شاكر رزيج فرج
الحوار المتمدن-العدد: 2198 - 2008 / 2 / 21 - 08:52
المحور:
الادب والفن
نصوص تستعيد ذاكرتها من ضفة الألم والزمن الصعب
لقد دأب العديد من المبدعين ـ في هذا الزمن الصعب ـ على حرث ذاكرتهم واستنهاضها لتعيد ـ المفقود ! ـ الذي خبأته قسرا الى فضاء فتحت ابوابه فجأة على غير مألوف ما كانت عليه ،ولتبدأ ـ جدلية الذاكرة ـ تستقبل ـ قبلياتها ! ـ بالتهليل والترحاب وان بدت غائمة ، مضببة ،تشوبها الحسرة والمرارة والامتهان ، ولكنها في حراكها ـ الابداعي ـ لابد ان تقول شيئا ماكمعادل ومثير نفسي ، يقف قبالة الامتهان الذي ذاقت ـ لونه ـ وتجرعت ـ موته البطئ ـ سنوات.
و ـ اذكر اني ـ لـ ـ رشيد هارون انموذجا ( كنصوص سيرية ) تتقدم ماوثق ودون ، عن حياة ـ رجل ـ فعل المستحيل لكي يمرر حياته عبر مسالك ودروب مفخخة بالموت دون ان يتنازل عما يثلم ـ كرامته ـ او يحط من انسانيته او يدمر كيانه ، وهي بحق مهمة صعبة ، ما كانت لتمر
دون ان يخطط لها ، وينفذ من خلالها ،وهو يتحرك فوق الالغام .
شاب ، ضئيل الجسد ، يحمل هو وولده ، عدة صغيرة ، يقطع المسافات سيرا على قدميه ، وشمس تموز التي لاترحم ، تأكل اشياءا منه ، ينادي بين بيوت الطين في القرى المتناثرة وبصوته المبحوح ، عمن يرغب في تصليح طباخه ، ليجمع نهاية النهار ما يسد افواه عائلته التي تنتظره ، وحسبي ما الذي يفعله لو خانته ، اوتار حنجرته ، او اقعده المرض يوما او اسبوعا ؟
فراتبه بكل قضه وقضيضه لايعادل ـ طبقة بيض ـ او اجرة سيارة ـ تنقله من المدينة الى اقرب قرية ، ولكنها ـ المطاولة!ـ / لئلا اشعر بالانكار امام نفسي ، وذلك مالا ارضاه لي ، ولها ـ النص
وكم تمنى هذا ـ الرجل ـ ان يكون مجنونا تتلقفه الشوارع والازقة ، وينام دون رقيب او حسيب على الارصفة ، يصرخ ، يهتف ، يغني ، يضحك او يبكي ، يشتم ويسب فلا احد يوقفه او يسأله ، فالجنون = الحرية المكبوتة في اعماقه ، ولانها ( انا اضحك
بملء ارادتي ، اطلق صوتي لمداه وانت تخاف ـ النص ) لانه كان يكره ذي البزات العسكرية وهم يحدقون في المارة ، يفتشون ما يدور في رؤوسهم من افكار، عل بعضهم يعثر على ما يجانب السلطة ، ليمسك بخناقه لينال ـ التكريم ـ والجاه والشكر
والثناء ،سواء كان مصير طريدته السجن او الاعدام ، لاضير...ذلك ما فعلوه بالعديد من الناس ومنهم الاستاذ ـ قاسم محمد حمزة ـ والذي اخذوه واختفى تماما لانه ـ شيوعي ـ كما اختفى الكثيرون ، اختفاء الملح في الماء ،( واذكر ان ذويهم يستدعون للتحقيق ، لماذا اختفى؟ كيف اختفى؟ وكأن من اخفاهم لايعلم شيئا عنهم ، في المقبرة الجماعية وجدت كثيرا منهم ـ النص ) .
ويتذكرـ كيف تخرج معلما للصف الاول الابتدائي ، وكانت ادارة المدرسة حكرا على ـ النخبة الامية ! ـ التي تحسن ترديد الشعارات كالببغاوات كما تحسن ترشيد نسب النجاح لكي تنال الثناء ،كما يفعل السياسيون الاميون في ترشيد نسب الاستفتاء على ـ الرئيس ـ ، ولانه ـ الديك !ـ الذي لايسمعه مطلع النهار، فان مادته
ـ قصيدته ـ الفائزة لايمكن ان تقرأ لانها تتحدث عن ـ سوق الحطابات ـ / يصيح وحيدا / صوته يمضي كالموج /لا يدري الى اين /اصوات اقفال لابواب بعيدة/ وقطط تموء / تكرر السكون / ساكنا كان الليل / يمشي / تمشي السماء/ يقف / تقف / يصيح / تصغي الجدران والشوارع ..... النص / .
ويتذكر ، كيف ان العراقي تعلم اداء الاشارة والتلميحة والايحاء و( الحسجة ) في الكثير من ممارسته لحياته اليومية ، وبعضها تحول الى لغة لها بنية ومبنى ومعنى
قلما تتوافر في لغات حية اخرى ، فازدادت وظائف العين واليد والرأس ، واختفت من الوجود جمل وكلمات وانساق واصبحت ضمن المحرمات ، ورفعت من القواميس مصطلحات مثل ، الديقراطية ، وسودت الصحف والمجلات بتوصيفات ذوات خصوصية شديدة اكثرها واشدها وقعا مثل ـ البوابة الشرقية والعبور، الذي لم ينجز اكثر من ثلاثة عقود ، كما وصل الامرالى ان السؤال عن شخص ما او السلام عليه وانت عابر سبيل ، سبيلا الى الاتهام وربما في ظروف اشد ، الحبس او الموت
في احواض التيزاب او المثرمة وللمقربين الخونة ـ للعائلة المالكة ، الحاكمة ـ الكلاب الجائعة والمدربة على نهش الاجساد البشرية .
ويتذكر، عندما كان يجوب القرى ، كيف كان الفلاحون يحفرون ـ البريمة ـ وسط الجداول والانهار للحصول على الماء المتبقي في الجوف ، وكيف كان يقف الساعات للحصول على قنينة غاز وانه لايستطيع الحصول على طبقة بيض من الجمعية لانها كانت ـ مرسملة!!ـ للرفاق وكما تعود ان لايسأل الكهرباء لانها اصبحت من الماضي ، ولأنه لايملك سيارة ، فهو مبتعد عن اللغط الذي يثيره ـ السواق ـ وهو بالطبع يتذكر السنوات التي قضاها على جبهات القتال وذاق مرارتها بعيدا عن الزوجة والابن والاصدقاء ، ورأى فرق الموت وهي تمارس طقوسها على الجنود الذين يسقط من ايدهم السلاح فلا يولون وجوههم الا للوطن حيث الموت والفناء ، وعلى العائلة التي
تستلم جثمان ولدها ان تدفع ثمن ـ رصاصات الموت ـ وان لا تقيم له مأتما او عزاء ،
اما الجوع فالحديث عنه يطول ، والمشكلة انك لاتجد لابنك ما يسد رمقه عندما ينهض من نومه ليذهب الى المدرسة (في عهد صدام شاعت سرقة اللفات بين التلاميذ ص 123 ) وماكان في نيته ان يكتب عن الجوع والحرب ( حتى هدداني في ابوتي ورجولتي وهيأتي / امام اطفالي ـ وزوجتي والناس / الجوع محقق آمني / مخبر سري / منفذ اعدامات / الجوع صدام بعينه / وكذا الحرب ص 124 ) .
ويذكر انه كان يغني ليس طربا انما بواعز من التشابه بين حالة الداخل المعتمل عنده
والمعنى الذي تأتي به هذه الاغاني ويعتبرها من مقومات المقاومة والصبر.
لم يترك ـ رشيد هارون ـ زاوية الا ولمسها ليقلبها على اوجهها ، وليقلب اوجاعنا ، نحن الذين تجرعنا سموما ما كنا نعرفها ولم يسبق ان سمعنا عنها .
ثلاثة عقود ونيف ، كانت السياط تنزل على الهامات وجلود تسلخ ورؤوس تفصل ، وايدي واقدام والسنة تقطع بايماءة او اشارة من هذا او ذاك ، النزر القليل من صدق فانساق مع الموج الآسن ، وبعض فر فتلقفته مدن اللجوء ، وآخرون صمتوا ، صمت القبور، وما صح الا الصحيح .
ان النصوص السيرية لـ ـ رشيد هارون ـ اجملت عبرصفحاتها ، عذابات شعب ، وعندما تستعيد الذاكرة بعض ما اختزنت ليوثق على هذا النحو ـ فهو دعوة للتذكرخوفا الا ننسى .
#شاكر_رزيج_فرج (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟