أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج كتن - نحو أحزاب ديمقراطية تزيح حزب -ما العمل- المركزي والشمولي















المزيد.....


نحو أحزاب ديمقراطية تزيح حزب -ما العمل- المركزي والشمولي


جورج كتن

الحوار المتمدن-العدد: 691 - 2003 / 12 / 23 - 05:03
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


شهد القرن العشرين انتشاراً واسعاً للمفاهيم الديمقراطية في العالم، وهزيمة للفاشية والنازية كأنظمة ديكتاتورية، بعد حرب عالمية مدمرة كان من نتائجها في المجال الديمقراطي الإعلان العالمي لحقوق الانسان، كمثل أعلى مشترك للحريات الأساسية تعمل لبلوغه كافة الأمم. كما شهد القرن المنصرم صعود الأنظمة الشيوعية الشمولية قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، التي ألغت الحريات وحقوق الانسان في بلدانها بحجة العدالة الاجتماعية، مما عجل انهيارها بعد حرب باردة لصالح انتشار الأفكار والممارسات الديمقراطية. وقد عززت التطورات العالمية في العقد الأخير من القرن مفهوم أن البشر والمواطنين في أي بلد هم جزء من مجتمع كوني إنساني أعلى من انتمائهم لبلدانهم، مما يستدعي سعي المجتمع الإنساني دول ومنظمات وأفراد لتحرير كل جزء فيه، من أنظمة يمكن أن تصبح خارجة على قانون دولي جديد يجعل بنود الإعلان العالمي لحقوق الانسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية مواداً فيه، يستوجب عدم العمل بها عقوبات محددة للأنظمة المخالفة.
إن حق تشكيل الأحزاب جزء أساسي من المبادئ الديمقراطية، فإذا نظرنا إلى واقع الأحزاب العربية الراهن نجد أن دولاً عربية عديدة تستمر في منع قيام الأحزاب كلياً حتى يصل التحريم في ليبيا لاعتبار أي عمل حزبي خيانة عقوبتها الإعدام، كما أن دولاً تمارس حكم الحزب الواحد، وأخرى انتقلت لتعددية حزبية مقيدة أو شكلية تسمح لأحزاب وتمنع أخرى مع أفضلية للحزب الحاكم الذي يقيد التنافس الحزبي بقوانين وإجراءات تمنع التداول السلمي للسلطة وتمكن من استمراره في احتكارها.
إلا أن الانتقاص من الحرية الحزبية ليس حكراً على الأنظمة فإن أحزاباً عربية، ولا يختلف في ذلك الأحزاب القومية واليسارية والإسلامية، لا زالت حتى الآن تتمسك بمفاهيم وممارسات تتناقض مع مفاهيم وممارسات الحزب الديمقراطي الحقيقي وتدافع عن النهج الحزبي القديم بأفكاره ومناهجه ووسائله. إن الحكم على مدى اقتراب هذه الأحزاب أو ابتعادها عن الحزب الديمقراطي يعتمد على مدى تطبيقها المبادىء الديمقراطية في صفوفها وفي علاقتها مع الأحزاب الأخرى وفي طبيعة النظم السياسية التي تسعى لتسود في بلدانها.
الحزب الديمقراطي اتحاد حر لأشخاص يجتمعون على مبادئ سياسية قابلة للتطوير ويدعمون برنامجاً سياسياً مشتركاً، وهو وسيلة وليس غاية، فهو مشروع لمرحلة سياسية معينة يخلي الطريق لشكل آخر من العمل الحزبي في مرحلة تالية مختلفة مما يفقده أبديته، فنهاية الحزب أمر طبيعي وليس مأساة، فهو كالكائن البشري يولد ويموت. أهم مبدأ فيه حق الاختلاف الذي يصهر تيارات متعددة، فتعدد وتعايش وتحاور التيارات والآراء في الحزب يؤدي لإغنائه بإبداعات أعضاءه، حيث العضو يمتلك حرية تفكير وتعبير واسعة فهو ليس متلقياً بل مبدعاً. والتعدد ليس سبباً لتفكك الحزب، بل عدم الاعتراف للأعضاء بحق الدفاع عن آرائهم داخل الحزب وخارجه بكل الوسائل المتاحة هو الذي يدفعهم للتخلي عنه.
موقف الحزب من أقلياته أهم ما يميزه كحزب ديمقراطي، ففي هذا الحزب تحترم الأكثرية الأقلية وحقها في التحول إلى أكثرية بنشر آرائها لتكوين رأي حزبي أو جماهيري مناقض لما هو سائد في الحزب، وتتجمع في تيارات أو تكتلات أو منابر تمتلك حرية التعبير والعمل. وهو حزب يجذر الديمقراطية في صفوفه كما يريدها أن تكون في المجتمع، فعليه أن يثبت أنها قابلة للتطبيق في الحزب أولاً، فهو مدرسة لتعليم الممارسات الديمقراطية للأعضاء ووسيلة لوصول الشعب إلى السلطة، وليس الشعب وسيلة لوصول الحزب إلى السلطة، وهو ينشر الوعي ضد الاستبداد بكافة أشكاله ويرتبط بالشعب ويعمل في صفوفه ويحارب نزعة الاستعلاء والتفوق " الطليعي".
يعتمد الحزب الديمقراطي على الانتخاب وحده للوصول إلى أي مسؤولية أو قيادة وينبذ التعيين، مع الإقرار بحق العزل لأي قيادي دون انتظار نهاية ولايته، ويقنن التجديد للقيادات لأكثر من مرة واحدة، ويعتمد القيادة الجماعية ومبدأ التناوب والتداول للمسؤوليات، ويعترف بأخطائه وينتقدها بشكل دوري أمام المواطنين، كما يغلب العمل التطوعي وليس المحترف إلا في حالات محدودة، فانتشار التفرغ يخلق شريحة بيروقراطية فيه تعتمد لاستمرارها على القيادة التي تدفع لها رواتبها، مما يحول الحزب إلى تنظيم بيروقراطي مأجور.
بعكس ذلك فالحزب المركزي الذي لا يمارس الديمقراطية في داخله لا يمكن أن يأتي بالديمقراطية للمجتمع، رغم أنه يعتمد "مركزية ديمقراطية"، وهي مركزية متسترة بقناع ديمقراطي، تخنق الديمقراطية في الحزب بشكل دائم، وهي مستقاة من مفاهيم حزب "ما العمل" اللينيني"، الذي بدأ بعد استلامه السلطة في الاتحاد السوفييتي السابق بتحريم الأحزاب الليبرالية ثم انتقل لقمع الأحزاب الاشتراكية الأخرى ثم حظر التيارات داخل الحزب الشيوعي نفسه ثم أرسى الديكتاتورية الستالينية وعبادة الفرد. وليس صدفة أن الأحزاب التي تعتمد المركزية الديمقراطية تنتهي عادة إلى هيمنة فرد، غير خاضع للمحاسبة، على الحزب والسلطة، وليس مستبعداً في مثل هذه الحالة انتقال السلطة فيها عن الطريق الوراثي.
المركزية في مثل هذه الأحزاب هي المبدأ الأساسي، فالقيادة تضع الخطط وتراقب تنفيذها من قبل الأعضاء وتؤمن وحدة العمل وشموله، و"الديمقراطية" لا تغير شيئاً من المركزية فهي تعطي للقيادات التالية حق الاستفسار أو أبداء الرأي على أن يبقى الرأي الأخير للقيادات العليا، فرأي الأعضاء والمراتب الأدنى استشاري فقط وليس ملزماً، وتقرير المواقف والتخطيط من حق القيادات التي لا تسمح للقواعد بفرض رأيها عليها، فالقواعد متهمة غالباً من القيادات بأنها ارتجالية وسطحية. ويعتمد في الحزب المركزي على "الخضوع" أو التعتيم والإسكات وأخيراً الطرد من الحزب الذي يقترن بالتشهير، فأعضاء الحزب كأفراد يخضعون لهيئاتهم الحزبية، وتخضع الأقلية للأكثرية وتخضع كل هيئة للأعلى فيها بالنسبة لأي قضية فكرية أو سياسية أو تنظيمية، وتخضع جميع منظمات الحزب للجنة المركزية، وكل عمل انقسامي يعتبر تخريباً معادياً للحزب وخيانة للقضية، والتكتلات في الحزب وكذلك إثارة الانتقادات والملاحظات خارج الهيئات الحزبية محظورة، يعاقب مرتكبها بشكل صارم.
الطاعة والخضوع تقليد عسكري لا يتلاءم مع حزب سياسي ديمقراطي تقوم العلاقات فيه على حق الاختلاف والاتفاق على قواسم مشتركة بناء على القناعة الحرة، فالانضباط "الحديدي" الذي تدعو إليه الأحزاب المركزية صفة لفرقة عسكرية وليس لعمل سياسي، ويمكن أن تتطور الأوضاع في بعض الأحزاب ليصبح الانضباط هو الركيزة التي تؤمن تماسك الحزب بدل العقيدة أو البرنامج السياسي. ويمكن من الخضوع والطاعة في الحزب المركزي نظام هرمي تراتبي لا يقل عن ست مراتب، يعيق وصول الحقائق بين القيادة والقاعدة والجمهور في محطات متدرجة، أو يمكن من تحويرها أو قبر المبادرات الشخصية في ثناياها، وكلما ازدادت المراتب عدداً تتمكن القيادة من التحكم في الحزب أكثر، بينما كلما توسعت العلاقات الأفقية على حساب العلاقات العمودية كلما ازداد الحزب ديمقراطية.
التسلسل في الرتب شبيه بالتراتب العسكري حيث تنزل الأوامر من الأعلى وتعود الملاحظات على التنفيذ من الأسفل، والانتقال من مرتبة إلى أخرى لا تقرره غالبية الأعضاء فهو حق القيادات الأعلى التي تعرف وحدها معايير الكفاءة، في ترقية من يستحق التعيين في المرتبة الأعلى. أما الانتخاب فيتعارض مع الجانب الأمني، إذ أن العضو الجديد لا يؤمن له، والانتخاب محصور في القيادات التي وحدها تعرف قيمة الديمقراطية وتستطيع ممارستها دون المخاطر المتوقعة عندما يترك أمرها للأعضاء.
وعندما يتم تبني الحزب للانتخابات الداخلية في ظل مبدأ المركزية الديمقراطية، الذي يؤمن الخضوع والطاعة، فإن التدخل القيادي يستمر- ولو بشكل أقل- بوسائل متعددة لتقييد هذه الانتخابات فيمكن إلغاءها أو تأجيلها أو توجيهها لتأتي مناسبة للقيادة التي تعيد إنتاج هيمنتها من خلال الانتخابات. فالديمقراطية المقبولة للقيادات المركزية هي ديمقراطية مقيدة، لا تعرقل تنفيذ أوامر القيادات. والمركزية الديمقراطية عملياً تقطع الطريق على الديمقراطية الحقيقية، وتضمن للقيادة سلطة مركزية دائمة. كما لم تكن المسألة داخل الحزب المركزي دائماً إشكالية ممارسة الديمقراطية داخله في ظل نظام غير ديمقراطي، فالإجراءات القمعية للسلطات تحد من ممارسة الأحزاب لديمقراطية داخلية واسعة لكنها لا تلغيها، بينما "المركزية" كمبدأ تنظيمي أساسي تتناقض مع أي إجراءات ديمقراطية داخلية، وقد يسمح ببعض مظاهرها الشكلية بعد تسميتها "ديمقراطية مركزية"، وعندما يصل الحزب للسلطة يسمي تهميش الديمقراطية في المجتمع "ديمقراطية شعبية".
والتنظيم في الحزب المركزي هو "جهاز" مهمته التنفيذ أولاً وقبل كل شيء، أما النقاش فهو أمر ثانوي. والانضباط لا يقتصر على مواعيد الاجتماعات وتنفيذ المهام الحزبية بل يشمل المواقف السياسية الرسمية التي لا تقبل الاجتهادات الفردية، أما عدم الانضباط فيستوجب سلسلة عقوبات تبدأ من الانتقاد وتنتهي بالفصل، وتقررها للأعضاء المراتب الأعلى. والسرية فيه ليست دائماً لمواجهة سلطة قمعية ولتوفير الأمن للتنظيم، فهي قد تصبح عادة لا يمكن الفكاك منها، مطلوبة لذاتها رغم تحسن الظروف الأمنية، فهي تمكن من استمرار القيادات بعيدة عن مراقبة الأعضاء. وعندما تكون القيادات جماعية فهي محدودة العدد أقرب إلى هيئة أركان في تنظيم عسكري تقليدي منها لتنظيم شعبي.
الانتماء للحزب ليس مفتوحاً للجماهير لمن يوافق على برنامجه ويتعهد بنشر مبادئه، فلا بد للعضو من تزكية ليتم تنسيبه،، ثم يخضع المرشح لفترة تدريب واختبار، وقد تكون هناك مدارس للحزب لقولبة العضو وتكوين نخبة ترفد الطبقة القائدة. بينما يختار العضو في الأحزاب الديمقراطية المنفتحة الحزب، وينتمي إليه بناء على موافقته على برامجه ووفق شروط عضوية ميسرة تزيد الأعضاء لصالح الانتخابات، ونشاطه في صفوفه هو أحد أوجه نشاطاته الاجتماعية المتعددة، بينما الأحزاب المركزية تسعى لأخذ كل أوقات العضو وكل جوانب حياته لامتلاكه بشكل كامل.
الحزب المركزي حزب شمولي حيث العقيدة تتخذ طابعاً دينياً مما يمكن القيادة من السيطرة المطلقة على الأعضاء، فيتم داخله بشكل دائم القضاء على اختلاف الآراء تحت شعار "وحدة الفكر والإرادة والعمل"، و تتخذ القرارات من أعلى و"يقال" أنها اعتمدت على آراء القاعدة، وهي آراء لا تؤخذ في الاعتبار في أغلب الأحيان. ويرى الحزب أن العقيدة -القومية أو اليسارية أو الاسلامية- تعمل لمصلحة الجماهير دون اختبار ذلك في استفتاءات أو استطلاعات أو انتخابات. أما الوحدة الفكرية الصارمة فتؤمن وحدة التنظيم شبه العسكرية وتمنع انقسامه إلى تيارات أو تكتلات تتصارع فيما بينها، أما الاجتهاد الفكري فهو مقبول إذا اندمج في فكر الحزب بشكل طوعي وإلا يتم إسقاطه، أي أن الاجتهاد ات والآراء يجب أن تعرض ضمن الأقنية التنظيمية وليس خارجها ليتم ضبطها.
تعاني تنظيمات الايديولوجيا الواحدة من الجمود الفكري ومعاكسة الوقائع ومعارضة أي محاولة داخلية للتطوير، فهي لا تضمن وحدة التنظيم وعدم انشقاقه عند أي فعل تغييري، مما يولد عادة حركة خروج جماعية في التنظيمات الشمولية، فالانشقاق الطريقة الوحيدة لطرح الآراء المخالفة لما هو سائد، لتتبادل الأطراف المختلفة تهم "التحريفية" المشابهة في الأديان لتهمة "الكفر". لذلك يعتمد الحزب المركزي الشمولي عملية التطهير أو التصفية لإدخال برامج جديدة أو استبعاد أفكار جديدة يخشى من تبلورها في تيارات.
والأيديولوجيا في الأحزاب عادة ما تكون مبنية على مطالعات فكرية أكثر منها دراسات للواقع القائم في حينه. حيث توجه القيادات الكوادر لمزيد من التثقيف الفكري بنصوص النظريات العالمية أو التراثية بدل التفرغ لدراسة الوقائع المحلية والدولية واستخراج المبادئ النظرية المناسبة لها. وعند أي منعطف تغييري تقف الأغلبية مع المفاهيم السابقة على أنها الحقيقة المطلقة، حيث أنه تم تحفيظها للأعضاء كمبادئ بديهية و"ثوابت"، رغم أنها قابلة للتطوير للتوافق مع وقائع متجددة، وبالحوار مع الآخرين، في حالة توفر إمكانية دفاع كل تيار عن آرائه بكل الوسائل العلنية المتاحة وبشفافية كاملة.
تشبث الأحزاب العربية "بالثوابت" القديمة المجسدة في نصوص شبه مقدسة توفرها النظريات -القومية والإسلامية والماركسية-، يبرر بناء تنظيمات "مركزية" جوهرها واحد رغم تنوع النظريات التي تنتجها، حيث تتحول المركزية مع الزمن إلى جزء من "الثوابت" النظرية يتم التمسك بها رغم تآكلها واتضاح عدم ملاءمتها وإعاقتها للتطور، لأنها تعمل لمصلحة للقيادات أو القائد الفرد. وبعكس ذلك فالحزب الديمقراطي لا يحتاج للالتزام بأيديولوجيا واحدة لتأمين وحدته، فالرابط الأساسي بين أعضائه قناعتهم ببرنامج مشترك بنوده قابلة للتطوير وغير مقدسة، فيكون أقل تعرضاً للانشقاقات، ويمكن أن تتعايش فيه ايديولوجيات مختلفة، وهذا لا يمنع من وجود خطوط نظرية أساسية مرنة كانعكاس للبرامج والوقائع، تختلف عن الايديولوجيا، التي يجري الالتزام بها مسبقاً لتخضع الوقائع في الحزب والمجتمع لاشتراطاتها.
الخلافات بالرأي في الحزب الشمولي، نتيجة لغياب الأسلوب الديمقراطي الذي يحافظ على تماسك التنظيم رغم تعدد المفاهيم الفكرية والسياسية فيه، تتحول إلى انفعالات ومواجهات تتخلى عن الموضوعية ثم إلى اتهامات وتصنيفات "يمينية" و"يسارية"، مما يسبب تقطع في العلاقات الأخوية التي كانت تحل ضمنها الخلافات السابقة كبديل عن العلاقات الديمقراطية. وتعالج الخلافات عادة بالتكتم وبنفي وجودها أوبالتأجيل. وتحجب الخلافات والآراء المختلفة والمناقشات عادة عن الأعضاء، فيسبب وصولها بعد تفجر الأزمات لصدمات وانهيارات، فإذا حدثت اصطفافات أو فرز يذهب الأعضاء المعتادون على الطاعة غالباً مع مواقف وأفكار الطرف القيادي الذي كانوا على اتصال به.
وقد يتحول الحزب إلى عدة أحزاب متجاورة، بعد أن يفقد وحدته الفكرية "الحديدية". فيجري تجاهل هذا الأمر الواقع لأن الحزب لا يقبل بالتعدد داخله. بينما في الحزب الديمقراطي يجري الاعتراف بالتعدد رسمياً وتوضع الأسس الديمقراطية الداخلية لحركة جدل بين الآراء المتعددة للوصول إلى قواسم مشتركة مع احترام الرأي الآخر، والاحتكام في النهاية للتصويت في اجتماعات ومؤتمرات عامة وقبول نتائجها مع حق الأقليات في استمرار طرحها العلني لآرائها، وترك الزمن والتجربة لتقرر أي الأفكار هي الأسلم من حيث ملاءمتها للواقع.
الحزب الديمقراطي يرى في المواطنين الأساس في تحديد الأهداف السياسية، لذلك يسعى ليكون رأيهم مسموعاً في جميع القضايا التي تهمهم. أما الحزب الشمولي فالمبادىء والنظريات عنده هي الحقيقة المطلقة التي لا يمكن الجدل حولها، وهو لا يحتاج لرأي المواطنين ليرى إن كانت مبادئه وأهدافه هي أيضاً مبادئ وأهداف الشعب، فهي عنده بديهيات لا يرقى إليها الشك. وهو ليس بحاجة لديمقراطية داخلية تربي الأعضاء لمجتمع ديمقراطي قادم، فهو حزب يبني من أجل الثورة القادمة وليس الانتخابات القادمة، وتحقيق المهام السياسية والاجتماعية "التاريخية" التي نذر الحزب نفسه لها.
يدعي الحزب الثوري أنه لا يستطيع انتظار الطريق الإصلاحي التطوري "الذي يقود للانحلال وتضييع الهدف"، فلا بد من التنظيم الثوري لتجسيد العقيدة وبلورتها وتحقيق أهدافها. وعندما يصل إلى السلطة بأية طريقة، فإنه عادة يتبنى حكم الحزب الواحد ويلغي الأحزاب الأخرى، فالديكتاتورية والاستبداد قديمة قدم العالم، لكن الديكتاتورية المستندة إلى حزب واحد هي اختراع جديد، خاصة في الاتحاد السوفييتي وألمانيا وايطاليا بعد الحرب العالمية الأولى، ثم توسع بعد الحرب العالمية الثانية ليشمل دول أوروبا الشرقية وغالبية دول العالم الثالث بعد استقلالها. وتشابهت الأحزاب الفاشية والشيوعية والقومية الاشتراكية في عدد من المسائل الديمقراطية، فيما عدا أن الأولى تركز على حصر السلطة بحزب ينوب عن الطبقة البرجوازية بينما تركز الثانية والثالثة على حصرها في حزب يستبدل الطبقة العاملة والفلاحين.
أغلب الأحزاب الثورية لا تعلق أهمية على التغيير عن طريق العمل البرلماني وتأمل بالوصول إلى السلطة عن طريق الانقلابات، والانقلابية في عدد من الدول العربية قضت على أي بوادر لتطوير التجربة الديمقراطية البرلمانية لما قبل وما بعد الاستقلال، وأبعدت المواطنين عن السياسة وعن التأثير في القرارات المصيرية التي تمس حياتهم ومصالحهم. والانقلابات العسكرية التي يسميها أصحابها "ثورات" وخصومها "ردات"، تنجح وتستمر إذا قامت بتصفية الأحزاب السياسية المتعددة الاتجاهات، ثم تصفية أجنحة الحزب الواحد الحاكم لصالح "قيادة الثورة" لتنتهي بتهميش هذه القيادة لصالح القائد الفرد.
والحزب "الثوري" الذي يصل للحكم عن طريق بضع عسكريين يتحول إلى حزب يعد بمئات ألوف الأعضاء في السلطة، لينفكوا عنه عندما تنهار سلطته. وليس ضرورياً أن تبقى السلطة للحزب، الذي يمكن أن يتحول إلى واجهة للعسكر، أو أداة بيد القائد المطلق. هذه الصورة ليست استثنائية بل تكررت حتى يومنا هذا في كل حزب ثوري، عربي أو غير عربي، وخاصة بعد إضافة "القائد الفذ" إلى "النظام الثوري" و"الحزب الثوري".
تعتقد هذه الأحزاب أنها "طليعة" لشعب لا يستطيع حكم نفسه، فالديمقراطية لديها وسيلة ينتهي استخدامها عند الوصول للسلطة بأي طريقة ممكنة، فهي تنهي أي مظاهر ديمقراطية كانت موجودة قبلها، وتنزلق للتعالي على المواطنين واستبدال دورهم بدل أن تكون مهمتها الأساسية حثهم على أخذ أمورهم بأيديهم، وتربط منظماتهم الشعبية من نقابات واتحادات وتعاونيات وجمعيات..بعلاقات تبعية بحيث تخدم الحزب بدل أن يكون الحزب في خدمتها، وبحيث تتحول مهمة الحزب في السلطة لنشر أوامر القائد الفرد ومراقبة المواطنين والوشاية بهم.
لا ينتبه الحزب "الثوري" عادة إلى أن توفر القوة للمجتمع لمواجهة الاستحقاقات الخارجية والداخلية لا يمكن أن يتأتى إلا من مجتمع مدني لحمته المواطنين الأحرار الذين يملكون المبادرة غير المقيدة للعمل في شتى المجالات، فهو يركز على أن القوة تأتي من نظام "ثوري" بصرف النظر عن دور المواطنين، أو من حزب "ثوري" عقائدي واحد، يخضع المواطنين في صفوفه للنظام المركزي ولطاعة القيادات ويثقفهم بأفكاره ويدفعهم للمعركة حسب استراتيجيات وتوجيهات وضعتها القيادات العليا للحزب، فالعضو بدلاً من أن يجد في حزبه مجالاً حراً لينتج ويبدع يعوضه عن قمع السلطة يصبح تكبيله مزدوجاً في الحزب والمجتمع، لذلك يفر من الحزب في أول فرصة ممكنة.
مفهوم الديمقراطية في المجتمع لدى الأحزاب الثورية اشتقاق من الأيديولوجيا التي لا تقبل بحريات إلا لطبقة واحدة أو لحزب واحد، أو أنها شورى للضالعين في العلم غير المنتخبين..، فإذا جاء نظام جديد فسيكون نسخة عن القديم، فالحرية هي للقادم الجديد للحكم مع حجبها عن كافة الأحزاب الأخرى. وتفضل الأحزاب الثورية وضع العمل ل"الديمقراطية" في المجتمع وداخل الحزب في آخر جدول أعمالها، فتؤجلها من أجل أي هدف آخر، وتجعل الأولوية "للوطن" على "المواطن"، بينما المواطن الحر المتمتع بكافة حقوقه هو الأساس في تحقيق كل هذه الأهداف، وقد أدى تأجيل الديمقراطية بحجة العدو الخارجي والوحدة الوطنية والاشتراكية.. الذي دام حتى يومنا هذا، إلى تراكم الهزائم والكوارث والتراجعات. أساس المشكلة لدى هذه الأحزاب أولوية الأهداف الثورية التي لا تنفع معها الأساليب البرلمانية والديمقراطية الليبرالية التدرجية والتراكمية، مما يفترض بناء حزب ثوري واللجوء للأساليب الإنقلابية، وبالنتيجة فإن "الثورية" تعني لديها التناقض مع الأساليب الديمقراطية، التي هي خطر على سلطة الثوريين.
في تاريخها الطويل غرقت الأحزاب العربية في صراعات طاحنة، فالعلاقات الوحيدة شبه المستقرة بينها هي علاقات الصراع التناحري، رغم إمكانية الوصول إلى قواسم مشتركة تفرضها المصلحة العامة للشعب التي تعلو على مصالح الأحزاب. وهي صراعات وصلت أحياناً إلى سفك الدماء، ونشبت غالباً بسبب رفض قبول الرأي الآخر أو تخوينه ووضع أصحابه في مصاف الأعداء، لاعتقاد كل حزب أن مبادئه هي الحقيقة المطلقة التي لا يمكن التنازل عن أي منها للتلاقي مرحلياً، وهو ما يحدث عادة عندما لا تتم العودة للشعب في انتخابات حرة تحدد أي الأحزاب تنال ثقته وأيها تتحول إلى المعارضة، لتسعى لاحقاً للعودة إلى السلطة، في تداول دائم لها.
إن تأسيس أحزاب ديمقراطية حديثة متعددة على أنقاض الأحزاب المركزية الشمولية، أحد أهم الأسس لنهوض عربي يتجاوز الهزائم والكوارث، ويضع المواطنين الأحرار على الطريق الموصل لتحقيق أهدافهم التي تخدم مصالحهم.



#جورج_كتن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المخاض العسير- لعراق ديمقراطي عقبات وحلول
- وثيقة جنيف والنخب العدمية
- أممية شعبية قيد التشكيل


المزيد.....




- منهم آل الشيخ والفوزان.. بيان موقّع حول حكم أداء الحج لمن لم ...
- عربيا.. من أي الدول تقدّم أكثر طالبي الهجرة إلى أمريكا بـ202 ...
- كيف قلبت الحراكات الطلابية موازين سياسات الدول عبر التاريخ؟ ...
- رفح ... لماذا ينزعج الجميع من تقارير اجتياح المدينة الحدودية ...
- تضرر ناقلة نفط إثر هجوم شنّه الحوثيون عليها في البحر الأحمر ...
- -حزب الله- اللبناني يعلن مقتل أحد عناصره
- معمر أمريكي يبوح بأسرار العمر الطويل
- مقتل مدني بقصف إسرائيلي على بلدة جنوبي لبنان (فيديو+صور)
- صحيفة ألمانية تكشف سبب فشل مفاوضات السلام بين روسيا وأوكراني ...
- ما عجز عنه البشر فعله الذكاء الاصطناعي.. العثور على قبر أفلا ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج كتن - نحو أحزاب ديمقراطية تزيح حزب -ما العمل- المركزي والشمولي