لن أتحدّث عن السياسة الأميركية و عن الميل الإمبريالي لديها الذي يدفع نحو تأسيس إمبراطورية عالمية، فهذا موضوع أساسي جرى تناوله في كتابات متعدّدة و من زوايا مختلفة، رغم أنه يبقى موضوع ساخن نتيجة تعدّد زوايا النظر و الاختلافات الممكنة حوله. لكن العراق أصبح محتلا، و التوسّع الأمير كي مستمرّ و يهدّد دولا جديدة، الأمر الذي يوضّح طبيعة السياسة العملية للدولة الأميركية، التي هي سياسة إمبريالية بامتياز.
بعد العراق سوف أركّز على الاستخلاصات الممكنة، حيث يجري التحضير لاحتلالات جديدة، كما يجري التحضير لفرض هيمنة الدولة الصهيونية على " الشرق الأوسط"، كونها المركز الإمبريالي الأساسي في المستوى السياسي/ العسكري و الاقتصادي في مرحلة تالية.
و هنا يمكن الإشارة إلى أن الحدث أفضى إلى ثلاثة نهايات، سوف تنعكس على طول المرحلة القادمة الممتدّة إلى نهاية تفرضها الشعوب:
النهاية الأولى: أن احتلال العراق قد أكمل على النظام الإقليمي العربي، و وضع النظم العربية في مأزق حرج، ليس كونها مهدّدة بتغييرات عميقة في هذه اللحظة تعمل الدولة الأميركية على فرضها- و هذه مسألة قائمة و ستكون من تداعيات احتلال العراق- بل لأن الانتفاضة الفلسطينية التي بدأت في 28/9/2001 أوّلا، ثم احتلال العراق الآن، و حرب أميركا على العرب ثانيا، هما حدثان أوجدا احتقانا هائلا على المستوى الشعبي العربي، سيجعل امكانات النظم العربية على الحكم و السيطرة محلّ تساؤل، لأن هذه الاحتقانات تهدّد بتفجّرات غير واضحة المعالم، لكنها لن تسمح لهذه النظم ب " الحكم المريح"، وسوف تؤسس لوضع يستوجب التغيير.
لقد انتهت مرحلة الاستقرار التي طبعت مرحلة الحرب الباردة، نتيجة انهيار التوازن الدولي عالميا، و نتيجة الاختلالات الطبقية التي شهدتها المجتمعات العربية الناتجة عن نهب الرأسماليات المحلية و الرأسمال الإمبريالي معا، حيث أصبحت القطاعات الشعبية معرّضة لأزمة داخلية عميقة مترافقة مع هجوم إمبريالي مباشر يهدف إلى الاحتلال و النهب. و بهذا أصبحت النظم عاجزة عن التحكّم في الأوضاع الداخلية كما غدت مكشوفة خارجيا، بل و معرّضة للضغط و التغيير و الإزاحة. و لأن الاحتقان الشعبي في درجة عالية من التوتر دخلت المنطقة مرحلة عدم الاستقرار، كما دخلت مرحلة تتسم بوجود إمكانية للتغيير، الأمر الذي يشير إلى نهاية النظام الإقليمي العربي و بداية مرحلة مفتوحة على الاحتمالات.
النهاية الثانية: أن احتلال العراق قد أنهى ( أو أكمل على) الحركة السياسية العربية، تلك الحركة التي تأسست مع بدء المدّ التحرري العالمي، و مع الميل العالمي لتصفية الاستعمار من أجل الاستقلال و التصدي للسيطرة الرأسمالية و تحقيق التطوّر و التنمية. و كانت بعض فصائل هذه الحركة قد حقّقت نجاحات، و أيضا أدخلت المجتمع في أزمات عميقة. حيث استطاعت أن تنهي النظام القديم و تحرّر الريف و تطلق حركة التصنيع و تشكيل المجتمع الحديث، لكنها أسست لسلطات استبدادية و نظم قمعية أفضت ( بالترافق مع التطوير الذي أحدثته) إلى بناء مجتمع خال من السياسة و بنى مفككة و تقف على شفير الحرب الأهلية. كما أن كل ذلك أفضى إلى تهميش مجمل الحركة السياسية و تفتيتها، و ها هي ألآن تقف عاجزة هامشية، مفتتة و ضائعة، و كذلك فاقدة لأي مشروع للتغيير.
النهاية الثالثة: و هو بالأساس أنهى مرحلة على الصعيد العربي، وضع شارة القبر على مرحلة بدأت في خمسينات القرن العشرين، و استمرت طيلة سنوات الحرب الباردة. لقد أنهت كل " منجزاتها" و دمرت الأحلام التي انبنت عليها، حيث أسدلت الستار على مرحلة الاستقلال والتصنيع و التحديث و التنمية، و الوحدة العربية و تحرير فلسطين، و عدنا إلى اللحظة التي افترضنا أننا نتجاوزها. أشير هنا إلى أن الطموح الذي رافق مخيّلاتنا و الذي كان قد بدأ في التحقق منذ خمسينات القرن العشرين، و بدأ يوضع موضع شك منذ السبعينات من ذاك القرن، و من ثمّ أخذ في الانهيار مذّاك، قد انتهى الآن و عدنا إلى اللحظة التي تفرض البدء من جديد، محاولين تحقيق الأحلام بطريقة أخرى، و برؤى مختلفة و عمل مختلف...
لماذا هذه النهايات؟
يمكن الإشارة إلى انهيار التوازن الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. و يمكن الإشارة كذلك إلى التفوّق المطلق للعسكرية الأميركية، و بالتالي إلى انفتاح الأفق لكي تحقق الدولة الأميركية مصالحها، و اندفاعها للسيطرة و الاحتلال في وضع لا يسمح لنا بالرد، الأمر الذي فرض هذا الوضع الجديد.
لكن الأهم هو البحث في أوضاعنا. لماذا وصلنا إلى هذه النهاية/ النهايات؟ لماذا فشل المشروع النهضوي العربي للمرة الثانية؟ لماذا وصل إلى هذه النهاية المفجعة، حيث وصل الاستبداد إلى قمة فاعليته، و تفاقم نزع السياسة إلى الحد الذي جعل الوطن منكشفا تماما، و من ثمّ نهاية على حوافر قوّات الاحتلال الأمير كي لم تلق مقاومة في البدء، حيث لم يسع أحد للدفاع عن الدكتاتورية؟
لقد أوصلت القوى التي قادت المشروع القومي الوطن و المجتمع إلى مأزق عميق، حيث أنها لم تستطع تحقيق الأهداف الأساسية، أهداف الوحدة و التنمية و الدمقرطة، رغم أنها استطاعت أن تزيل البنية القديمة في المستوى الاقتصادي/ الاجتماعي، و توسّع في التعليم و تبني بعض الصناعة، مع تكريسها السلطة البطركية الاستبدادية و تعميمها النهب و مراكمة الثروة الخاصة. فحين استلمت السلطة غلّبت الفردي ( أي غلّبت الإثراء الشخصي) على العام ( أي الوطن و التطوّر)، وفي سبيل ذلك حوّلت الأهداف العامة إلى شعارات فارغة، و غطاءا لاستبدادية فظّة، و كلاهما بناء ( أيديولوجي/ سياسي) يستر النهب. لينتهي الطابع النضالي الذي كان يحضن الشعارات، ويهيئ لتحقيقها، و لتنشأ أجيال ليست معنية بالشأن العام و بالسياسة عموما. و أنهى القمع كل ميول المقاومة و التحرّر، و كل قيم الاستقلال و الانتماء، ليولّد اللامبالاة أو الأحقاد. فأصبحت المجتمعات قاعا صفصفا تعجز عن مواجهة موجة التوسّع الرأسمالي الراهنة ( و البعض منها يرحّب بها كذلك).
لهذا فنحن ألآن إزاء شعارات/ أهداف مفرغة و مشكوك فيها. و كذلك إزاء سياسات مهزلة، و أحزاب لم يبق منها سوى الأسماء، و هي "جزر" معزولة و مهمّشة. و أصولية ناشطة باتت ترفع شعارات المقاومة و تدعو إلى هزيمة أميركا، رغم برنامجها المحافظ ( المغرق في المحافظة) و ميولها لفرض سلطة السلف، التي هي سلطة بطركية استبدادية معممة و مطلقة ( لأنها تطال كل شيء حتى الشخصي). وبالتالي فهي، رغم دورها ضد الدولة الأميركية ( أو ضد المسيحية/ اليهودية كما تعرّف هي ذاتها)، تفتت لأنها تؤسس صراعها على أساس ديني/ طائفي، و تسعى لفرض ما هو سلفي، الأمر الذي يجعلها تزيد من شقوق مجتمعنا و من تناقضاته الداخلية ( أي من تفتته)، و بالتالي يمنعها من توحيد قوى جادة في الصراع ضد الدولة الأميركية، و من أجل التحرر و التقدّم، خصوصا و أنها لا تطرح البرنامج الاقتصادي/ الاجتماعي الضروري لتحقيق التطوّر و تحسين ظروف الطبقات الشعبية. على العكس من ذلك فهي تطرح "أحلام" الماضي و أوهامه، بما في ذلك في المجال الاقتصادي، التي يمكن أن تلتحم بسهولة و يسر في النمط الرأسمالي من موقع التبعية و الالتحاق، و بالتالي فهي تعجز عن طرح ما يحقق التمرّد على آلياته و ليس فقط على تجاوزه، لأنها لا تحمل حلم التصنيع و الحداثة و من ثم لا تسعى إلى تغيير آليات العلاقة الاقتصادية مع الرأسمالية.
الأمر الذي يجعل المقاومة الراهنة في شكلها الأصولي دون آفاق، إضافة إلى ارباكاتها القائمة التي يمكن أن توصل إلى السلب ( أو العكس).
إذن نحن في لحظة جادّة تفرض الانتقاد العميق، و الكشف الشامل، و لكنها تفرض أن يكون كل ذلك في سياق إعادة بناء الأهداف و التصوّرات، و إلى التأكيد على ضرورتها، حيث يجب أن يعود للمشروع القومي الديمقراطي العربي هيبته، و أن يعود مشروعا حقيقيا يحمل إمكانية أن يتحوّل إلى قوة بفعل توحيده الطبقات الشعبية العربية، في سياق المواجهة مع المشروع الإمبريالي الصهيوني. فالأهداف التي يطرحها الواقع لا يمكن أن يجري تجاوزها إلا حالما تتحقق، و بالتالي فان المشروع القومي الديمقراطي سوف يبقى هو الحلم إلى أن يصبح واقعا محققا.
لهذا سيبدو انتقاد الحركة السياسية العربية خطوة لابدّ منها، من أجل إعادة بناء العمل السياسي. الأمر الذي يفرض أن نعود إلى البداية، لكن بخبرة أكبر و وعي أعمق و فهم أفضل لصيرورة استقلالنا و تطوّرنا و توحّدنا.