أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد درويش - خميس الموتى














المزيد.....

خميس الموتى


خالد درويش

الحوار المتمدن-العدد: 2198 - 2008 / 2 / 21 - 08:52
المحور: الادب والفن
    



كان طريقي مشرقاً الى الحدّ الذي بدأت اشعر فيه بأن كآبتي لا مبرر لها. داهمتني دهشة غيرم ألوفة منذ سنين... فالاولاد في لهوهم وضوضائهم كأنهم في يوم عيد والندى يقطر من وريقات شجر وارف والزهر كثير... الكبار، نساءً ورجالاً، يحيّي بعضهم بعضاً بأدب جمّ. كأن تحيّاتهم تتصاعد كهباب من قلوبهم البيضاء وعيونهم الضاحكة، باستثناء ذلك الرجل الذي ينتظر دوره في صالون الحلاقة وينتظرني، فقد ظلّ عابساً، متوتّرا، عازما على تنفيذ قرار اتّخذه في رهان سهرة الأمس/ أيّ قرار، أيّ رهان وأيّة سهرة؟/ لم اعد اذكر، ولكنّ ما اذكره ويؤرّقني هو ان الرجل قرّر احد أمرين: يقتلني أو ينتحر.
كان يجلس في صالون الحلاقة متجهماً، يتصفّح مجلة فنية قديمة مخفّفاً بذلك من وطأة حمأته وسأمه. رآني فتحفّز، رأيته فخفت منه، وخفت عليه... كانت حجّتي أضعف من ان تثنيه عن قراره في الانتحار وكانت قواي أعجز من أن تقاومه ان أراد قتلي. تردّدت في دخول الصالون، خطوة الى الأمام وخطوة إلى الوراء، اضطربت: ان دخلت قتلني وان هربت انتحر. أو: ان دخلت انتحر وان حاولت الهروب قتلني. كنت خائفاً منه وخائفا عليه... وكان عليّ أن أبقى بين يديه وأن أفلت منه في آن معاً.
غافلته، حملت خوفي من قدر مؤجّل واتّجهت الى الباحة الخلفية للصالون، حيث يطرحون حطام اشياء لا نفع بها، علّني اعثر على ما يلهيني عن قلقي ووساوسي.
كانت الباحة الخلفيّة عبارة عن مقبرة غريبة تغصّ بزوّار الخميس/ خميس الموتى. قبور بأحجام وارتفاعات مختلفة وشواهد باشكال متعدّدة: أكياس قمح أو أصص نباتات استوائية، وسائد مزركشة أو درّاجات معطّلة، ارائك عتيقة أو فزّاعات طيور.. وكانت كلّها تحمل اسماء الميّتين وتواريخ ميلادهم ووفاتهم. وكانت امي هناك، كعادتها في أيّام الخميس مع بعض اخوتي بانتظاري، لنزور معا قبر اختي سلوى التي ماتت قبل خمسين عاما من عمر لا يتجاوز السنة.
كان القبر، قبر أختي عبارة عن بئر عميقة وواسعة يغطّيها حجر دائري ثقيل، نقش عليه اسم اختي وتاريخ ميلادها ووفاتها -1950 م.
حاولنا، واحداً واحداً، ثمّ معاً ازاحة الحجر عن القبر فلم نفلح. كاد اليأس يصيبنا لو لم يقف اخي سالم (ليس لي أخ بهذا الإسم) ساهما، محرّكا بؤبؤيه يمينا ويساراً الى ان تلاشتا في بياض عينيه الواسعتين، ثم نفث تعاويذ متلعثمة وازاح الحجر العنيد بايماءة خفيفة من يده وسط ذهولنا وانشراحنا.
تحلّقت رؤوسنا حول الحفرة العميقة الواسعة المضاءة بالكاد. حدّقت في شبه الظلام الذي كان يغمر المكان فرأيت ذؤابات نار في حوض من السيراميك وعلى بعد أمتار كان الماء يتدفّق من نافورة في حوض زجاجي ثم ينصرف عبر مسارب زجاجية مختلفة الأشكال والارتفاعات تشبه الأواني المستطرقة.
ثمّة، في الركن الأيسر من البئر كانت اختي سلوى تتربع صامتة، متكئة الى جدار من رخام ابيض، ساهمة في نقطة محددة في الأرض الإسمنتية وضفائرها تتدلّى حول وجهها الحنطي. كانت في الخمسين من عمرها؛ لقد كبرت في موتها كما يكبر الأحياء.
وميزت في شبه الظلام رجلا كهلاً لا يتجاوز طوله المتر الواحد، يلبس قبعة كبيرة ويجرّ خلفه ذيلا غليظا بطول قامته. كان يذرع أرض القبر بخفّة ونشاط بين النار والماء. ينفخ في ذؤابات النار ويمسح الغبار عن زجاج مسارات الماء.. لعلّه مكرس لخدمة ساكنة القبر.
نبّه الضوء الساقط من اعلى الرجل الصغير، فصرخ مذعوراً ورفعت اختي وجهها تستطلع الأمر، وحين عرفت زائريها أومأت للرجل الصغير باشارة هدّأت من روعه، فسارع الى سدّ مجرى الماء المتدفق من النافورة فاخذ منسوب الماء بالارتفاع حتى غمر فضاء القبر ووصل الينا. عرفنا أنّنا مدعوّون لركوب الماء، فركبنا سطح الماء واحدا اثر اخر بهمهمات حبور مكتومة، بثيابنا، بدهشتنا وبرغبتنا في لقاء الغائبين.
أخذ سطح الماء يهبط بنا رويداً رويداً، وكنت ارى من خلال الماء وجه سلوى المنتشي بوصولنا، وكنت ارى الرجل الصغير يفتح مجرى تصريف الماء تارة ويسدّه تارة اخرى بحنكة واناة حفاظا على الهبوط الانسيابي لسطح الماء.
وصلنا القاع، كان اللقاء دافئاً، عانقت اختي على عجل ومضيت في الردهات والمسارب المدهشة. كنت اشعر بظلّ الرجل الصغير يتعقّبني حرصا على اتّساق اشياء القبر من عبثي، وخوفا عليّ مما قد يصيبني من مكائد تدبرها كائنات القبر لزائر مازال يحمل رائحة الحياة. كنت اشعربوطأة ظلاله وأحاول الإفلات منه كيّ تتسع دهشتي على مداها. التفتّ اليه فتسمّر في مكانه خائفاً مستكيناً. يا الهي، انّه هو؛ انّه الرجل الذي كان ينتظر دوره في صالون الحلاقة وينتظرني. تحولت نشوتي الى قلق وذهول.
نظرت اليه، الى استكانته فاطمأنّت نفسي: لا، لن يقتلني وهو في مثل هذا الخنوع، ولن ينتحر لأنّه ميّت.
وأنا، ما الذي افعله في هذا البرزخ بين الحياة والموت! هل قتلني!، هل أنا ميّت!. ولكنّني ما زلت قادراً على التذكّر: اسمي خالد واسم أمّي هند وعينا حبيبتي عسليتان. اذا أنا حيّ، لأنّ الموتى لا يتذكّرون. وأنا مازلت اشعر بالألم؛ أطبقت أسناني على شفتيّ فتألمت... والموتى لا يتألّمون! وانا مازلت قادرا على الفرح برؤية النار والماء والأحباب.. فهل يفرح الموتى؟.
ثمة شارات في هذا الممرّ تفصح عمّا تؤول اليه الردهات والمسالك والدروب المتعدّدة من حولي: "الى الشمس"، "الى الريح"، الى "مانوسيرا"، " الى برج الحصان" و "الى الحياة". وقفت بأوّل درب الحياة. كان طريقا شائكاً، وعراً، وقرّرت ان امشي فيه تاركاً الرجل الصغير في مدفنه.
رام الله/2008




#خالد_درويش (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- احلام اخرى
- جذور
- الجنة
- منامان
- مرايا
- احلام
- عشر حالات
- قصائد


المزيد.....




- شباب سوق الشيوخ يناقشون الكتب في حديقة اتحاد الأدباء
- الجزيرة 360 تشارك في مهرجان شفيلد للفيلم الوثائقي بـ-غزة.. ص ...
- النيابة تطالب بمضاعفة عقوبة الكاتب بوعلام صنصال إلى عشر سنوا ...
- دعوات من فنانين عرب لأمن قطر واستقرار المنطقة
- -الهجوم الإيراني على قاعدة العُديد مسرحية استعراضية- - مقال ...
- ميادة الحناوي وأصالة في مهرجان -جرش للثقافة والفنون-.. الإعل ...
- صدر حديثا : كتاب إبداعات منداوية 13
- لماذا يفضل صناع السينما بناء مدن بدلا من التصوير في الشارع؟ ...
- ميسلون فاخر.. روائية عراقية تُنقّب عن الهوية في عوالم الغربة ...
- مركز الاتصال الحكومي: وزارة الثقافة تُعزّز الهوية الوطنية وت ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد درويش - خميس الموتى