|
هل العلمانية حل لمشكلة الأقليات اللبنانية؟
عاصم بدرالدين
الحوار المتمدن-العدد: 2293 - 2008 / 5 / 26 - 09:28
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
هل العلمانية حل لمشكلة الأقليات؟ هذا السؤال كان قد طرحه قبل مدة (5/5/2008) الأستاذ سلامة كيلة في جريدة الحياة، مستنتجاً في النهاية أن "النظر إلى العلمانية من زاوية «الأقليات» (...) يؤسس لـ «علمانية» مناقضة للعلمانية، لأنها تنطلق من وضع «الأقليات» في التكوين السياسي، وليس من تجاوز الأيديولوجيا المهيمنة". لا خلاف مبدئي مع السيد كيلة، لكن يجب أن نقر قبل الجدال أن العلمانية كفكرة فلسفية لا تؤمن بالمطلق والجمود والثبات فهي نسبية وتتأثر بعامليّ المكان والزمان. تالياً ما يصح على مجتمع معين في زمن ما لا يصح على أخر في الزمن نفسه أو في غيره. أي ما صح في أوروبا في عصر التنوير وما بعده من أشكال للعلمانية، لا يصلح للعالم العربي اليوم وحتى في الماضي. كذلك بالنسبة للدول العربية كل واحدة على حدة، فالمجتمع اللبناني يختلف تماماً عن المجتمع السوري أو المصري أو الأردني.. إلخ.
العلمانية، كما قلنا، نسبية تتأثر بعامليّ الزمان والمكان، مع ذلك فهي تحافظ على مبادئها الأساسية: فصل الدين عن حركة المجتمع والدولة، القوانين الوضعية الحاكمة، الديمقراطية، الحرية، والمواطنة. هذه المبادئ لا يمكن نفيها عن العلمانية في أي مكان أو زمان وإلا تنتفي هي ذاتها. وفي كل المجتمعات، هناك غاية مشتركة من إعتماد العلمانية كنظام إجتماعي وسياسي وثقافي، وهي اللحاق بركب الحداثة السائرة بإستمرار. ومن ضمن هذه الغايات هناك حالات وأزمات خاصة منفردة بكل مجتمع تحل–وربما قد تكون مستهدفة مسبقاً- عقب الإنتقال من النظام الإجتماعي القبلي إلى النظام العقلاني العلماني. ومنها مشكلة الأقليات.
السيد كيلة، يتحدث عن "أغلبية مهيمنة" و"أقلية محكومة"، ويرى أن العلمانية يجب أن تهدف إلى إلغاء الهيمنة لأنها بطبيعتها مسيطرة. وهذا صحيح، وينطبق على مختلف المجتمعات العربية (مصر على سبيل المثال، حيث هناك أغلبية دينية مهيمنة-فضلاً عن الهيمنة السياسية الديكتاتورية التي تحل بالعلمنة- وأقلية دينية) لكن هناك إستثناءات بارزة فمن غير الجائز التعميم، ومنها لبنان وربما العراق. لو أخذنا المجتمع اللبناني كموضوع مقارنة، نرى أن الإجتماع المحلي يتشكل من مجموعة أقليات ولا يوجد "أغلبية مهيمنة"، هذه الأقليات الدينية: السنة، الشيعة، الموارنة، الدروز، الكاثوليك والأرثوذكس، الأرمن.... إلخ، هذه الأقليات عاجزة تماماً عن تغليب إحداها على البقية، وهذا ما كان يحكى عن سعي الموارنة لتحقيق هذه الغلبة فيما مضى وفشلهم، وكذا السنة بعد الطائف، وأخيراً حاول الشيعة عبر حزب الله تثبيت نفوذهم وفرضه فسقطوا في صلب المعادلة الصعبة حتى اللحظة. في هذه الحالة، يصير تبني العلمانية كنظام سياسي وإجتماعي يهدف ويبغي إيجاد حل لمشكلة الأقليات، لا لمشكلة الأغلبية، في ظل غياب هيمنة أي طرف.
ما دفعني اليوم، إلى إسترجاع مقالة الأستاذ سلامة كيلة، وطرح هذا الموضوع، النداء الذي أطلقته مجموعة من الأقليات المسيحية بعد إنتهاء مؤتمر الحوار الوطني اللبناني في الدوحة. هذه الأقليات إعترضت على التقسيم الجغرافي لدوائر بيروت الإنتخابية، حيث كانت جميعها- وهي ست طوائف مسيحية: السريان الأرثوذكس، السريان الكاثوليك، الأشوريون، الكلدان، اللاتين، الأقباط "أي نصف الطوائف المسيحية بكل ما يمثلون من تراث وحضارة وتاريخ وإمتداد" (كما ذكر البيان الصادر عنهم)- حيث كانت جميعها تحصر تحت إسم "أقليات" وتحظى بمقعد نيابي واحد في كل لبنان-بيروت، رغم أنها تملك 50 ألف ناخب موزعين على كافة الأراضي اللبنانية (بيروت وزحلة والمتن). هذا المقعد النيابي قد نقل بعد التعديلات الأخيرة في الدوحة إلى "حيث لا إنتخابات والنتائج معروفة والنائب يعين" حسب قولهم، وإشتكوا من كون المقعد الجديد خارج "دائرة مسيحية حيث يمكن المنافسة (عليه) ضمن تياراتنا وأحزابنا" فضلاً عن أنهم -بالإستناد إلى بيانهم الصادر في 22 أيار 2008 ونشر في اليوم التالي في معظم الجرائد- فضلاً عن أنهم مهمشين في الحكومات المتعاقبة، فلا وزراء ممثلين لهم، والأمر نفسه في الإدارة والوظائف العامة.
لهذه الأقليات، أو لهذه الطوائف حق الشكوى، طالما أن البلد مقسم إلى حصص موزعة على مختلف الطوائف. من حقهم الإعتراض، لأنهم يعانون من الإضطهاد والغبن، وإنعدام المساواة بينهم وبين الملل الأخرى. مشكلة هؤلاء تحل لو كان النظام السياسي والإجتماعي علماني، لا طائفي وضيع. في هذه الحالة، تصبح العلمانية حلاً مباشراً لمشكلة الأقليات، وليس للقضاء على هيمنة الأغلبية. يصبح هدف إحلال النظام العلماني في الدول المشابهة للنمط اللبناني، معالجة مشكلة هذه الأقليات، وبقية الطوائف والمذاهب حتى السنة والشيعة والموارنة والدروز فهي الأخرى أقليات دينية من دون أغلبية.
مشكلة النظام الطائفي أنه لا يقيم، للكفاءة مقاماً أصيلاً. يقصي الكثير من القدرات والإمكانات بإسم التوزيع العادل والمحاصصة، فتخسر الدولة كفاءات قادرة على النهوض بالمجتمع، والسير بالدولة نحو الحداثة. كثير من اللبنانيين مضطهدين، وبالتالي هم شاؤوا أم أبوا، يجسدون دور الأقلية. الأقلية في كل العالم، صفتها الغالبة هي الظلمة والظلم والقمع التي تعيش فيه. تالياً الحل المباشر يكون في إعتماد وتبني العلمانية كخيار أساسي للتقدم والتطور، تضمن المساواة بين جميع أفراد المجتمع، على إختلاف إنتماءتهم الدينية أوالعرقية أو القومية، في الحقوق والواجبات.
قلت سالفاً، أن هناك هيمنة سياسية ديكتاتورية تعالج أيضاً بالعلمنة. وأستطرد هنا أن العلمانية لست حلاً سحرياً، وليست أمراً سهل التطبيق وليس يسيراً الوصول إليها، بل صعب ويحتاج إلى مجهود مضاعف وعمل دءوب بالإعتماد على خطة إصلاحية ممنهجة تتناول المجالات كافة: الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية. وعندما أدعي أن الدكتاتورية تحل بالعلمنة، أنطلق مبدئياً من التبديل الذي تحدثه قيمها في الذهن البشري. وحين نقول إحلال العلمانية كنظام إجتماعي محل القبلية والعشائرية والطائفية، علينا أن نستدرك أنه قبل تغيير النظام السياسي، هناك الذهنية الشعبية (أي ذهنية المواطنين) من الضروري قبل كل شيء معالجتها ورفعها من المستويات المتدنية إلى المستوى الإنساني العام، والعقلاني والعلمي، ففي الأنظمة الديمقراطية –ولا علمانية من دون ديمقراطية- تكون الشعوب مصدر السلطات، بالتالي فإن وجود شعب عقلاني واع، يُنتج قطعاً قيادة سياسية علمانية. أي قبل أن يطالب العلمانيون في لبنان وسوريا والعراق وغيرها من البلدان العربية تحديداً بإعتماد العلمانية، يجب أن يسعوا كمجموعات ثقافية عقلانية لبث ونشر قيم العلمانية في المجتمع بشكل متدرج وتطوري، مما يؤمن لاحقاً تقبل سريع وإندماج أسرع مع العلمانية كنظام إجتماعي. يخلصنا فيما بعد من كارثية الإحتراب الأهلي. ومشكلة الأغلبية المهيمنة والأقلية المضطهدة وما تولده من صراع. والتقاسم المذهبي للمراكز الذي يؤدي إلى خسارة الكفاءات وظلمها هي والمؤسسات العامة. والأفكار المطلقة الشمولية أكانت أفكاراً وضعية أم دينية، والتي تسهم في إبطال وإعدام الإبداع الفردي وضربه ومحاصرته بالحقيقة الكاملة والمقدسات، ويريحنا تالياً من الأنظمة الديكتاتورية القمعية الهالكة للحرية.
العلمانية ليست عصاً سحرية، وهي غير قادرة على قلب الواقع وتغييره في حركة سريعة جذرية، بل هي فعل قيمي متدرج متطور ينتقل شيئاً فشيئاً من الطبقة المثقفة والنخبة المفكرة، إلى بقية الشرائح. لذا على العلمانيين اللبنانيين عوضاً عن المطالبة المستمرة بإلغاء النظام الطائفي مستندين لما جاء في إتفاقية الطائف الفقرة "ز"، التي صارت (أي المطالبة) عبثية ومملة، يجب عليهم أن يعملوا على إختراق الأسوار القاعدية للطوائف والذهنية المذهبية الغبية الغيبية، وإستبدالها بالذهنية العقلانية العلمية النقدية فالتغيير يبدأ من الأسفل صعوداً إلى رأس الهرم. فمن السذاجة والغباء في مكان، أن يطلب العلماني اللبناني من هذه الزمرة الحاكمة، أكانوا موالين أو معارضين، العمل على تغيير النظام. كذلك من غير المنطقي أن نطلب من المواطنين اللبنانيين بحالتهم الحالية، التعصبية المتطرفة المذهبية المتداعية الإستتباعية، تقبل القيم العلمانية المُنزلة عليهم غصباً وفرضاً عن طريق السلطة السياسية أو حتى العسكرية، وهم في الحقيقة لن يرفضوها في شكل سافر، لكنهم في المقابل سيعملون على تشويهها وتميعيها حتى تتلاشى فعاليتها وماهيتها. الأمر مشابه تماماً لأداء الجماعات العربية الإسلامية المتطرفة مع فكرة الحرية والديمقراطية.
العلمانية ليست فلسفة جامدة، بل متحركة، لذا لا يمكن نسخها من مجتمع إلى أخر في شكل كامل ومطابق، بل يجب أن تخضع للتعديل والإضافة طبقاً لعنصري الزمان والمكان سعياً لملائمة أوضاع وأحوال المجتمع المُسقطة عليه، مع الحفاظ على مبادئها الأساسية المذكورة آنفاً. وإذا كانت العلمانية في أوروبا قد أدت في طريقة غير مباشرة إلى معالجة مشكلة الأقليات ومنهم اليهود (كما يقول السيد كيلة في المقال نفسه) فإن العلمانية في لبنان تهدف، فيما تسعى إليه في المقام الأول وفي شكل قصدي مباشر، إلى معالجة هذه المشكلة (أي مأزق الأقليات-كل الملل اللبنانية)، فلا حل لها إلا بها.
#عاصم_بدرالدين (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لا نساء في الكويت
-
ماذا بقي من الديمقراطية؟
-
أخطئ سعد الحريري
-
وأيضاً سمير قصير؟
-
لا تنسى
-
نماذج علمانية تخريبية
-
سقطوا
-
فضائل النقد والمجتمعات الغيبية المقدسة
-
كابوس
-
الكذبة الحقيقية
-
في شؤون -المحادل- والديمقراطية
-
ساقطة.. ساقطة.. ساقطة
-
شهداء مجانين
-
بل بحبل مشنقة
-
-الحسبة- والمواطن السعودي
-
الله إلكترونياً: تسعيرات واضحة!
-
تضامناً مع وفاء سلطان:ماذا عن الرأي الآخر؟
-
هي لحظة
-
ماذا عن ميشال سورا؟
-
لا أريد أن أموت
المزيد.....
-
31 دولة عربية وإسلامية تدين تصريحات نتنياهو وخطة الاحتلال ال
...
-
وزراء خارجية 31 دولة عربية وإسلامية يدينون تصريحات نتنياهو و
...
-
-إسرائيل الكبرى-.. 31 دولة عربية وإسلامية تصدر بيانا مشتركا
...
-
فلسطين تحذر من هجمة إسرائيلية -غير مسبوقة- على الكنائس
-
حركة طالبان الأفغانية تحيي الذكرى الرابعة لاستيلائها على الس
...
-
31 دولة عربية وإسلامية تهاجم تصريحات نتنياهو وخطط الاستيطان
...
-
في ذكرى السيطرة على أفغانستان.. زعيم طالبان يُحذّر من أن الل
...
-
الرئاسية العليا: الاحتلال يستهدف الكنيسة الأرثوذكسية في القد
...
-
إسلاميون أجانب يطالبون الدولة السورية بمنحهم الجنسية
-
زعيم طالبان يحذر الأفغان: الله سيعاقب بشدة الذين لا يشكرون ا
...
المزيد.....
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
المزيد.....
|