كم من كتاب يقرأه الملايين من القراء اليوم دون أن يدركوا أن كتابها أدينوا بسببها في حياتهم أو حتى بعد موتهم .التاريخ الإنساني منذ سقراط والحلاج وعمادالدين نسيمي وجنيد يراقب عن كثب أولئك الذين ضحوا بحياتهم في سبيل أفكارهم ،أو الذين دخلوا قفص الاتهام وقضوا سنوات من حياتهم في سبيل كتاباتهم ،وما أكثرهم في تاريخنا المعاصر.
بودلير وأزهار الشر
اليوم حينما يعرض في مختلف مكتبات العالم ديوان بودلير (أزهار الشر) بأرقى الطبعات إلى القراء ،لا يدرك معظمهم أن شاعرهم المفضل عاش الجحيم خلال حياته القصيرة العليلة . لم يحظ خلالها إلا بانتقادات لشعره تصل إلى درجة الشتيمة والاستهانة به .حيث كانوا يشبهون شعره بكومة من القاذورات والفضلات .كما لم يستطع في حياته القصيرة من التحرر من ضغوط دائينه.ماعدا واحدة كانت تركن إليها روحه القلقة ،المتعبة، هي جين دوفال الذي كان بودلير يقول عنها:
ـ إنها تضمد الجراح التي في عقلي.
كان بودلير في حياته اليومية ، يبدو وكأنه يرى نفسه والعالم الذي حوله في مرآة مقعرة .حتى طفولته كانت تعيسة مليئة بالعقد،خالية من بصمات الفرح والانطلاق .لذلك بدا غير مهتم بأي شيء،ولا يعرف إلى الجدية في حياته سبيلا. فعاش مفضلا التشرد على كل شيء.فلم يكن في وعيه ما يمكن تسميته بالمسؤولية.فقد كان همه هو أن يعيش ،يعيش كل شيء،الحياة من أجل الحياة.كما لم يكن يعرف قيمة النقود.لذلك كان يبذر فورا كل ما تصل إلى يده من النقود.وكان يهبها خاصة للنساء اللاتي ظللن يستغلنه حتى أواخر حياته .
العقدة التي كان يعاني منها بودلير هي، لهفته إلى حنان الأم ، وهو الحنان الذي بحث عنه في جميع النساء التي تعرف عليهن.وقد بلغت معاناته ذروتها بعد زواج أمه للمرة ثانية من عسكري قاس،حاد الطباع .وبسبب الحفلات والولائم المستمرة في بيتها، نسيت ابنها بودلير وأهملته .ولم يكن بودلير في نظر زوج أمه إلا بائس شاذ.
رجعت أمه إليه فيما بعد ،لكنها كانت عودة متأخرة لأنه كان على فراش الموت.فلم يجد منها إلا ذبالة شاحبة من الحنان الذي افتقده ،وهو موشك أن يودع حياته القصيرة ،والتي فارقها وهو مشلول يحدق بعينين جامدتين في السقف.وذلك في 31 آب/أغسطس من عام 1867 . مهمهما بكلمات غير مفهومة :
ـ الألوان تشحب،يداي ترتجفان ،أريد النوم ..
أزهار الشر في قفص الاتهام
يعتبر (أزهار الشر) أهم أعماله التي تعرضت مثل رواية فلوبير(مدام بوفاري) إلى المحاكمة بتهمة إساءتها للآداب العامة.وذلك في نفس السنة التي نالت فيها رواية فلوبير البراءة.
كان ديوان فلوبير قد صدر في 25 حزيران 1857 .ورغم أن بودلير كان يتوقع إدانة ديوانه ، إلا أنه كان يأمل في النهاية أن يعامل مثل لامارتين وروسو وموسيه .لكنه أصيب بخيبة أمل شديدة عند إطلاعه على النقد المنشور في جريدة (فيغارو) التي دعت المدعي العام للقيام بمهمته في إقامة الدعوة ضد الشاعر لأنه يدعو إلى الإباحية . وكان النقد يتضمن لمزا وغمزا خبيثين :
((..يخيل للمرء أحيانا أن بودلير يعاني من لوثة عقلية.وتبدو عقدته هذه أحيانا بجلاء بحيث يتيقن المرء من ذلك.فهو يكرر نفس الكلمات بشكل يبعث على الملل ويكرر نفس الأفكار الشاذة..القذارة والبذاءة والحقارة تصطف جنبا إلى جنب..ولم يصادف وان عثر في ديوان صغير مثل ديوانه على نهود تمضغ كالعلكة بالكم الهائل الذي عليه في الديوان .كما لم تتعانق الأعضاء الأنثوية والذكورية وكأنها في حضرة زبانية إبليس. كما في ديوانه .هذا الذي الديوان يبدو مثل مستشفى مفتوحة للقبح والجنون..))
أحدث هذا النقد أصداء واسعة في الرأي العام الفرنسي عند نشره.إلا أن البعض لم يكونوا متفقين مع الناقد المذكور.قال فكتور هيغو مخاطبا بودلير:
لقد أحدثت بديوانك هذا زلزالا جديدا في سماء الفن والثقافة .
انقسم المجتمع الباريسي على نفسه، بين مادح لأزهار الشر وذام له .لكن ذلك لم يمنع من أن يقيم المدعي العام دعوته القضائية ضد بودلير في 17 تموز 1857 بتهمة الإباحية .حيث بدأت الجلسات في 20 آب من نفس العام.وكان المدعي المدعو بينار، هو نفسه الذي أقام دعوة ضد فلوبير في السابق ،وهو نفسه الذي سيصفه بودلير فيما بعد بأنه كان ثقيل الدم بشكل غير استثنائي.
كانت هيئة الادعاء عازمة على إنزال القصاص بالشاعر ،حيث كان المدعي يقرأ عبارات من ديوان الشاعر ثم يلتفت إلى الجمهور معلقا :
ـ أليس كل ذلك إباحيا ،ومنافيا للآداب العامة؟..علينا أن نعذر بودلير لأنه كائن معقد وغريب.ولكن ذلك يجب أن لا يمنعنا من إدانة بعض قصائده.وإلا فبدون ذلك لا يمكننا مواجهة رد فعل المواطنين .
وكان محامي الدفاع غوستاف شيك دأس ،يقرأ في مرافعته مقاطع من كتابات لامارتين وموسيه وألكسندر دوما ،وقد أحسن فعلا بذلك حيث اكتفت المحكمة في نهاية جلساتها، بتغريم الشاعر مبلغا قدره 300 فرنك.كما تم حظر طبع ديوانه بتهمة دعوته للإباحية .بينما حكم عليه بالبراءة من تهمة تنديده بالأعراف والقيم الدينية في نفس الديوان
أحدث قرار الإدانة تعاطفا كبيرا مع الشاعر .حيث كان هيغو أول المتعاطفين معه ،مبديا إعجابه بما كتبه.كما أتهم غوتيه أعضاء المحكمة بالجهل والسخف .لكن القرار بالنسبة للشاعر رغم التعاطف معه كان مجحفا . واكبر من أن يتحمله شاعر مفرط الحساسية مثل بودلير. وقد ذكر كل من التقى به بعد القرار، أنه بدا مثل شجرة تعرضت إلى هجوم أسراب من الدود عليها.لقد حاول بودلير جاهدا رفع قرار حظر طبع وتداول ديوانه ولكن بلا جدوى . مات الشاعر وتهمة شاعر الإباحية ملتصقة به .
من اجل رفع هذا القرار الجائر كان لابد من الانتظار ما يقارب المائة عام بالتمام والكمال.ففي 31 مايس 1949 قام الادعاء العام بنقض القرار الذي سبق وان اتخذته في 1857 حول حظر طبع ديوان (أزهار الشر) وكان بودلير قد قال لأمه أثناء جلسات المحكمة:
ـ أعلم أن هذا الديوان سيعيش بجانبه السلبي والإيجابي. .وأنه سيأخذ في يوم ما مكانه إلى جانب دواوين بايرون وهيغو .
عشيق الليدي تشاترلي في قفص الاتهام
أدان القضاء البريطاني طوال تاريخه العديد من الكتب والروايات ،رغم اعتبار البعض بريطانيا مهدا للديمقراطية ،ورغم شيوع العديد من الروايات والأفلام الجنسية الرخيصة فيها.ورغم إجراء تعديلات على بعض المواد القانونية في هذا المجال حيث تم اتخاذ قرار أنه لا يمكن اعتبار أي كتاب مخلا بالأدب إلا حينما يكون خاليا من العنصر الأدبي والفني ،ورغم ما ترتع به الحدائق العامة البريطانية من مشاهد غرامية حامية وساخنة بين العشاق على مرمى ومسمع من المارة إلا أن القضاء البريطاني لم يتوان من اعتبار رواية د.هـ.لورانس عام 1960 منافية للآداب العامة، ورواية إباحية.
ولد لورانس في 1885 بأستوود ،ابنا لعامل من عمال المناجم.لم يتسن له أن يدرس بانتظام .إلا أنه استطاع أن يتعين معلما في إحدى المدارس,
توفي لورانس عام 1930 في جنوب فرنسا .وقد تم جمع أعماله الكاملة في تسعة أجزاء،خمسة منها روايات والبقية تضم أشعاره.وقد تم ترجمة كلها إلى معظم لغات العالم.
كتب لورانس القسم الكبر من روايته (عشيق الليدي تشاترلي) في سويسرا.وقد أحدثت ضجة كبيرة في كل لغة ترجمت إليها هذه الرواية التي تتحدث عن عائلة حطمتها الحرب .فالزوج يعود إلى بيته وهو يعاني من العجز الجنسي.أما زوجته الليدي تشاترلي، فهي لا تزال في أوج شبابها وأنوثتها.لذلك لا تتردد في الانقياد إلى علاقة آثمة.
ليس في ثيمة الرواية ما يمكن وصفه بالفضائحي أو الإباحي ،ما عدا الوصف التفصيلي للورانس للقاءات الجنسية بين العاشقين.
بعد مرور ثلاثين عاما على وفاة لورانس، قامت إحدى دور النشر بنشر الرواية مستغلة بذلك التغييرات التي طرأت على قانون المطبوعات البريطاني .حيث قامت بطبع 200 ألف نسخة من الرواية .إلا أن الادعاء العام البريطاني أقام دعوة قضائية ضد دار النشر في 20 تشرين الأول /أكتوبر من عام 1960.وقد مثل الادعاء غرفث جونس، بينما تولى ثلاثة من المحامين مهمة الدفاع عن الرواية المدانة(عشيق الليدي تشاترلي) .
وقد أدان الرأي العام البريطاني هذه القضية ،معتبرا إياها بأنها لطخة سوداء في جبين بريطانيا.وقد أكد محامي الدفاع غاردينر، أن الرواية تعتبر من أروع الأعمال الأدبية،وان مؤلفها لورانس هو من أعظم كتاب القرن العشرين، والمفروض لبريطانيا أن تفتخر بهذا العمل المبدع الذي ترجم إلى معظم اللغات في العالم . وأن موضوع الاتهام، هو كاتب عظيم سوف يستمر تأثير أعماله الأدبية على الثقافة الإنسانية لسنوات طويلة.
طلبت المحكمة إحالة الرواية إلى لجنة من الخبراء للبت فيها .وكانت اللجنة تضم خليطا من العلماء والكتاب والمثقفين والنساء والقسس .وكانوا جميعا يبدون متفقين على التفكير بصوت واحد على أن رواية (عشيق الليدي تشاترلي) " رواية ذات مستوى فني رفيع ،ولا يمكن اعتبارها إباحية بأي حال من الأحوال ".
اضطرت هيئة المحكمة إلى الامتثال لهذا الرأي. بعد أن رأت أنه حتى رئيس القسس فير وولويج، يرى بأن الرواية ليست مخلة بالآداب.وكان رأي سيدة أخرى في نفس لجنة ،يشير إلى أن الرواية رفعت العلاقات الجنسية إلى مستوى التقديس .
وقد ضحك الجمهور عند تلاوة القاضي هذه العبارة إلا انه تدارك الأمر قائلا: لقد استمعتم إلى رأي من يمثلون شرائح ثقافتنا الوطنية ،إلا إن الرأي الأخير سيكون رأينا لا رأيهم .
كلفت المحكمة أحد أعضاء هيئة المحلفين بقراءة الرواية في إحدى صالات المحكمة الخالية،لبيان رأيه حولها. وحينما أتمها سأله القاضي :
ـ هل أنت مقتنع بأن دار النشر التي طبعت الرواية متهمة أم بريئة ؟
قال العضو :
ـ بريئة .
وضجت قاعة المحكمة بتصفيق حاد .