أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - عماد الدين رائف - -كي لا تموتوا وأنتم نيام-














المزيد.....

-كي لا تموتوا وأنتم نيام-


عماد الدين رائف

الحوار المتمدن-العدد: 2172 - 2008 / 1 / 26 - 03:07
المحور: الارهاب, الحرب والسلام
    


كانت سوسو التي تجاوزت عامها الأول قد ألقت برأسها الصغير على ركبتي. بدت مرتاحة لسباتها بعد أن أتعبتني. أجبرت نفسي على عدم الحراك كي لا أوقظها فأبدأ رحلة جديدة من الهزهزة والغناء قد تمتد لساعة أخرى من هذه الليلة الهادئة. وفجأة دوّى صوت انفجار رفعني عن الكنبة مع الطفلة. إنه الانفجار غير المرقوم في سلسلة لن تنتهي.
اهتز الكوب في يدي.. وجدتني جامداً جمود الموتى، أغمض عيني بقوة مقلصاً عضلات وجهي إلى حدها الأقصى، محاولا بذلك عدم سماع شيء آخر. وجدتني أعود إلى تلك العادة القديمة السيئة التي ظننت نفسي قد تخلصت منها. كنت على يقين في لاوعيي من أن إغماض عيني بهذه القوة كفيل بأن يخرجني من كل ما هو حولي ويدخلني في عالم داخلي أكثر هدوءاً. لا أدري من أخبرني لأول مرة أن إغماض العينين بقوة لا يجدي نفعاً مع الأصوات. ثم من قال لك إن الانفجار لا بد وأن يليه انفجار آخر فقد تبقى على هذه الحالة لساعات. لا أدري من أخبرني بكل ذلك ولا أدري لمَ لم أصدقه. لاحظت أن لساني الحائر بين جدران أسناني المضغوطة قد وجد منفذا.. أدركت أنني لم أعد ذلك الطفل الصغير، الذي يعصر رجليه المطويتين بذراعيه مسنداً ظهره إلى جدار رطب، في ليالي القصف المجنون بين "الشرقية" و"الغربية". لقد كبرت فجأة وها هي ابنتي تعود إلى سباتها بعد أن تململت ولم تجد يدي تضمها. فضممتها.

كانت الغرفة النصّانية، كما كنا نسميها، في بيتنا الأرضي القديم تجمعنا في ليالي القصف العشوائي. ولما كانت أكثرية بيوت المنطقة مؤلفة من طبقة واحدة، فقد منَّ الله علينا أن استأجرنا هذا البيت "المركوب". كانت الغرفة تجمع ما تيسر من الجيران الخائفين الذين يهرعون إلى بيتنا المفتوح لهم دائما في تلك الأيام. يحشرون أنفسهم بالقرب من الفرشات الإسفنجية التي كنا ننام عليها نحن الأطفال. يحمل الجيران أطفالهم بين أيديهم يقومون بكل ود بحشرهم بيني وبين إخوتي، ويحاولون بين الفينة والأخرى أن يأتوا بحاجياتهم الضرورية من منازلهم المشرعة الأبواب والنوافذ محافظين بذلك على ما تبقى من زجاجها. كانت أمي تقوم بواجب الضيافة المفاجئة فتنتشر رائحة القهوة المغلية والسجائر ويختلط الدعاء والصلوات بالنكات.. وتوقظنا.

بعد ليال طويلة من القصف والرد ووقف إطلاق النار. نمَت لدينا ثقافة القذائف الصاروخية والانفجارات. وصرنا نميز بين الأصوات المتنافرة، بين نوعيات مختلفة من الأصوات من حيث الرنّة والجِرس والقوة والحجم. كان باستطاعتنا أن نميز بين ما هو متجه إلينا وبين ما هو ذاهب إلى "الآخرين". أن نعرف إن كانت القذيفة تتجه نحونا أو ستتخطانا إلى أحياء أخرى. أكثر ما كان ينهك أعصابي هو ذلك الصمت المطبق الذي يلي صوت اختراق القذيفة المتجهة إلينا للهواء. ذلك الصمت الذي يدوم لثوان تسبق صوت الانفجار. أجمد مكاني، أنتظر الصوت المريع. أكون قد بلغت الحالة القصوى من الكزّ على الأسنان، وبدأت عضلات الأجفان بالتعب فتضيء حلقات من تدرجات البياض متلاعبة بأعصاب البصر. وبعد الدوي يعود كل شيء إلى حاله من انتظار لدوي آخر.

لكن، في تلك الليلة من ليالي الثمانينات الحارة لم أسمع الدويّ المنتظر. كانت المقدمات كلها قد تمّت. شقت القذيفة الهواء "ششش" وتحوّلت الشين التي لا تنتهي إلى خاء جوفاء. حل الصمت المعهود. جمدت مكاني.. لا دوي! كانت القذيفة قد اخترقت الطبقة الثانية من المنزل وارتطمت بسقف شقتنا الأرضية ولم تنفجر. كانت أمي تقرأ صلواتها بصوت خفيض، لكنه مسموع مع انعدام أصوات رديفة. أحسست بقيمة الدعاء المستجاب. تتالت الانفجارات صغيرة وكبيرة بعد ذلك حتى عانقت أشعة الشمس ألسنة اللهب.
"ليش كنتِ تفيقينا؟" ما السبب الذي كان يدفعك لإيقاظنا يا أماه؟ بعد كل تلك السنين التي مرت.. صار بإمكاني أن أعرف أن أمي كانت خائفة علينا. خائفة علينا خوفي على سوسو. كانت لا تدري ما الذي يمكنها أن تفعله لتدفع كرات اللهب عن أجسادنا الطرية. كانت توقظنا وتلجأ إلى الله "منشان ما تموتوا إنتو ونايمين".
أعادني من حديث الذاكرة شعوري بالألم لعصري ليد الكوب. كانت الشاشات قد قطعت برامجها وبدأت تنقل صور السيارات المشتعلة والمتفحمة. كنت أدفع عن تفكيري احتمال انفجار آخر سأسمعه قبل أن أصل إلى غرفة النوم. حملت سوسو إلى تختها الصغير. وتركتها لتنام.




#عماد_الدين_رائف (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عولمة الأمل.. نحو عالم آخر ممكن
- بين زعيمنا الوطني وسوبر ماريو
- وجهاً لوجه مع -بن لادن-
- قضايا الإعاقة في القصة العربية القصيرة
- الإعاقة قضية حقوقية بامتياز
- أطفال لبنان الجرحى.. والانعكاسات النفسية للحرب


المزيد.....




- أمير الموسوي في بلا قيود: تخصيب إيران اليورانيوم بنسبة 60% ...
- بعد مرور شهر على نظام المساعدات الجديد في غزة، أصبح إطلاق ال ...
- حكم للمحكمة العليا الأمريكية يُوسّع صلاحيات ترامب، والأخير ي ...
- عاجل: ترامب يقول إن وقف إطلاق النار في غزة بات قريباً، ويأمل ...
- ترامب للمرشد الإيراني علي خامنئي: لقد هزمت شرّ هزيمة
- سوريا تعلن ضبط نحو 3 ملايين حبة كبتاغون بعد اشتباك مع مهربين ...
- إعلام إسرائيلي: جثث 3 أسرى في غزة أعادها عناصر من مجموعة أبو ...
- القلق يتصاعد بعد ضربة إسرائيلية استهدفت سجن إيفين... مصير سج ...
- موقفا تخفيف العقوبات عن إيران.. ترامب لخامنئي: أنقذتك من -مو ...
- جيش الاحتلال يقتحم كفر مالك والمستوطنون يصعّدون بالضفة


المزيد.....

- حين مشينا للحرب / ملهم الملائكة
- لمحات من تاريخ اتفاقات السلام / المنصور جعفر
- كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين) ... / عبدالرؤوف بطيخ
- علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل / رشيد غويلب
- الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه ... / عباس عبود سالم
- البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت ... / عبد الحسين شعبان
- المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية / خالد الخالدي
- إشكالية العلاقة بين الدين والعنف / محمد عمارة تقي الدين
- سيناء حيث أنا . سنوات التيه / أشرف العناني
- الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل ... / محمد عبد الشفيع عيسى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - عماد الدين رائف - -كي لا تموتوا وأنتم نيام-