أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعاد جباره - وطن في المنافي















المزيد.....

وطن في المنافي


سعاد جباره

الحوار المتمدن-العدد: 2153 - 2008 / 1 / 7 - 09:41
المحور: الادب والفن
    


تتعانق طيور الصباحات الندية مطلقة تلك الصرخة الهادئة التي تلون الأفق بشيء من أطياف الحلم، تطوقه بأنسام المحبة والسكون، تنتشر في المكان خلال رقصها أنغام تشيع في القلب دفقة من السكينة والهدوء، وتدفع بها سيلاً يخترق حدود الحس الإنساني، ويتجاوزه ليرسم في النفس تلك النشوة التي ما إن تفترش النفس بها حتى تترجم كلمات متناغمة لا واعية، كلمات سنية تخرج بعفوية مطلقة، تدفع بجسدها الراقد على السرير للنهوض، تندفع نحو النافذة وبحركة خاطفة تتسلل بيدها لتدفع بزجاج النافذة بعيداً، تغيب بعيداً في فضاءات المكان، لا تكاد تلمح شيئاً فيه، بدت وكأنها تحاول أن تحرر نفسها من قيود العادات، ونغمات الروتين الصباحي اللا مكترث بذلك الإنسان الراقد في نفسها، بين ضربات قلبها، وذلك الإنسان الذي تتنفسه مع كل دفقة هواء، تهجر الروتين الصباحي، وتفتح لنفسها تلك النافذة الصغيرة نحو أفق أوسع، أفق مثقل بنهار جديد، وأعمال جديدة، إرهاق جديد، ومتعة جديدة، تجنيها بتعب في كل مساء، متعة تقتحم نفسها في فضاءات الليل خلال تزحلق حبات العرق على جبينه، تغني على شفتيها ابتسامة هادئة راقصة في آن، تغني، تقفز على شفتيها بفرح غامر عميق، تقفز في لحظات استقرارها الوميضية على شفتيها منتشية بالنصر.
اليوم في هذه اللحظات في هذه الساعة شقت ابتسامة وميضية طريقها إلى شفتيها بعد غربة طويلة عن المكان والزمان، رسمت على شفتيها ابتسامة في النهار المشمس الهادئ، اليوم اهتزت شفتاها طاردة رعشات البرد، اهتزت نشوة وفرحاً، اهتزت منتشية بفرحة العودة إلى الوطن، بينما هي لا تزال تتابع تحديقها عالياً في الأفق محاولة في كل مرة أن تدفع بنور الشمس نحو حدقتيها دون أن تحاول الهروب من، والاحتماء بالستائر الزرقاء التي تعكس لها شيئاً من دفء الأفق، وتغربها عن دفء الشمس، مهملة دقات المنبه المضجرة التي تصرخ مشيرة إلى الثانية عشرة ظهراً.

تنظر إلى صورتها في المرآة، تمر بيدها عليها مرات ومرات كأنها تريد التحقق في كل مرة من أن هذه التفاصيل لها، هذه التقاسيم لها، هذا الوجه الذي اخترقته ابتسامة صغيرة منذ وقت قصير لها، هذا الثوب الذي تلبسه كم نظرت إليه طويلاً مستنكرة لونه البني المحروق، كأنها تحمل كل نظرة من نظراتها ألف علامة استفهام، هذا لي؟أكنت أرقد فيه منذ وقت ليس بقصير؟أكان يسكن خزانتي منذ وقت طويل؟أشاركني ساعات فرحي الصاخب؟أكانت الضحكات ترن في أذني؟ما أدركته تماماً في الصخب الأسئلة الصارخة التي لا تجد لها إجابة، تلك الأسئلة التي تهرب من إجاباتها، وتبحث في الفضاء عن المبهم الذي يغري بفتح فيك قليلاً لدفقات الهواء، وعلامات الاستغراب تشق طريقها إلى وجهك.كل ما أدركته في ذلك الصخب، كل ما لاح لها في الأفق هو أن اللون البني المحروق الميت الذي تسلق جذع أحزانها، وجثم فوقه يرتكز بحيث يحل ضيفاً غريباً، يظهر ليمثل دور السعادة على مسرح اليوم، مقارنة بتراجيديا الألم والحزن الذي اكتسى به جسدها في الأيام الطويلة الفائتة.
تحدث أمها التي تبدو مستيقظة منذ ساعات الصباح الأولى، يوصيها بطفلها الراقد في الداخل، تجتاز مدخل منزلها خارجة باتجاه الشارع، تقف متأملة الطريق… الأرصفة… الإشارات المرورية، محاولة من جديد اعتناق الروتين ورده إليها، ترفع ساعدها مشيرة لسيارات الأجرة بالوقوف، تتجاوزها الأولى سريعة، وتتجاهلها الأخرى حيث يبدو السائق على عجلة من أمره كأنه لا يرى أمامه، وتمر ثالثة يعلو فيها صوت امرأة تكابد آلام الحمل ويطغى على صوت المحرك، تمر كالوميض دون اكتراث بيدها الملوحة على الرصيف، إلى أن يهدر صوت محرك سيارة أجرة تبدو قديمة جداً، تقف وتطلب منها الصعود، تخبر السائق عن وجهتها بكلمة واحدة موجزة، تصمت بعدها، تغور شفتاها في فمها كأنهما لم تكونا في المكان، تسير السيارة ببطء يفضي إلى سنين عمرها الطويلة التي قضت فيها تعمل في نقل الركاب، وتبدو بثوبها المحروق غير أبهة ببطء السيارة حيث تظل ساكنة تحملق في اللاشيء، ولا تحرك ناظريها صوب الساعة كأنها تدرك أن خروجها من المنزل جاء مبكرا بعض الشيء، وأنه لا يزال أمامها متسع من الوقت، أدخلت يدها في حقيبة صغيرة تحملها، أخرجت منها مالاً دفعت بها إلى السائق تناوله من بين راحتها وهم بوضعه في حافظة السيارة، أعاد ما تبقى من المال لها في تلك اللحظة بينما تتسلل يده ببطء مفتعل إلى الحافظة، وفي حين يحاول فتحها بصعوبة بالغة تسقط منها صورة صغيرة، تحقق السيدة في الصورة، كانت صورة لحفل زفاف أحدهم وعروسه، تبدو تفاصيل الرجل في الصورة قريبة من تفاصيل السائق الهرم، ينظر السائق في الصورة دون اكتراث يبتسم ويعيدها إلى الحافظة، بينما تغيب السيدة في الصورة، وتعيش حالة من الذكرى المؤلمة في ثنايا الصورة.

"صورة ؟لا لم تجمعني وزوجي صورة في حفل الزفاف، كان زواجي متوتراً محفوفاً بالمخاطر؟يحدث هذا عندما يفكر بالزواج بأحد القادة الحزبيين العسكريين أو السياسيين كان زواجنا متكتماً متوتراً، يشبه السير على حبل رفيع تستعر تحته نيران ملتهبة لم يكن موجوداً في عقد القران، تولى والده الأمر نيابة عنه، فترة الخطوبة كانت سراباً، كنت شخصاً لاهثاً متعباً يقتحمه العطش خلال سيره على غير هدى في صحراء قاحلة، أرى سراب الماء، ارحل إليه، أجري خلفه، لأسقط دونه، تزوجت أقمت حفل زفاف، الجميع مدعو إليه إلا هو، لم يكن موجوداً لم يكن مدعواً، في الوقت الذي كنت فيه أجلس بثوبي الأبيض، بابتسامة جافة أجبرني الثوب على رسمها، كان يبذل قصارى جهده ليبقى دون عيون العدو"، يقطع السائق تدافع الأفكار إلى رأسها بسؤال بدا لها وكأنه سؤال ساذج، أجابت باقتضاب وعادت إلى صومعتها تقرأ تلك التراتيل من سفر حياتها:"لا أذكر أني رأيته قبل الخطوبة، لم أره أثناءها، لم أره في حفل الزفاف، ليلة الزفاف انقضت، لم يكن موجوداً فيها لم يكن موجوداً في بيتنا تلك الليلة، لم أره فيها، لم أره بعدها، لم تدس قدماه بيته يوماً، أجل كل المنازل كانت منازل لنا، كل الأماكن كانت أماكن لنا، كل البقاع كانت صوامع حب لنا، وبيتنا لم يكن كذلك، بعد عام أنجبت طفلي الأول، كان يرى والده في أوقات مسروقة من عيون المراقبين المتابعين، نسرق اللقاء بين دقيقتين.

تنظر من النافذة إلى أرجاء المدينة شققها ومبانيها، تنظر إليها وهي ترى في كل زاوية منزلاً جمعهما شهراً من الزمن، شهرين من الزمن، غابت تلك المباني عن عينيها عامين من عمر الزمن، عامين من عمر الفجيعة، اعتكفت خلالهما داخل منزلها رافضة الخروج،عامين من عمر الألم عاشتهما مع ابنها،عامين عاشتهما داخل جدران منزلها بعد اغتيال زوجها من قبل سلطات الاحتلال،عامان اعتكفت فيهما الحياة،وهربت من الوقوف أمام اثنين لا ثالث لهما،هربت من الوقوف أمام اثنين كلاهما صعب.

توقف سيارة الأجرة وتنزل منها، تقف بعيداً، تقتل الرعشات التي اجتاحت جسدها ساعة الوقوف هناك، وتسير باتجاه الشيء الوحيد الذي تراه في فوضى الأسماء تلك، الشيء الوحيد الذي يعنيها في ذلك الصمت،الروح الوحيدة التي تستطيع سماع صوتها، القبر الوحيد الذي يخصها،تجثو أمام القبر تقرأ الفاتحة وتذوب بين شفتيها دمعة،تخرج تحث قدميها على الرحيل،لكنهما تأبيان السير على عجل،تسير كأنها ظل لشبح ميت،تعود تتدثر بكرسيها داخل السيارة،يحرك السائق المقود دون أن يسأل عن وجهتها،كأنه يستشعر في نوتات وجهها ذلك اللحن الحزين الذي لم يرغب نقطع بكائه،هدر المحرك وسارت السيارة على غير هدى،كأنه يقرأ في غربة عينيها البحث اللاشيء في مكان غربتها الكلمات عنه،سار ببطء تاركاً لها تلك المسافة التي تسمح لها بحادثة طرقات المدينة.

لوجهه معالم مغبرة، لجسده معالم ملونة بتفاصيل مضنية، ارتدى معطف الصمت الذي بدا مضجراً مملاً في ذلك الحر، ظل صامتاً بينما هي تنشغل بإرسال نظرات فضولية تخترق نافذة السيارة التي لا تفتح لعطل فيها، يوقفها مواء شرس لقط يبدو عازماً على افترس طير صغير جريح، حوله ترفرف أمه و الفزع يجتاحها، تمر السيارة مبتعدة عن المكان بصمت، وتسقط ليلة أمس في ذاكرة الصور خاصتها، تمتزج بين اليوم والأمس،أمس حيث زارها أهل زوجها،لا تذكر ابتساماتهم،لا تذكر حديثاً طيباً تحدثوا فيه،تلك الأحاديث بدت مقدمات لا علاقة لها بعرضهم الذي هربت منه طويلاً،جاؤوا إليها وسقطت كلماتهم في عمق تلك الصورة،صورة القط يحاول افتراس الطير الجريح" أنت شابة جميلة والمستقبل أمامك،نحن من كانت إصابته بالغة لا تلتئم،فقدنا ابننا،الآن كل ما تبقى لنا هو ابنه حفيدي الصغير،لا أتخيل حياتي دونه،لم أحتمل غيابه الطويل عني،نعم أفهم بالمقابل أنا أقدر أنه ابنك،لهذا أفكر بأن يبقى معك وبيننا،وهذا طبعاً إذا تزوجت أخو زوجك،إنه الخيار الوحيد،أو أن يكون حفيدي معي وانتهى الأمر" طلبت من السائق الاتجاه نحو البيت،كأنها شعرت بالخوف على طفلها،الملاك النائم على السرير بعد استيقاظه الصباحي المرح.

لم تحاول إخفاء معالم وجهها المتوترة، تجتاز الباب باتجاه السرير، لم يستيقظ بعد، لا يزال نائماً،تغني نشيده المميز،تنحني بالقرب من مهده متشبثة بصورة تجمعها وإياه،تنظر إليها بإمعان،تسير باتجاه خزانتها،هذه المرة لم يعد يهمها لون ما تراه داخل الخزانة،شكل ما تراه في أدراجها،لم تنظر إلى أثوابها المعلقة كأنها جثث هامدة،مدت يدها أخرجت ألبوم صورها تطالع تفاصيل الصور،لحظات الأمل المسروقة من عمر الألم،تتأمل لحظات الحب المزروعة في الصور،لحظات السعادة التي ولدت بين أصقاع الخوف والتوتر،تمر دون الابتسام،تفاجئها يد حنون تحط أحمالها على كتفها،تجلسان أمام مهده هي وأمها،تطالعان الصور،ووجهه الطفولي الهادئ،دون الابتسام،دون الكلام،تقرأ في عيونهن اللاشيء،كلمات ربما كتبت بلغة أخرى،بقلم ربما ساح الحبر منه،كتبت على ورقة بللها المطر،في عيونهن كلمات، كلمات لا أحد يقرؤها،في عيونهن كلمات.

خلف نافذتها الصغيرة، في الشارع المقابل لمنزلها، يجلس رجل أشعث الشعر، يمر بعينيه على معالم الطريق مستعيضاً بذلك عن الجريدة بين كفيه باسترخاء دون فتحها،نساء يغلف السواد أجسادهن،يغلف الحزن عيونهن،ويستعمر قلوبهن،متسربلات بالسواد،أرامل يغلفهن السواد،أطفال ينسجون الواقع المؤلم،ألعاباً طفولية،ينظر إلى نافذتها التي عادت إلى صمتها من جديد،يترك الجريدة تتقاذفها رياح الصيف ويرحل.



#سعاد_جباره (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- طيور المساء
- باسم الهيجاوي حين تبكي فاطمة .. من كان يبكي
- رحيل
- صدى الذاكرة
- سنابل تحترق بصمت


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعاد جباره - وطن في المنافي