فوزي الاتروشي
الحوار المتمدن-العدد: 2225 - 2008 / 3 / 19 - 10:18
المحور:
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
الهزيمة يتيمة اما الانتصار فله الف اب زاعم ومدَّعي الى الحد الذي يضيع اسم الصاحب الحقيقي للانتصار ويهال عليه التراب. ينطبق هذا التوصيف على الكثير من الثورات في العالم والثورة الكوردية ليست استثناءاً على القاعدة , ولكن الظاهرة في الحالة الكوردية فاقعة وصارخة اكثر من المألوف , وذلك يعود لسعة صدر الحركة التحررية الكوردية واقدامها في كل مراحلها على العفو عن المذنبين والمتعاونين مع الانظمة التي تقاتلها وكل الذين خانوا الارض ومزقوا القضية وحصروا المبادئ في كيفية مراكمة ثرواتهم دون مراعاة لأنتزاع الحرية لأنهم اصلاً ولدوا للاستعباد.
الى هنا تبقى الظاهرة معهودة ولكن ان يتسلق بعض هؤلاء مواقع مؤثرة وحلقات ذات نفوذ فأنه امر لا يمكن استيعابه ولا فهمه او قبوله لأنه ضد طبيعة الامور وضد المنطق والعقل. ان المخبر الذي سبب المــــأسي للعوائل الكوردية , وكشف اسمـــاء البيشمركـــة الملتحقين بالثورة , والمتعاون الذي حمل السلاح على مدى سنيــــن ضد بني جلدته , وآمر الفوج الامني الذي لاحق الاطفال والنساء في كل زاوية من كوردستــان لضمهم الى قافلــة الموت ابان تراجيديــا الانفال , "والمستشار" ! الذي جمع عشيرته على كلمة عرجاء وليست سواء ملخصها بيع الذمة للمشترين اينما كانوا , والكاتب الكوردي الذي انهمك في دهاليز الامن والمخابرات لكتابة التقارير الامنية حول نشاط زملائه , والمقاول الذي كرس ثروته لبناء القلاع العسكرية على جبال كوردستان , والفنان الذي قتل ضميره لكي لا يوخزه وهويصدح للدكتاتور . كل هؤلاء يمكن العفو عنهم , فالعفو عند المقدرة فضيلة , ولكن العفو والتسامح ينبغي ان لا يتحول الى ملاذ اخر ينطلق منه هؤلاء لتسلق مواقع وانتزاع امتيازات ومواصلة مراكمة الثروة . ولكي نضع الاصبع على الجرح نقول ان بعض هؤلاء الاقزام جرى العفو عنهم عام 1991 وعادوا الى مهنتهم القذرة وكـُشف الغطاء عن اسمائهم النتنة الرائحة بعد التحرير ليتم مجدداً الصفح عنهم , والمعروف ان العودة في حالة الجريمة ظرف مشدد وليست ظرفاً مخففاً .
ان الثورة يتحتم عليها ان تبقى وفية لأبنائها وهم قلة ونخبة مؤمنة احرقت كل شموع العمر لتبقى القضية مشتعلة ومضيئة وحاضرة في الضمير العالمي .
وهذه النخبة من المقـــاتلين والمناضلين والكتـــاب والفنـــــانين والنســــاء والشبـــاب والسياسيين هي التي عجنت الثورة بدمها ودموعها واحزانهـــــــا حتى تبلورت وتجسدت وعبرت بالثورة من النفق المظلم الى النور والضفاف الخضراء .
هؤلاء قلة ولكنهم الاكثرية الحقيقية لجهة العطاء والبذل ونكران الذات والزهد في الحياة والملذات والسخاء في الاحتراق الدائم , وفق وصف الشاعر التركي الكبير (ناظم حكمت) حين قال :
ان لم احترق أنا
ان لم تحترق انت ... فمن ينير الطريق
لقد كان البارزاني الاب دائماً واثقاً من النصر ومتأكداً من هزيمة الظلم امام العدل والقبح امام الجمال والقمع امام توق الشعب الكوردي ككل شعب اخر الى الخبز والحرية . ولكنه كان يتوجس الخوف من ان يُحرم خالقي النصر من ثمرة الثورة .
ان أية دراسة واقعية في يوميات الثورات في العالم سيؤدي بنا الى خلاصة ان الثورة الكوردية هي الاكثر تساهلاً وتسامحاً لكي ينفذ منها من لم يقدم ذرة من العمل والجهد الوطني , لأن القيم الاجتماعية الكوردية تتسلل بسهولة الى جسم الثورة والاحزاب الكوردية فتصبح المعايير متماهية والحال ان الثورة والحزب حالة متقدمة على المجتمع وليست تابعة له اومنطبقة معه كلياً , وألا ما معنى البعد التغييري النقدي التثويري الاجتماعي في الثورات ؟ .
ان جيش الوصوليين والمنتفعين والطارئين والقافزين على الاكتاف والزاعمين لأدوار وهمية وحتى الذين رفعوا سلاحهم ضد واحدة من اعدل ثورات العالم , يمكن التسامح معهم كما فعلت ثورة جنوب افريقيا وثورات اخرى لعدم تمزيق المجتمع وأنعاشه بالوئام والتناغم , ولكن لا يجوز ان يكون بعض هؤلاء في مفاصل القرار والنفوذ. لننظر الى جنوب افريقيا ذات التجربة النموذجية في "الحقيقة والمصارحة" فأنها اذ عفت وتسامحت رفضت حتى ان تمنح رئيس الاقلية البيضاء دوراً لا يستحقه لأنه ضمن المؤسسين لنظام التمييز العنصري البغيض.
ان حشد الكوادر في الاحزاب الكوردية ولا سيما الحزبين الكورديين الكبيرين , هو القادر وحده على ضخ الدماء الجديدة في شرايين الحركة التحررية الكوردية لأنها متمرسة وتعتبر نفسها جسراً يعبر عليه الاخرون ومشروعاً للصالح العام دون اي توجه نفعي ذاتي , وهم الذين ينبغي ان يكونوا في مواقع القرار والنفوذ والعمل المفصلي , انهم خلاصة النبل الكوردي في الزمن الصعب , وهم بيادر القمح الحافلة بالخير في زمن القحط الردئ واكبر وفاء لهم ان تكون مفاتيح الحل والعقد بيدهم , فالمسيرة ما زالت اطول مما نتوقع والايام القادمة حبلى بالتوقعات والتحديات .
قبل ايـــام كنت اقرأ احدث كتـــــاب صدر حول الثــــــائر العالمي (جي كيفــــارا) بعنوان "احلامنا التي لا تعرف حدوداً" وادركت مجدداً لماذا ظل هذا الانسان ايقونة الثورة والحرية. فقد كان احد اكبر الزاهدين في متع الحياة واحد اكثر المستعدين للبذل والعطاء حتى سال دمه وهو ينادي قاتله عام 1967 (أقتلني يا جبان انك أمام رجل) .
ان البارزاني الاب خيمَّ على نصف قرن من الزمن دون ان يتثاءب او يشعر بالملل ورحل تاركاً تراثاً رائعاً للتمرد الانساني والمقاومة وما علينا سوى تجديده فينا وانعاشه في الذاكرة الى الابد .
وكيل وزارة الثقافة في العراق
#فوزي_الاتروشي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟