة تقوم على أساس فكري يستند إلى أساس روحي، وهو ما يوجب حمل الإسلام حملا سياسياً إلى العالم(58).
رفضت الحكومة باستمرار ترخيص الحزب كونه يحمل فكراً سياسياً موجهاً ضد النظام السياسي القائم و ضد الدستور، فبعد أن توسعت المجموعة التي أسست الحزب لتضم عدداً جديداً من الأعضاء، تقدم الحزب في أواخر عام 1952 بطلب رسمي لوزارة الداخلية للسماح بإعلانه كحزب سياسي، إلا أن الحزب ابلغ في آذار من عام 1953برفض الحكومة ترخيصه بسبب برنامجه المقترح.غير أن الحزب حاول الالتفاف على قرار الحكومة، إذ قدم طلباً لمتصرف القدس لتأسيس جمعية لا حزب سياسي، معتبراً أن مجرد تقديم الطلب يعني الإيذان له ببدء العمل وذلك اعتماداً على قانون الجمعيات العثمانية. ولذلك اتخذ مقراً رسمياً له في القدس، إلا أن السلطات داهمته وألقت القبض على أعضاء الحزب ثم عادت وأفرجت عنهم بعد أسبوعين ووضعتهم في الإقامة الجبرية(59).
ظل نشاط حزب التحرير سرياً منذ تأسيه ،حيث نشط لنشر أفكاره من خلال المساجد ومجموعات الدراسة في القدس والخليل ونابلس وفي مخيمات اللاجئين حول أريحا وفي اربد وقلقيلية، كما كان ذا نشاط ملموس في عمان. وأخذ قادة الحزب يثقفون الأعضاء بخطوط عريضة في السياسة والاقتصاد والحكم والنظام الاجتماعي عن طريق الكتب والنشرات(60).
 تمثل تنظيم الحزب في "القيادة العالمية" التي تتكون من قائد الحزب وأربعة مساعدين له، تليها قيادة الأقاليم (ومن ضمنها إقليم الأردن)، ويقسم الإقليم جغرافياً إلى عدة قيادات مسؤولة عن الحلقات(61)، وهذه الأخيرة على نوعين: الحلقة التثقيفية (التي يدخلها الأعضاء الجدد) ثم الحلقة الحزبية العاملة، وهي على مستوى أعلى من سابقتها وينقل إليها الذين يتوسم فيهم النشاط.
 
تعريف عام بعقيدة حزب التحرير وفكره السياسي:
 تتلخص غايات الحزب في اثنتين، هما:
        1- استئناف الحياة الإسلامية.
        2- حمل الدعوة الإسلامية.
      أما وسيلته فهي تسلم الحكم من اجل تطبيق النظم الإسلامية، وذلك عن طريق تقوية العقيدة الإسلامية في المجتمع وتبني المصالح الحقيقية للأمة والدفاع عنها، ما يجعل الإسلام مسيطراً حكماً.
واستئناف الحياة الإسلامية عند حزب التحرير هي إعادة الخلافة إلى بلاد المسلمين، حيث للدولة دور كبير في تنفيذ أحكام الله التي تتعلق بتنظيم العلاقات بين البشر في مجالات الحكم والاقتصاد والاجتماع والتعليم والسياسة الخارجية وصيانة الأهداف العليا للمجتمع وإجبار الأفراد على تنفيذ الأحكام المتعلقة بالناحية الفردية في حال تقصيرهم في أدائها، في مجالات العقائد والعبادات والأخلاق. وعند الحزب، تكون إقامة الدولة الإسلامية فرض على جميع المسلمين، وقيام جماعة ما بالعمل لإقامتها لا يسقط الإثم عن الباقين حتى تقوم فعلاً. وحتى يكون حكم هذه الدولة إسلامياً، وجب أن تكون السيادة فيه للشرع لا للشعب، وأن يكون السلطان للأمة، وأن ينصب رئيس دولة واحد- وهو في رأي الحزب فرض على المسلمين - حيث يكون لهذا الرئيس وحده حق تبني الأحكام الشرعية وسن الدستور وسائر القوانين(62).
أما حمل الدعوة الإسلامية، فهي إلى جانب ما هو مطلوب على صعيد الأفراد من تمثل الفكر الإسلامي ونشره، فإن المطلوب من الدولة الإسلامية في المجال الخارجي أن تستعد لحرب مقدسة(63)تعرض فيها الإسلام على كل العالم غير المسلم بهدف تحويل العالم كله إلى الإسلام.
وقد نظر حزب التحرير باستمرار بعداء إلى القوى الاستعمارية: بريطانيا والولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي بفعل الشيوعية. غير أن الحزب لا يرى دوافع عقائدية وراء وجود هذه القوى في بلاد المسلمين، وإنما مصلحة واقعية مثل السيطرة على المصادر الطبيعية والاستراتيجية العسكرية(64)، كما أنه لا ينظر إلى هذه القوى على اعتبارها قوة واحدة متراصة وإنما يعتبر أن بينها منافسة مستمرة(65).
ويرفض حزب التحرير مفهوم القومية العربية، ويعتبره من خلق الإمبريالية، غير أنه يرى من الأنسب تركيز العمل في البلاد على اعتبار أن العمل في بلاد المسلمين الأخرى تحتاج وقتاً أطول بسبب مسألة اللغة، مما يعني أن من الممكن القضاء على الدعوة قبل البدء بالعمل(66).
   اعتمد الحزب ثلاث مراحل للعمل من اجل تحقيق غاياته، أولها المرحلة السرية التي يتم فيها تثقيف الناس بالثقافة الإسلامية حتى تصير الفكرة جزءاً من واقعهم، تليها مرحلة الجهر بالدعوة وفيها يتفاعل الحزب مع المجتمع مباشرة ويتصدر مناقشة الناس حتى يقتنعوا بآراء الحزب ويطبقوها، أما المرحلة الأخيرة فهي طلب النصرة وتسلم زمام الحكم، حيث تطلب النصرة من الأشخاص الذين يشكلون مراكز قوى في المجتمع. وقد حاول الحزب في مرحلة تالية من تاريخه طلب  النصرة من ضباط في الجيوش العربية من اجل استلام الحكم وإعلان الخلافة(67)، غير أن تلك المحاولات فشلت.
في الأردن، أخذ حزب التحرير يظهر حضوراً واضحاً منذ عام 1954، وطرح الحزب في الانتخابات النيابية العامة لذلك العام ستة مرشحين، نجح منهم واحد، مما زاد ثقة الحزب في وجوده، ثم عاد الحزب ليخوض انتخابات عام 1956، ففاز نائبه نفسه مرة ثانية بينما فشل مرشحو الحزب الخمسة الآخرين، ولم يشترك الحزب في أي انتخابات تالية نتيجة ما حصل من ملاحقة وحظر للأحزاب السياسية في الأردن منذ عام 1957. وقد انتقل زعيم الحزب تقي الدين النبهاني إلى بيروت في أواسط الخمسينات، كما رحلت الحكومة الأردنية عدداً من قيادات الحزب في عام 1956 مما عطل نشاطات الحزب في القدس(68).
وقد أصدر حزب التحرير في عمان جريدة الراية لتنطق باسمه بين تموز وتشرين الأول من عام 1954، وقد منعتها الحكومة من الصدور(69).
كان الإخوان المسلمون أهم منافسي حزب التحرير لان الاثنين ينطلقان من خلفية فكرية واحدة ويتوجهان في نشاطيهما للجمهور نفسه، وكان الحزب يأخذ على الإخوان قربهم من النظام الأردني ورأى أنهم لا يقدمون صورة حقيقية عن الإسلام(70). إلا أن عدة محاولات للوحدة أو التعاون بين الطرفين حدثت  بين عامي1953 و1955(71) ، دون أن يكتب لها النجاح لأسباب فكرية و تنظيمية، حيث كان منطقياً أن يخشى قادة الحزب الذين انشقوا عن جماعة الإخوان المسلمين لبث أفكار جديدة من ابتلاعهم مجددا قبل أن يتمكنوا من التأثير على مبادئ عمل الإخوان السياسي، أو أن يصير من الصعب تحقيق مبادئهم وأفكارهم.
   و رغم الافتراق العقائدي بين حزب التحرير والقوى القومية و اليسارية، فإن الحزب الشيوعي كان في عام 1954 يطمح لضم الحزب إلى "الجبهة الوطنية" التي دعا إليها لتجمع قوى المعارضة(72). في إشارة إلى عظم تأثير التحرير في الشارع الأردني وقتها.
.   .     .
نستطيع أن نتبين أن التنظيمات العقائدية خلقت أجواء ثقافية جديدة في البلاد قوامها مخاطبة الفرد من اجل أن يقيم علاقاته مع أفراد المجتمع على أساس الانتماء المشترك لقناعات وحاجات وغايات محددة، ووفقا لاختياره الذاتي لا وفقاً لما ولد ضمنه من علاقات وصلات، وهنا بالضبط جوهر هذه الأجواء الثقافية الجديدة، فهي تدفع –عموماً-في اتجاه ثقافة المصلحة، وضد اتجاه ثقافة العصبية.
ولعل من الإشارات إلى عظم تأثير هذه العقائد في خلق مساحات لمفاهيم المصلحة في ثقافة أفراد المجتمع، أنها استقطبت أعضاء ومؤازرين من مختلف الانتماءات الجغرافية وبالتالي من مختلف المرجعيات الثقافية(73).
 
 
    ثالثاً:عوامل أخرى
 
وإلى جانب العاملين عظيمي الأثر، الديمغرافي والأيدولوجي، اللذين كانا يدفعان باتجاه نشر مفاهيم ثقافة المصلحة، ما تسبب في نقل المجتمع إلى حالة الثقافة المركبة، فإن عواملاً أخرى كانت تدفع بالاتجاه نفسه في هذه المرحلة أيضا(1948-1952) مواصلة تأثيرها الذي كان–كما أسلفنا في بداية الفصل- حاضراً منذ السنوات السابقة. وأهم هذه العوامل:
1- استمرار الاحتكاك مع الغرب :
        أخذ الاحتكاك مع الغرب مظهرين رئيسيين، هما: النفوذ الاستعماري، وتلقي العلم في الجامعات الغرب.
        فعلاقة الأردن ببريطانيا لم تنته بإنهاء الانتداب وإعلان المملكة في عام 1946، فقد ظلت البلاد ترتبط مع بريطانيا بمعاهدة تم تجديدها غير مرة، خلال سنوات الانتداب و بعده، حتى تم الغاؤها في مطلع عام 1957. ومن ناحية ثانية ظل كبار ضباط الجيش العربي الأردني من الإنجليز، على رأسهم رئيس أركان الجيش جون كلوب (John Glubb) حتى اتخذ الملك حسين قرار تعريب قيادة الجيش في آذار من عام 1956.
وكان ذلك لهذا الوجود الغربي في البلاد تأثيره في الحياة الاجتماعية بصورة عامة(74)، من الناحية المادية المتمثلة بطراز اللباس وبعض وسائل النقل والاتصال و كذلك توفر المطبوعات وخاصة الصحف و الكتب، ومن الناحية التعليمية ونشر اللغة الإنجليزية كلغة ثانية بعد العربية، وهذا كله له اثر في إحداث مظاهر ثقافية غير تقليدية في البلاد. والمهم هنا أن هذا كله دفع الشعب للتطلع إلى الغرب واعتباره المثال والقدوة -وهو الذي تنتظم حياته وفقاً لثقافة المصلحة وتمثل مدنه المعاصرة التعبير النقي عن مفاهيمها- وبالتالي التأثر به بدلاً من تطلعه سابقاً نحو شبه الجزيرة العربية وحياتها التقليدية على اعتباره امتداداً لها.
أما التعلم في الغرب، ورغم محدوديته لارتفاع تكاليفه، ما جعله محصوراً في أبناء بعض الأثرياء أو بأفراد يحصلون على بعثات حكومية نادرة، فانه كان بالضرورة يدفع هؤلاء الدارسين لعيش حياة ثقافية جديدة، تقوم على ثقافة المصلحة السائدة في الغرب، وهكذا يعودون إلى مجتمعهم وقد تأثرت ثقافتهم الذاتية بمفاهيم المصلحة سواء كانت موجودة لديهم من قبل أم لم تكن، ويترتب على ذلك إمكانية تأثيرهم في المجتمع، خاصة وأنهم كانوا يتولون على الفور مواقع تساعدهم على هذا التأثير بل و تدفعهم إليه، كالوظائف الحكومية العليا.
وهناك بالطبع مظاهر أخرى للاحتكاك مع الغرب، ناتجة عن حركة استيراد الأجهزة والمعدات التكنولوجية منه، فهذه لا يتوقف أثرها عند الجانب الاستهلاكي فقط، وانما يمتد إلى نظام القيم الموجود في المجتمعات العربية(75)، وبالتالي إلى حالة الثقافة القائمة فيه، وبشكل أكثر تحديدا ًضد الثقافة التقليدية الساكنة داخله.
 
2-استمرار عمليات التطوير والتحديث:
        ما يميز عمليات التطوير والتحديث في الدول العربية النامية خلال سنوات منتصف القرن العشرين، أنها ظلت مع السنوات تمضي الى الأمام و لا ترجع إلى الوراء. وهكذا كان الأردن ينتقل من تطور إلى تطور كلما مرت السنين.     
   صحيح أن البلاد شهدت تفاقماً لمشكلاتها الاقتصادية نتيجة هجرة اللاجئين الفلسطينيين إليها بعد حرب عام 1948(76)، إلا أن المظاهر التي ستنعكس إيجابيا على التمهيد لمفاهيم ثقافة المصلحة ظلت آخذة في التبلور، إن في الإدارة أو في الحياة الاجتماعية، وسواء ارتبطت هذه المظاهر بالتغيرات السياسية والديمغرافية الحاصلة عقب تلك الحرب وعقب توحيد الضفتين عام 1950 أم لا، فالمهم أنها حدثت بالفعل.
 فخلال هذه السنوات أقر الدستور الذي ظلت البلاد تحتكم إليه طيلة العقود التالية، حيث سرى مفعوله اعتباراً من 1/1/1952، متضمناً العديد من المبادئ الهامة على رأسها مسؤولية الحكومة أمام السلطة التشريعية وهو مبدأ لم يكن منصوصاً عليه في الدستور السابق (دستور عام 1946). كما أقرت العديد من التشريعات الحديثة التي شكلت الإطار القانوني لعمل المؤسسات المدنية، خاصة النقابات المهنية. وتشكلت خلال هذه السنوات أيضا والسنوات القليلة التي تلتها مؤسسات الدولة الحديثة(77). وغني عن القول أن هذه الأدوات كلها تدفع باتجاه تغيير طبيعة علاقات الناس ببعضهم البعض وإضعاف تأسيسها على قواعد صلات الدم والقربى، ثم إعطاء قيمة اكبر للفرد، في المؤسسات المدنية الناشئة.
وفي الحياة الاجتماعية، تزايدت أعداد المؤسسات التعليمية، فارتفع عدد المدارس من 195 مدرسة عام 1947الى نحو 350 مدرسة عام 1952(78)، وبدأ  إنشاء معاهد المعلمين التي يلتحق بها الطلبة بعد إنهائهم الدراسة الثانوية ليتخرجوا معلمين ومعلمات اعتباراً من عام 1952(79). كما شهدت البلاد تطوراً في المجالات الإنتاجية لصالح إنشاء مؤسسات صناعية وتجارية وخدمية جديدة.
           أما كيف يؤدي التعليم إلى دعم مفاهيم ثقافة المصلحة، فلأنه قد يوجه الفرد المتعلم لبناء علاقات على أسس جديدة  وعيها بفضل أو من خلال العملية التعليمية، و كذلك لأن التعليم ظل يدفع كثيرين من حملة الشهادات– وخاصة الجامعية– للاعتقاد أن شهاداتهم وعلمهم تتقدم على المكانة التقليدية التي يحوزها كبار القوم، ما يخلخل واحدة من مفاهيم ثقافة العصبية الأساسية لصالح قيمة الفرد المتعلم بفضل ما أحرزه لذاته. ومن ناحية أخرى، فان تعلم الفتاة وحصولها على الشهادات العليا يزيد من شعورها بالاستقلالية ويعطل -نوعياً- سطوة الذكر عليها وفقاً لقواعد المجتمع الأبوي التقليدي.
        وهكذا فان هذه الأجواء العامة الجديدة في البلاد، إنما توفر البيئة المناسبة لتجديد المفاهيم الثقافية السائدة في المجتمع، وبالتالي إتاحة المجال لتوسيع مساحات حضور ثقافة المصلحة ومفاهيمها.
 
·        " الثقافة المركبة ".. كيف ؟
 يحمل تعبير "الثقافة المركبة" معنيين في آن واحد، حضرا معاً في هذه الحالة الثقافية الجديدة، هما:
1- توزع ثقافتي العصبية والمصلحة بين أفراد المجتمع؛ بمعنى أن تتبنى مجموعات منهم مفاهيم ثقافة العصبية فيما تتبنى مجموعات أخرى مفاهيم ثقافة المصلحة.
2- تقاسم ثقافتي العصبية والمصلحة عند الفرد نفسه، بمعنى أن يتبنى كل واحد من الأفراد، وبالتالي مجموعات كاملة من المجتمع، بعض مفاهيم ثقافة العصبية في جزء من السلوكيات، وبعض مفاهيم ثقافة المصلحة في الجزء الباقي منها .
في المعنى الأول، تكون ثقافة المجتمع هي المركبة، وفي الثاني تكون ثقافة الفرد  –وبالتالي المجموعات- هي الثقافة المركبة.
ومن الطبيعي أن يكون المعنى الثاني هو الأكثر شيوعاً منذ ولادة هذه الثقافة المركبة، ذلك أن الفرد الذي يعتبر "ثقافة العصبية" مرجعيته لا بد أن يمارس بعض مفاهيم ثقافة المصلحة في ضوء عمليات التحديث واتساع المدن وانتقال الكثيرين للعمل فيها التي شهدتها البلاد خلال العقود المتتالية، وكذلك بفعل وجود بعض الظروف العامة –السياسية والاقتصادية –التي يمكن أن تدفع في صالح مفاهيم المصلحة، هذا بالطبع إضافة إلى التأثر الطبيعي بمفاهيم ثقافة المصلحة التي باتت حاضرة في المجتمع بفعل العوامل التي تم شرحها في هذا الفصل، وبالذات العامل الديمغرافي. وإلى جانب ذلك فان من الضروري ملاحظة قضية هامة في هذا السياق، هي أن اللاجئين من القرى الفلسطينية إلى شرقي الأردن اضطروا بفعل العيش في ظروف جديدة لا تتيح لهم التجمع على أساس صلات القربى (أي على صورة حمايل تتجمع كل واحدة منها في حي خاص أو حتى قرية خاصة بها) كما كان يحدث في قراهم الأصلية، إلى التخلي عن بعض مفاهيم ثقافة العصبية لصالح مفاهيم ثقافة المصلحة التي فرضتها تلك الظروف الجديدة (والتي من أهمها العيش في المدن المتسعة و العمل فيها)، وكان هذا عاملاً موضوعياً هاماً في نقلهم إلى حالة الثقافة المركبة. وعلى الجانب الآخر فان الأفراد الذين يعتبرون "ثقافة المصلحة" مرجعتيهم الوحيدة قليلون أصلاً، فكيف إذا احتكوا أيضا بثقافة العصبية وتأثيرها الكبير في بعض المراحل التالية ؟
وهكذا فانه وضمن هذا المعنى الثاني حصل تقاسم وظيفي بين مفاهيم هاتين الثقافتين عند السواد الأعظم من المجتمع الأردني، وعلى الأغلب تخصصت ثقافة العصبية بالجانب الأخلاقي القيمي من السلوكيات، فيما تخصصت ثقافة المصلحة بالجانب الإنتاجي.
أما ضمن المعنى الأول، الأقل شيوعاً، فان جماعات محدودة ظلت تتمثل كامل مفاهيم "ثقافة العصبية" مستفيدة من الدعم الاجتماعي-السياسي، فيما ظلت جماعات محددة أخرى تتمثل كامل مفاهيم "ثقافة المصلحة"على اعتبارها مرجعيتها الأصلية، مستفيدة من الواقع المدني الناشئ في عمان خصوصاً وندرة احتكاكها مع ثقافة العصبية لقوتها الذاتية المتمثلة بالمال والاقتصاد. ويمكن القول تحديداً أن القبائل البدوية التي ظلت تسكن البادية أو تمارس طبيعة حياتها في المراحل التالية هي التي تمثل التعبير النقي عن ثقافة العصبية، فيما العائلات ذات الأصول المدنية الفلسطينية، وخصوصاً تلك التي تمركزت في عمان، هي التي تمثل الكتلة الأساسية في التعبير الأقرب لثقافة المصلحة.
و بلغة الأرقام؛ فان الصيغة الأقرب إلى النقاء لثقافة المصلحة موجودة عند اقل من 10% من أفراد المجتمع الأردني كما أتضح في بداية هذا الفصل، فيما الصيغة النقية لثقافة العصبية لا تتجاوز النسبة نفسها أيضا(81)، ومن الطرفين من تأثر بمفاهيم الثقافة المخالفة فانتقل إلى حالة الثقافة المركبة، هذا بينما تتمثل الأغلبية الساحقة الباقية، وبنسبة أكثر من 80% من أفراد المجتمع الأردني، كامل معطيات وتجليات الثقافة المركبة ذات التقاسم الوظيفي.
 
 
 
هوامش الفصل الأول
 
 
(1) على الأقل فيما اتيح للمؤلف الإطلاع عليه من مراجع خلال البحث الحثيث عن هكذا إحصاء في المكتبات العامة الرئيسية بعمان.
(2) مصطفى مراد الدباغ، بلادنا فلسطين، الجزء الأول، القسم الأول، (دار الطليعة، بيروت، 1973)، ص 24.
(3) د. رياض علي العيلة، تطور القضية الفلسطينية، (جامعة الأزهر، غزة، 1996)، ص33.
(4) تختلف المراجع في تحديد هذه النسبة أو عدد السكان البدو من بين مجموع السكان.انظر مثلاً:الدباغ، مرجع سابق، ص 2، و أيضا د 0علي محافظة، الفكر السياسي في فلسطين من نهاية الحكم العثماني حتى نهاية الانتداب البريطاني 1918-1948، (مركز الكتب الأردني، عمان، ص 1989)، ص 6.
(5) شفيق الرشيدات، فلسطين تاريخيا عبرة و مصيراً، (دار الكاتب العربي للطباعة و النشر فرع مصر، 1968)، ص 345.
(6) سامي هداوي، ترجمة د.فخري حسين يغمور، الحصاد المر:فلسطين بين عامي 1914و1979، (رابطة الجامعيين في محافظة الخليل، 1982)، ص246.
(7) صبري جريس، العرب في إسرائيل، (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1983)، ص 18.
(8) محافظة ،مرجع سابق،ص6.
(9) عبد الله إسماعيل الصوفي و د.شفيق جاسر محمود، عنابة أرض الآباء والأجداد، (بلا دار نشر،عمان، 1994)، ص 13.
(10) محافظة،مرجع سابق ، ص 6.
(11) المرجع السابق، ص 6.
(12) السابق نفسه، ص 5.
(13) لأنها كانت مدينة حديثة التكوين ، وتعتمد على مينائها، فيما لم يكن الحال كذلك تماماً في المدن السياحلية الأخرى.يقول ذا النون جراح في كتابه (بلدي و أهلي و إنا، دار الحصاد، عمان، 1997،ص  47): "..كان العكيون لا يشجعون هجرة أهل الريف إليها، فقد كانوا محافظين على هذا المبدأ لدرجة التعنت، فكانوا يستعملون تعبيرات تنم عن هذه الروح المحافظة حين كانوا يصفون هؤلاء المهاجرين:غرباء، فلاحين،00".
(14) موسى،مرجع سابق،ص ص3-4.
(15) محافظة، مرجع سابق، ص 6.
(16) موسى، مرجع سابق، ص 9.
(17) المرجع السابق، ص 9.
(18) قومية و إسلامية و شيوعية.
(19) عصام احمد، "التعليم والإنتاج في الأردن"، مجلة دراسات عربية، السنة الثامنة (1971)، العدد الأول، ص7.
(20) سامر خرينو، الحركة الطلابية الأردنية 1948-1998، (مركز الأردن الجديد للدراسات، عمان، 2000)، ص ص 17-30.
(21) هاني الحوراني، الثابت والمتغير في مشكلات الأردن الاقتصادية، في  ( مصطفى حمارنة "محرر"،الاقتصاد الأردني المشكلات و الآفاق، (مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، عمان، 1994)، ص 100).
(22) المرجع السابق ،ص 100.
(23) جاء ذلك في تقرير وضعته بعثة للبنك الدولي زارت الأردن في عام 1955.
(24) د.جمال الشاعر ،الحركة القومية في الأردن عبر نصف قرن ،في :(د. علي محافظة "محرر"، الأحزاب و التعددية السياسية في الأردن، (مؤسسة عبد الحميد شومان، عمان و المؤسسة العربية للدراسات و النشر، بيروت )ص 97).
(25) د. سهيلة الريماوي، أحزاب التيار القومي و حكومة النابلسي، في:(هاني الحوراني "معد"، حكومة سليمان النابلسي، (مركز الأردن الجديد للدراسات، عمان، 1999) ص 10).
(26) عز الدين دياب، التحليل الاجتماعي لظاهرة الانقسام السياسي في الوطن العربي، (مكتبة مدبولي، القاهرة، 1993)، ص 242.
(27)سيتم الاعتماد في تبيان هذه المبادئ على ما جاء في المرجع السابق ، ص ص 263- 290.
(28) الشاعر، مرجع سابق،  ص 97 و الريماوي، مرجع سابق، ص 106.
(29) محافظة، مرجع سابق،ص 355.
(30) عيسى مدانات، الحركة الاشتراكية في الأردن عبر نصف قرن، في:(محافظة، مرجع سابق، ص 108).
(31) المرجع السابق، ص 109.
(32) الماضي و موسى، مرجع سابق، ص 664.
(33) مدانات، مرجع سابق، ص 111.
(34) المرجع السابق، ص 111.
(35) الجماهير "صحيفة الحزب الشيوعي الأردني"، ، العدد 193(16-31 آذار 2001) ، ص 1.
(36) المرجع السابق، ص ص 1، 15.
(37) إبراهيم غرايبة،جماعة الإخوان المسلمين في الأردن 1946-1996، (مركز الأردن الجديد للدراسات، عمان، 1997)، ص 61.
(38) المرجع السابق ،ص 48.
(39) علي عبد الكاظم، السيرة التاريخية لجماعة الإخوان المسلمين و مرجعيتها الفكرية، في:(هاني الحوراني "معد"، الحركات و التنظيمات الإسلامية في الأردن، (مركز الأردن الجديد للدراسات، عمان، 1997)، ص 19).
(40) د. موسى زيد الكيلاني، الحركات الإسلامية في الأردن، دار البشير للنشر و التوزيع، عمان، 1990)، ص 31.
(41) عوني جدوع العبيدي، جماعة الإخوان المسلمين في الأردن و فلسطين 1945-1970، ( بلا دار نشر، عمان،1991)، ص 43.
(42) حسن البنا، مجموعة رسائل الإمام الشهيد، (المؤسسة الإسلامية للطباعة و الصحافة والنشر،بيروت،1979) ص ص 156-157.
(43) المرجع السابق ،ص 158.
(44) السابق نفسه، ص 113 و الكيلاني، مرجع سابق، ص 81.
(45) البنا، مرجع سابق ،ص 19 .
(46) غرايبة، مرجع سابق، ص 95.
(47) المرجع السابق، ص 108.
(48) سعيد حوى، المدخل إلى دعوة الإخوان المسلمين، (دار عمار، عمان، 1998)، ص 19.
(49) العبيدي، مرجع سابق، ص 44.
(50) الشاعر، مرجع سابق، ص 98.
(51) سهير سلطي التل، حركة القوميين العرب و انعطافاتها الفكرية، (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1996 )، ص 28.                  
(52) المرجع السابق، ص 31 .
(53) الماضي و موسى، مرجع سابق، ص 602.
(54) التل، مرجع سابق، ص 79.
(55) المرجع السابق، ص 84.
(56) الشاعر، مرجع سابق، ص 98.
(57) محمد محي الدين المصري، الأردن 1953-1957 دراسة سياسية، (مخطوط، 1995)، ص 58.
(58) د . محمود سالم عبيدات، اثر الجماعات الإسلامية الميداني خلال القرن العشرين، مكتبة الرسالة الحديثة، عمان، 1989)، ص 230.
(59) الكيلاني، مرجع سابق، ص 88.
(60) عبيدات،مرجع سابق، ص 231.
(61) المصري، مرجع سابق ،ص 60.
(62) عبيدات، مرجع سابق، ص238. و يلاحظ أن حزب التحرير لا يعترف بمبدأ الوراثة في الحكم و هو ما كان أحد مبررات رفض الحكومة ترخيصه كون ذلك يتناقض مع الدستور الأردني.
(63) الكيلاني، مرجع سابق، ص 105.
(64) المرجع السابق ،ص 104.
(65) السابق نفسه، ص 104.
(66) عبيدات،مرجع سابق، ص 230.
(67) المرجع السابق ،ص 233 .و حدثت تلك المحاولات في عام 1961.
(68) الكيلاني، مرجع سابق ، ص90.
(69) الماضي و موسى، مرجع سابق، ص 598.
(70) الكيلاني،مرجع سابق، ص 96.
(71) المرجع السابق ،ص 96.
(72) المصري، مرجع سابق، ص 61.
(73) يتضح ذلك مثلاً من أسماء قيادات و مؤسسي تلك التنظيمات العقائدية، حيث ينتمون لمختلف الأصول.
(74) موسى، مرجع سابق، ص 3.
(75) عايش، مرجع سابق ،ص 28.
(76) الحوراني، مرجع سابق، ص 100.
(77) هاني الحوراني، المجتمع المدني في الأردن تطوره التاريخي بنيته و دوره الراهن، في (هاني الحوراني وآخرون، دليل منظمات المجتمع المدني في الأردن، (مركز الأردن الجديد للدراسات، عمان، 2000)، ص 13).
(78) تقديرية عن:عصام احمد، مرجع سابق، ص 20، لان الاحصاءات الرسمية بعد عام 1950 كانت تجمع مدارس الضفتين، أما الرقم المذكور فهو لمدارس الضفة الشرقية وحدها.ورقم عام 1947 منقول عن المرجع نفسه.
(79)  خرينو، مرجع سابق، ص 24.
(80) الحوراني، مرجع سابق، ص ص101-102.
(81) ذكرنا في المدخل استناداً إلى مراجع موثقة أن 85% من السكان في عهد الإمارة كانوا يقطنون القرى، فيما تتوزع النسبة الباقية بين سكان البادية و المدن التي هي صغيرة و محدودة عدد السكان، و هكذا فان من المنطقي أن نسبة البدو تقترب من الـ10% ، وهي النسبة نفسها تقريباً للبدو بين اللاجئين الفلسطينيين كما أوضحنا في بداية الفصل ، و هكذا فهي النسبة في المجتمع الأردني ذي الثقافة المركبة.
 
 
 
 
 
 
الفصل الثاني
 
الحراك داخل الثقافة المركبة
(1952-2002)


        على أرضية ولادة الثقافة المركبة في الأردن، يمكن القول انه بالقدر الذي كان فيه التكوين الاجتماعي السياسي يتطور خلال السنوات التالية، فانه كان ينعكس على صيغة تعبيرات ثقافية تتغير في ضوئها حصتا كل من ثقافتي العصبية والمصلحة ضمن هذه الثقافة المركبة من كلتيهما.
رغم ذلك فان التطور الاجتماعي السياسي لم يحصل –في معظمه– بطريقة تلقائية، بل أن العوامل السياسية –وخاصة الداخلية منها والمرتبطة بالسلطات الرسمية- هي التي كانت تحرك وجهة هذا التطور.
 ولذلك، سيتضح من خلال هذا الفصل أن "تبادل المواقع" الثقافي في الأردن يستند إلى وقائع سياسية قسمته إلى المراحل التالية:
المرحلة الأولى (1952- 1971)
المرحلة الثانية (1971- 1989)
المرحلة الثالثة (1990-       )، وسننهي دراسة هذه المرحلة في عام 2002 الذي اعد فيه هذا الكتاب، وتحديداً عند النقطة التي أعلنت فيها وثيقة "الأردن أولا" في كانون الأول منه.
     وغني عن القول أن الحدث السياسي الرئيسي في نهاية كل مرحلة وبداية أخرى لم يكن له أن يحدث انقلاباً ثقافياً مفاجئاً، وإنما مثل قوة الدفع التي احتاجتها بذور التغيير التي كانت موجودة بالفعل في المرحلة الثقافية الآفلة.
     كما سيتضح من خلال هذا الفصل أن التغييرات الاقتصادية الاجتماعية التي حصلت في الأردن على امتداد عقود هذه المراحل، لم تكن ذات أثر كبير على تطور التعبيرات الثقافية ومدى "تبادلها المواقع"، مقارنة بالتغيرات السياسية. وبالقدر الذي تمثل فيه هذه الحقيقة حالة غير صحية، فإنها تؤكد أن الإقتصاد في الأردن ظل تابعاً للسياسة، يسير في ظلها ولا يؤثر فيها.
 
المرحلة الأولى (1952-1971)
 ثقافة المصلحة تتقدم
 
بعد أن ولدت الثقافة المركبة في ضوء التغييرات الديمغرافية ونشوء الأيدلوجيات، فان من الطبيعي أن تتقدم "ثقافة المصلحة" إذا ما تكر ست العوامل التي أوجدتها، وأن تتراجع إذا ما تراجعت.
وحتى نختبر صحة هذه الفرضية، يكون لزاماً أن نطالع المواقف التي كان المجتمع الأردني فيها على المحك؛ أمام اختيارات منها ما يتبع ثقافة العصبية ومنها ما يتبع ثقافة المصلحة، ومن الطبيعي أن تكون الثقافة الأكثر قبولاً عند المجتمع هي الثقافة الأكثر تقدماً فيه.
        إن من أمثلة هذه المواقف التي تعد محكاً مقبولاً للمجتمع الأردني: الانتخابات، التحركات الشعبية، مواقف مؤسسات المجتمع ومدى قوتها، هذا إضافة لمدى إقبال المجتمع على تأسيس المؤسسات التي تعد بحد ذاتها تعبيراً عن الحالة الثقافية فيه.
        لنراجع إذن تسلسل التاريخ الاجتماعي في الأردن خلال هذه المرحلة:
1- انتخابات آب 1951: أجريت هذه الانتخابات النيابية، وهي الثالثة منذ إعلان المملكة، بتاريخ 30 آب 1951 بمشاركة واسعة من مختلف الأحزاب السياسية، وكانت نتيجتها فوز الأحزاب بـ26 مقعداً من اصل 40 مقعداً هي مجموع مقاعد مجلس النواب وقتها(1).                             
    وكان من أهم إنجازات هذا المجلس تصويته على إقرار دستور جديد للبلاد. وانتهى هذا المجلس بالحل في 22/6/1954 لأنه كان ينوي في اليوم ذاته حجب الثقة عن الحكومة (حكومة توفيق أبو الهدى ).
2- انتخابات تشرين الأول 1954: لا تدل نتيجة هذه الانتخابات المعلنة على تقدم "ثقافة المصلحة" إذ خسرت الأحزاب  وخاصة تلك العقائدية، غير أن من المفيد ملاحظة الاتهامات التي وجهت للحكومة (حكومة توفيق أبو الهدى) بتزوير الانتخابات، والتي أدت لوقوع اضطرابات شعبية استمرت عدة أيام سقط فيها (14) قتيلاً و(117) جريحاً(2).
  3- قضية حلف بغداد : انشغل الشارع الأردني بهذه القضية منذ أواخر عام 1955. فقد عقد العراق وتركيا في شباط من ذلك العام اتفاقاً "حلفاً" اتهم بأنه يهدف لمساعدة بريطانيا لتخطيط سياستها في الشرق الأوسط، بمعنى انه نوع من الأحلاف الاستعمارية، ولما تبين للشارع الأردني أن الحكومة الأردنية تهم بدخول الحلف، قامت اضطرابات شعبية واسعة، تقودها الأحزاب العقائدية الرئيسية (البعث، الشيوعي)، وتركزت المطالب الشعبية في أن يكون تضامن الأردن وتحالفه مع الدول العربية. وفي 19/12/1955 استقالت الحكومة (حكومة هزاع المجالي)، ولما شكل سمير الرفاعي حكومته الجديدة في كانون الثاني من عام 1956، تقدم ببيان وزاري إلى مجلس النواب يعلن فيه أن الحكومة لا تنوي الانضمام إلى أية أحلاف(3).
4- انتخابات تشرين الأول 1956 : كان مجلس النواب الرابع –الذي اتهمت الحكومة بتزوير انتخاباته – قد حل في 19/12/1955 ، غير أن ديوان تفسير الدستور اعتبر أن قرار الحل لم يكن دستورياً ، وهكذا عاد المجلس الى الوجود ، مما أدى إلى وقوع موجة من الاضطرابات الشعبية . وفي 26/6/1956 حل المجلس من جديد ، ثم نظمت انتخابات المجلس النيابي الخامس في 21 تشرين الأول 1956 ، وأسفرت عن فوز الأحزاب السياسية اليسارية والقومية بالأغلبية ، حيث حصلت على نحو (21-23) مقعداً من اصل (40) مقعداً (بين منتمين لهذه الأحزاب ومؤيدين لها )(4)، كما حصلت الأحزاب الإسلامية على (5) مقاعد ، بينما كان نصيب التيار المحافظ نحو (12) مقعداً. وفي ضوء هذه الانتخابات تشكلت أول حكومة في تاريخ  الأردن على أساس الأغلبية البرلمانية ، برئاسة سليمان النابلسي زعيم الحزب الوطني الاشتراكي صاحب اكبر كتلة برلمانية ، حيث ضمت الحكومة ثمانية وزراء من الحزب الوطني الاشتراكي والبعث والجبهة الوطنية ( المقربة من الحزب الشيوعي المحظور ) وثلاثة وزراء غير حزبيين(5) . ويعتبر الوصول إلى هذه الحكومة تتويجاً لخطوات تقدم "ثقافة المصلحة" في المجتمع الأردني التي بدأت في مرحلة أعوام (1948-1952) لأنها جعلت هذه الثقافة تتمثل سياسياً في السلطتين التشريعية والتنفيذية عبر اختيار المجتمع الأردني ممثليه بطريقة مصلحية لا على قاعدة علاقات القربى والدم ، إلا عند البعض (الأقلية ). وأيضا لان نهاية هذه الحكومة أدت إلى تعطيل التطور الطبيعي لحضور ثقافة المصلحة هذه حين أقيلت يوم 10/4/1957 وشكلت بعدها حكومة أعلنت الأحكام العرفية (حكومة إبراهيم هاشم ) أصدرت قراراً بحل الأحزاب السياسية واعتقلت أعداداً من قادة المعارضة فيما فر آخرون إلى خارج البلاد ، ثم أسقطت  عضوية مجموعة من نواب الأحزاب العقائدية والمعارضة من مجلس النواب بلغ عددهم في أيار من عام 1958 (15) نائباً(6) وأجريت انتخابات فرعية لملء مقاعدهم فاز فيها نواب جدد ينتمون للتيار المحافظ.
5- تأسيس منظمات المجتمع المدني : تأسست معظم هذه المنظمات في الأردن خلال الفترة من عام 1950- عام 1957 ، بالتزامن مع تطور حضور ثقافة المصلحة وكدليل عليه في آن ، كما يلي :
أ- النقابات المهنية : تأسست نقابة المحامين في عام 1950 ، ثم نقابة أطباء الأسنان في عام 1952 ، ثم نقابة الأطباء في عام 1954، ثم نقابة الصيادلة في عام 1957 ، ثم نقابة المهندسين (المهن الهندسية ) – بشكل مبدئي- في عام 1957(7) . والمهم في هذه النقابات أنها استندت إلى القاعدة الاجتماعية ذاتها التي استندت إليها الأحزاب السياسية العقائدية ، لا بل أن أحزاب القومية واليسارية كان لها دور كبير في المبادرة والمطالبة بتأسيس هذه النقابات(8)،    ولذلك اتسم أداء هذه النقابات بالتسييس الشديد(9) والمشاركة النشطة في الأحداث الوطنية سالفة الذكر ، حيث دخلت النقابات في مواجهات متكررة مع السلطات الحكومية في احداث تزوير  انتخابات عام 1954 وقضية حلف بغداد عام 1955 ، ثم في تشكيل لجان التوجيه الوطني إبان إقالة حكومة سليمان النابلسي عام 1957 وكان من نتيجة ذلك ان اعتقل ولوحق عدد من قادة هذه النقابات في تلك الأحداث (1957). ومن المفيد الإشارة إلى أن نقابة المحامين – على سبيل المثال – قامت برفع قضية ضد الحكومة في عام 1954 تطلب فيها التحقيق في وقوع تزوير و محاكمة المتورطين فيه(10)، ثم أنها أعلنت في عام 1955 ، هي ونقابة الأطباء ، إضراب أعضائها احتجاجاً على نية الحكومة دخول حلف بغداد ، ضمن الإضراب الوطني العام الذي نظم لهذه الغاية.
ب – النقابات العمالية : تأسست عشر نقابات عمالية خلال النصف الأول من عام 1954 ، وفي الأول من أيار من ذلك العام شكلت ست منها "الاتحاد العام لنقابات العمال " . وحتى عام 1957 بلغ عدد هذه النقابات (39) نقابة وبلغ مجموع عدد أعضائها (9566) عضواً(11).ورغم أن هذه النقابات رفعت شعارات مطلبية نقابية ، إلا أنها كانت هي الأخرى جزءً من الحركة التي تقودها الأحزاب السياسية العقائدية ، وبالذات حزب البعث والحزب الشيوعي ، وقد شاركت لذلك في التحركات الشعبية خلال الأحداث السياسية المذكورة .
ج – المنظمات الطلابية : تشكلت هذه المنظمات في البداية من طلبة المدارس خاصة الثانوية، حيث تأخر تأسيس أول جامعة في الأردن ( الجامعة الأردنية ) حتى عام 1962 ، واخذ هذا التنظيم حتى عام 1959 ( فعلياً حتى عام 1957 حين أعلنت الأحكام العرفية ) شكل " مؤتمر الطلبة " حيث انعقد المؤتمر الأول في صيف عام 1953 بعد جولات من التحضير بدأت في أواخر عام 1951 بإشراف مباشر من حزبي البعث والشيوعي(12)­، كل على حده ، وقد انعكس ذلك على نشاطات هذا التنظيم خلال السنوات التالية ، لا بل أن الطلبة شكلوا العمود الفقري لمظاهرات عام 1955 في قضية حلف بغداد(13).
والى جانب تنظيمات مدنية أخرى اقل أهمية وحضوراً ( مثلاً تنظيمات نسائية مثل اتحاد المراة العربية الذي تأسس في عام 1954 ولعب دوراً في التوعية السياسية للمرأة حتى حل في عام 1957)(14) ، فان تأسيس هذه المنظمات والنقابات بحد ذاته يعد دليلاً واقعياً على تقدم حضور ثقافة المصلحة في المجتمع الأردني وتحولها خلفية للحياة العامة ولكيفية بناء العلاقات بين الأفراد.
6- انتخابات تشرين الأول 1961 وتشرين الثاني 1962 وتموز 1963 ونيسان 1967: أجريت الانتخابات الأولى ( انتخابات المجلس النيابي السادس ) في ظل أجواء ما بعد أحداث عام 1957 ، ونظمت لذلك على اساس غير حزبي ، واشترطت الحكومة على كل من يريد ترشيح نفسه فيها أن يحصل على موافقة مسبقة(15)، وقد أدى ذلك إلى إجراء الانتخابات بالنسبة لعشرين مقعداً فقط فيما فاز نواب المقاعد الأربعين الباقية بالتزكية ( كان عدد أعضاء مجلس النواب قد زيد إلى 60 مقعداً). وفي 26/9/1962 طلبت الحكومة (حكومة وصفي التل ) حل مجلس النواب لان رئيسها لم يكن يرغب في الإبقاء على مجلس فاز ثلثا أعضائه بالتزكية وكان محط انتقاد وسخط قطاع كبير من المواطنين(16). وإذا كانت " ثقافة المصلحة " تقدمت في ظل تطور طبيعي في المجتمع الأردني حتى عام 1957 ، فان حدثاً سياسياً كالذي وقع في ذلك العام لا يجب أن يدفعها للتراجع فعلياً. وهذا ما حدث فعلاً ، إذ بينما لا تعبر انتخابات عام 1961 عن أي شيء بالنسبة للحالة الثقافية الحقيقية في المجتمع ، فان انتخابات عام 1962 والتي أجريت في ظل الأجواء المحتقنة ذاتها ولكن ضمن شروط اقل تشدداً واكثر نزاهة أدت إلى فوز عدد من المحسوبين على أحزاب المعارضة العقائدية(17). وفي 20/4/1963 حجب المجلس النيابي السابع الثقة عن الحكومة ( حكومة سمير الرفاعي ) ، وفي اليوم التالي صدر قرار بحله. وتحت وطأة تصرف المجلس النيابي السابع هذا، فقد أجريت انتخابات تموز 1963 (المجلس النيابي الثامن )  وكذلك انتخابات نيسان 1967 ( المجلس النيابي التاسع ) والتي تلت موجة اعتقالات ضد أعضاء أحزاب المعارضة العقائدية نفذت عام 1966 ، في ظروف كثيرة التشديد كتلك التي أجريت فيها انتخابات عام 1961 ، حتى أن (21) نائباً فازوا في عام 1963 بالتزكية ، وهكذا فان انتخابات عامي 1963 و 1967 لا تعبران عملياً – أيضا – عن الحالة الثقافية للمجتمع.
7- التحركات الشعبية : ظل الشارع الاردني نشطاً ، ويتضح من مسيراته ابان اعلان الوحدة المصرية السورية في عام 1958 ثم انهيارها في عام 1961، وكذلك خلال مباحثات الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق في عام 1963، انه ظل قريباً من فكر الاحزاب العقائدية التي انتقلت بعد عام 1957 للعمل السري؛ فظلت حاضرة في الشارع من الناحية العملية. وهكذا خضعت الاحزاب لموجة اعتقالات في عام 1966.
8- تنامي حضور منظمات المجتمع المدني الرئيسية : وهي النقابات المهنية والعمالية والتنظيمات الطلابية ، إذ في ضوء أحداث عام 1957 وحظر الأحزاب السياسية ، سعت الأحزاب العقائدية مستفيدة من نفوذها في هذه المنظمات لتحويلها إلى واجهة للعمل السياسي والنشاط العلني، وهكذا تعزز حضور هذه المنظمات وتحولت إلى قيادة العمل السياسي والتحركات الشعبية. وقد تأسست نقابة مهنية جديدة في عام 1966 هي نقابة المهندسين الزراعيين ، كما زاد عدد أعضاء النقابات زيادة كبيرة بفعل كثرة الخريجين الجامعين الجدد من مختلف التخصصات(18)، وفي عام 1965 أقامت النقابات المهنية مجمعاً لها مثل تطوراً هاماً في تنظيم وجمع عملها. أما النقابات العمالية فقد انخفض عددها في بادئ الأمر تحت وطأة أحداث عام 1957 ، فبلغ في عام 1961 (16) نقابة، لكنه عاد ليرتفع بعد ذلك حتى بلغ عام 1966 نحو (40) نقابة يزيد عدد أعضائها عن (20) ألف عضو(19). واتجهت الحركة الطلابية لمأسسة عملها ، فتأسس الاتحاد العام لطلبة الأردن في عام 1959 بإشراف من حزب البعث ، لكن مؤتمره التأسيسي عقد في القاهرة بحضور طلبة جامعيين ، وشكل الاتحاد فروعاً له في المدن العربية التي يدرس في جامعاتها طلبة أردنيون ، وكذلك في الدول غير العربية ، وكان الاتحاد حاضراً أيضا في الداخل وفي الجامعة الأردنية حتى أن اعضاءً منه اعتقلوا ضمن موجة اعتقالات عام 1966. أما الحزب الشيوعي فقد أشرف على تأسيس اتحاد الطلبة الأردني في عام 1963 ، وكان اكثر حضوراً في الداخل من الاتحاد العام ؛ في الجامعة الأردنية وفي المدارس ، كما كان حاضراً في الخارج خاصة في دول أوروبا الشرقية(20).
ولما حدثت حرب حزيران من عام 1967، ووقعت الضفة الغربية تحت الاحتلال الإسرائيلي، وتدفق مئات الآلاف من النازحين إلى الضفة الشرقية ، وجدت هذه المنظمات ، وبالذات النقابات المهنية ، نفسها في قلب العمل السياسي الوطني في ظل استمرار حظر الأحزاب السياسية ، فشاركت في تأسيس ما سمي " التجمع الوطني العام في الأردن " بمشاركة شخصيات وطنية مستقلة وحزبية وبعض أعضاء مجلس النواب، على اعتباره تنظيماً شعبياً يتجاوب مع الحالة التي وجدت البلاد والأمة العربية نفسها فيها بعد الحرب(21). أما النقابات العمالية ، فبعد فترة من الارتباك خلال عامي 1968و 1969، فقد نشطت مطلبياً في عام 1970 ونفذت ما لا يقل عن (70) تحركاً مطلباً يتعلق بظروف العمل.(22) فيما ازدهرت الحركة الطلابية في الداخل وخصوصاً ف الجامعة الأردنية التي ارتفع عدد طلابها في فترة أواخر عقد الستينات حيث قارب ثلاثة آلاف طالب (مقارنة مع 167 طالب وطالبة فقط عند تأسيسها في عام 1962)(23) ، فتحولت الجامعة إلى مراكز رئيسية للاتحادات الطلابية القائمة من قبل (الاتحاد العام واتحاد الطلبة ) وتلك التي تأسست بعد عام 1967 مثل الاتحاد الوطني لطلبة الأردن ، وهي الاتحادات التي أشرفت عليها قوى المقاومة الفلسطينية. وساهم هذا الوضع الجديد في الحركة الطلابية في زيادة تنظيم النشاط الطلابي خلال التحركات الشعبية  وزيادة فاعليتها(24).           
ومهما يكن من أمر حضور هذه المنظمات المدنية في فترة ما بعد عام 1967 ، فقد حكم العمل الشعبي في الأردن خلال هذه الفترة ببروز حركة المقاومة الفلسطينية ومنظماتها ، والتي اتخذت مقرات رسمية لها في عمان وعدد من المدن الأردنية ، في ظل انتقال القضية الفلسطينية إلى مرحلة الكفاح المسلح ، حتى أن الأحزاب السياسية المعارضة ، القومية واليسارية ، اندمجت في عدد من منظمات المقاومة الفلسطينية المسلحة ، فاندمج القوميون العرب في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ،وشكل حزب البعث (السوري ) طلائع حرب التحرير الشعبية – الصاعقة ، وشكل حزب البعث ( العراقي ) جبهة التحرير العربية ، ثم انقسمت الجبهة الشعبية وتأسست الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ، وبعد ذلك أقام الحزب الشيوعي تنظيماً مسلحاً باسم قوات الأنصار حيث ضمت هذه المنظمات المسلحة في أطرها، خاصة بعد معركة الكرامة التي هزم فيها الجيش الإسرائيلي في آذار من عام 1968 ، أعداداً كبيرة من أبناء المجتمع الأردني .
في أيلول من عام 1970 ، تنتهي مرحلة كاملة من تاريخ المجتمع الأردني المعاصر،  التي كانت من ابرز ملامحها ظهور العديد من تنظيمات المجتمع المدني وتطورها ، وسيادة المناهج والأفكار العقائدية في المجتمع الأردني ، في إطار من تحصيل ما اصطلحنا على تسميته " ثقافة المصلحة " مساحات متزايدة في الثقافة الوطنية السائدة.
        فبعد أن حُسمت حالة الاحتقان التي سادت البلاد بإخراج منظمات المقاومة من الأراضي الأردنية (70/1971) ، فان اثر أحداث أيلول من عام 1970 لم يتوقف عند عودة الفراغ السياسي في ضوء ملاحقة الأحزاب السياسية المعارضة ،وإنما امتد إلى المجتمع الأردني مؤثراً في نوعية الثقافة التي تسوده .
 
 
 
 
 لماذا تقدمت " ثقافة المصلحة " في هذه المرحلة ؟
يحسن التذكير – بداية - أن الحديث يدور عن ثقافة مركبة من كل من ثقافتي العصبية والمصلحة ، فإذا كانت ثقافة المصلحة تقدمت في هذه المرحلة ، فليس بشكلها النقي الخالص ، إذا أن عناصراً من ثقافة العصبية تظل عالقة بها ، فيميل المجتمع- عموماً- للأخذ بمظاهر وعناصر ثقافة المصلحة في معظم سلوكياته ، ويتصرف بمظاهر وعناصر من ثقافة العصبية في بعضها .
      إن هذه الحقيقة تتضح من كيفية انعكاس تقدم ثقافة المصلحة على المكونات المادية والمعنوية المباشرة للثقافة الوطنية ؛ كالعادات وأنماط السلوك والحياة ، وغيرها مما سيتم التطرف إليه بعد قليل .
بشكل أساسي ، تقدمت هذه الثقافة في المجتمع الأردني بفعل تكرس العوامل التي أوجدتها ، كالتالي :
1- نمو التعليم :سواء المدرسي أو الجامعي ، فعدد طلاب المدارس زاد بين أوائل الخمسينات وأواخر الستينات بمقدار أربعة أضعاف ، فيما زاد عدد طلبة الجامعات خلال الفترة نفسها وفي داخل الأردن وخارجه من بضع مئات إلى اكثر من (32) ألف طالب وطالبة (في الضفة الشرقية وحدها)(25)، في الوقت الذي كان فيه عدد سكان الضفة الشرقية قد ارتفع (بمقدار الضعف تقريباً) إلى ما يقارب المليون ونصف المليون نسمة. ومن الحقيقي أن التعليم الجامعي هو الأكثر ارتباطاً بالتغيير الثقافي لان الجامعات لا تعطي الطالب العلم فقط وإنما تقدم له الوعي وتساعده في صقل وتحديد آرائه وتوجهاته وبالتالي نمط معيشته ،هذا إلى جانب ما أوضحناه في الفصل الأول من أن الحصول على الشهادة ظل يعلي قيمة الفرد ويخلخل مفهوم سيادة كبار القوم .
2- نوعية القيادات الجديدة : وهذه قضية شديدة الأهمية ، فالذين أخذوا  يشغلون المواقع الحكومية ومراكز القرار في هذه المرحلة كانوا من أولئك الذين أحرزوا تعليما جامعياً وكونوا مناهج  تفكير ، وصاروا يأخذون الأماكن التي كانت تشغلها في السابق شخصيات ذات عقلية تقليدية ، وانعكس ذلك بالضرورة على نمط تطور البلاد التي كانت في مرحلة البناء ، وبالتالي على النفس العام في الشارع . ليس ذلك فحسب ، بل أن اللاجئين الفلسطينيين الذين باتوا وقتها مواطنين أردنيين بفضل منحهم الجنسية الأردنية ، وخاصة الذين ينتمون منهم لثقافة المصلحة بتجلياتها المدنية ، أثروا بالضرورة الحياة الثقافية والفنية والاجتماعية والسياسية،بفضل قدراتهم الذاتية وما حازوه من خبرات في المدن الفلسطينية .
        3- عمليات التحديث التي شهدتها البلاد : سواء من النواحي المادية كانتشار وسائل النقل الحديثة وما تيسر من وسائل الاتصالات، أو من النواحي المعنوية المتعلقة بمظاهر الحياة. وكان جزء من ذلك بتأثير من الانتداب البريطاني الذي ظل حاضراً في قيادة الجيش العربي الأردني حتى اتخذ قرار التعريب في آذار من عام 1956 ،وقد أوضحنا في هذا السياق أيضا أن هذا التحديث ربط البلاد بالغرب وشد الناس إلى منتجي تلك الوسائل ما دفعهم بالتالي للتأثر بنمط معيشتهم خاصة مع انتشار اللغة الإنجليزية بين الناس .
4- نمو السوق الداخلي : خاصة بعد تدفق اللاجئين الفلسطينيين الذين ساهموا في خلق قطاعات تجارية وخدمية وصناعية جديدة وواسعة في البلاد ، وهو ما غيّر بالضرورة من أنماط العيش التقليدية في المجتمع ، وجعل المدن (وعمان كانت المدينة الوحيدة تقريباً ) مركز جذب لمختلف أفراد المجتمع ، بكل ما تحتويه من ثقافة مدنية/ مصلحية جديدة . وفي السياق نفسه برزت ظاهرة الطبقية لأول مرة في المجتمع الأردني بفعل النمو التجاري وقدوم عدد من الأثرياء الفلسطينيين إلى الأردن ضمن عملية الهجرة(26)، وتدفع هذه الظاهرة لإقامة علاقات اجتماعية على اساس المصالح الطبقية ، وقد عزز من ذلك وجود أحزاب سياسية تتبنى المسألة الطبقية في برامجها وعقائدها وتلفت الأنظار إليها وتنادي بإقامة العلاقات بين الناس على أساسها.
 
5-  بعض التأثير لتغير أنماط وعلاقات الإنتاج في المجتمع ، ونشوء طبقة وسطى من الموظفين والمهنيين وصغار التجار والحرفيين ، وربما يكون لهذا الجانب تأثير اكثر وضوحاً في هذه المرحلة قياساً بالمراحل التالية ، ففيها نشأ قطاع عام آخذ بالاتساع يقوم على إنفاق حكومي كبير ، فتأسست صناعات كبيرة كمصفاة البترول والإسمنت والفوسفات والبوتاس وغيرها من الصناعات التحويلية والتعدينية ، إضافة إلى مشروعات الخدمات والنقل كإنشاء شبكة طرق للشحن وتحسين خطط سكة الحديد وبناء ميناء العقبة والتوسع في صناعة السياحة(27)، ورغم أن القطاع الخاص ظل صغيراً قياساً إلى حجم القطاع الحكومي إلا انه توسع أيضا باتجاه إقامة مؤسسات ومصانع جديدة ومتنوعة. وبغض النظر عن كيفية انعكاس هذا التطور على مستوى المعيشة ومعالجة البطالة وكذلك عن ما فيه من اختلالات هيكلية وبنيوية ، فان هذا التوسع خلق بالضرورة علاقات إنتاج لم تكن مألوفة في المجتمع التقليدي السابق ، كان لها انعكاسها على أنماط تفكير الأفراد وبالتالي حالتهم الثقافية، لصالح ثقافة المصلحة بالطبع والتي ترتكز أساسا إلى علو قيمة الفرد. على أن من المهم التنويه هنا إلى انه في الوقت الذي يفترض أن تكون فيه علاقات الإنتاج هي العامل الأكثر حسماً في الاختيار الثقافي في المجتمع ، إلا أنها لم تكن كذلك في واقع الحال لأسباب متنوعة منها سطوة التقاليد وارتباطها في الفهم الشعبي بالدين (الإسلام) وكذلك لأن القسم الأعظم من علاقات الإنتاج الجديدة ارتبط بالقطاع العام ؛ أي بالوظيفة الحكومية التي تقوم على الراتب المحدد في آخر الشهر ، وهي بالتالي لا تستدعي تغيراً مصلحياً أساسيا كالذي تستدعيه العلاقات التجارية وصفقات التسويق. هذا إضافة إلى أن علاقات الإنتاج نفسها لم تتحول إلى عملية اختيارية تنظمها برامج سياسية متنافسة – باستثناء فترات قليلة – وذلك لطبيعة الحياة السياسية في البلاد من جهة ، ولعظم تأثير الوقائع السياسية في المنطقة وتغطيتها على كل ما سواها.
6 - النفوذ المتزايد للقوى العقائدية القومية واليسارية ، والمرتبطة حكماً بثقافة المصلحة لأنها تخاطب قناعات الفرد لا ارتباطاته على أساس العصبية ؛ أي على عكس ما تفعل القوى التقليدية المحافظة. وهو نفوذ كان يستفيد من تأثير ما يدور في المنطقة من صراع مع الاستعمار ومن تطورات للقضية الفلسطينية ومن سطوع لنجم الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي لوّن هذه المرحلة كلها (1952-1970) بلونه. ومن الضروري الإشارة هنا إلى انه حتى في المرحلة التي حظرت فيها علنية هذه القوى ؛ منذ عام 1957 ، فان نفوذها وتأثيرها الثقافي لم ينحسر بدرجة كبيرة ، بدليل عودتها قوية في مرحلة ( 1967-1970) حين سمحت الظروف بذلك ولكن هذه المرة في ظل منظمات للمقاومة كانت هي الأخرى تقوم على ايدولوجيات واضحة ، غير أن ما حدث في الفترة التي تلت عام 1957 أن الجهات الرسمية أخذت تعيد النظر فيما يدور في المجتمع والشارع وأخذت تستعد وتعمل لتغيير المفاهيم السائدة فيهما ، وفي معركتها تلك اختارت أن تستخدم القوى التقليدية لتحل محل القوى العقائدية فتتخلص من هذه الأخيرة ومن خطرها وتهديدها للحكم ، ونتج عن ذلك أن تلك الجهات بذرت بذور تغيير وجهة التطور الثقافي في المجتمع لصالح القوى التي ترتبط بثقافة العصبية ، وهي البذور التي نبتت بشكل ملموس في مرحلة ما بعد عام 1970 ، متأثرة كذلك بما دار في مرحلة أعوام (1967- 1970) وهو ما سيأتي شرحه في المرحلة التالية، إذ – وكما اسلفنا – فان تغير وجهة التطور الثقافي لا يحدث كانقلاب مفاجئ وإنما تكون بذوره موجودة في فترة من سنوات المرحلة التي تسبق مرحلته.
 
انعكاسات الواقع الثقافي على المكونات الثقافية المباشرة
 في الحياة اليومية ، انعكست حالة تقدم "ثقافة المصلحة" ضمن ثقافة المجتمع المركبة على المكونات المباشرة للثقافة الوطنية كالتالي:
1- التقاليد : للتقاليد تأثير عظيم في المجتمع الأردني ، فحتى في الوقت الذي ساهم فيه تقدم ثقافة المصلحة في هذه المرحلة في تهذيب الجوانب المتشددة في تقاليد "العشيرة " مثلاً(28)، إلا أنها في أوقات الشدائد – كقضايا الثأر والشرف مثلاً -  كانت تعود لتطل كما هي منذ قديم الزمن. وهكذا فان التقاليد ظلت إلى حد ما خارج التطور الطبيعي للثقافة الوطنية  ، وساعد في ذلك أنها لم تقع في قلب هذا التطور بصورة نقية ومباشرة إلا لفترة قصيرة حتى عام 1957 ، فابتداءً من ذلك العام استعملت هذه التقاليد من الجهات الرسمية في مواجهة الأفكار العقائدية ، ما جعلها حاضرة وراسخة دائماً.
2-  التعلُّم : في الدولة الحديثة المارة بمرحلة البناء ، مثّل الحصول على الشهادة وسيلة مرور للحصول على أفضل الوظائف وإحراز أحسن المراكز الاجتماعية ، وهكذا أقبل المجتمع الأردني على التعليم ، رغبة من الشباب وبدعم من الآباء، وصار المجتمع الأردني محباً للتعليم. وحتى وان كانت هذه الظاهرة مرتبطة بالسعي للمكانة الاجتماعية لا للعلم نفسه، فإنها باتت من أهم مميزات الفرد الأردني ومن ابرز المفاهيم الثقافية في الأردن ،فقيمة المرء صنو لما يحمل من شهادات
3- العمارة : بتأثر وارتباط بالتعليم ، صار في الأردن منذ مطلع الخمسينات مجموعة من المهندسين المعماريين المتخصصين ، وبتأثير من الأموال التي اكتسبها أردنيون  من خلال العمل في دول النفط العربية ، انتشرن في الأردن خلال هذه المرحلة أنماط جديدة من البناء المعماري مختلفة عن تلك التقليدية، ومتأثرة بالأنماط المعمارية السائدة في البلاد التي درس فيها هؤلاء المتخصصون. وحازت العمارة الحديثة حضوراً اكبر من خلال الوزارات والدوائر الحكومية التي عمل فيها المعماريون ، إضافة إلى أن نقابة المهندسين وضعت خلال الستينات أنظمة حددت ممارسة العمارة بالمتخصصين وحدهم(29). وهكذا وجدت الحالة الثقافية الجديدة طريقاً مفتوحة الى العمارة المدنية الحديثة.
4- اللباس : من أبرز انعكاسات الحالة الثقافية الجديدة على اللباس ، أن حجاب المرأة الذي كان لازماً في السنوات السابقة ، تراجع بوضوح ، كما اصبح مألوفاً منظر النساء اللاتي يرتدين التنانير القصيرة.  أما الرجل فصار طبيعياً أن يمشي حاسر الرأس(30)، وهو أمر لم يكن منتشراً بكثرة من قبل ، مترافقاً في ذلك مع اللباس الأوروبي العصري.
 5- أوقات الفراغ : مع اتساع المدنية الحديثة في عمان ، انتشرت عادات جديدة لتمضية أوقات الفراغ لم تكن موجودة من قبل ، فانتشرت المقاهي ومعها لعبة الورق وطاولة الزهر ، وكذلك دور السينما ،إضافة إلى النوادي الرياضية التي ساهمت في نشر رياضة كرة القدم حيث زاد حضور المباريات وزادت أهمية مسابقة " الدوري " السنوية . وبالتزامن مع ذلك ، تراجع دور المضافات والمجالس التقليدية التي يجتمع فيها أبناء العشيرة أو القرية؛ يلتقون كبارهم ويسمعون عزف الربابة ويشربون القهوة ويسعون فيها إلى الحكمة أيضا.
 6- الغناء والموسيقى : لا يمكن لتغير ثقافي أن يقضي على ما هو موجود من غناء وأدوات موسيقية ، لكنه يمكن أن يجلب إلى جواره أنواعا جديدة منه،وهكذا كان ، فالغناء التقليدي في الريف والبادية ظل قائماً، وظل صوت الربابة وإنشاد القصائد وكذلك تنظيم الدبكات والأغاني الموسمية خلال الزراعة الريفية ومناسبات الزواج ، وجاءت الموسيقى الحديثة والغناء الجديد ، خصوصاً من مصر ، وبأدوات المدنية الحديثة كالراديو والتلفزيون ، وباتت هذه الاخيرة أيضا وسائل ترفيه وقضاء أوقات فراغ جديدة.
7- مكانة الشباب : بالاستفادة من التعليم والشهادة الجامعية ، توفرت للشباب الفرصة لتتداخل مكانتهم الاجتماعية مع مكانة الشيوخ التقليدية ،وأحدث هذا نوعاً من الخلخلة في الأعراف المتوارثة ، إذ بات الشاب لا يعترف بالضرورة بتفوق كبير العشيرة وحكمته.
8- مكانة المرأة : وبتأثير من التعليم أيضا ، تعززت مكانة الإناث في المجتمع الأردني ، وفعل حصولها على الوظيفة الشيء نفسه ، ومنحها شعوراً متزايداً بالاستقلالية. وانعكس ذلك مباشرة على عادات الزواج والخطوبة التي تجاوزت وساطة الخاطبة والأقرباء إلى التعارف الشخصي عن طريق الزمالة في العمل أو أثناء الدراسة.
 
وهكذا يتضح من حالة هذه المكونات الثقافية في هذه المرحلة ، أنها تظل متأثرة بالنوعين اللذين تتشكل منهما الثقافة المركبة في الأردن : المصلحة والعصبية ، حيث أن تبني البعض – لو حصل - لبعض مظاهر ثقافة المصلحة ،خاصة في جوانب التسلية واللباس ، ظل يقابله من يتمسك بما كان شائعاً من لباس تقليدي ووسائل لقضاء أوقات الفراغ ؛ كسباقات الخيل وصوت الربابة والقصائد وما شابه ، هذا بالطبع إلى جانب الحالة العامة التي فيها يتبنى الفرد ذاته بعض مظاهر من هذه الثقافة مع مظاهر أخرى من الثقافة الثانية.
 
 
المرحلة الثانية (1971- 1989)
 ثقافة العصبية تتقدم
في هذه المرحلة (1971 – 1989) ، سيتضح أن ثقافة العصبية استعادت كثيراً من المساحات التي كانت بدأت تفقدها في تكوين الثقافة المركبة خلال المرحلة السابقة لصالح ثقافة المصلحة.
غير أن هذا لم يحصل نتيجة تطور طبيعي تلقائي ، فلو تركت الحالة الثقافية تتطور طبيعياً في المجتمع ، في الوقت الذي كانت فيه البلاد (خلال هذه المرحلة خصوصاً) تشهد نهضة تنموية وعمرانية وتعليمية هائلة وغير مسبوقة ، لكان من المنطقي أن تواصل ثقافة المصلحة تقدمها وتحرز حضوراً اكبر داخل هذه الثقافة المركبة.
إلا أن "الثقافة" دخلت لعبة الصراع السياسي بين السلطات الرسمية من جهة ، والقوى العقائدية اليسارية والقومية من جهة ثانية والتي اتُهمت بالارتباط بقوى وأنظمة حكم خارجية وبالتآمر على الحكم الأردني ، خصوصاً منذ أزمة عام 1957 التي اتهمت فيها هذه القوى بتدبير محاولة انقلاب عسكري.
وإذ بدا أن تلك القوى العقائدية تستفيد من تقدم " ثقافة المصلحة " المستندة إلى قيمة الفرد ، وبالتالي قناعاته غير المرتبطة بأصله وعرقه ، فقد كان من الطبيعي أن تلجا السلطات إلى الثقافة المنافسة ؛ ثقافة العصبية التقليدية ، فتوظفها بطريقة غير مباشرة لانتزاع ما اكتسبته تلك القوى من تأييد وتعاطف في الشارع الأردني . ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الحكم في الأردن ، وان اضطر لاستعمال هذه الثقافة التقليدية قي معركته وبالتالي دعمها وتقويتها ، فان ذلك لا يعني انه يتمثلها فعلاً ، بدليل النهضة الكبيرة التي شهدتها البلاد تحت إشرافه وعنايته ، ولهذا فان الحكم ظل دائماً يوحي للجميع ، حتى للفئات التي ظلت تتبنى " ثقافة المصلحة " ، من تلك غير المسيسة ،  ولتلك التي تعتبر "ثقافة المصلحة" ثقافتها المدنية الأصلية ، انه هو (أبو الجميع) ، وانه لا يتناقض مع أحد نتيجة حالته الثقافية .
بدأ توجيه حالة المجتمع الثقافية – إذن – منذ عام 1957 ، ولما كان مطلوباً مواجهة نفوذ القوى اليسارية والقومية ، فان التوظيف لم يتوقف عند ما يعاكسها ثقافياً فقط ، وإنما شمل أيضا ما يعاكسها عقائدياً ، وهكذا فإن قرار حظر وحل جميع الأحزاب السياسية في البلاد عام 1957 لم يشمل جماعة الإخوان المسلمين ، بدعوى أنها ليست حزباً سياسيا ، ولكن –في الحقيقة- كان ذلك جزءاً من "المعركة" وتحالفاً بين الجماعة والسلطات في مواجهة خصمهما (فالإخوان كانوا يخاصمون تلك القوى حقاً، ولذلك فتحالفهم هذا ليس انتهازياً بالضرورة).
 وهكذا اعتمدت السلطات ، التي بيدها القوة والشرعية ، على العشائرية(31) وعلى الدين(32) بتعبيره الإصلاحي الاجتماعي السلمي الذي يتبناه الإخوان المسلمون ( على عكس التعبير الثوري السياسي الذي تبناه حزب التحرير مثلاً والذي ظل  محظوراً وملاحقاً) ، وذلك في مواجهة القوى السياسية العقائدية اليسارية والقومية التي تستمد شرعيتها من تعاطف قطاعات في الشارع فقط ، ولا تملك أدوات للتأثير بحجم تلك التي تملكها السلطات : خطابياً ومالياً وأمنيا.
وكان من الطبيعي أن لا يتمكن التحالف العشائري التقليدي – الديني الاجتماعي من انجاز مهمته خلال السنوات العشر التالية ( 1957- 1967) ، ذلك أن خصمه السياسي ، وبالتالي الثقافي ، المتمثل بالقوى اليسارية والقومية ، كان يستفيد من التطورات السياسية التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط والأمة العربية ، ومن حالة "المد القومي" السائدة بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر ، الذي بات بمثابة الرمز والأسطورة منذ تمكنه من دحر العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، وهكذا كان لإذاعة " صوت العرب " كلمتها المسموعة في الشارع الأردني ، وحضورها الذي لا ينافسه حضور إعلامي أو خطابي ، كيف لا ومصر تقود ما يفترض انه معركة تحرير فلسطين ؟
وبهذا حافظت تلك القوى اليسارية والقومية – والتي باتت محظورة وسرية – على مكانتها وشرعيتها في المجتمع الأردني ، وظلت قادرة على اكتساب أعضاء جدد خاصة في صفوف الشباب ، وتعاطف متزايد من مختلف الفئات، ولهذا نجد الشارع الأردني يخرج في مظاهرات ليطالب بما تطالب به هذه القوى ، كتأييد محادثات الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق عام 1963 والطلب من الحكومة الأردنية الانضمام لها ، وكذلك الاحتجاج على ما اعتبر تقصيراً حكومياً في الدفاع عن قرية السموع / قضاء الخليل عام 1966 والتي تعرضت لعدوان إسرائيل ألحق خسائر كبيرة بسكانها. ومن هنا تعرضت هذه القوى السياسية المحظورة لحملة اعتقالات جديدة في عام 1966.
 ونتيجة ظروف ما بعد حزيران من عام 1967 ، تعطل على ما يبدو مشروع التوجيه الثقافي التقليدي/ الديني الذي بدأ عام 1957 ، في ضوء تحول التأييد إلى المقاومة والكفاح الشعبي المسلح ، وتحول المزاج الشعبي في الأردن لتبني هذه الخيارات ، وبذلك فإن الصراع إياه أعيد ترتيبه على قواعد جديدة ووفق أولويات مختلفة.
        وبينما تعطل هذا المشروع ، فقد دخل المجتمع الأردني هذه المرة عامل جديد يدفع بالاتجاه نفسه الذي كان يدفع به " المشروع " في الناحية الثقافية ، فقد أخذت التنظيمات الفلسطينية ( تنظيمات الكفاح المسلح ) تعمل على إبراز الهوية الفلسطينية عند الفلسطينيين الذين حملوا الجنسية الأردنية منذ هجرة عام 1948 وتوحيد الضفتين عام 1950 ، والذين كانوا من قبل يعتبرون الطموح القومي/ العقائدي وسيلتهم لتحرير فلسطين على اعتبار قضية فلسطين قضية قومية ، وكذلك التركيز على الانتماء " العرقي " لفلسطين ، ثم على "تميز" الإنسان الفلسطيني سعياً منها للإفادة من الموارد البشرية للفلسطينيين في الأردن ، وهذا كله بالطبع يصب في اتجاهات "ثقافة العصبية" التقليدية ويعمل على تعزيزها.
وكردة فعل طبيعية ، في اتجاه معاكس لما سمي "تميز" الإنسان الفلسطيني ، استدعيت الهوية شرقي الأردنية ، وهكذا وجد الجانب العشائري التقليدي في مشروع التوجيه الثقافي السابق قوة دفع كبيرة على اعتبار انه كان اداة التمثيل الاساسية لهذه الهوية قبل مرحلة (1948-1952). وبما أن القوى القومية واليسارية التي يمثل الرئيس جمال عبد الناصر رمزها هي التي خسرت حرب عام 1967 وتسببت في وقوع مزيد من الأراضي العربية ، بما فيها الجزء المتبقي من فلسطين ، تحت الاحتلال الإسرائيلي، فقد وجد الجانب العقائدي الديني الشرعي في المشروع نفسه ، ممثلاً بجماعة الإخوان المسلمين قوة دفع مماثلة أيضاً.
وليس أدل على تلك الدفعة التي نالها الجانب العشائري التقليدي ، من سلسلة "المؤتمرات الوطنية " التي عقدت في مناطق مختلفة من البلاد وضمت زعماء قبائل وشيوخ عشائر ، للتعبير عن الغضب إزاء ما تقوم به التنظيمات الفدائية في الأراضي الأردنية من محاولة للسيطرة على السلطة. ومن هذه المؤتمرات : مؤتمر أم رمانة (إحدى قرى بني صخر) ودعا إليه الشيخ ظاهر الذياب الفايز في أوائل شباط من عام 1970 وحضره نحو (200) من الوجهاء ، ومؤتمر الموقر ، يوم 20 شباط 1970 بدعوة من الشيخ نايف الخريشا، ومؤتمر صويلح يوم 11 آب 1970 ودعا إليه الشيخ محجم العدوان ، ومؤتمر الحسينية ، ودعا إليه الشيخ فيصل الجازي شيخ مشايخ الحويطات يوم 4 أيلول 1970 وغيرها(33).
وقد نظمت هذه المؤتمرات لتكون بمثابة التعبير عن الرأي العام ، بمعنى أن العشائر عادت لتكون هي أدوات تمثيل الناس وشيوخها هم نواب الناس(34)، بدلاً من صيغة "الأحزاب".
وهكذا ، ومع نهاية هذه الفترة ( فترة الكفاح المسلح1967-1970) بوقوع أحداث أيلول من عام 1970 التي كان الحكم فيها يدافع عن شرعيته ، وجد مشروع التوجيه الثقافي القديم نفسه قوياً وحاضراً من جديد، بل وضرورياً لملء الفراغ السياسي الناشئ ولتكريس الأنتصار الذي حققه ، ولكن هذه المرة تكريسه في المجتمع وقناعا ته ونهج تفكيره وسلوكياته، أي في ثقافته ، وللغايات نفسها التي كان عمل لأجلها منذ عام 1957.
وحتى نختبر مدى تقدم ثقافة العصبية في هذه المرحلة ، سنضع المجتمع الأردني من جديد على المحك ذاته الذي وضعناه عليه في دراسة المرحلة الماضية لبحث تجاوبه تجاه الأحداث ذات الصبغة الشعبية الجماهيرية :-
1 – لقد أخذت معظم النشاطات الجماهيرية خلال هذه المرحلة صبغة مساندة كفاح الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة وفصائل العمل الفدائي التي انتقلت إلى الأراضي اللبنانية ودعم منظمة التحرير الفلسطينية خاصة منذ نالت اعتراف الأردن بها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني في مؤتمر القمة العربية في الرباط عام 1974، هذا في الوقت الذي أخذت فيه الشخصيات السياسية والحزبية التي ظلت داخل الأردن بعد أحداث عام 1970 نوعاً من حرية الحركة خصوصاً عبر بوابة النقابات المهنية التي عظم دورها في هذه السنوات لتصير مظلة للعمل السياسي والحزبي المعارض. إن هذه النشاطات ساهمت في زيادة الفرز على أساسأ اصل الانتماء الجغرافي وإبراز كل من الهويتين شرقي الأردنية والفلسطينية ،وهو الفرز الذي يعزز بالطبع "ثقافة العصبية" ومفاهيمها. ولقد لقي هذا الفرز دعماً هائلاً في ضوء نزوح ( 400000)(35) شخص جديد من  الضفة الغربية وقطاع غزة إلى شرقي الأردن اثر حرب عام 1967 وحرب الاستنزاف (1968 –1973) ، أي نحو ثلث سكان الضفة الشرقية وقتها ، واكثر من نصف هؤلاء النازحين (وهم نازحو الضفة الغربية ) يحملون الجنسية الأردنية منذ وحدة الضفتين عام 1950 ، فهؤلاء أعطوا زخماً لتلك النشاطات الجماهيرية بفعل وطأة التهجير مشددين على هويتهم الفلسطينية التي واصلت الفصائل الفلسطينية ( خاصة داخل المخيمات التي أقام فيها هؤلاء النازحون وايضاً من لبنان وأينما توفر لها صوت إعلامي) النفخ فيها على اعتبارها أداة التحرير ، وهكذا تكاثرت تلك النشاطات وتوسعت ، ومعها كانت ثقافة العصبية ومفاهيمها تكتسب مساحات إضافية.وكان أول نشاط جماهيري واسع من هذا النوع قد أقيم يوم 27 أيلول 1974 ، على شكل مهرجان شعبي ، دعت إليه " لجنة الدفاع عن المعتقلين الفلسطينين في الأرض المحتلة"(36) ، ثم توالت النشاطات المماثلة في مناسبات مثل : يوم الأرض، ذكرى وعد بلفور، ذكرى حرب حزيران ، حيث كانت تعقد على الأغلب في مجمع النقابات المهنية .
2 – في الوقت الذي جُمدت فيه عملية الانتخابات النيابية منذ انتخاب المجلس النيابي التاسع في عام 1967 ، حيث مددت مدة ولايته مرة ( 3 آذار 1971 ) ، وأعيد أحياؤه مرتين ( 4 شباط 1976 ولمدة أربعة أيام ) ثم ( 9 كانون الثاني 1984وفيها اعتبر مجلساً جديداً ؛ أي المجلس النيابي العاشر )(37) وكذلك شكلت ثلاثة مجالس وطنية استشارية متتالية خلال الفترة ( 1978 – 1984 ) مدة ولاية كل منهم سنتان وبأعضاء معينين لتكون بديلة لمجلس النواب ، فان كثيراً من أدوات التمثيل الطلابية والعمالية والنسائية التي كانت نشأت خلال السنوات السابقة اختفت أيضا تحت وطأة حالة الأحكام العرفية والأجواء السياسية المحتقنة ، وهكذا بات التمثيل الاجتماعي الذي ينتمي إلى مفهوم ثقافة المصلحة غائباً .ورغم أن هذه الحالة بحد ذاتها لا تعد دليلاً على شيوع ثقافة العصبية لأنها كانت محكومة بالأوضاع السياسية في البلاد ، فإنها بالتأكيد تبين أن ثقافة المصلحة خسرت كثيراً من أدواتها .
3 – في المقابل ، انتقل جزء كبير من التمثيل الاجتماعي إلى الجمعيات الخيرية التي يتم تأسيسها على أساس تقليدي ذي طابع إقليمي أو عشائري ، من أجل أهداف مثل المساعدة الاجتماعية للفقراء والطلاب ، وضم الأفراد المنتمين لها وإصلاح الخلافات بينهم ، حيث تعتبر امتداداً للعشيرة والمخترة . وقد وصلت نسبة هذه الجمعيات التي تأسست خلال الفترة(1971- 1989 ) نحو 30% من إجمالي الجمعيات الخيرية التي تأسست خلال الفترة نفسها ، هذا بينما لم تكن مثل هذه الجمعيات تمثل اكثر من10% من الجمعيات الخيرية خلال الخمسينات والستينات(38). وتؤسس هذه الجمعيات اعتماداً على المنطقة الجغرافية التي تمثل مرجعية أعضائها سواء في الأردن أو في فلسطين، وهي تساهم بذلك في الفرز نفسه على أساس الهوية ، وتصب بالتالي في صالح " ثقافة العصبية " .
4 – شهدت البلاد خلال سنوات هذه المرحلة هجرة كبيرة من الريف إلى المدينة ، أدت إلى توسع المدن بشكل ملموس ، خاصة عمان والزرقاء واربد ، حتى بات نحو ثلاثة أرباع السكان يقطنون المدن . غير أن هذه الظاهرة لم ترافقها عملية انتشار القيم المدنية المفترضة ، وإنما تحولت إلى حالة من "ترييف المدن" ينقل الفرد الريفي فيها قيمه وعاداته إلى المدينة، ربما – على الأقل – في المدى القصير الذي تمثله سنوات هذه المرحلة والمرحلة التي تلتها. وهكذا فان ثقافة المصلحة لم تكتسب – مع هذه الظاهرة – أية مساحات جديدة في حالة الثقافة الأردنية المركبة، هذا في الوقت الذي كانت فيه هذه المدن، والبلاد كلها عموماً، تشهد نهضة تنموية وعمرانية وتعليمية كبيرة، كان من ابرز مظاهرها نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 13% سنوياً ونمو معدل الدخل الفردي بنسبة 7.5% سنوياً(39) ، متزامنة مع الفورة النفطية في دول الخليج العربي التي انتقل للعمل فيها كثير من الأردنيين . لكن يتضح أن هذه النهضة لم تنتقل إلى لب المفاهيم الثقافية في المجتمع الأردني.
5- الانتخابات النيابية التكميلية التي أجريت في 12 آذار من عام 1984 لانتخاب ثمانية نواب بدلاء عن النواب الذين شغرت مقاعدهم عن دوائر الضفة الشرقية نتيجة الوفاة أو الفصل أو الاستقالة، وذلك للمجلس النيابي التاسع الذي أعيد إحياؤه واعتبر مجلساً جديداً ( أي العاشر) ، تعطي دلالات هامة في هذا السياق ، فقد خاض غمارها (101) مرشحاً من مختلف الانتماءات العقائدية والتنظيمية كما اعتمد بعضهم على المكانة العشائرية(40)، وفي نتائج ستة من المقاعد المخصصة للمسلمين فاز ثلاثة من ذوي الاتجاهات الإسلامية ؛ أي بنسبة 50% وفاز الثلاثة الآخرون اعتماداً على مكانتهم العشائرية ، فيما فاز أحد الظافرين بالمقعدين المسيحيين بفضل انتمائه العقائدي / القومي. ومما يمكن قوله ايضاً أن المناطق التي تقطنها أغلبية من اصل فلسطيني أفرزت نواباً ذوي اتجاهات إسلامية . ومن المهم هنا التنويه إلى أن التأييد الذي لاقاه المرشحون الإسلاميون  مثّل انعكاساً لتزايد ظاهرة الإقبال على التدين في المجتمع الأردني خلال هذه السنوات ، وهي الظاهرة التي اخذ العالم الإسلامي كله يعايشها ولفتت الاهتمام العالمي بشدة خاصة منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وهكذا فان التأييد الذي لاقاه المرشحون هؤلاء في الأردن لم يحدث نتيجة مشروع التوجيه الثقافي إياه ، ولكنه استفاد من أن السلطات كانت – وبسبب المشروع نفسه – تغض النظر عن نشاطات "الإسلاميين " ( وخاصة الإخوان المسلمين ) الدعوية والمالية والاجتماعية.
 
لماذا تقدمت " ثقافة العصبية " في هذه المرحلة ؟
 الإجابة على هذا السؤال تقدمه الأسباب التالية :
1- تواصل توجيه السلطات الرسمية للحالة الثقافية ، دعماً لصيغة " العشيرة " لتمثيل المجتمع من جهة، وافساحاً في المجال للقوى الدينية المقربة منها لتشغل المساحات العقائدية التي كانت تشغلها القوى اليسارية والقومية المحظورة من جهة ثانية ، وقد تجلى ذلك خصوصاً من خلال الإعلام ، ففي ختام المرحلة الماضية تأسس التلفزيون الأردني (عام 1968) ثم شاع انتشار جهاز التلفزيون في البيوت ، وكذلك الصحف ، مع ملاحظة أن الصحف المعارضة انعدمت في هذه المرحلة . وقد استُعملت وسائل الإعلام في الغالب بطرق غير مباشرة ، فالأغاني التي يتم إنتاجها محلياً كثيراً ما تستعيد تراث العشيرة التقليدي ، كما شهدت هذه المرحلة إنتاج كثير من المسلسلات البدوية التي تحتفي بالتقاليد والقيم البدوية التقليدية ، وكان لهذه المسلسلات حضور كبير وجمهور واسع يحرص على متابعتها بشغف . والشيء نفسه ينطبق على الإذاعة الأردنية وما تقدمه من أغاني وبرامج ومسلسلات . هذا بالطبع إلى جانب اتجاه السياسات الرسمية لتكريم شيوخ العشائر وإبراز حضورهم في مختلف المناسبات.
2- تغير المعطيات السياسية في المنطقة ، وخاصة في مصر حيث انتهج الرئيس أنور السادات سياسة مغايرة لتلك التي كان عبد الناصر من خلالها قد جعل مصر مصدراً للمد العقائدي والنهج الثوري، وخصوصاً منذ زيارة السادات لإسرائيل.
3-  ووجدت " ثقافة العصبية " مساحات متزايدة لها كذلك بفعل  ما حصل عند الأردنيين من ذوي الأصول الفلسطينية والنازحين الجدد إلى شرقي الأردن اثر احتلال الضفة الغربية ، كردة فعل مباشرة على نمو الصيغة العشائرية بالتزامن مع مواصلة الفصائل الفلسطينية الدعاية لمفهوم " الهوية الفلسطينية" ، إذ راح هؤلاء يبرزون هويتهم من جهة ويبحثون عن أدوات لتمثيلها من جهة ثانية ، وجدت ضالتها في الجمعيات الخيرية ذات الصبغة المناطقية وفي النوادي الرياضية وبالذات التي تمثل مخيمات اللاجئين ، أهمها على الإطلاق نادي الوحدات ، هذا في الوقت الذي يفترض فيه أن هؤلاء النازحين الجدد – أو معظمهم – إنما يحملون ثقافة مركبة جاهزة ، خاصة وأن جُلّهم من القرى الفلسطينية أو من المدن الداخلية الأكثر محافظة واقل انفتاحاً ، والذين كانت ثقافة العصبية الأصلية لديهم تطورت موضوعياً قبل الهجرة  بفعل تطور الظروف الإنتاجية والمعيشية والوطنية الناتجة عن الاحتلال لتصير ثقافة مركبة . وبكلمات أخرى فان هؤلاء النازحين الجدد شكلوا إضافة كمية لحالة الثقافة المركبة في المجتمع الأردني وخضعوا لحالة تقدم ثقافة العصبية التي عاشتها البلاد خلال هذه المرحلة تماماً كالمجتمع الموجود في شرقي الأردن من قبل نزوحهم.
4- كبر في هذه المرحلة سن الجيل الذي لم يعاصر أحداث سنوات الستينات والسبعينات، وصار أفراده شباباً ، ونتيجة الأجواء السياسية المتوترة التي كانت تشهدها البلاد ، فقد تلقى هذا الجيل في البيت وفي المدرسة تربية مرعوبة ، وهكذا لم تزرع فيه المفاهيم العقلانية التي كان يتلقاها الطفل في العقود السابقة خصوصاً على أيدي المعلمين الذين ينشرون العقائدية إلى جانب العلم المجرد . إضافة إلى ذلك ، أُخضعت السياسة التعليمية  في البلاد منذ أواخر السبعينات للظروف السياسية التي سادت هذه المرحلة ، فخصصت أعداد كبيرة نسبياً من المقاعد الجامعية للتوزيع على أساس مناطقي وجهوي تقليدي ، بحيث يستفيد منها – على ما يبدو – أبناء الفئات المقربة من السلطات الرسمية ، ضمن الخطوات الرامية لمواجهة نفوذ القوى العقائدية المحظورة في الجامعات وتجفيف المنابع التي تجند فيها أعضاء جدد . وكان هذا الأمر مما يستفز الهوية على أتساس " العصبية" سواء لمن يتاح لهم التنافس على تلك النسبة من المقاعد أو لمن يحال بينهم بينها لعدم انطباق الشروط عليهم .
5- أما علاقات الإنتاج ، وبرغم النهضة الاقتصادية الصناعية والتجارية والخدمية التي شهدتها البلاد، فإنها لم تؤثر في الحالة الثقافية لتعطل تقدم ثقافة العصبية وتدعم ثقافة المصلحة كما هو مفترض ، ذلك أن القطاع الخاص الذي هو المكان الطبيعي لتحويل علاقات الإنتاج غير التقليدية إلى مفاهيم ثقافية (بالنظر الى حالة البلاد السياسية) لم يشكل "الكتلة الحرجة"(41) المطلوبة لتكون موازية للقطاع العام ، إذ انه واقعياً كان يعتاش على وجوده في ظل القطاع العام حاصلاً على معظم موارد عمله من خلال  العطاءات الحكومية والمشروعات الحكومية وغيرها من النفقات العامة . بينما ظل القطاع العام هو الأكبر وهو الأكثر توظيفاً  للعاملين. ورغم أن علاقات الإنتاج غير التقليدية تسوده ايضاً إلا أن من الصعب أن تتحول من خلاله إلى مفاهيم ثقافية وذلك بالنظر الى قضية شديدة الأهمية سادته في هذه المرحلة ، إذ قيل أن الدولة اتجهت لحصر إشغال الوظائف العليا فيها بأبناء الاتجاهات التقليدية التي يفترض أنها متحالفة معها ضد القوى العقائدية اليسارية والقومية ، وذلك كجزء من الحرب "الثقافية" الدائرة بحيث تمنع وصول أفراد قد يدينون بالولاء لتلك القوى إلى مواقع التأثير ، خاصة بعد تجربة أعوام (1967 –1970) ، وقاد ذلك لتحويل القطاع العام إلى ساحة للثقافة التقليدية ؛ ثقافة العصبية ، إذ بات الفرد يشعر أن حصوله على الوظيفة العامة مرتبط بانضباطه في تلك الثقافة ، خاصة في صيغتها العشائرية ، وأدى هذا بالتالي إلى تعزيز مفاهيم هذه الثقافة داخل الوظيفة العامة والى تكريس أهميتها وفاعليتها في المجتمع وفي المقابل إلى تحجيم قيمة الثقافة المقابلة . وإن كانت حالة  "التشغيل التام " (التي سنتطرق لها بعد قليل ) والتي سادت ردحاً طويلاً من سنوات هذه المرحلة قد عطلت كثيراً من آثار هذا التعزيز.
 
انعكاسات الواقع الثقافي على المكونات الثقافية المباشرة
يتضح من التوصيف السابق أن ثقافة العصبية تقدمت في الممارسة الاجتماعية اليومية التي هي مؤشر الانتصار الحقيقي . وفي الوقت نفسه ، فقد ظلت ثقافة المصلحة تحرز توسعاً (نتيجة التطور الطبيعي غير الموجه للأشياء) في المكونات الثقافية المباشرة في المجتمع ، وهي المكونات التي كانت أسباب تقدم ثقافة العصبية سالفة الذكر تكبح جماح انعكاسها على شكل الممارسة الاجتماعية :
1 – مكانة المرأة : تزايد علو مكانة المرأة الاجتماعية في هذه المرحلة بالاستفادة من التحاق أعداد كبيرة من الفتيات والنساء بالتعليم ، وعلى سبيل المثال فقد بلغت نسبة الإناث في الجامعات الأردنية خلال سنوات هذه المرحلة نحو 40% من إجمالي الطلبة(42). وكان من معالم ارتفاع مكانة المرأة أنها منحت منذ عام 1974 – ولأول مرة – حق الاشتراك في الانتخابات ترشيحاً وانتخاباً والذي كان مقصوراً من قبل على الرجل ، لكن ممارسة هذا الحق تأخرت حتى الانتخابات النيابية التكميلية في عام 1984 لأن الحياة البرلمانية كانت معطلة قبل ذلك .
2- التعليم : ارتفعت كذلك مكانة الشهادات الجامعية كوسيلة لإحراز المكانة الاجتماعية المتقدمة عوضاً عن الوجاهة ، وظهر ذلك مثلاً في نتائج انتخابات عام 1984 التكميلية حيث تفوق أصحاب الشهادات الجامعية ، حتى أن العشائر التي كانت تختار مرشحاً تضع ثقلها خلفه في الانتخابات حرصت على اختيار من يحمل شهادة جامعية . لقد ترافق هذا الواقع مع نمو التعليم بشكل مضطرد في البلاد ، إذ ارتفع العدد الإجمالي للمدارس من (1891) مدرسة في عام 1972 إلى نحو (3500) مدرسة في أواخر الثمانينات(43)، وتم إنشاء ثلاث جامعات حكومية جديدة هي اليرموك في اربد ومؤتة في الكرك ثم العلوم والتكنولوجيا بالقرب من اربد، وبات يدرس في هذه الجامعات إضافة إلى الجامعة الأردنية نحو (35) ألف طالب وطالبة في ختام هذه المرحلة مقارنة بنحو ثلاثة آلاف في بدايتها ، هذا إلى جانب نحو ثلاثين ألف طالب وطالبة يدرسون في الجامعات خارج الأردن(44). وكان إجمالي عدد سكان الضفة الشرقية قد ارتفع خلال هذه المرحلة بمقدر الضعف تقريباً ؛ من حوالي مليون ونصف المليون نسمة إلى حوالي ثلاثة ملايين نسمة .
3 – أدوات الحياة اليومية : نتيجة توسع المدن بشكل مضطرد خلال هذه المرحلة ، ازداد انتشار العمران الحديث الذي يسكن على أساس الأسرة الصغيرة ( النووية ) ، لا الممتدة كما في البناء التقليدي . وشاع انتشار التلفزيون وجهاز الهاتف والأدوات الحديثة ومنتجات أخرى مستوردة كلها – كما أسلفنا – تشد الناس إلى حياة الغرب المدنية .
4 – اللباس : انتشر اللباس الحديث بكثرة على حساب اللباس التقليدي الذي بات نادراً خاصة في التجمعات السكانية الكبيرة في المدن الرئيسية ، سواء ما كان منه لباساً غربياً، أو – وخاصة منذ مطلع الثمانينات – لباساً " إسلامياً" لدى النساء متمثلاً بثوب عصري طويل فضفاض يسمى – تجاوزاً – "جلباباً " وهو لباس تميزت به المرأة الأردنية المسلمة المتدينة ، وغير منتشر في الدول العربية الأخرى.
5 – نمط المعيشة : في هذه المرحلة نهضت الحياة الاقتصادية بشكل واضح وتأسست صناعات جديدة ومؤسسات استثمارية مختلفة ، ووصلت البلاد حالة من " التشغيل الكامل للأيدي العاملة المحلية "(45) ، اضطرت معها لاستخدام الأيدي العاملة الوافدة ، خصوصاً من مصر . في ظل ذلك تزايدت ظاهرة الطبقية في المجتمع بوضوح ، بفعل نجاح استثمارات القطاع الخاص في جني أرباح طائلة ، وكذلك بفعل ارتفاع أسعار الأراضي ، خاصة في عمان ، بالتزامن مع تدفق أموال العاملين في دول الخليج النفطية إلى البلاد والتي وظفت أجزاء كبيرة منها لابتياع الأراضي وإقامة الأبنية الحديثة عليها وهو ما دفع أصحاب الأراضي التي كانت للزراعة في عمان الغربية – ولا تدر عليهم إلا القليل من المال موسمياً – لعرضها للبيع وبأسعار مرتفعة ومتزايدة فصارت مدخلاً للثراء . وكان من آثار هذه الطبقية أن تزايدت أنماط الإنفاق الاستهلاكي غير التقليدية في معيشة المجتمع. وبالتأكيد فان وجود طبقات يتركب منها المجتمع يصير دافعاً لأفراده ليفكروا وفق مفاهيم المصلحة ، غير أن ذلك انحصر إلى حد كبير في المظهر دون الجوهر ، وتركز في التنافس الاستهلاكي لا في التحالف المصلحي .
أما في لب الممارسة الاجتماعية – وكما أسلفنا – فقد تبدت " ثقافة العصبية " ومفاهيمها ، وعلى سبيل المثال فان ظاهرة الإقبال على التعليم حملت في طياتها جوانب من هذه الثقافة (العصبية) حين صارت مجالاً للتنافس بين الناس على حصولهم وحصول أبنائهم على الشهادات الجامعية (خاصة في تخصصي الطب والهندسة) ، وهكذا صار من دلالات قيمة الجماعة المترابطة على أساس صلات القربى (عشيرة ، حمولة ، أهل منطقة ،00) كبر عدد حاملي الشهادات الجامعية والعليا من أبنائها ، فبدل أن يصير التعليم وسيلة لتعزيز قيمة الفرد صار أداة لتكريس قيمة الجماعة –على أساس العصبية– وتكثيف معاني الانتماء لها، حتى راحت هذه الجماعات تتضامن فيما بينها لإلحاق أبنائها بالجامعات والتكلف بمصاريفها المرتفعة قياساً إلى متوسط الدخول على اعتبار ذلك استثماراً يرفع مكانتها مستقبلاً (وذلك عن طريق الصناديق التي أعدت لهذه الغاية في الروابط الأهلية والجمعيات الخيرية التي يتم تأسيسها على أساس صلات القربى)، ونتج هذا الأمر بالطبع عن تزامن العمل لتعزيز مفاهيم ثقافة العصبية مع تطور مظاهر ثقافة المصلحة المذكورة .
وهكذا ، فقد فُصل التطور الثقافي المظهري عن الحياة السياسية والتكوين السياسي–الاجتماعي في هذه المرحلة(1971 –1989)، على عكس طبيعة الأشياء التي فيها تكون وجهة التطور المظهري مؤشراً على وجهة تطور الذهنية الاجتماعية .
وفي نهاية هذه المرحلة ، باتت " الثقافة المركبة " التي يتسم بها سواد المجتمع الأردني تأخذ التوصيف التالي : مظهر ينتمي بمعظمه لثقافة المصلحة ، وجوهر ينتمي بكليته –إلى حد بعيد – لثقافة العصبية .
 
 
المرحلة الثالثة ( 1989- 2002)
" العصبية " من اجل " مصلحة "!
 
مع بداية هذه المرحلة ، توقف مشروع التوجيه الثقافي الذي كان آتى أُكله خلال سنوات المرحلة السابقة ، إذ لم يعد يلزم !
فالمشروع إياه كان نظم لمواجهة نفوذ القوى اليسارية والقومية في المجتمع الأردني، لأنها كانت تطمع بالحكم ، وذلك بأن وظف كل من الثقافة المنافسة والأيدولوجيا المنافسة ؛ أي ثقافة العصبية والدين ، في مواجهة أيدولوجيا تلك القوى وأداتها : ثقافة المصلحة .
ولما تبين منذ تحولات عام 1989 ، والتي تضمنت إعلان العودة إلى الحياة السياسية الديمقراطية وإلغاء الأحكام العرفية المفروضة على البلاد منذ عام 1967 ، أن تلك القوى باتت بلا نفوذ تقريباً وأن حضورها تراجع كثيراً ، كان طبيعياً أن يتوقف ذلك المشروع التوجيهي .
        غير أن نفوذ القوى اليسارية والقومية لم يتراجع فقط بسبب نجاح مشروع تحالف السلطات مع كل من الثقافة التقليدية والإخوان المسلمين في إنجاز أهدافه ، وإنما تراجع ايضاً بفعل التطورات الدولية والإقليمية التي حدثت في تلك " اللحظة" التاريخية ، فقد انهار جدار برلين في أواخر عام 1989 وانهارت معه الكتلة الاشتراكية ، وبعدها بقليل تفكك الاتحاد السوفيتي نفسه ، وبهذا فقدت القوى اليسارية والاشتراكية في الأردن – وهو الذي ظل خلال تاريخه المعاصر في قلب الاستقطاب الناتج عن الحرب الباردة – رمزها ومنارتها وقدوتها ، فبعضها كان يعتبر الاتحاد السوفيتي قائد القوى " التقدمية "في العالم(46) ،وفي الجانب القومي خرج العراق من حربه مع إيران عام 1988 ليتلقى ضربة موجعة في حرب الخليج الثانية (90/ 1991)  وليفرض عليه حصار دولي شديد اثر احتلاله الكويت، وهو الذي ظل يمثل سنداً قوياً لقوى قومية في الأردن .
كان من معالم توقف مشروع التوجيه الثقافي وانتهاء " الحرب" الناتجة عنه ، أن صيغ "الميثاق الوطني " و أعلن بحضور الملك حسين شخصياً في شهر حزيران من عام 1991، وقد اعتبر الميثاق بمثابة وثيقة المصالحة بين الحكم والمعارضة اليسارية والقومية ، حيث شاركت الأخيرة مع قوى وشخصيات من مختلف الاتجاهات في صياغته.
 بعد انجلاء " المعركة " كان كل من الحليف الثقافي والحليف الأيدولوجي قد كبر وتضخم بالاستفادة من الدعم الذي تلقاه خلال السنوات السابقة ، سواء  ما كان منه مباشراً أو غير مباشر وهكذا صار طبيعياً أن يكون النفوذ الكبير في المجتمع لهذين " التيارين " .
تمثل الدعم المباشر للحليف الثقافي بتمكينه من أجهزة السلطة ، وعلى رأسها تشكيل الحكومات ومعها مجالس الأعيان وجل المجالس الوطنية الاستشارية وكذلك الأجهزة الأخرى والوظائف العامة والوظائف العليا ، فيما استفاد الحلفاء بالأيدولوجيا (الإخوان المسلمين ) من ذلك الدعم غير المباشر ؛ المتمثل بغض النظر عن نشاطهم المالي والاجتماعي والدعوي والتربوي ، كثيراً ، إذ استمرت وتكرست خلال هذه المرحلة ظاهرة ما سمي " الصحوة الإسلامية " أي الإقبال على التدين خاصة في صفوف الشباب في العالم الإسلامي والأردن ، وكان من معالمها كثرة إقبال الفتيات والنساء عموماً على لبس الحجاب ( غطاء الرأس والملابس الفضفاضة التي تغطي كامل الجسد ) وكثرة إقبال الشباب والرجال على إطلاق اللحى أو تمثل قيم التدين ، وقد استطاع " الإخوان" ترجمة هذا التدين على شكل سيطرة اجتماعية ثقافية بفضل دعم السلطات غير المباشر. ومن اكثر ما يدل على فضل هذا الدعم أن ظاهرة التدين تلك كانت عامة في العالم الإسلامي ، غير أن التنظيمات الإسلامية في الدول العربية المجاورة لم تستطع أن تحرز حضوراً كذاك الذي احرزه الإخوان في الأردن ، لأنها كانت مقموعة وملاحقة ومحظورة في بلدانها من قبل أنظمة الحكم.
ولما كانت بذور التغيير في كل مرحلة موجودة في المرحلة التي سبقتها كما أسلفنا ، فان المجتمع كان يعايش منذ بداية الثمانينات ونتيجة ظهور اثر الفورة النفطية في دول الخليج العربي وحوالات الأردنيين الذين اتجهوا بكثرة للعمل فيها على شكل وفرة مالية ، حالة من التسابق الاستهلاكي المحموم انعكست على اهتمامات الناس التي تحولت من التطلع للعمل العام إلى الإنفاق على الاستهلاك والذي فاق حجمه حجم الناتج المحلي الإجمالي(47).
ومع الانتكاسات التي تعرض لها الاقتصاد الأردني منذ أواسط الثمانينات في ضوء هبوط أسعار النفط واستنزاف الحرب العراقية الإيرانية لأموال الاستثمار الخليجية ، ما أدى لتراجع الزخم الإنمائي في بلدان الخليج وبالتالي انخفاض تحويلات الأردنيين العاملين فيها ، مقابل استمرار نمط الحياة الاستهلاكي في الأردن ، فقد أخذت الطبقة الوسطى في المجتمع تتآكل لصالح تضخم الطبقة الفقيرة ، حتى وصل الأمر ذروته في أواخر الثمانينات لتنفجرأحداث معان ومدن الجنوب الأخرى في نيسان من عام1989 احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية المتردية وغلاء الأسعار .
 نتيجة هذا الوضع الاقتصادي، دخل الاردن منذ ذلك العام برامجاً للتصحيح الاقتصادي اشترطها صندوق النقد الدولي والجهات الدولية التي اخذ الاردن يقترض منها لمعالجة اقتصاده، واهم ما في هذه البرامج المتتالية جانب اعادة الهيكلة المعني أساساً بخصخصة مؤسسات القطاع العام. هكذا فان نمطية القطاع العام التي كانت تدفع حكماً في صالح ثقافة العصبية في المرحلة السابقة اخذت تتراجع شيئاً فشيئاً خلال سنوات هذه المرحلة لصالح تقدم -بطيء عموماً- لمفاهيم ثقافة المصلحة . 
وتلقى الاقتصاد الأردني ضربة أخرى اثر أزمة وحرب الخليج (91/1992) وعودة العاملين في الخليج إلى البلاد ، وفي محصلة ذلك كله ظهر التمايز الطبقي في المجتمع الأردني بصورة غير مسبوقة ؛ بين طبقة صغيرة شديدة الثراء تنفق أموالا طائلة على الاستهلاك وأخرى كبيرة متوسطة سابقاً محدودة الدخل حديثاً تصرف جل وقتها ونشاطها في السعي لتلبية متطلبات الحياة المتزايدة ولها ايضاً طموحاتها الاستهلاكية خاصة في الجانب التظاهري اللازم لمجاراة المجتمع والقيام ببعض الواجبات التي تفرضها العادات الاجتماعية.          
وتجلت هذه الحالة الطبقية في أوضح صورها في العاصمة عمان ، التي باتت تتمايز إلى قسمين : عمان الغربية ويسكنها في العادة الأثرياء ، وعمان الشرقية ومعظم سكانها من الطبقات الفقيرة. لا بل أن " عمان الغربية " باتت ظاهرة بحد ذاتها ، فنمط الحياة فيها مغاير لذلك السائد في باقي مناطق الأردن ، وفيها وجدت كثير من مفاهيم ثقافة المصلحة - التي لا تعترف إلا بالفرد -  تربة مناسبة للنمو ، وباتت هي المكان المعبر عن كيفية انعكاس حياة المدينة على ثقافة الفرد لتغرس فيه ثقافة المصلحة وتنزع منه ثقافة العصبية ، إذ أن سكانها ممن تصنف أصولهم ضمن ثقافة العصبية إنما تمثلوا في حياتهم اليومية الخاصة مفاهيم ثقافة المصلحة الفردية ، جنباً إلى جنب مع السكان الذين ينتمون أصلا لهذه  الثقافة. وبالطبع فان سكان عمان الشرقية  فاقوا في عددهم سكان عمان الغربية.
وهكذا ، فانه في الوقت الذي كان فيه المجتمع مهيأً – نتيجة حالته الطبقية ونتيجة التطور المعيشي الطبيعي الموروث من المراحل السابقة والمضاف إليه في سنوات هذه المرحلة – لتقبل مفاهيم ثقافة المصلحة وتبنيها من جديد ، فانه لم تتوفر القوى السياسية التي يمكن أن توظف هذا الوضع وتنظم تلك الثقافة ، وعلى العكس ، توفرت القوى التي تستند إلى ثقافة العصبية ومفاهيمها ( الحليف الثقافي) والقوى التي لا تحفل كثيراً بهذا التمايز الثقافي لأنها لا تعتبره وسيلتها للوصول إلى المجتمع (الحليف الأيدولوجي).
ومن اكثر ما يدل على سيطرة هذين الاتجاهين في المجتمع ، نتائج الانتخابات النيابية العامة في تشرين الثاني من عام 1989 ، وهي أول انتخابات عامة تجرى في البلاد منذ عام 1967، وأول انتخابات تجري بمشاركة الأحزاب السياسية منذ حظرها عام 1957 وذلك بصورة غير معلنة وبالاستفادة من أن السلطات غضت الطرف عن بدء نشاطها العلني بفعل إعلان التحول نحو الديمقراطية وانتهاء " المعركة " بينها وبين المعارضة اليسارية والقومية كما أسلفنا ، إذ من  بين مقاعد المجلس النيابي الثمانين فاز التيار التقليدي المحافظ بنحو (45) مقعداً، فيما فاز الإخوان بـ (22) مقعداً وفاز إسلاميون مستقلون بنحو عشرة مقاعد أخرى(48)، فيما انحصر فوز التيارات القومية واليسارية بما لا يزيد عن خمسة مقاعد. ( مع ملاحظة أن التيار المحافظ استفاد – وعلى حساب الإخوان المسلمين – من طريقة توزيع المقاعد التي خصصت أعداد منها لا تتناسب والتوزيع السكاني لمناطق تسودها الحياة التقليدية خارج المدن الرئيسية ، وهو توزيع قديم للمقاعد النيابية ) .
ولأن هذين الحليفين لم يكونا متحالفين معاً وإنما مع طرف ثالث ( هو السلطات ) في آن واحد، ولأن السبب الموضوعي الذي كان يلزمهما بالحفاظ على التحالف (نفوذ القوى القومية واليسارية) قد زال  بحيث انهما لم يعودا بحاجة للاحتماء ببعضهما، ولان ظرفاً موضوعياً جديداً قد حل متمثلاً بالحياة البرلمانية وتخفيف حدة القيود الأمنية التي تضبط العمل العام ما يستوجب النشاط في صفوف المجتمع والتسابق على اخذ المواقع فيه والمواقع التي هو سببها (مقاعد البرلمان)، فقد تحول هذان الطرفان إلى خصمين ؛ في الحياة السياسية وفي المجتمع.
في الواقع فان الإخوان المسلمين لهم طموحاتهم الأيديولوجية الإصلاحية في الحياة السياسية ، وفي الوضع الجديد صار  طبيعياً أن يجهدوا من اجلها ما استطاعوا، وهكذا يمكن القول أن عدم توافقهم مع الطريقة التي أدارت بها الحكومات المتعاقبة شؤون الدولة (وهي الحكومات التي كانت حكراً على التيار المحافظ) ، اخذ يدفع بهم- بعد زوال اسباب التحالف- نحو المعارضة الفعلية والعملية (معارضة الحكومات لا معارضة النظام السياسي كما كانت تفعل القوى اليسارية والقومية)، مستفيدين من الفراغ الذي خلفته قوى المعارضة القديمة في المجتمع والذي كان أفراده بدورهم يكنون الامتعاض للحكومات نتيجة الأوضاع الاقتصادية المتردية. وبلغ أمر التوغل في المعارضة ذروته مع بدء عملية السلام العربية الإسرائيلية في أواخر عام 1991 والتي كان الإخوان يتصدون معارضتها ويوظفون أيدولوجيتهم ضدها في كافة تطوراتها التالية مثل اتفاق أوسلو عام 1993 والتوصل إلى معاهدة السلام بين الأردن وإسرائيل عام 1994 والتي أتاحت المجال أيضا لما سمي بـ " التطبيع " بين البلدين .
أما قوى ثقافة العصبية التقليدية ، فقد ظل معظم قياداتها (أي شيوخها ووجهائها ذوي النفوذ على أفرادها) يتعامل مع الحكومات على طريقة أن مساندتها وتأييدها هو تعبير عن الولاء لنظام الحكم، ولهذا ظلت الأقرب لها، والحليف الثقافي الثابت.
على أن بعض هذه القوى التقليدية اخذ يخرج من عباءة التأييد المطلق ، ويأخذ مساراً معارضاً يتعلق تارة بالاقتصاد متأثراً على ما يبدو باضطرابات عام 1989 التي تصدرتها المجتمعات التقليدية الفقيرة ، وتارة أخرى بالمشاركة في الحكم ومسألة الحريات. ومع بدء عملية السلام مع إسرائيل اتخذ مساراً اكثر معارضة بدعوى الحفاظ على المصالح الوطنية للأردن والحيلولة دون تحويله وطناً بديلاً للفلسطينيين كما ترغب إسرائيل ، وأخيراً اخذ يوجه معارضته – في فترة تالية سيأتي شرحها في آخر هذه المرحلة – نحو بعض مفاهيم ثقافة المصلحة و دفاعاً عن المفاهيم التقليدية. ويمكن القول أن هذا التيار التقليدي المعارض ظل ضعيف الحضور عملياً ونخبوياً إلى حد بعيد وله صوته في الصحافة ، دون التقليل من مساحات التجاوب مع بعض طروحاته في المجتمعات التقليدية.
ومن الشواهد على الخصومة بين الإخوان المسلمين والقوى التقليدية المساندة للسلطات، انه بعد أن شارك الإخوان – ولأول مرة رسمياً – في الحكومة (حكومة مضر بدران) وبخمس حقائب وزارية ولمدة ستة اشهر ابتداءاً من 1/1/1991 ، فإن  أياً من رؤساء الحكومات التالية ، وجلهم من التيار التقليدي وكلهم من المقربين إلى " الحكم" بالضرورة  ، لم يعرض على الإخوان المشاركة في الحكومة ، فيما ظل الإخوان يرددون في المقابل انهم يرفضون المشاركة في الحكومة بحجة ولوجها عملية السلام مع إسرائيل.
في ظل هذا الوضع ، أرادت الحكومات ، وربما " الحكم " نفسه الذي أحس بشيء من جفاء الإخوان المسلمين خاصة بسبب عملية السلام، ضبط نفوذ الإخوان والتقليل من "مشاغباتهم" ، وتم اللجوء - بالطبع – إلى الحليف الثقافي الثابت ، ولكن ضمن شروط الحياة البرلمانية هذه المرة ، فأقرت الحكومة (حكومة عبد السلام المجالي) بعد حل البرلمان ، قانوناً مؤقتاً للانتخاب (آب من عام 1993) قوامه أن الناخب لا يحق له اختيار اكثر من مرشح واحد لعضوية مجلس النواب عن دائرته الانتخابية ، فيما كان القانون السابق يتيح للناخب إمكانية اختيار مرشحين بعدد المقاعد المخصصة لدائرته في المجلس النيابي ، وقد عرف القانون الجديد بقانون "الصوت الواحد".
        النتيجة المطلوبة (وغير المعلنة) من هذا القانون كانت تقليل عدد مقاعد الإخوان المسلمين في مجلس النواب حتى لا ينجحوا في إسقاط معاهدة السلام حين عرضها على البرلمان وذلك لان نظام القانون سيعني تحجيم فعالية الأصوات التي تؤيد "الإخوان" وحصرها في صالح عدد اقل من المرشحين، إضافة إلى أن الأصوات التي اعتادت أن تبدأ باختيار مرشحين على أساس المعرفة أو القربى ثم تضيف إليهم مرشحين آخرين على أساس العاطفة الدينية بالاستفادة من تعدد الاختيارات المتاحة ، ستتركز هذه المرة في التصويت للمرشحين على الأساس الأول ، الأكثر أهمية بالنسبة لها،ولن يتمكن "الإخوان" من الاستفادة منها.
حدث ما أرادته الحكومة ، فبدل أن يزيد عدد مقاعد " الإخوان " في مجلس النواب كما كان يفترض في ظل نشاطهم الإعلامي والدعوي خلال السنوات الأربع السابقة وكنتيجة للحالة السياسية الناتجة عن عملية السلام مع إسرائيل والتي تصدروا معارضتها وكذلك نتيجة لزيادة ظاهرة الإقبال على التدين في الأردن كما في العالم ،  فقد انخفض هذا العدد من (22) مقعداً في انتخابات عام 1989 إلى (17) مقعداً فقط في انتخابات عام 1993(49).
وبشكل غير مباشر ، صب هذا القانون إلى درجة كبيرة في صالح مفاهيم ثقافة العصبية ، لأنه بث روحاً قوية في النظام العشائري والمناطقي حين دفع كل عشيرة وحمولة لتقديم مرشح من أبنائها ، يصوت له بشكل خاص أفرادها والقريبون منها ، حتى تثبت حضورها وقوتها وتأثيرها وتوفر المجال لوجود شخص قادر على خدمة أفرادها وتلبية حاجاتهم لدى السلطات. وحدث الشيء نفسه عند أبناء كل منطقة جغرافية محددة ، سواء في شرقي الأردن أو من بين الأردنيين من أصل فلسطيني ، وعمق هذا أيضا الفرز على أساس الهويتين شرقي الأردنية والفلسطينية الذي كان بدأ مع بدايات المرحلة السابقة (1971 – 1989 ) كما بيّنا ، والذي يعزز بدوره ثقافة العصبية ومفاهيمها .
ولان أبناء كل عشيرة أو منطقة حققوا فائدة من هذا الأسلوب كما تبين خلال السنوات القليلة التالية ، ولان نظام " الصوت الواحد " الانتخابي تمت المحافظة عليه وطبق في انتخابات عام 1997 التالية ، فان مفاهيم ثقافة العصبية وجدت طريقاً سالكاً إلى الفئات التي يفترض أنها الأقرب إلى ثقافة المصلحة حيث تنادت جماعات منهم ، خاصة تلك التي ليست من الطبقة الغنية وليس لها بالتالي أدوات قوة ، للتجمع على الأساس العائلي والمناطقي نفسه ، وهكذا  حققت مفاهيم ثقافة العصبية ، ابتداءاً من عام 1993 ، اكتساحاً غير مسبوق في المجتمع الأردني .
غير أن تبني مفاهيم ثقافة العصبية لم يحدث لذاته، إذ يتضح أن هذه المفاهيم إنما استعملت من اجل تحقيق " المصلحة " ، ولكن هذه المرة المصلحة النفعية الانتهازية، في ظل الظروف الاقتصادية الضاغطة ، وأهم تعبيراتها اتساع حجم البطالة بتأثير من عودة العاملين في الخليج إلى البلاد وتزايد أعداد الخريجين من الجامعات والكليات بشكل يفوق استيعاب سوق العمل (حتى وصلت نسبتها نحو 14.3% من إجمالي القوى العاملة في عام2002)(50)، فقد صار الحصول على الوظيفة وإنجاز المعاملات يتطلب في اغلب الاحيان توفر "واسطة" من شخصية ذات نفوذ ، ولهذا بات معظم أفراد المجتمع يتطلعون"لاستحداث"  واسطة من ذوي القربى لتسهيل أمور حياتهم وتحقيق"مصالحهم". وساعد في ذلك أن المجتمع من جهة لم يتنازل عن نمط الحياة الاستهلاكي وإنما توغل فيه بفعل ما أتت به ظاهرة العولمة من منتجات تغري بالشراء إن في مجال أدواتها التكنولوجية الحديثة كالهاتف الخلوي وأنظمة الستلايت والكمبيوتر لغايات الإنترنت ، أو على صعيد انتشار مطاعم الوجبات السريعة التي تحمل أسماء المطاعم الأميركية الشهيرة وعلاماتها التجارية خاصة في المدن الرئيسية ، ومن جهة ثانية ظل جُلّه فريسة لمتطلبات الحياة المتزايدة وارتفاع تكاليف المعيشة ، والأمران يلهيانه بالطبع عن التطلع للعمل العام وفق مفاهيم ثقافة المصلحة التي لن تلبي طلباته بالضرورة لأنها ليست حليف الحكومة ولأن خصمها (ثقافة العصبية) هو حليف الحكومة ومن خلاله يمكن النفاذ لتلبية تلك الحاجات المتزايدة.
إن من أهم التعبيرات عن هذه الحالة أن الأحزاب السياسية التي عادت إلى العلن او تأسست حديثاً منذ إقرار قانون الأحزاب في عام 1992 (باستثناء حزب جبهة العمل الإسلامي الذي هو عملياً ليس حزباً كما باقي الأحزاب ، ولكنه الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين ويستمد حضوره من قدراتها وإمكاناتها ونفوذها في المجتمع)، ظلت محدودة عدد الأعضاء، ولم تلاقِ مؤازرة في صفوف المجتمع – على عكس ما كان عليه الحال في الخمسينات مثلاً – بدليل أنها لم تكن قادرة على إيصال أعضائها إلى مجلس النواب عبر الانتخابات العامة(51)، وظلت نخبوية لا تقدر أن تنشط خارج الصحافة والإعلام نتيجة عزوف الناس عنها ، رغم أنها مثلت كثيرا من الأطياف الفكرية والسياسية التي تخاطب قناعات الفرد عوضاً عن انتماءاته على أساس العصبية ، أي تخاطب مصالحه التي يحتاجها ، والسبب أن الأحزاب لم تكن قادرة عملياً على تلبية تلك المصالح، لان الحكومات ظلت ضمنياً تستبعد هذه الأحزاب من المشاركة السياسية وتمارس ضدها خطاباً يوحي بعدم أهليتها يستفيد موضوعياً من المفاهيم الخاطئة الموروثة من مراحل "الحرب" الثقافية (1957- 1989) مثل اعتبار العمل الحزبي تآمراً على الوطن والخوف من صيغة "الحزب" كأداة للعمل العام واعتباره تعبيراً تلقائياً عن الارتباط بالخارج . وفي الوعي الشعبي ، طال هذا الحال حتى تلك الأحزاب التي شكلتها قوى وشخصيات تقليدية قريبة من السلطات ، ذلك أن صيغة "الحزب" ذاتها ظلت في المجتمع بعيدة عن تلبية "مصالحه".
وهكذا ، فانه بينما توقف مشروع التوجيه الثقافي القديم ، فان المجتمع الأردني عاش ظروفاً سياسية واقتصادية دفعته للعمل بمفاهيم ثقافة العصبية ، غير أن ذلك على الأغلب لم يحدث نتيجة اقتناع بها(52) ، فالحياة الاجتماعية خلال هذه المرحلة باتت اكثر حداثة بحيث أن النمط التقليدي يعطلها ويؤخرها ، فالمدن اتسعت كثيراً على حساب القرى ، خاصة عمان والزرقاء اللتين بات يسكنهما نحو نصف سكان البلاد (البالغ عددهم نحو خمسة ملايين نسمة)، وشهدت البلاد حركة واسعة في العمران الحديث وإنشاء المؤسسات الاستثمارية الخاصة بفضل الأموال التي أحضرها العائدون من الخليج وتوجيه الحكومات لتشجيع القطاع الخاص وتسهيل طرق الاستثمار ضمن برامجها للخصخصة، وصارت الحياة اكثر سرعة نتيجة وسائل الاتصال الحديثة ، وجاءت القنوات التلفزيونية الفضائية العربية لتبث روحاً معرفية جديدة لم تكن متوفرة في القنوات التلفزيونية التي تشرف عليها الحكومات وتستعملها في توجيه المجتمع ، حيث أخذت تقدم خطاباً نقدياً تحليلياً كذاك الذي كانت تقدمه القوى السياسية المعارضة فيما سبق ، ولا يعطل من اثر هذه القنوات الفضائية إلا أنها ساعدت في تكريس الرغبات الاستهلاكية عند الأفراد خاصة عبر مسابقات الاتصال الهاتفي معها.
وفي السياق نفسه ، فان زيادة انخراط المرأة الأردنية بسوق العمل نتيجة حاجة الأسر لمقاومة الظروف الاقتصادية الصعبة ، خاصة وأن كثيرات حصلن على تعليم متقدم في المجالات المختلفة ، قاد إلى تكريس شعور المرأة باستقلالها ، وهو ما يعزز بالتالي مفاهيم ثقافة المصلحة. وقد تواصلت كذلك عمليات التحديث في البلاد خلال هذه المرحلة ، واتساع نطاق التعليم ، ففي المجال الجامعي أسست (14) جامعة جديدة ، منها – ولأول مرة – تسع جامعات خاصة ( أهلية ) .
وهكذا ، يمكن توصيف حالة الثقافة المركبة في المجتمع الأردني خلال معظم سنوات هذه المرحلة على أنها ظاهر تسوده ثقافة العصبية ، وباطن يتجه تراكميا؛ أي بما يبنى على التطور الطبيعي الموصول مع المراحل السابقة – ولولا الظروف الضاغطة الموجهة – نحو مفاهيم ثقافة المصلحة.
ونستطيع ان نتبين – وللمفارقة – انه في الوقت الذي كانت فيه السلطات تدفع نتيجة سلوكها السياسي في صالح ثقافة العصبية ، فإن أداءها الاقتصادي المتجاوب مع برامج الخصخصة وتعزيز حضور القطاع الخاص انما كان يدفع في صالح ثقافة المصلحة. السلطات كانت تعي ذلك طبعاً، وكان هذا من اسباب جهدها في الحفاظ على ثقافة حليفها التقليدي بينما هي ملزمة بمضامين برامج التصحيح، لكنها من حيث تدري او لا تدري ساهمت في ادائها المتناقض هذا في الوصول الى التوصيف الثقافي القائم في هذه المرحلة وفي تحقيق الحالة المركبة غير المسبوقة الحاصلة فيها.
إن اكثر ما يعبر عن هذا التوصيف الثقافي ، هو ما كان يجري في المجتمع خلال الانتخابات النيابية في عامي 1993 و 1997 ، إذ بينما خضعت معظم عملية التصويت للمفاهيم العشائرية و المناطقية ، فان جزءاً كبيراً من العشائر وأبناء المناطق الجغرافية المحددة لم يكونوا يختارون مرشحهم على أساس وجاهته ومكانته في قومه ، بل حرصوا على تقديم مرشحين يحملون شهادات جامعية عالية أو ممن شغلوا مواقع وظيفية متقدمة في الإدارة أو الجيش ، وفي هذا ما فيه من خلط لمفهوم الجماعة بمفهوم قيمة الفرد؛ فالأول هو الظاهر والمؤثر أما الثاني فهو الضمني.
لا بل أن الإخوان المسلمين كانوا خلال مشاركتهم في انتخابات عام 1993 (حيث قاطعوا انتخابات 1997 لاحتجاجهم على التمسك بمبدأ الصوت الواحد ومعهم سبعة أحزاب معارضة أخرى) يراعون وهم يطرحون مرشحيهم على أساس الشعارات التي يعلنونها والتي تعني مخاطبة قناعات الفرد لا انتمائه على أساس العصبية أن يتوفر للمرشح دعم من عشيرته أو أهل منطقته ، وهذا ايضاً من الخلط الذي حصل بين العصبية والمصلحة .
ثم إن هذه الانتخابات أظهرت دور رؤوس الأموال التي ينفقها أصحابها المرشحين بكثرة من اجل الحصول على المكانة الاجتماعية ، ما يوضح الواقع النفعي للمصلحة في هذه المرحلة .
وهكذا فان العملية الانتخابية بدل أن تكون وسيلة في سياق الحياة الديمقراطية وسلطة الشعب، تحولت في هذه المرحلة لتكون التعبير الحقيقي عن الحالة والتي تمثلتها الثقافة المركبة في الواقع الاجتماعي .
                 .     .     .
وكما أن التوصيف المذكور لحالة الثقافة المركبة في هذه المرحلة تأخر عملياً حتى عام 1993، فانه واصل كثيراً من حضوره في السنوات الأولى من عهد الملك عبد الله الثاني الذي بدأ في مطلع عام 1999، رغم ما ظهر فيه من معالم لا توافق ما ظل يجري منذ عام 1989، حيث بدا الملك –شخصياً– راغباً في توجيه المجتمع إلى بعض مفاهيم ثقافة المصلحة سعياً للنهوض بالبلاد ووضعها على سكة التطور الحضاري الذي يأمله .
غير انه لا يمكن القول أن حالة الثقافة المركبة أصابها تغير ملموس نتيجة ذلك حتى أواخر عام 2002 . وعلى أية حال فان التغير الثقافي – كما أسلفنا – لا يحدث كانقلاب مفاجئ ، وربما كانت وثيقة "الأردن أولا " التي أعلنت في كانون الأول من عام 2002 وبدا أنها ستنهض بالحياة السياسية في البلاد ،هي البداية العملية لتغير وجهة المجتمع نحو مفاهيم ثقافة المصلحة ، برغبة وتشجيع من الحكم .
في هذه السنوات الأولى من عهد الملك عبد الله الثاني (1999-2002) بدا الملك مهتماً بتسليم المواقع الحكومية العليا ومواقع القرار المؤثرة لشخصيات ذات توجهات "اقتصادية ليبرالية " لها باعها في القطاع الخاص خاصة  منذ اقالته حكومة عبد الرؤوف الروابدة ، اول رئيس وزراء في عهده، وهو من الشخصيات التي يمكن تصنيفها ضمن التيار المحافظ التقليدي ، وتكليفه علي أبو الراغب تشكيل حكومة جديدة منذ حزيران من عام2000، وهو من شخصيات الليبرالية الاقتصادية الناشطة في القطاع الخاص ، هذا بالتزامن مع انتهاج الملك سياسة الانفتاح الاقتصادي والخصخصة بشكل اكثر تسارعاً من السنوات التي سبقت عهده ، إضافة لتشجيعه القطاع الخاص المحلي على لعب دور اكبر في الاقتصاد واعتنائه على نحو غير مسبوق بتغيير نمطية القطاع العام بهدف جعله اكثر مرونة في التعامل مع القطاع الخاص وتحقيق حاجات نموه .
اهتم الملك ايضاً بنشر الوسائل التكنولوجية التي تحدث روحاً ثقافية جديدة في  المجتمع ، خاصة الكمبيوتر والانترنت ، واشرف شخصياً على إقامة عدد من المراكز التي تقدم وتعلم استخدام الكمبيوتر والإنترنت ، خاصة في المجتمعات الأكثر تقليدية على أطراف المحافظات ، وأبدى اهتمامه ايضاً بحوسبة التعليم ونقل هذه العملية التكنولوجية إلى العملية التربوية نفسها في المدارس الحكومية.
وللمفارقة ، فان بعض مفاهيم ثقافة المصلحة اكتسبت مساحات جديدة في البلاد في ظل غياب مجلس النواب نتيجة حله في عام 2001 وهو على مشارف انتهاء مدة ولايته ثم استمرار تأجيل الانتخابات التالية بحجة الأوضاع الإقليمية المحتقنة ، مقابل استئثار الحكومة  بمهامه في إصدار القوانين ، ذلك أن المجتمع ظل خلال السنوات السابقة ، خصوصاً منذ عام 1993، يفرز مجالس نيابية معظم أعضائها ممن يصنفون ضمن ثقافة العصبية التقليدية ، وبالتالي لم يكن متوقعاً منهم الموافقة على قوانين فيها مفاهيم تناقض مفاهيم ثقافتهم ، أما الحكومة فقد كان طبيعياً أن تفرض من خلال القوانين المؤقتة الكثيرة التي أصدرتها (قدر عددها حتى نهاية عام 2002 بنحو 150 قانون مؤقت!) بعض المفاهيم التي تتناسب ومفاهيم ثقافتها : ثقافة المصلحة .
من أمثلة هذه الحالة قيام الحكومة بإصدار قوانين تمنح حقوقاً غير مسبوقة للمرأة في عدة مجالات، كمنحها حق "الخلع"، أي "تطليق" زوجها ضمن شروط معينة.
واتجهت الحكومة ايضاً – بتوجيه من الملك على ما يبدو – لإصدار قوانين أخرى تعزز حضور ومكانة المرأة في المجتمع الاردني ، مثل اعلان نيتها اصدار قانون جديد للجنسية تتمكن المرأة  الأردنية المتزوجة من غير أردني بموجبه من إعطاء الجنسية الأردنية لأبنائها  ( مع بعض الاشتراطات المحددة ) ، وكذلك مثل إعلانها في الايام الاخيرة من عام 2002 نيتها تضمين قانون الانتخاب " كوتا نسائية" تضمن وصول المرأة إلى عدد محدد من مقاعد مجلس النواب ، بالنظر الى أن المجتمع لم يكن قد افرز نائباً امرأة إلا مرة عام 1993 لعدم توجهه لانتخاب النساء ، مما صعب مشاركتهن في الحياة النيابية .
غير أن مفاهيم ثقافة المصلحة التي يمكن أن تحدث اثراً في الحياة السياسية لم يكن لها – حتى نهاية عام 2002 – نصيب في هذه التوجهات الحكومية ، فقد ظلت معالم الحياة السياسية وأركانها – خاصة الأحزاب السياسية ومسائل الحريات – على حالها ، بل وربما تراجعت بالتزامن مع استئثار الحكومة بمهام السلطتين التنفيذية والتشريعية معاً .
وهكذا تعطل خلال هذه السنوات الأخيرة دور المجتمع الذي الذي كان منذ عام 1989 يستعمل " ثقافة العصبية " من اجل " مصلحة " كما أسلفنا ، لصالح سعي الحكومة لنشر بعض مفاهيم ثقافة المصلحة التي تخص الجانب الاقتصادي دون بعضها الآخر الذي يخص الجانب السياسي ، وهي مفاهيم تسعى في محصلتها لتجاوز ثقافة العصبية التقليدية.
كان طبيعياً والحالة هذه ، أن تستفز الجهات التقليدية التي كانت تتخذ خلال السنوات السابقة نهجاً معارضاً للسلطات وللحكومة دفاعاً عما تراه مصالح وطنية ، وهكذا أخذت توجه سهامها لمفاهيم ثقافة المصلحة حديثة الانتشار تلك ، وتدافع عن شرعية المجتمع التقليدي ومفاهيمه التي هي مفاهيم ثقافة العصبية ، وهاجمت في هذا السياق التعديلات القانونية المقترحة الخاصة بالمرأة الأردنية ( سالفة الذكر ) وربطت بعضها بموضوع التصدي لفكرة " الوطن البديل " الإسرائيلية ، فرأت مثلاً أن تعديلات قانون الجنسية سيوطن أبناء قطاع غزة ( الذين يحملون جوازات سفر أردنية مؤقتة) ممن تحمل أمهاتهم الجنسية الأردنية ، وهم كثر ، وكذلك حال فلسطينيين أمهاتهم قد يكن أردنيات من اصل فلسطيني . وهاجمت كذلك التوجهات الحكومية التي تهدف لتغيير مفاهيم المجتمع التقليدي المحافظ ، مستفيدة من غياب البرلمان ، وطالبت بالمضي في الحياة الديمقراطية الحقيقية معتبرة إياها الوسيلة الضرورية لدفاع المجتمع التقليدي عن حضوره وشرعيته .
 
انعكاسات الواقع الثقافي على المكونات الثقافية المباشرة
قلنا أن المجتمع خلال سنوات هذه المرحلة كان يتجه بمظهره نحو ثقافة العصبية وفي داخله غير المعلن هدف إنجاز مصالحه ،  ولهذا كان طبيعياً أن يتمثل الثقافة القادرة على إنجاز مصلحته حيثما كان مطلوباً منه الاختيار في تفاصيل الحياة اليومية !
ولقد كان للعولمة الناجزة في هذه المرحلة وأدواتها اكبر الأثر في التفاصيل اليومية التي لا علاقة مباشرة لها بإنجاز المصلحة .
وبيان ذلك كما يلي :
 1- التقاليد : لأن التقاليد حافظت على حضورها وتأثيرها خلال المراحل السابقة ، فإنها كانت جاهزة في هذه المرحلة لتوظيفها في سياق إنجاز المصالح  ، إلى جانب استقرارها كمرجعية لكثير من تصرفات الأفراد ذوي الثقافة المركبة . وهكذا أدت التقاليد ادواراً أساسية في مسائل الانتخابات النيابية  المقترنة بالوجاهة ، وفي قضايا " الواسطة " للغايات المختلفة .
 2- اللباس : اخذ اللباس مظهرين مفترقين لكنهما يصبان في تجاوز اللباس التقليدي ؛ أحدهما يعبر عن تزايد التوجه للتدين حيث كثر إقبال النساء على لبس الحجاب ( غطاء الرأس والملابس الفضفاضة) خاصة بين الفتيات وطالبات الجامعات ، والثاني يعبر عما أتت به العولمة حيث اتجهت جماعات من الشباب لتقليد اللباس الأميركي وقصات الشعر الأميركية ( كالمارينز : قصة شعر أفراد قوات مشاة البحرية الأميركية ) .
3- مكانة المرأة : بالتزامن مع تعزز مكانة المرأة نتيجة تزايد أعداد الفتيات اللاتي يحصلن على شهادات جامعية عليا ، فان تراجع الأحوال الاقتصادية  لمعظم الأسر الأردنية دفع النساء للانخراط اكثر فأكثر في سوق العمل بهدف زيادة دخول أسرهن ، ويعطي بالضرورة حضوراً اكبر للمرأة في المجتمع الأردني وشعوراً متزايداً عندها بالاستقلالية .
4- أوقات الفراغ واماكن الطعام : جاءت العولمة بأدوات جديدة لقضاء اوقات الفراغ ، خاصة الانترنت ومحطات التلفزيون الفضائية ، وامام كل منهما اخذ الفرد يقضي ساعات طوال يستفيد قليلاً ويتسلى ويقتل الوقت كثيراً. ومع الانترنت وانتشار اقتناء الهاتف الخلوي ظهرت عادات جديدة للتعارف خاصة بين الفتيان والفتيات ؛ مستخدمين برامج الحوار (chating) عبر الانترنت والرسائل القصيرة (messaging)  عبر الهاتف الخلوي ، وهذا تجاوز هام لسيادة العادات والتقاليد وتعزيز لاحساس الفرد باستقلاله ، أفاد كثيراً من انتشار اللغة الانجليزية وتعليمها . في الوقت نفسه وجدت المطاعم التي تحمل اسماء تجارية اميركية جمهوراً واسعاً في المجتمع الاردني، خاصة من الشباب ، ولانها كذلك فقد دخلت هذه المطاعم لعبة الدفاع عن الهوية التي استفزتها العولمة المتمثلة مباشرة بالسيطرة الاميركية على العالم بسياسات اعتبر العالم العربي والاسلامي معظمها ضد مصالحه ، وهكذا فانه ومنذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في ايلول من عام 2000 ، نظمت حملات واسعة في كثير من الاقطار العربية والاسلامية – والاردن أحدها – لمقاطعة هذه المطاعم ومعها المنتوجات الاميركية الاخرى . وفي السياق نفسه تزايد جمهور لعبة كرة القدم مع تزايد الاعتناء الحكومي باللعبة والاهتمام بتكوين منتخب كرة وطني قوي وقادر على الفوز بالبطولات ، وصارت مباريات كرة القدم التي تجمع اطرافاً قوية نقطة تجمع جمهوراً كبيراً يقضي من خلالها عدداً من ساعات وقته . وللمفارقة ، صارت هذه المباريات ايضاً متنفساً لتعبير الجمهور غير المتعلم / غير المثقف عن حالة الاتقان التي يمر بها المجتمع ، فراح بعد بعض المباريات الرئيسية يكسر المرافق العامة المحيطة ومعها السيارات والمحلات التجارية الخاصة، وظلت مثل هذه الأحداث تواجه بتدخل الأمن.
5-  الغناء والموسيقى : انتشرت مع هذه المرحلة أغاني "الفيديو كليب" القصيرة ذات الموسيقى السريعة ، واقبل الجمهور على سماعها بشكل ملحوظ ، وساعدت الفضائيات العربية على نشرها بكثرة خاصة وان منها هو متخصص بالموسيقى فقط . ومع ذيوع صيت مغنين ومغنيات عرب كثر ، ظهر مغنون أردنيون ومغنيات أردنيات يؤدون اللون نفسه من الغناء . لقد تزامن ذلك مع ظهور مغنين أردنيين يتمثلون اللون البدوي التقليدي، وفرق شعبية زادت بشكل ملحوظ تؤدي الفنون التقليدية في الرقص والدبكة لكل منطقة جغرافية ؛ إن ذلك اثر واضح للطريقة التي سادت بها ثقافة العصبية مظهر المجتمع الأردني  –بأصول أفراده المختلفة – خلال هذه المرحلة .
6- التعلم والعمل : رغم استمرار الإقبال على التعليم في المجتمع خلال هذه المرحلة ، فان الظروف الاقتصادية الضاغطة وتزايد نسبة البطالة خاصة بين الشباب دفعت بالمجتمع لتغيير نظرته إلى قيمة العمل اليدوي ، فبينما كان المجتمع بشكل عام ينظر بدونية للعمل اليدوي معلياً قيمة الوظيفة والمكتب ، فانه بات في هذه المرحلة يعامل العمل اليدوي معاملة أي عمل آخر ، حيث اقبل عدد كبير من الأفراد على هذا العمل في المجالات المختلفة حتى لو كانوا  حاصلين على شهادات جامعية . وقد نشطت الحكومة ووسائل إعلامها في التشجيع على هذا العمل ، واطلق أحد رؤساء الحكومات ( د0 عبد السلام المجالي ) لفظ " ثقافة العيب " للدلالة على تجنب أفراد المجتمع العمل اليدوي  خجلاً من نظرة المجتمع إليه ، داعياً لتجاوزها . ومن ناحية ثانية فقد تعززت مكانة القطاع الخاص خلال سنوات هذه المرحلة، ولاقى الشباب تشجيعاً اعلامياً لصياغة مبادرات فردية وتأسيس أعمال خاصة عوضاً عن انتظار الوظيفة الحكومية المتزاحم عليها بشدة لتزايد أعداد خريجي الجامعات بصورة تفوق كثيراً استيعاب سوق العمل . وهكذا فان الفرد الذي لا يقدر أن ينجز مصلحته (العمل) عبر وسائل ثقافة العصبية؛ أي الواسطة، ربما يقدر أن ينجزها وفق مفاهيم ثقافة المصلحة القائمة على قيمة الفرد ومبادراته ، وفي الحالين فان المهم هو إنجاز المصلحة !
على أن قيمة الحصول على الشهادة حافظت على مكانتها خلال هذه المرحلة ايضاً ، و اتجهت العائلات لإنفاق نسبة كبيرة من دخولها المتآكلة على تعليم أبنائها رغم التكاليف العالية للتعليم الجامعي الحكومي والعالية جداً للتعليم الجامعي الأهلي ، خاصة  في التخصصات الطبية والهندسية وكذلك في تخصصات علوم الكمبيوتر التي باتت لها مكانتها غير المسبوقة في هذه المرحلة بسبب انتشار استعمال الكمبيوتر. وفي الغالب فان الأسر الأردنية نظرت لاعتراف المجتمع بقيمة الشهادة لا لحاجة سوق العمل وإمكانية إيجاد مكان فيه بعد التخرج .
ومن المكونات الثقافية الأخرى التي تواصل حضورها في هذه المرحلة ، تمدد وانتشار العمارة الحديثة خاصة مع عودة نحو (300) ألف(54) من الأردنيين المقيمين في الخليج إلى البلاد بسبب أزمة وحرب الخليج .
 
خلاصـة
" الثقافة الوطنية "هي – عملياً – ثقافة القوى المسيطرة .                  
هذا ما يتضح من طبيعة الحراك داخل الثقافة الوطنية الأردنية المركبة ، إذ تبادلت كل من ثقافتي العصبية والمصلحة مواقعهما فيها بحسب تقدم أو تراجع القوى السياسية التي تستفيد أو تتضرر من سيادة إحداهما على حساب الأخرى .
فقد تقدمت ثقافة المصلحة خلال الخمسينات والستينات بينما كانت القوى السياسية العقائدية التي تستفيد من مفاهيم هذه الثقافة هي المسيطرة على الشارع الأردني وهي صاحبة الصوت المسموع فيه.
الشيء نفسه – مقلوباً – حدث خلال السبعينات والثمانينات عندما كانت القوى السياسية المستفيدة من ثقافة العصبية هي المسيطرة ، فقد شاعت مفاهيم هذه  الثقافة كما تبين خلال البحث .
وخلال التسعينات واصلت ثقافة العصبية تقدمها ، لسيطرة القوى المستفيدة من ثقافة العصبية على مقاليد مصالح الشعب ،فيما أطلت ثقافة المصلحة برأسها حيث لم يكن  على المصالح رقيب أو حسيب. ولوحظ ايضاً أن ثقافة المصلحة أخذت تتقدم في السنوات الأخيرة بما يتناسب مع رغبات الملك الجديد.
أما خارج نفوذ القوى السياسية المسيطرة ، فقد ظلت مفاهيم ثقافة المصلحة طيلة هذه المراحل المتتالية تحرز تقدماً في النواحي المتعلقة بالتحديث المتواصل لوسائل الحياة ، لان هذه الوسائل لم تقف في وجهها أغراض الصراع السياسي .
وهكذا يمكن القول أن المجتمع الأردني ظل يتقبل تقدم ثقافة المصلحة ويأخذ بمفاهيمها ، إلا في الأغراض التي تحقق فيها ثقافة العصبية مصلحته: الاختيارية (في بعض المراحل) أو الإجبارية (في أخرى) . 
 
هوامش الفصل الثاني
 
( 1) هاني الحوراني وايمن ياسين ، المرشد إلى مجلس الأمة الأردني الثالث عشر ، ( مركز الأردن الجديد للدراسات ،عمان ، 1999) ، ص 38 .
(2) المرجع السابق ، ص 38 .
(3) الماضي وموسى ، مرجع سابق ، ص 623 .
(4) هاني الحوراني، انتخابات تشرين الأول 1956 والمجلس النيابي الخامس ، في ( هاني الحوراني " معد" ،حكومة سليمان النابلسي ( 1956- 1957 ) ، ( مركز الأردن الجديد للدراسات ، عمان ، 1999 ) ، ص 33 ).
(5) الحوراني ويا سين ، مرجع سابق ، ص 39 .
(6) المرجع السابق ، ص 39 .
(7) تأسست نقابة المهندسين فعلياً في عام 1958 ، غير أن مجلس النواب كان نظر في مشروع قانونها منذ عام 1957 كما اقره مجلس الأعيان في شهر شباط من العام نفسه (1957) .
(8) هاني الحوراني ، نظرة تاريخية على تطور الدور السياسي للنقابات المهنية 1950 –1989 ، في ( هاني الحوراني وآخرون ، النقابات المهنية وتحديات التحول الديمقراطي في الأردن ، (مركز الأردن الجديد للدراسات ، عمان ، 2000) ، ص 20) .
(9) المرجع السابق ، ص 20 .
(10) السابق نفسه ، ص 20 .
(11) هاني الحوراني ، الحركة العمالية الأردنية 1948 - 1988 ، ( مجلة الأردن الجديد ، نيقوسيا ، 1989 ) ، ص 17 .
(12) خر ينو ، مرجع سابق ، ص ص 46 – 48 .
(13) المرجع السابق ، ص 50 .
(14) هاني الحوراني وآخرون ، دليل منظمات المجتمع المدني في الأردن ، ( مركز الأردن الجديد للدراسات ، عمان ، 2000)، ص 279 .
(15) سليمان موسى ، تاريخ الأردن في القرن العشرين 1958 – 1995 ، الجزء الثاني ، (مكتبة المحتسب ، عمان ، 1996)، ص 50 .
(16) المرجع السابق ، ص 54 .
(17) السابق نفسه ، ص 54 . ويسميهم موسى "المعارضين المتطرفين ".
(18) الحوراني ، مرجع سابق ، ص 22.
(19) الحوراني ، مرجع سابق ، ص ص 21 – 24.
(20) خرينو ، مرجع سابق ، ص ص 52 – 68 .
(21) الحوراني ، مرجع سابق، ص ، ص 23- 26 .
(22) الحوراني ، مرجع سابق ، ص 29.
(23) خرينو ، مرجع سابق ، ص 30 .
(24) المرجع السابق ، ص ص 52 – 77 .
(25) السابق نفسه ، ص 30 .
(26) موسى، مرجع سابق ، ص 7 .
(27) الحوراني ، مرجع سلبق ، ص ص 101 – 102 .
(28) التعبير لسليمان موسى ، مرجع سابق ، ص 2 .
(29) جعفر طوقان ، عمارة الاردن وفلسطين ما بين1950 –1970 ( ورقة عمل مقدمة إلى المؤتمر الدولي الثاني لتاريخ الأردن الاجتماعي ، عمان ، تموز 2000) ، ص 3.
(30) موسى ، مرجع سابق ، ص 9 .
(31) د0 علي محافظة ، مناقشة لورقة عمل بعنوان " أزمة نيسان 1957" في ( الحوراني مرجع سابق  ، ص 202 ).
(32) المرجع السابق ، ص 202 .
(33) موسى ، مرجع سابق ، ص ص 368- 371 .
(34) نقول " عادت " لأنها كانت هي بالفعل أداة تمثيل المجتمع وكان شيوخها "الممثلون الطبيعيون للرأي العام " حتى سنة 1948 كما يقول المؤرخ سليمان موسى في المرجع السابق ، ص 364.
(35) هداوي ، مرجع سابق ، ص 240.
(36) الحوراني ، مرجع سابق ، ص 33.
(37) الحوراني وياسين ، مرجع سابق ، ص ص40 – 41 .
(38) الحوراني وآخرون ، مرجع سابق ، ص ص46 – 50 .
(39) المرجع السابق ، ص 14 . وذلك للفترة من ( 1973 – 1985).
(40) موسى ، مرجع سابق ، ص 433 .
(41) د0 جواد العناني ، فلسفةالاقتصاد الأردني بين الفكر والتطبيق خلال نصف القرن الماضي ، في ( حما رنة ، مرجع سابق  ، ص  92 ) .
(42) خرينو ، مرجع سابق ، ص 35 .
(43) المرجع السابق ، ص 26 .
(44) السابق نفسه ، ص 32 .
(45) الحوراني ، مرجع سابق ، ص 110.
(46) خاصة الحزب الشيوعي الأردني وكذلك قوى ماركسية أخرى . انظر مثلاً : سامر خرينو، صحافة الشيوعيين في الأردن 1949 – 1970 ( ورقة عمل مقدمة إلى المؤتمر الدولي الثالث لتاريخ الأردن الاجتماعي ، عمان ، أيار 2002) ، ص 14 .
(47) الحوراني ، مرجع سابق ، ص 110 .
(48) غرايبة ، مرجع سابق ، ص 87 .
(49) المرجع السابق ، ص 87 .
(50) الدستور الأردنية ، 6 / 1 / 2003 ، ص 30.
(51) شارك في انتخابات عام 1993 تسعة عشر حزباً سياسياً من اصل عشرين قائمين وقتها ، غير أن النواب الحزبيين الفائزين من غير الإخوان المسلمين لم يتجاوز عددهم العشرة، معظمهم  من أحزاب الاتجاه التقليدي المقرب من السلطات. أما انتخابات عام 1997 فقد قاطعتها ثمانية أحزاب من اصل (19) قائمة حينها ، على رأسهم الإخوان المسلمون ، وبداعي الاعتراض على تمسك الحكومة بمبدأ الصوت الواحد ، ولهذا فان نتائج هذه الانتخابات لا تعطي دلالات مفيدة في سياق الحالة الثقافية للمجتمع الأردني ، سوى في إطار اعتماد المرشحين على المساندة العشائرية والمناطقية على الطريقة نفسها التي تمت في انتخابات عام 1993 ، بل وبصورة اكثر وضوحا ومباركة من المجتمع .
(52) في جريدة الرأي الأردنية اليومية ، نشر الدكتور وجدي المومني ( من الملاحظ انه يحمل شهادة جامعية عالية) المقال التالي معبرا عن عدم اقتناعه داخلياً بالنمط العشائري الذي يؤديه، ومعبراً كذلك خير تعبير عن ما ذهبنا إليه في توصيف الحالة الثقافية للمجتمع الأردني في هذه المرحلة ، حيث كتب تحت عنوان " العشائرية والروبوت 000 نحن والعالم " بتاريخ 13/ 12/202 ، ص 17 ما يلي :
"بالأمس شددنا الرحال نحن مجموعة من الرجال ومن وجهاء العشائر المتواجدين في العاصمة بتكليف من الطرف المعتدي للتوجه إلى مضارب الطرف المعتدى عليه وذلك لأخذ عطوة ولتطييب الخواطر وفض النزاع ، وتم الاتفاق على أن تصل هذه الجاهة المؤلفة بدون مبالغة من اكثر من (20) عشرين رجلا إلى منزل المعتدى عليهم في تمام الساعة السابعة مساء ، والى أن تجمع هؤلاء الوجوه قبل الموعد بنصف ساعة ذهبنا إلى الموقع وكان باستقبالنا عدد يفوق عدد رجال الجاهة وجرت الطقوس المتعارف عليها من الترحاب وعبارات المجاملة ولكن الجميع متجهم عابس (ومكشر) وفاض المكان بهذه الجموع ، ونحمد الله أن كان الطقس باردا ، إلى أن قدمت القهوة السادة – فنجان العطوة أو ما يسمى بفنجان الجاهة وخاض الخطباء معارك خطابية ضارية تخللها كثير من الوعيد والتهديد والمطالبات بالإجلاء ، وتعذر علية المستقبلين بان هناك جهّالا ولا يستطيعون السيطرة عليهم وربما يقومون بأعمال عنيفة تؤدي بحياة المعتدين ، إلى أن توصلنا في النهاية إلى صك العطوة لمدة عشرة أيام وذيّل هذا الصك بان أهل المعتدى عليهم لا يمانعون من تكفيل المعتدين الذين رحّلوا إلى الجويدة والذين حلقت رؤوسهم ، إلى هنا كانت الصورة مقبولة ومعتادة ، ووقع أعضاء الجاهة الكريمة كما وقع هذا الصك المستقبلون للجاهة ، ولم يغفل أن يكون هناك كفلاء "وفاء" وكفلاء " للدفا " كما هي العادة . وخرجنا وإذا بالساعة تعلن العاشرة تماما ، ومضت أربع ساعات تقريبا من تحضير ومداولات لفك اشتباك ناتج عن (شجار أطفال) !! ووصلت بعدها إلى المنزل فرحا بهذه النتيجة وبان الأمور ربما عادت إلى مجاريها خصوصا انه بين هاتين العشيرتين نسب ورابطة قرابة !! وبعد أن تناولت طعام العشاء ، أخذت اقلب محطات (الهوائيات) ، وفجأة رأيت برنامجاً حول (الربوت العملاق) الإنسان الآلي الضخم، وهذا الجهاز صمم على شكل ديناصور عظيم عملاق ، يخرج من فمه لهب ونيران ويطحن بين فكيه ثلاث سيارات مجتمعة ، وطوله اكثر من 30 مترا ويسيطر عليه من قبل رجل واحد بواسطة أزرار تحكم ، هذا الجهاز قبل أن كلفته 3 ملايين دولار ، وسرحت بما كنت فيه قيل ساعة عندما كنت بالجاهة وبأحلامي الصغيرة جدا في أن تحل مشكلة شجار الأطفال وفي الوقت نفسه متأملاً ضخامة العملاق الآلي وكيف هذا (الربوت العملاق) يسيره ويتحكم به رجل واحد ، وأربعون  رجلا يحاولون حل مشكلة شجار أطفال تحول إلى قضية عشائرية ، هؤلاء الاربعون بينهم محامون وأطباء وشيوخ عشائر ورجال أمن متقاعدون ! والادهى من ذلك انه في اليوم التالي لم يقبل القاضي تكفيل المحتجزين .هذه أحلامنا ، وتلك هي أحلامهم ونحن نعيش في عصر واحد 0 0 0 كم هي المسافة ؟ وكم هو كبير ذلك التناقض؟! "
(53) الحوراني وياسين ، مرجع سابق ، ص 33.
(54) الحوراني وآخرون ، مرجع سابق ، ص 15 .
 
الفصل الثالث
 
انعكاسات الثقافة الوطنية المركبة:
بحث في الخطاب
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
بحثنا في الفصل السابق معالم الثقافة الوطنية الأردنية من داخلها ، بما يقدم توصيفها        لموقعها على خريطة الثقافات الوطنية الإنسانية الأخرى .
وستكون مهمة هذا الفصل بحث انعكاسات هذا التوصيف على ملامح أساسية للسلوك العام للأردنيين ، بعد أن كنا تطرقنا في الفصل الثاني ، وفي كل مرحلة على حده ، للانعكاسات على المكونات الثقافية المباشرة المتغيرة من مرحلة لأخرى .
لإنجاز هذه المهمة ، سنلجأ إلى البحث في خطاب الأردنيين " الثقافي " المعبر عن قناعاتهم التي تتم ترجمتها على شكل سلوكيات " وطنية " عامة . وحيث أن أدوات الخطاب النمطية – كالبيانات و الخطب والمقالات الصحفية ، 000 الخ – لا تفي وحدها بالغرض لأنها في العادة أدوات بأيدي  النخب السياسية والاجتماعية ، فان من اللازم إيجاد أدوات أخرى تبين خطاب الشارع والعامة ، يتم بحثها حيث يلزم إلى جانب تلك الأدوات النمطية .
لهذه الغاية ، سنتتبع ما أرخت له مجموعة من الأعمال الروائية ذات الطابع السياسي الاجتماعي، والتي كتبها روائيون أردنيون وسجلوا فيها ملامح خطاب الشارع الأردني في المراحل المختلفة ، بما فيها تلك التي شهدت حظراً سياسياً وتقييداً للحريات ، سواء عبر سرد أنماط من هذا الخطاب أو عبر وصفه ورصد محتواه عملياً . وتنبع أهمية الرواية الأردنية في هذا الصدد من أن الكاتب في كثير منها "كان يرسم بفنه ما حدث وما كان يحدث"(1) كما يرى نقاد ادبيون، خاصة إذا كان  الكاتب قد عاصر بنفسه الفترة التي تتناولها روايته .
أما مجالات الانعكاس الثقافي التي سيتم بحثها ، فتتنوع بين الخصوصية الوطنية والمهمات الدفاعية والتسييس و السلوك المركب.
على أن من المهم ملاحظة أن من هذه الانعكاسات ما هو نتيجة غير مباشرة للظروف التي صنعت الثقافة المركبة في المجتمع الأردني أو ما حافظت عليها خلال المراحل المتعاقبة ، ومنها ما تأثر بها في أنماط السلوك العامة للأردنيين . كما من المهم القول أن الأحوال القادم شرحها ليست انعكاساً للحالة الثقافية فقط ، بل أن لكل منها ظروف أخرى داخلية وخارجية ساهمت في صنعها وحددت نمطها في حياة الأردنيين .
 
1 – ضبابية حدود الخصوصية الوطنية
 
ما هي  "الوطنية" ؟  ومن هو "الوطني" ؟
لقد كان من نتائج الشد والجذب الذي ولّد الثقافة المركبة أن اضطرب مفهوم " الوطنية " في المجتمع الأردني ، كاستمرار لتلازم هذا المفهوم مع الهويتين العربية والإسلامية اللتين يحملهما الأردنيون .
هكذا تنوع معنى الوطنية من التأكيد على الانتماء العربي إلى الدفاع عن المصالح الطبقية إلى التنبيه للمصالح الأردنية ، ولذلك نجد القوى اليسارية في مراحل قوتها تسمي نفسها " القوى الوطنية" ، فيما بات اللفظ نفسه في مرحلة تالية : في التسعينات ، يعبر عن القوى التي تجد انتماءها الأساسي في الوطن الأردني .
يرصد زياد قاسم روايته "أبناء القلعة" معنى هذا المفهوم في النصف الأول من الخمسينات حين يتعرض لدور " جورج " أمين المكتب الطلابي لحزب البعث في عمان ، فهو:"  عنصر مهم يعتمد عليه الحزب في استقطاب الطلبة إلى صفوفه ، كذلك في إثارة الحمية الوطنية بينهم، وتنظيم المظاهرات الطلابية وقيادتها"(2) 00 لقد "شعرا بالدفء في صدريهما عندما أحاط بهما جورج ورفاقه يحدثونها عن الوطن الواحد والشعب الحر والمجتمع الواحد"(3).
وهكذا فالوطن في هذا الخطاب الشعبي هو الوطن العربي ، والوطنية هي العروبية 0 وهو ذاته الخطاب السائد عشية حرب حزيران عام 1967 الذي يرصده قاسم متحدثاً عن انقسام حزب البعث بعد الانقلاب في سوريا عام 1966 : " القيادة القومية الشرعية لم يعد لها وجود ، لا أحد يعرف عنها شيئاً أو يسمع منها خبراً ، والرفاق في الأردن بين تناقض المواقف التي يسمعونها وتشتت التنظيم وغيابهم عن الأحداث الجارية صاروا أقل الحركات الوطنية أثراً"(4)، ثم يقول عن اعتقالات عام 1966 التي طالت قيادة البعث فـي الأردن :  " في كل منزل في الحي وكل ركن في المدينة ، وفي البلاد على ضيقها والوطن على اتساعه ، العالم كله سمعك0 0 "(5). الوطن هو ذاك العربي الواسع .
ولقد كان من نتائج هذا النمط الخطابي أن عوملت الإنجازات داخل الأردن من زاوية أنها جزء من الإنجازات العروبية الوطنية الساعية للنهضة والتحرر دون أي خصوصية أردنية ، هكذا يعامل مثلاً حدث تعريب قيادة الجيش الأردني عام 1956 وإقصاء رئيس أركانه الإنجليزي .
وفي جانب آخر من هذا الخطاب الشعبي في المرحلة نفسها ، تكون " الوطنية " هي مهمات النضال الطبقي ، خاصة عند الشيوعيين . يروي طاهر العدوان في روايته " حائط الصفصاف" حواراً يبدأ به شخص اسمه " جابر " سائلاً الشيوعي " فريد " :
" – لماذا لا تتزوج يا سيد فريد ؟
-وهل يتزوج الراهب ؟
 -لا .
- أنا راهب وطني "(6).
أما الوطنية بمعنى الأردنية ، فتظهر في المرحلة التالية خصوصاً في منتصف الثمانينات ، كما يظهر مثلاً في رواية جمال ناجي " الحياة على ذمة الموت " : " يزدحم الناس في المنازل والشوارع قلقاً وهلعاً على مصير كدهم وجهدهم و أموالهم ، يزدحمون دون أن يدركوا أيا من أسرار الرياح التي تعصف بالوطن"(7). غير أن هذا المعنى يتعزز في التسعينات ، كما ينقله مثلاً مؤنس الرزاز على لسان أحد رجال السلطة السابقين في رواية "الشظايا والفسيفساء" : "تصور يا رجل أن هؤلاء الهدامين المخربين( يقصد الشيوعيين ومجمل القوى اليسارية ) الذين احتلوا مواقعنا باتوا يصفوننا علناً بأننا رجال العهد العرفي ، ونحن كنا ننفذ تعليمات ، صحيح أننا كنا نحرض ، ولكن لمصلحة البلد ، نحن أصحاب الولاء للوطن لا هؤلاء"(8).
خطاب السلطات من ناحيته ظل يفسر الوطنية على أنها تلك النابعة من الدولة الأردنية، لذلك فان " الوطنية " ظلت تعني منذ الخمسينات وحتى حرب حزيران 1967 تلك القائمة على وحدة الضفتين . وكان طبيعياً أن يتأثر هذا النمط باحتلال الضفة الغربية ، ليصير معنى الوطنية وحدة الشعب ( الوحدة الوطنية ) على الأرض الأردنية من كافة الأصول . هذا ما نستطيع أن نرصده في الإعلام الحكومي ، فالإذاعة مثلاً أنتجت أغانٍ تعزز تلك الوحدة بين الضفتين مثل " وين ع رام الله "(9) ، وفي المرحلة المتأخرة وخلال الترويج لشعار " الأردن أولا " في عام 2002 قدمت الإذاعة وكذلك التلفزيون اعلاناً يتحدث من خلاله و يصور أردنيين من كافة الأصول على اعتبار انهم مجتمعين يمثلون "الوطنية الأردنية".
في السياق هذا نفسه ظهرت أنماط خطاب خلال التسعينات والسنوات الأولى من الألفية الثالثة بدا أن طروحاتها حول " الوطنية " تخطو خطوة إضافية بعد ما سبق شرحه ، فتراها في النظام العشائري وإفرازاته السياسية . هذا ما يلمح له مثلاً الكاتب الصحفي عبد الله أبو رمان بقوله: "العشائرية الأردنية ليست دعوة قبلية ولا هي بالظاهرة الرجعية المعيبة ، وإنما هي صمام الأمان الاجتماعي ، وهي الأقدر على خوض معارك الوطن"(10).
هذا الخطاب استفز أصحاب التفسير المغاير للوطنية ، فكتب القومي مازن الساكت عن بيان حول العلاقة الأردنية الفلسطينية صدر موقعاً باسم " التيار الوطني الأردني " يصف محتواه بأنه " موقف انعزالي يطالب بتجزئة المجتمع الأردني ويختزل الهوية الوطنية الأردنية باسم حماية الأردن"(11) أي انه ينتقد محاولة هذا التيار مصادرة "الوطنية" لنفسه .
أما البرلماني اليساري بسام حدادين فيقول متهماً : "منذ ظهور إرادة التغيير في العهد الجديد بدأت تظهر في ساحاتنا السياسية ظاهرة الوطنيين الجدد 00 التي رفع منظروها شعارات في شكلها الخوف على الوطن و في باطنها الخوف على مصالحهم وامتيازاتهم ومكانتهم الاجتماعية السياسية 0 0فتراها تستنجد بالعشائرية السياسية"(12) .
من المهم التنبه إلى أن القوى التي اعتادت أن تنسب " الوطنية " إلى نفسها ، على اختلاف تفسيرها لهذه الوطنية، إنما هي تحافظ على خطابها وتفسيرها هذا في كافة المراحل ، فالقوى الوطنية –مثلاً –لم تتنازل عن اعتبارها نفسها "الوطنية" في التسعينات حينما بات هذا المصطلح يعني في الشارع " الأردنية " تماماً كما كانت قوى " الوطن الأردني " في الخمسينات تعتبر أنها هي الوطنية فيما كان يحمل هذا اللفظ في الشارع تفسيرا ت أخرى . غير أن تقدم تنظيم سياسي ما في الشارع يعني تقدم خطابه ، وبالتالي تبني تفسيره للوطنية، ومن هنا مصدر ضبابية حدود هذه الوطنية في الشارع الأردني ، إذ يلاحظ أن الصراع السياسي – الثقافي الذي عاشته البلاد سنوات طوال ؛ على الأقل بين أعوام (1957 –1989)،  هو الذي أدى إلى التباس هذه الوطنية نتيجة تغير تفسيرها في الوعي الشعبي من مرحلة إلى أخرى ، بحسب القوى المسيطرة صاحبة الصوت المسموع .
 
 
 
2 – اضطراب المهمات الدفاعية
 
تدعي كل ثقافة – من حيث هي مجموعة من القيم والمعايير –أنها الأصلح للدفاع عن الشعب .
لذلك فان الشعب : مجموعاته ، أفراده ، حين يتبنى ثقافة ما فانه يحمّلها  مهمة انجاز الدفاع عن قضاياه .
لكن ، ونتيجة استعمال الثقافة أداة في الصراع السياسي في البلاد ، فقد تبينا من خلال الفصل الثاني كيف تحولت المهمات الدفاعية الوطنية المفترضة للثقافة إلى مهمات للدفاع عن مصالح ضيقة فئوية أو جهوية أو حتى فردية خلال التسعينات 0 وهكذا لم يعد للتنافس الثقافي داخل المجتمع الأردني بين كل من ثقافتي العصبية والمصلحة ذلك الطابع النضالي المفترض –إلا قليلاً- فحقيقة التنافس صارت تحقيق تلك المصالح الضيقة التي لا أفق وطنياً لها .
هذا ما يرصده مثلاً مؤنس الرزاز في روايته " مذكرات ديناصور " شارحاً كيف استعملت ثقافة العصبية لتحقيق مصلحة شخصية لفرد لا يؤمن بها أصلا لأنه عقائدي وذلك خلال الانتخابات النيابية عام 1993 : "0 0 وكي يضمن المرشح الأممي الذي استنكر الأممية تلبية لشروط العشيرة التي لا تحب الملحدين أصوات أبناء العشيرة ، وتجنباً للمراوغة والمداورة والحنث بالوعد ، اجمع وجهاء العشيرة على أن يكون التصويت للمرشح الاممي أميا ، أي أن يذهب كل مقترع إلى الصندوق ويقول للموظف المسؤول انه أمي يجهل فك الحرف ، ويطالبه بكتابة اسم المرشح بدلاً عنه ، مما يمكن المقترع الذي قد يحمل شهادة دكتوراه من هارفارد أن يلفظ اسم مرشح العشيرة بصوت مرتفع وبهذه الطريقة يسمع مندوب المرشح الواقف إلى جانب صندوق الاقتراع الاسم بوضوح ويطمئن إلى أن المقترع لم يحنث بقسمه ولم يسرب صوته عبر الاقتراع السري إلى مرشح غير مرشح العشيرة "(13) .
أما على صعيد النخب الاجتماعية ، فقد باتت الثقافة بنوعيها : العصبية والمصلحة  –في التسعينات وما بعدها – سلاحاً للصراع على أساس الأصول الجغرافية ، ولم يتوقف الأمر عند حدود الصحافة ، بل بلغ منابر مجلس النواب نفسه . وهكذا فبعد أن كانت الثقافة الوطنية أداة دفاعية جمعية في المراحل السابقة ، باتت أخيرا أداة للصراع الداخلي تستخدمها كل فئة " للدفاع " عن نفسها .
 
3- التسييس الانفعالي ونظرية المؤامرة
 
يفترض بالمجتمع المسيس أن يقيم علاقاته الداخلية على أساس الأفكار السياسية : تجمعه أو تفرقه ، أما حين يقيم علاقاته على أسس أخرى لا تأخذ " الأفكار" بالاعتبار ، فان اهتمامه بالسياسة إنما يكون انفعالياً .
والمعروف ان الشعب الاردني يظن نفسه مسيساً ، بل ومن اكثر الشعوب العربية تسييساً نتيجة وقوعه دائماً في قلب الحدث السياسي الاقليمي ، خاصة ذاك المتعلق بالقضية الفلسطينية . وهذا صحيح ، لكن من زاوية الاهتمام بالحدث السياسي ، وليس من زاوية القدرة على الاندماج في الحدث فهماً ومشاركة ، ولهذا فان هذا الاهتمام يظهر انفعالياً غير موضوعي . من هنا يمكن تفسير سيطرة " نظرية المؤامرة " على تفكير الشعب الاردني ؛ فكل حدث وكل قضية يرى وراءها مؤامرة منظمة ، واذا كان الحدث يتعلق بالمنطقة العربية فهو يستهدف العرب والمسلمين ، بل يذهب البعض لتفسير الحدث الاردني الداخلي وفق النظرية نفسها . وكما يتضح فـ "المؤامرة " نظرية انفعالية قليلاً ما تكون موضوعية .
لنلاحظ كيف ظن الناس أن بائع الهريسة (أبو علي) في رواية حائط الصفصاف متآمراً لانه ارتبك حين سمع بقدوم غارة لطائرات العدو فلم يتمكن من اطفاء مصباحه اليدوي الصغير:"00  غير أن الخوف والغضب امتلكا نفس ابي تيسير وهو يرى ابو علي يعبث في مصباحه بحركات غريبة ، يوجهه تارة نحو السماء ومرة نحو سيارات الجنود وثالثة الى ما بين قدميه فصرخ به : اطفي الضو 0 0 آه يا جاسوس0 0 تريد ان ترشد الطائرة علينا . وسرعان ما سرت بين الناس كلمة جاسوس واحدثت جلبة وصخباً في  الظلام وشوهد ضابط ينزل من سيارته مستفسراً 0 0 واحتاج الامر ان يقضي ابو علي ليلته في المخفر لكي يقنع الضابط بصدق روايته وثبتت براءته مع انتشار ضوء الصباح "(14) .
للسبب نفسه اعتاد كثيرون ان يفسروا الاحداث العالمية على انها مؤامرة على العرب والمسلمين ، وتبدى الامر واضحاً منذ ازمة الخليج (90 / 1991) وهي مرحلة تفردت فيها الولايات المتحدة بالسطو على العالم ، متزامنة مع بروز ظاهرة التدين في المجتمعات المسلمة، ومنها المجتمع الاردني ، بشكل غير مسبوق ، ولهذا الامر ظهر التدين عاطفياً شديد الانفعالية خاصة حين يتعلق بتفكير المرء في شؤون السياسة . هذا ما اشار اليه مثلاً الكاتب الصحفي رشاد ابو داود وهو يروي ما تنقله ابنته ذات الاحد عشر ربيعاً عن ألسنة الناس مفسرة رغبتها في لبس الحجاب ، اذ اشارت الى خريطة العالم قائلة ان مناطق التوتر والحروب هي مناطق المسلمين : الشيشان ، افغانستان ، العراق ، فلسطين 0 0 أليس المسلمون هم المقصودون اذن؟(15) وهو خطاب شاع كثيراً في هذه المرحلة على اعتبار ان هناك مؤامرة عالمية على "الاسلام " لا على المسلمين فقط ، وهو ما يفسر حصول الاحزاب الاسلامية على نسب عالية من اصوات الناخبين حيثما جرت انتخابات نزيهة في العالم الاسلامي .
غير ان هذه الانفعالية العاطفية تأثرت ايضاً بحالة الحريات المقيدة التي عانى منها المجتمع الاردني – ومعه مجتمعات عربية واسلامية كثيرة – اذ ان غياب حرية المعلومة سيعوض عنه بالضرورة بتلك التفسيرات الانفعالية للأحداث ، هذا الى جانب أن المجتمع ظل في جل قضاياه يتعرض من قبل القوى ذات الصوت المسموع (السلطات ، المعارضة ،0 0) الى خطاب يذكي عواطفه ويؤسس وعيه عليها : تارة للتحرير، واخرى لنصرة الدين، وثالثة للحفاظ على الهوية التقليدية والتراث الشعبي، وهكذا 0 0 وهو خطاب طال ايضاً مناهج التعليم التي يتلقاها الفرد منذ نعومة أظفاره.
لنلاحظ مثل هذا الخطاب الموجه للعواطف الدينية في بعض ما كانت تنشره صحف أصدرتها جهات تتبنى الاسلام السياسي ، فقد كتبت صحيفة الرباط الاسبوعية التي كانت تصدرها جماعة الاخوان المسلمين في الاردن تعقيباً على خبر مفاده ان  موسكو اعلنت انها لن تفسد علاقتها مع واشنطن بسبب الخليج ( خلال حرب الخليج 1991 ) وبعنوان عريض : " الشيوعيين والماركسيون والاشتراكيون العرب : عودوا الى الاسلام ، فلم يبق لكم بعد اليوم عذر (16) ".
ولنلاحظ كذلك كيف ان الخطاب العاطفي نفسه يؤسس عليه ايضاً العمل السياسي ، حيث كتبت الصحفية نفسها في عدد لاحق موجهة خطابها الى اعضاء جماعة الاخوان المسلمين : " اولئك الذين يغرونكم بالاستمرار في الكتابة فانهم يريدون التفكه على المائدة الاخوانية 0 0 فيا ايها الاخوان كونوا على وعي انكم لستم كغيركم(17) .
         وهذا التسييس الانفعالي طال كافة مراحل التاريخ الأردني / العربي المعاصر ، وتلازم كما هو معروف مع الحروب / الهزائم الممتدة عبر سنوات النصف الثاني من القرن العشرين .
 
 
4- الشخصية المركبة 
 
من الطبيعي ان تنتج الثقافة المركبة لدى الفرد الواحد شخصية مركبة في سلوكها ، تارة تتناقض افعالها مع اقوالها واخرى تتناقض انماط افعالها من موقف لآخر .
في بيان علاقة الثقافة المركبة بهذا النوع من الشخصية ، يقول أحد علماء الاجتماع : " إن المهاجر الريفي او البدوي الذي يقطن المدينة يعيش تحت وطأة تيارين ثقافيين متناقضين : احدهما يدفع نحو التمسك بالقيم التقليدية والاخر يدفعهم نحو الاخذ بالقيم الحضارية التي تنتشر بينهم شيئاً فشيئاً ، ويضطر بعض الأفراد من جراء ذلك الى الاندفاع وراء احد النظامين تارة ووراء الآخر تارة اخرى ، فيناقضون انفسهم دون اكتراث ظاهر"(18). وقد تبينا من خلال الفصول السابقة ان معظم سكان المدينة الاردنية ، وبالذات عمان ، هم من اصول ريفية بدوية.
        وكثيراً ما تتطور هذه الحالة التركيبية عند الفرد الى الانتهازية والفهلوية المقترنة بالنفاق والكذب. ان الشعوب التي تعيش مقيدة الحريات تتجه بالضرورة الى مثل هذه السلوكيات لتحصّل حاجاتها لدى السلطات ، كما ان المجتمعات التي تعيش ضيقاً اقتصادياً يتجه افرادها لمجاراة كل من يملك قدرة على انجاز حاجاتهم (كأصحاب العمل ، اصحاب النفوذ ، 0 0) ، ولما كان هؤلاء الأخيرين  ينتمون لثقافات مختلفة او لنسب متباينة من الثقافة المركبة ، فان تلك المجاراة تصير اكثر نفاقاً وتملقاً، اذ يضطر الفرد صاحب الحاجة بالضرورة لتحوير نمط ثقافته الذاتية اثناء خطابه لمالك الحاجة لتجاري نمط ثقافته .
وقد انعكس هذا الواقع على الامثال الشعبية التي يستعملها الأردنيون في خطابهم، مثل: "اللي يعتاز الكلب يقول له يا سيدي احمد" و "بوس الكلب من ثمه حتى تأخذ حاجتك منه"(29).
ونتيجة لهذه الشخصية المركبة تنتج صفات مثل اتساع الهوة بين الاقتناع والتقبل (مثلاً: يقتنع الفرد بزوال الحاجة الى الكرم المبالغ فيه ولكنه في المناسبات يوغل في الكرم التظاهري كثيراً ) ، ومثل العيش مع التناقض (بين ما يظهره او يبطنه وبين ما يقوله او يعمله امام الناس وما يقوله او يعمله في غيابهم)، ومثل تبرير التناقض بعبارات غير منطقية، ومثل مساواة الكلام بالأفعال؛ فان ألقى المرء خطبة عصماء عن التحرير ظن نفسه شارك فيه فعلاً، وأخيراً مثل غموض التفكير؛ أي باطنية العقل وعدم تقديمه أفكاره بوضوح وبشكل كامل(20).
وخارج هذه السلبيات ، فان الثقافة المركبة تنتج بالضرورة خطاباً مركباً ، تشده مضامين الحداثة والتقليدية معاً ، ولعل ابرز ما "أبدعته" هذه الثقافة المركبة من خطاب مقولة "الأصالة والمعاصرة" ، أي أن الفرد (عموماً العربي والمسلم) يريد ان يعيش الماضي والحاضر في اللحظة نفسها وهي مقولة تشي بحجم الاضطراب في الشخصية المركبة .
       


هوامش الفصل الثالث
(1)  د0 سليمان الازرعي ، مؤشرات التحول الاجتماعي في الرواية الأردنية ( ورقة عمل مقدمة إلى المؤتمر الدولي الثاني لتاريخ الأردن الاجتماعي ، عمان ، تموز 2000) ، ص 11.
(2) زياد قاسم ، أبناء القلعة ، ( المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1998 ) ، ص 65 .
(3) المصدر السابق ، ص 66 .
(4) السابق نفسه ، ص 395 .
(5) السابق نفسه ، ص 396 .
(6) طاهر العدوان ، حائط الصفصاف ، ( دار الكر مل ، عمان ، 1990 ) ص 104 .
(7) جمال ناجي ، الحياة على ذمة الموت ، ( المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1993 ) ، ص 105 .
(8) مؤنس الرزاز ، الشظايا والفسيفساء ،( المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1994 ) ، ص ص 59 – 60 .
(9) محمد عبد الله الجريبيع ، الإذاعة الأردنية في الخمسينات والستينات ( ورقة عمل مقدمة إلى المؤتمر الدولي الثالث لتاريخ الأردن الاجتماعي ، عمان ، آبار 2002 ) ، ص 10 .
(10) الرأي الأردنية ، 16/ 10 / 2000 ، ص 23 .
(11) الدستور الأردنية ، 16 /9/ 2000 ، ص 20 .
(12) الرأي الأردنية ، 20 /7 / 2000 ، ص 23 .
(13) مؤنس الرزاز ، مذكرات ديناصور ، ( المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1994 ) ، ص 59 .
(14) العدوان ، مصدر سابق ، ص 140 .
(15) الدستور الأردنية ، 8 / 1 / 2003 ، ص 24 .
(16) انظر: سامر خرينو ، الصحافة الإسلامية والتعددية السياسية في الأردن 1990 – 2000،  ( دار الينابيع ، عمان ، 2001 ) ، ص 71 .
(17) المرجع السابق ، ص ص 71 – 72 .
(18) العبارة للعراقي علي الوردي ، نقلاً عن : د0 احمد الربايعة ، الشخصية الأردنية سماتها وخصائصها ، ( بلا دار نشر، عمان ، 1999 ) ، ص 49 .
(19) المرجع السابق ، ص 51 .
(20) انظر : حسني عايش ، مرجع سابق ، ص ص 37 – 46 .
 


 


 
 
الملاحق


ملــحق رقــم ( 1 )
جـــداول
جدول رقم (1)
تطور عدد سكان عمان إلى إجمالي سكان الأردن (*)
 
العام
عدد سكان عمان
إجمالي عدد السكان
( الضفة الشرقية )
النسبة
1950
117775
600000
20%
1961
433618
900776
48%
1969
905000
1600000
57%
1979
1137170
2132997
53%
1984
1427300
2595100
55%
1994
1576908
4095579
39%
 
 عن : د 0 عبد المجيد الشناق ، المدخل إلى تاريخ الأردن وحضارته ، ( بلا دار نشر ، عمان ، 2000)، ص ص 33 – 37 . بتصرف .
(*) إحصاء عام 1950 يشمل مدينة عمان وحدها ، أما الإحصاءات الباقية  فتشمل سكان محافظة العاصمة التي تضم إلى جانب مدينة عمان مدينة رئيسية أخرى هي الزرقاء وتجمعات سكانية أخرى اقل كثافة مثل مادبا ، في حين أن إحصاء عام 1994 يشمل مدينة عمان وتجمعات سكانية صغيرة حولها لا تكاد تذكر وهذا ما يفسر انخفاض النسبة . وهكذا فان الإحصاءات الأربعة التي تسبقه توضح تضخم مدينتي عمان والزرقاء وهما اكبر مدينتين من حيث عدد السكان . مع ملاحظة أن عدد سكان القرى المحيطة بكل من عمان والزرقاء قليل جداً قياساً  إلى عدد سكان المدن .
 
 
 
 
 
 
جدول رقم (2)
أنماط الأسر في المجتمع الأردني وتوزيعها عام 1977م
 
           نمط الأسرة
 
نوع المنطقة
الأسرة النووية
الأسرة الممتدة
أخرى (أسر مفككة، أفراد يعيشون سويا)
العدد
النسبة
العدد
النسبة
العدد
النسبة
المناطق الحضرية
5709
56%
1396
52%
523
45%
المناطق شبه الحضرية
1401
14%
373
14%
165
14%
المناطق الريفية
3099
30%
894
34%
483
41%
المجموع
10208
100%
2663
100%
1172
100%
 
عن : د. مجد الدين عمر خيري ، العلاقات الإجتماعية في بعض الأسر النووية الأردنية ، (الجامعة الأردنية ، عمّان ، 1985م) ، ص 44 ،  بتصرف.
   
                              
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
جدول رقم (3)
تطور التعليم الجامعي في الأردن
العام
الطلبة الجامعيين في الداخل
الطلبة الجامعيين في الخارج
المجموع
إجمالي عدد السكان (الضفة الشرقية)
1950
ــ
مئات
مئات
600000
1955
ــ
أكثر من ألف
أكثر من ألف
 
1962
167
حوالي سبعة آلاف
حوالي سبعة آلاف
حوالي مليون
1969
2639
حوالي ثلاثين ألفاً
(32-33) ألفاً
1600000
1974
4805
37913
42718
أكثر من مليون ونصف
1979
14800
26000
40800
2132997
1984
21900
31500
53400
2595100
1990
34984
23934
58918
أكثر من ثلاثة ملايين
1996
113364
33170
146534
أكثر من أربعة ملايين
 
عن : سامر خرينو ، الحركة الطلابية الأردنية 1948 – 1998 ، ( مركز الأردن الجديد للدراسات ، عمان ، 2000)، ص ص 30 – 32 .
 
 
 
 
 
 
جدول رقم (4)
تعليم الإناث قبل الجامعي
المرحلة
نسبة الإناث عام 1975
إلى إجمالي عدد الطلبة
نسبة الإناث عام 1984
إلى إجمالي عدد الطلبة
الابتدائية
46%
49%
الإعدادية
42%
47%
الثانوية
40%
49%
الثانوي المهني
29%
36%
 
عن : د0 بارعة النقشبندي ، المشاركة السياسية للمرأة في الأردن وبعض الدول العربية ،( المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 2001 ) ، ص 145.  بتصرف .
 
 
 
                                                 جدول رقم (5)
تعليم الإناث في الجامعات الأردنية
العام
نسبة الإناث في الجامعات الأردنية
1979
40 %
1984
39%
1988
42%
1990
44%
1994
42%
1997
45%
      
       عن :  خرينو ، سبق ذكره ، ص 35 .


ملحـــــق (2)
المراجـــع
 
المؤلفات والأبحاث
(1) أبو نوار ، د 0 معن ، تاريخ المملكة الأردنية الهاشمية ، ج1 ، ط1 ، المؤسسة الصحفية الأردنية ، عمان ، 2000 .
(2) بكر ، إبراهيم ، حقوق الإنسان في الأردن ، ط1 ، مكتبة عمان ،عمان ، 1995.
(3) البنا ، حسن ، مجموعة رسائل الإمام الشهيد ، المؤسسة الإسلامية للطباعة والصحافة والنشر ، بيروت ، 1979.
(4) بن عثمان ، حاتم ، العولمة والثقافة ، ط1 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ،1999.
(5) التل ، سهير سلطي ، حركة القوميين العرب وانعطافاتها الفكرية ، ط1 ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 1996 .
(6) جراح ، ذا النون ، بلدي وأهلي وأنا ، ط1 ، دار الحصاد ، عمان ، 1997 .
(7) جريس ، صبري ، العرب في إسرائيل ، ط2 ، مؤسسة الدراسات الفلسطينية ، بيروت ، 1983 .
(8) الحمارنة ، مصطفى ( محرر) ، الاقتصاد الأردني المشكلات والآفاق ، مركز الدراسات الاستراتيجية ، عمان ، 1994 .
(9) الحوراني ، هاني ( معد ) ، الحركات والتنظيمات الإسلامية في الأردن ، ط1 ، مركز الأردن الجديد للدراسات ، عمان ، 1997 .
(10) الحوراني ، هاني ، الحركة العمالية الأردنية 1948 – 1988 ، ط1 ، مجلة الأردن الجديد ، نيقوسيا ، 1989 .
(11) الحوراني ، هاني ( معد ) ، حكومة سليمان النابلسي 1956 – 1957 ، ط1 ، مركز  الأردن الجديد للدراسات ، عمان ، 1999 .
(12) الحوراني ، هاني وآخرون ، دليل منظمات المجتمع في الأردن ، ط1 ، مركز الأردن الجديد للدراسات ، عمان ، 2000 .
(13) الحوراني ، هاني وايمن ياسين ، المرشد إلى مجلس الأمة الأردني الثالث عشر 1997 – 2001، ط1 ، مركز الأردن الجديد للدراسات ، عمان ، 1999 .
(14) الحوراني ، هاني وآخرون ، النقابات المهنية وتحديات التحول الديمقراطي في الأردن ، ط1 ، مركز الأردن الجديد للدراسات ، عمان ، 2000 .
(15) حوى ، سعيد ، المدخل إلى دعوة الإخوان المسلمين ، ط2 ، دار عمار ، عمان ، 1998  .
(16) خرينو ، سامر ، الحركة الطلابية الأردنية 1948 – 1998 ، ط1 ، مركز الأردن الجديد للدراسات ، عمان ، 2000 .
(17) خرينو ، سامر ، الصحافة الإسلامية والتعددية السياسية في الأردن 1990 – 2000 ، ط1 ، دار الينابيع ، عمان ، 2001 .
(18) خيري ، د مجد الدين عمر ، العلاقات الاجتماعية في بعض الأسر النووية الأردنية ، الجامعة الأردنية ، عمان ، 1985 .
(19) الدباغ ، مصطفى مراد ، بلادنا فلسطين ، ج1 ، ق1 ، ط2 ، دار الطليعة ، بيروت، 1973.
(20) الدروع ، قاسم محمد وعبد الله راشد العرقان ، نحو تربية وطنية هادفة ، ط1 ، عمان ، 1999 .
(21) دياب ، عز الدين ، التحليل الاجتماعي لظاهرة الانقسام السياسي في الوطن العربي ، مكتبة مدبولي ، القاهرة ، 1993 .
(22) الربايعة ، د 0 أحمد ، الشخصية الأردنية سماتها وخصائصها ، ط1 ، عمان ، 1999.
(23) الرزاز ، مؤنس ، الشظايا والفسيفساء ، ط1 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1994 .
(24) الرزاز ، مؤنس ، مذكرات ديناصور ، ط1 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1994 .
(25) الرشيدات ، شفيق ، فلسطين تاريخاً وعبرة ومصيراً ، ط2 ، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر فرع مصر ، 1968 .
(26) زياد ين ، د 0 يعقوب ، شاهد على العصر ، ط1 ، دار الكر مل ، عمان ، 2003.
(27) الشناق ، د 0 عبد المجيد ، المدخل إلى تاريخ الأردن وحضارته ، ط2 ، عمان ، 2000.
(28) الصوفي ، عبد الله اسماعيل و د 0 شفيق جاسر محمود ، عنابة ارض الآباء والأجداد ، ط1 ، عمان ، 1994 .
(29) عايش ، حسني ، سياحة في العقل العربي ، ط1 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1998 .
(30) عبيدات ، د 0 محمود سالم ، أثر الجماعات الإسلامية الميداني خلال القرن العشرين ، ط1 ، مكتبة الرسالة الحديثة ، عمان ، 1989 .
(31) العبيدي ، عوني جدوع ، جماعة الإخوان المسلمين في الأردن وفلسطين 1945 – 1970 ، ط1 ، عمان ، 1991 .
(32) العدوان ، طاهر ، حائط الصفصاف ، ط1 ، دار الكر مل ، عمان ، 1990 .
(33) عليمات ، محمد عليان ، مدخل إلى الثقافة والتربية الوطنية ، ط1 ، دار حنين ، عمان ، 1994 .
(34) العيلة ، د 0 رياض علي ، تطور القضية الفلسطينية ، ط1 ، جامعة الأزهر ، غزة، 1996.
(35) غرايبة ، إبراهيم ، جماعة الإخوان المسلمين في الأردن 1946 – 1996 ، ط1 ، مركز الأردن الجديد للدراسات ، عمان ، 1997 .
(36) قاسم ، زياد ، أبناء القلعة ، ط3 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1998 .
(37) قهوجي ، حبيب ، العرب في ظل الاحتلال الإسرائيلي منذ 1948 ، منظمة التحرير الفلسطينية – مركز الأبحاث ، بيروت ، 1972 .
(38) الكيلاني ، د 0 موسى زيد ، الحركات الإسلامية في الأردن ، ط1 ، دار البشير ، عمان ، 1990.
(39) الماضي ، منيب وسليمان موسى ، تاريخ الأردن في القرن العشرين 1900- 1959، ط2، مكتبة المحتسب ، عمان ، 1988 .
(40) محافظة ، د0 علي (محرر) ، الأحزاب والتعددية السياسية في الأردن ، ط1 ، مؤسسة عبد الحميد شومان ، عمان والمؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1999.
(41) محافظة ، د 0 علي ، تاريخ الأردن المعاصر عهد الإمارة 1921 – 1946 ، ط2، مركز الكتب الأردني ، عمان ، 1989 .
(42) محافظة ، د 0 علي ، الفكر السياسي في الأردن 1916 – 1946 ، ج1 ، ط1 ، مركز الكتب الأردني ، عمان ، 1990 .
(43) محافظة ، د 0  علي ، الفكر السياسي في فلسطين 1918 – 1948 ، ط1 ، مركز الكتب الأردني ، عمان ، 1989 .
(44) محافظة ، د0 محمد أحمد ، إمارة شرق الأردن 1921 – 1946 ، ط1 ، دار الفرقان ، عمان ، 1990 .
(45) المصري ، محمد محيى الدين ، الأردن 1953 – 1957 دراسة سياسة ( مخطوط)، 1995 .
(46) موسى ، سليمان ، تاريخ الأردن في القرن العشرين 1958 – 1995 ، ج2 ، ط1، مكتبة المحتسب ، عمان ، 1996 .
(47) ناجي ، جمال ، الحياة على ذمة الموت ، ط1 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ، 1993 .
(48) النقشبندي ، د 0 بارعة ، المشاركة السياسية للمرأة في الأردن وبعض الدول العربية ، ط1 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 2001 .
(49) هداوي ، سامي ، الحصاد المر فلسطين بين عامي 1914 و 1979 ، ط1 ، رابطة الجامعيين في محافظة الخليل ، 1982 .
 
 أوراق العمل
(50) الأزرعي ، د 0 سليمان ، مؤشرات التحول الاجتماعي  في الرواية الأردنية ، المؤتمر الدولي الثاني لتاريخ الأردن الاجتماعي ، عمان ، تموز 2000.
(51) الجريبيع ، محمد عبد الله ، الإذاعة الأردنية في الخمسينات والستينات ، المؤتمر الدولي الثالث لتاريخ الأردن الاجتماعي ، عمان ، أيار 2002 .
(52) خرينو ، سامر ، صحافة الشيوعيين في الأردن 1949 – 1970 ، المؤتمر الدولي الثالث لتاريخ الأردن الاجتماعي ، عمان ، أيار 2002 .
(53) طوقان ، جعفر ، عمارة الأردن وفلسطين ما بين 1950 – 1970 ، المؤتمر الدولي الثاني لتاريخ الأردن الاجتماعي ، عمان ، تموز 2000.
(54) موسى ، سليمان ، التحولات الاجتماعية في الأردن 1945 – 1970 ، المؤتمر الدولي الثاني لتاريخ الأردن الاجتماعي ، عمان ، تموز 2000 .
 
الصحف والدوريات
(55) الجماهير ، صحيفة الحزب الشيوعي الأردني ، العدد 193 ، 16 -31 آذار 2001.
(56) دراسات عربية ، مجلة فكرية اقتصادية اجتماعية ، السنة الثامنة ، العدد 1 ، تشرين الثاني 1971.
(57) الدستور الأردنية ، صحيفة يومية ، الأعداد الصادرة في 16 /9/ 2000 و 6 /1/ 2003 و 8/1/ 2003 .
(58) الرأي الأردنية ، صحيفة يومية ، الأعداد الصادرة في : 20 / 7/2000 و 16 / 10 / 2000 و 13 / 12 /2002 .
(59) قضايا وشهادات ، كتاب ثقافي دوري ، الأعداد : 4 ( خريف 1991 ) و 5 (ربيع 1992 ) و6 (شتاء 1992 ) .  
  

 



 
المحتويات
 
المقدمة ................................................................................3                                           
تعريفات ................................................................................6
      هوامش التعريفات ................................................................12
مدخل ..................................................................................13
     هوامش المدخل.....................................................................25  
الفصل الأول : الانتقال إلى الثقافة المركبة ( 1948 – 1952 ) .........................27
    أولا : تغير التركيبة الديمغرافية ......................................................29
    ثانياً : تأسيس التنظيمات العقائدية ....................................................34
    ثالثاً : عوامل أخرى..................................................................56
   هوامش الفصل الأول...................................................................62
الفصل الثاني : الحراك داخل الثقافة المركبة ( 1952 – 2002 ) .........................68
    المرحلة الأولى ( 1952 – 1971 ) ...................................................70
    المرحلة الثانية ( 1971 – 1989 ) ....................................................84
    المرحلة الثالثة ( 1989 – 2002 )......................................................98
     خلاصة.................................................................................116
    هوامش الفصل الثاني...................................................................117
 الفصل الثالث : انعكاسات الثقافة الوطنية المركبة ، بحث في الخطاب .....................122
     ضبابية حدود الخصوصية الوطنية .....................................................124
      اضطراب المهمات الدفاعية .......................................................127
      التسييس الانفعالي ونظرية المؤامرة ...............................................129
      الشخصية المركبة ................................................................131
           هوامش الفصل الثالث ..........................................................135
الملاحق ............................................................................139
     ملحق ( 1) : جداول ..........................................................140
     ملحق ( 2) : المراجع ........................................................144
         



#سامر_خير_احمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المدنية في مواجهة الغرائزية
- عقلية اقصاء الاخر الفلسطيني
- محاكمة العصر!
- ضد التضليل وضد معالجة الخطأ بالخطأ
- سلوك حزبي غريب


المزيد.....




- فيديو مخيف يظهر لحظة هبوب إعصار مدمر في الصين.. شاهد ما حدث ...
- السيسي يلوم المصريين: بتدخلوا أولادكم آداب وتجارة وحقوق طب ه ...
- ألمانيا تواجه موجة من تهديدات التجسس من روسيا والصين
- أكسيوس: لأول مرة منذ بدء الحرب.. إسرائيل منفتحة على مناقشة - ...
- عباس: واشنطن هي الوحيدة القادرة على إيقاف اجتياح رفح
- نائبة مصرية تتهم شركة ألبان عالمية بازدواجية المعايير
- -سرايا القدس- تعرض تجهيزها الصواريخ وقصف مستوطنات غلاف غزة ( ...
- القوات الأمريكية تلقي مساعدات منتهية الصلاحية للفلسطينيين في ...
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا القصف الإسرائيلي
- وسائل إعلام تشيد بقدرات القوات الروسية ووتيرة تطورها


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - سامر خير احمد - كتاب - سباق العصبية والمصلحة الصراع على الثقافة الوطنية لحسم الصراع السياسي - الأردن 1948 – 2002