أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - زهير مبارك - مثقف السلطة ... الولاء المطلق















المزيد.....

مثقف السلطة ... الولاء المطلق


زهير مبارك

الحوار المتمدن-العدد: 2160 - 2008 / 1 / 14 - 11:05
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


يشكل المثقف أحد أطراف بطانة الحاكم، وقد يكون من أهمها، وأخطرها على المحكومين حيث أن ما يمكن تسميته مجازا "بالمثقف الإسلامي" كان له الدور الأكبر في تعزيز الاستبداد، و"تلميعه" منذ أن وجد ما عرف بالكتّاب، الذين وجودوا كي يكونوا صائغين فنيين لرغبات الحاكم، وأوامره. ولم يقتصر دورهم على ذلك فقد تعداه للتدخل في تكييف الأوامر واقتطاع جزء من السلطة ليست في مكانها. وعليه، فإن الكاتب (المثقف الإسلامي) ظهر ليكون في خدمة الحاكم؛ كما قال الجاحظ: "الكتابة لا يتقلدها إلا تابع، ولا يتولاها إلا من هو في معنى الخديم." فالكتابة لم تكن تحمل في ثناياها فسحة مستقلة، فممتهنها كان في موقع الخدم للسلطان بل أكثر من ذلك، فالكتابة "مستظلة بسلطة الحاكم". وهذا ما يدعمه ابن المقفع الذي يرى أن الكاتب مجرد خادم حيث يقول: " فاعلم أنك إنما تعمل عمل السخرة". وهذا تذكير بمكانة الكاتب عند الحاكم فابن المقفع يطرح ذلك انطلاقا من أن الكاتب أمام حقيقة أن الكتابة تمثل بضاعة تربـط صاحبهـا برباط الخدمـة المسخرة، بل أكثر من ذلك، فعليه أن يكون بهلوانا ينفذ رغبات مخدومه وفق أهوائه "فإن كنت حافظا إن بلوك، جلدا إن قربوك … تعلمهم وأنت تريهم أنك تتعلم منهم، وتؤدبهم وكأنهم يؤدبوك. تشكرهم ولا تكلفهم الشكر، بصيرا بأهوائهم، مؤثرا لمنافعهم، ذليلا إن ظلموك، راضيا إن أسخطوك. وإلا فالحذر منهم كل الحذر". إن هذا "الانبطاح" المطلق من الكاتب للحاكم المطلق المستبد يعود إلى أن هذا الكاتب أمام أمرين: إما أن يبقى تحت قدم الحاكم وأهوائه مقابل ما يناله من مال؛ وإما الزهد والغنى بالنفس، وثمن ذلك أن يبقى في الفقر. وابن المقفع يقف مع الاتجاه الأول؛ لأنه يرى أنه لا أحد قادر على الزهد في عالم يكون فيه المال هو قيمة القيم.

ثقافة العبودية
إذا كان هذا المثقف ألبس نفسه العبودية، فإنه في الوقت نفسه سعى ليلبسها للمحكومين لا لشيء إلا ليكون الجميع مطايا مثله، وفي أغلب الأحيان دون مقابل. وقد تم تعزيز هذا التوجه بعد حالة التماهي بين المثقف والسلطة؛ حيث أصبحت العلاقة بينهما، في كثير من الأحيان، علاقة بين طرفين متجانسين، وانطلاقا من هذا التجانس يقمع المثقف مجتمعه بأداة سلطوية. وعليه، يتحدد دور مثقف السلطة بين القامع للمجتمع والمقموع من الحاكم منذ ابن المقفع ويجمل فيصل دراج ذلك بالقول: "زمن المثقف المستبد يتواتر في لعبة مزدوجة يمثل فيها دور السيد ودور العبد معاً. يجعل عنصرا اللعبة المزدوجة المثقف جزءا من السلطة وجزءا في السلطة . فهو جـزء مـن السلطة لأنه يكرس القمع ويؤكده، وهو جزء في السلطة لأنه يمارس امتياز المـرتب يعيد المثقف إنتاج المنطـق السلطوي في حقـل المعرفـة. تتجلـى أحاديـة المرجـع وتبرز ضـرورة الامتثال، ومرجع الممتثل يقوم في سلطة خارجة عنه تفرض عليـه الامتثال".

تجدر الإشارة إلى أن المثقفين لا يمثلون خطا واحدا بالقدر الذي يتم فيه التركيز على مثقف السلطان ذلك أن "المثقفون الإسلاميون" انقسموا، عبر التاريخ، الذي تم التطرق إليه سابقا في خضم الصراع السياسي، إلى عدة مذاهب وفرق. وهنا لابد من التنويه إلى أن المثقفين الإسلاميين مثلوا تاريخيا خطين متناقضين :الأول، مثقفو السلطة. والثاني، مثقفو المحكومين، مع تبدل في المواقع بين الخطين. فعندما يكون في خط المحكومين يتم قمعه، وتحريمه فكريا ودينيا، كما حدث مع المعتزلة عندما تمت محاربتهم على منابر المساجـد علـى أساس أن ذلك منطلق ديني. بينما لقي الاتجاه الثقافي السلطوي كل عناية من الحاكم؛ لأنه مثل مثقف السلطة الذي سعى بكل جهد ممكن لتبرير الحكم القائم منذ الخلافة الأموية. كما قدم مثقف السلطة الملك/ الخليفة، وسياسته الاستبدادية على أساس أنها من الدين. لهذا عمل مثقف السلطة على ترويج الأفكار والمعتقدات التي تضفي الشرعية على نظام الحكم الاستبدادي؛ حيث تم تبرير سيطرة القبيلة على المجتمع، وتبرير استخدام القوة والغلبة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد حيث ذهب مثقف السلطة والسلطان، وكما مر سابقا، إلى الانطلاق دينيا من مبدأ الجبر ليحقق به دوره التابع المروج للحكم الاستبدادي، وكان الهدف من ذلك إخضاع المحكومين لإرادة الله التي ليست إرادته، فقد كان المثقف الإسلامي السلطوي يسعى لغرس فكرة أن ما يقوم به الحاكم هو تعبير، لا جدال فيه، عن مشيئة الله، وأن الاعتراض على ذلك يعتبر اعتراضا وتمردا على إرادة الله.

مثقف السلطة والطاعة
إن لتعزيز الطاعة المفرطة للحاكم، في مختلف الظروف، أثر كبير في تأصيل الاستبداد، وقد كان ذلك على يد البطانة غير المباشرة المتمثلة في "المثقفين الإسلاميين" الذين كانوا يسعون للوصول إلى درجة من رضى الحاكم تجاههم لتحقيق مصالح شخصية. وهذا ما ظهر، بداية، من خلال كاتب الديوان أو مثقف الديوان، الذي سعى لغرز فكرة التسليم بطبيعة السلطة، والتبرير لشرعيتها ما دامت متغلبة وقائمة، كما قام هؤلاء المثقفون بدعم الحكم المطلق. فمثقف الديوان متنوع الإمكانيات فهو " شامي الطاعة، عراقي الخط، حجازي الفقه، فارسي الكتابة ". فالموروث الفارسي متغلغلا عند مثقف الديوان ليتم تطعيم الثقافة الإسلامية على صعيد الحكم بهذا الموروث، وقد كان دور عبد الحميد الكاتب الأبرز في تعزيز هذا التوجه الذي عمل على تكريس قيم الجبر، ولزوم الطاعة للحاكم المستبد.

وقد كان المثقف الديواني يطمح بالمركز الثاني بعد الحاكم، ليعين الحاكم على الاستمرارية في الحكم. فهؤلاء المثقفون يمثلون الوساطة بين الحاكم والمحكومين، فهم "ملمعون " للحكم مهما كان شكله. وهذا ما كان يسعى إليه ابن المقفع، في ظل العلاقة التي كانت سائدة بين المثقفين والسلطة؛ فهي إما علاقة وظيفة، أو عداء، أو اعتزال، حيث يرى أنه "لا ينبغي للرجل ذي المروءة أن يرى إلا في مكانين ولا يليق به غيرهما: إما مع الملوك مكرماً، وإما مع النساك متبتلاً…". ولذلك عندما أبعد ابن المقفع عن السلطان وخسر هذا المثقف السلطاني مكانته توجه لكتابة القصص الرمزية التي بعث من خلالها إشارات إلى مثقفي الديوان كي يتجنبوا ما يجب تجنبه، وليس ما يجب فعله، بمعنى أن المثقف يتجه في العمل بمقدار ما تخدم فيه مصالحه لا مصالح المحكومين، ولا حتى السلطان، فهو يرى شأنه بالدرجة الأهم.

هذه الحالة الطامحة للمثقفين جعلتهم في خطر كبير وبخاصة إذا وجد الطموح للسلطة. ولكن بعد القمع الذي تعرض له المثقفون الإسلاميون من الحاكم وضعوا حدودا لأنفسهم لا يتعدونها حتى لا يضيع عملهم على الأقل. وهذا إعلان بالخضوع التام من المثقف للسلطة الحاكمة، هدفه الطموح الوصول إلى رتبة قريبة من الحاكم، أو المحافظة على ما هو فيه من درجة قربى من الدائرة الحاكمة ولو كبطانة غير مباشرة للحاكم، وقد انطبع بهذا الاتجاه المثقف العربي عموما .

أصبح المثقف الإسلامي مصدر دعم للحكم المستبد، وأحد أهم دعائمه، وديمومته. ويظهر ذلك من خلال قول عبد الحميد الكاتب عن دور الكاتب ومكانته في استقرار الحكم :" حفظكم الله يا أهل الصناعة، بكم ينتظم الملك، وتستقيم الملوك أمورهم. وبتدبيركم وسياستكم يصلـح الله سلطانهم ويجتمع فيئهم وتعمر بلادهم. ولا يستغني عنكم أحد، ولا يوجـد كاف إلا منكـم، فموقعكم منهم موقع أسماعهم التي يسمعون".

جاء هذا الترابط العضوي بين مثقف السلطة والسلطان من المنطلقات الأساسية التي ظهر من أجلها، ومن أصل هؤلاء المثقفين؛ الذين كانوا في أغلبهم من غير العرب ومن بلاد فارس تحديدا، فكان لهذا أثره في الترويج للتقاليد الملكية الفارسية. وقد لعب ابن المقفع دور البطولة في هذا الاتجاه حيث كانت البداية على يده، فهو وغيره من الكتّاب عملوا على المشاركة في صياغة مضمون الحكم بصورة "تعليمية "، "وكانت حجتهم لتمرير بضاعتهم أن للسياسة منطقها الخاص وتقاليدها المتوارثة، لذا فإن العلم بأصول السياسة وبتقاليد الحكم (الملكي) ضرورة لنجاح السياسة ولاستتباب النظام". هذا ما سعى ابن المقفع إلى تعزيزه قبل أن يقصيه السلطان، وقد برر تكريس الاستبداد في الحكم العربي وتعميقه، وجعله جزءا منه أن العرب حديثو العهد بالسياسة، وهذا يجعلهم أمام ضرورة تعلمهم الحكم الملكي الاستبدادي على النمط الفارسي _ الساساني؛ ولهذا قام بتقديم تعاليمه السياسية المقتبسة من كتب فارسية، وتعاليم فارسية كتعاليم أردشير بن بابك.

مثقف السلطة والخطوط الحمراء
حرص المثقف الإسلامي على أن يكون بمنأى عن أي خطر قد يتعرض له من الحاكم، وفي الوقت نفسه كان الذراع الخفي المبرر لحكمه؛ فمثقف السلطة تنتجه السلطة نفسها وتجعله دائما على استعداد للتصدي الفكري لأي محاولة نهوض للأمة. فالسلطة الاستبدادية لا تشرك إلا مثقفيها في القرار الذي سيخرج للناس لا لشيء إلا ليقوموا بتزييف القرار وتفخيمه، حتى وإن كان مؤذيا للمحكومين، وهو غالبا ما يكون كذلك عند الحكومات المستبدة. وهنا يأتي دور مثقف السلطة الذي يقوم بتبرير ما يقوم به الحاكم المستبد النافي للحرية، وهذا يعني أن المثقف هو الأداة الطيعة في يد الحاكم لا استقلال في رأيه أو قراراته ودوره، اليوم، يتحدد في تطبيق ما يضعه الحاكم المستبد من برامج العمل، المناهج الدراسية ، الثقافة، الدين ، السياسة، والإعلام. ويكون ذلك لأن الحكومات المستبدة ترى أنها أكثر قدرة على الإنجاز والفهم من مثقف السلطة الذي يسعى لذلك، فلا يقدم النقد لهذه الحكومات، بل هو داعم لها "ولاهث وراءها" لا يريد الحرية، فهو الخائف منها؛ لأنه نشأ في جو سلطوي استبدادي. المثقفون السلطويون هم عبيد لهذا النوع من الحكم؛ ولهذا، ليس غريبا أن يخافوا من الحرية؛ لأن العبيد يجزعون من الحرية.

إن مثقفي السلطة لا يكتفون بوضع الخطوط الحمراء لأنفسهم، وبعدم التفكير في الحرية والانعتاق من العبودية؛ بل إنهم على كثرتهم، أو قلتهم يقفون صفوفا "صفوفا" يصفقون للحاكم المستبد، عسى أن يأخذوا مكانا لهم في أحد الصفوف الأمامية التي وضعها أباهم أردشير، وهنا نقف على عتبة التناقض بين الفكري والعملي عند هؤلاء المثقفين، ففي الوقت الذي يجند فيه أعداد كبيرة من المثقفين للعمل مع الحاكم المستبد ودعمه، نجد العديد من النداءات المطالبة بتغيير الواقع الاستبدادي. إن مثقف السلطة والسلطان يمثل المطية للحاكم المستبد، فهذا المثقف يمثل الأداة الفكرية التي تعزز القهر والاستبداد باسم الثقافة. يأتي ذلك في سياق السعي الحثيث للحصول على مكاسب شخصية؛ فهو الخاضع لهذه الإغراءات، ولمبدأ الخوف لأنه أكثر خوفا من غيره من حكم الاستبداد حتى ولو كان غيره أقل دراية منه.

تجدر الإشارة، مرة أخرى، أن الأمر يدور حول مثقف السلطة وليس المثقف بصورة عامة. فهناك مثقفون عاشوا وماتوا على مبدأ الفكر الحر القائم على المطالبة بالحرية والتخلص من نير الاستبداد، ولكن هذه الفئة تبقى الفئة القليلة ذلك أن معظم المثقفين رضوا لأنفسهم المكان الذي وجد فيه السلطان، وربطوا مصيرهم بمصيره لا بمنبع الثقافة القائم أساسا على حرية الفكر، والإبداع، والحرية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، فبدل أن يكونوا في هذا الاتجاه أخذوا يبحثون عن مخارج لحكم الاستبداد وإلباسه مفاهيم أخلاقية، كمفهوم المستبد العادل.

على ضوء ما تقدم، فإننا نجد أن مثقف السلطة يحرك أيديولوجياً من الحاكم، وهو أمر تشكل عبر حقب التاريخ. والكلمات والحلول السطحية لا يمكن أن تنهي حالة العجز لدى المثقفين، فالمثقف هنا مجرد أجير شقي، حسب تعبير سارتر، وتصنيفه بين المثقفين يقع ضمن "خونة الثقافة " حتى لو سمي مثقفا؛ لأنه الأداة للأيديولوجية المهيمنة على المجتمع التي تضمن استمرار فرض السلطة. وهنا يرى عبد الإله بلقزيز في العلاقة بين المثقف والسلطة والخطوط الحمراء التي يضعها الحاكم للمثقف بالإضافة إلى وضع المثقف لذاته هذه الخطوط حيث يقول : " إذا كان السلطان السياسي قد احتاج إلى المثقف دائما حتى يؤثث له مجال النفـوذ الشرعـي لدى الجمهور، فقد ظل يدرك أن وظيفة المثقف تلك لا تنتمي إلى الثقافة، وأن هذه تقف _ في حقيقـة أمرها _ على مسافة بعيدة من السلطان السياسي. وحتى حينما كان هذا الأخير مضطرا_ تحـت وطأة ضغوط ما _ إلى منح المثقف أقساطه _ أو بعض أقساطه _ المستحقة من الحـرية، كـان يحيط حقوقه بقدر هائل من الكوابح القانونية والعرفية وغيرها، ويرسم له خطوط حمـراء يدفعـه _ دفعا_ إلى احترامها مقابل تمتعه بذلك النزر اليسير من الحرية والويل له_ كل الويل إن هو تطلع إلى مخادعـة السلطـان السياسـي وخـرق الصفقـة من خـلال انتهـاك أي مـن الخطـوط الحمراء المرسومة...".

وهكذا، فإن الدور الذي لعبه مثقف السلطة وما زال يلعبه لم يكن إلا من خلال حالة التجانس، والتماهي بين المثقف والسلطة. وهذا الأمر يمثل حالة من الاستمرار في النهج، والهدف وبخاصة من الطرف الحاكم الذي لم يسمح للكتابة بالظهور إلا لتحقيق مآربها على اختلاف الزمان والمكان "فالسلطات المستبدة، قديما وحديثا، ترجع أشكال الكتابة كلها إلى كهنوت سلطوي تذوب اللغة والشعر والفقه والقانون والرسوم في هواء السلطة، ويظل مرجع كل عنصر خارجاً عنه مقيداً بكهنوت سرمدي أو عارض". وعليه، فإن أي تبرير للحكم الاستبدادي مهما كان شكله يؤدي إلى نزع صفة المثقف من الناحية الإيجابية، وهو عندها لا يخرج عن إطار عبد الحميد الكاتب، وابن المقفع، والماوردي، والثعلبي، والطرطوشـي، وابـن قتيبه، وابـن الأزرق والسلسلـة تطـول مـن مثقفـي السلطان.

أما مثقف السلطة كما تراه السلطة نفسها فيشكل جزءا من الحكم المستبد كما قدمه ابن خلدون، حيث شكل المثقف، من وجهة نظره، الأداة التكميلية للقمع والاستبداد. وهذا الارتباط بين المثقف والسلطة يظهر كحالة من التبعية ونفي ذات المثقف السلطوي الذي يمثل السلطة في قضاء حاجاتها بدل القوة، فالمثقف، هنا، أداة من أدواتها وفي ذلك يقول ابن خلدون: " اعلم أن السيف والقلم كليهما آلة لصاحب الدولة يستعين بها علـى أمـره. إلا أن الحاجـة فـي أول الدولة إلى السيف ما دام أهلها في تمهيد أمرهم أشد من الحاجة إلى القلم، لأن القلـم في تلـك الحـال خادم فقط منفذ للحكم السلطاني . والسيف شريك في المعونة كذلك في آخـر الدولـة حيـث تضعـف عصبيتها … وأما في وسط الدولة فيستغني صاحبها بعض الشيء عن السيف لأنه قد تمهـد أمره ولـم يبق همه إلا في تحصيل ثمرات الملك من الجباية والضبط ومباهاة الدولة وتنفيذ الأحكـام. والقلم هـو المعين له في ذلك . فتعظم الحاجة إلى تصريفه، وتكون السيوف مهملة في مضاجـع أغمادهـا إلا إذا أنابت نائبة أو دعيت إلى سد فرجة، ومما سوى ذلك فلا حاجة إليها، فيكون أرباب القلم في هذه الحالـة أوسع جاها وأعلى رتبة، وأعظم نعمة وثروة، وأقرب من السلطان مجلسا، وأكثر إليه ترددا، وفي خلوته نجيا، لأنه حينئذ آلته، بها يستظهر على تحصيل ثمرات ملكه والنظر إلى أعطافـه، وتثقيـف أطرافه، والمباهاة بأحواله…".

إن ما سبق يظهر أن جل اهتمام "المثقف الإسلامي" كان ينصب على تقديس السلطان مهما كان دوره ومهما كانت أعماله، فاعتبر ذلك تجويف سياسي، وبالتالي أخلاقي للدولة؛ إذ لم يكن الهدف عقلنة الدولة، وترشيدها بقدر ما كانت عملية تداول للسلطة دون حل، والتسليم بفكرة دولة الاستبداد، وغياب الشرعية.

لقد عمل رجال الدين وفي نفس الإطار (ما يتعلق بالسلطة والحكم ) على التركيز، وبشكل أعمى، على تكرار وجوب أمرين يغلبان دولة الأمر الواقع على دولة الحق والقانون .الأمر الأول، يقوم على أن طاعة المخلوق التي تؤدي إلى معصية الخالق مرفوضة، وفي نفس الوقت والقوة يتم التركيز على الأمر الثاني، وهو أن طاعة حاكم جائر خير من فتنة داخل الأمة، وهو الأمر الذي تعرضنا له سابقا، ولا نقصد التكرار ولكن نسعى هنا إلى وضع المتناقضين في المواجهة (المعصية المشروطة قبالة الطاعة العمياء)، وقد جاء ذلك من أجل المحافظة على "النظام السياسي القائم حتى لو كان جائرا من أجل تجنب وقوع الشر المطلق : أي "الفتنة " "وهذا يفيد في تقديم الطاعة لكل أشكال الحكومات والأنظمة على الرغم من افتقارها للشرعية المطلوبة ". وقد انعكس ذلك بتحديد دور المثقف وظهور أنماطه في الوقت الحاضر حيث تم النمط الغالب من المثقفين هو "مثقف السلطة ، أو شاعر الأمير الذي لا يفتي ولا يجتهد في أفعال السلطان وإنما يسوغها ".

إن الحديث عن تعمق دور مثقف السلطة لم تقف عند حد السلف البعيد بل وصل إلى تكريسه عبر الحقب التاريخية الممتدة. فهذا حال المثقف في الدولة العثمانية حيث "تجمد" الإبداع وغاب العقل وأصبح مثقف السلطان وفقيهه يقوم بتسويغ السلطة حيث صار المثقف واعظ السلطان جزءا "من أيديولوجيا سلطانية، وسلطة تقليدية، أفرغت الدين من مضمونه الحضاري والتعليمي".

إن كل ما سبق من تأصيل لمثقف السلطة يمثل حالة انعكاس على المثقف العربي المعاصر ونقصد هنا مثقف السلطة والسلطان، وفي هذا يجمل عبد القادر عرابي واقع مثقف السلطة المعاصر وانعكاس دوره على المجتمع بالقول: " هذا هو شاعر السلطان، أو القبيلة يتغنى بأمجـاد السلطان، ويعيش مـن المغـارم والمغانم، هذا المثقف خادم مطيع للسلطان، لا يجتهد أو يفتي. علاقتـه بالسلطـان علاقة ولاء واستزلام، الولاء ليس للمجتمع ، أي للأمة والدولة، بل لعصبية السلطان. هذا المثقف هو البدوقراطي، الطائفوقراطي، الانتهازي، لا يلتزم قضية، وهو جـزء من أيديولوجيا النظام. هذا الطفيلي ليس بالطبع مثقفا بالمعنى الصحيح للكلمة، ولكنـه مؤشر على مدى الانحطاط الذي لحق بنا".

يبين هذا مدى الترابط الفكري بين ما أطر تاريخيا للاستبداد من قبل كتاب الدواوين إلى تأصيل الفكر الاستبدادي المستورد وعندما بدأت معالم القبح الاستبدادي بدأت فرائس مثقف السلطة تستنفر قواها لحماية الحاكم المستبد وهو الأمر الذي ما زال قائما في الحقبة المعاصرة حيث تم التنظير لفكر استبدادي مبتكر من قبل مثقف السلطة مما أدى إلى إفراز مفهوم "المستبد العادل" ليتم تعميق الانحطاط في هذه الأمة .



#زهير_مبارك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النفط العراقي بين الحقيقة والوهم الأمريكي


المزيد.....




- شاهد.. رجل يشعل النار في نفسه خارج قاعة محاكمة ترامب في نيوي ...
- العراق يُعلق على الهجوم الإسرائيلي على أصفهان في إيران: لا ي ...
- مظاهرة شبابية من أجل المناخ في روما تدعو لوقف إطلاق النار في ...
- استهداف أصفهان - ما دلالة المكان وما الرسائل الموجهة لإيران؟ ...
- سياسي فرنسي: سرقة الأصول الروسية ستكلف الاتحاد الأوروبي غالي ...
- بعد تعليقاته على الهجوم على إيران.. انتقادات واسعة لبن غفير ...
- ليبرمان: نتنياهو مهتم بدولة فلسطينية وبرنامج نووي سعودي للته ...
- لماذا تجنبت إسرائيل تبني الهجوم على مواقع عسكرية إيرانية؟
- خبير بريطاني: الجيش الروسي يقترب من تطويق لواء نخبة أوكراني ...
- لافروف: تسليح النازيين بكييف يهدد أمننا


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - زهير مبارك - مثقف السلطة ... الولاء المطلق