حسام مطلق
الحوار المتمدن-العدد: 2148 - 2008 / 1 / 2 - 11:23
المحور:
الطب , والعلوم
كنت قد وعدت بأن تكون هذه الحلقة من سلسلة قصة التطور والنشوء مخصصة للحديث عن أقسام الدماغ ولكن برزت جملة أسئلة مشروعة من مناقشة الحلقتين السابقتين, ( أخوان القردة – الدماغ : رحلة 300 مليون سنة من التطور ) ولذا سوف أقدم في السطور التالية ما أجد انه ضروري لاستكمال الفكرة وسأجعل منها مدخلا للحلقة القادمة.
يمكننا أن نبدأ قصة تطور الدماغ دراماتيكيا من وعيه بأهمية المعرفة وتوظيفها في خدمة السعي للتفوق, حدث هذا قبل 50 مليون سنة. طبعا لم يحدث الأمر على طريقة أرخميدس حين صاح : أوريكا أوريكا . ولكنه, وكما باتت الفكرة واضحة من الحلقتين الماضيتين, على ما آمل, أدرك ذلك باطنيا. أي عبر منطقة وعي المهمات البيولوجية في الدماغ. هناك بدأ التحول الكبير, لقد صار يوظف قشرة الدماغ ( منطقة الوظائف الراقية ) ومقدمة الدماغ ( منطقة التواصل والوعي الخارجي ) لصالح الهدف الأساسي, أي البقاء. حين اعتنى الإنسان بالطفل أكثر حصل على قوة أفضل. ففي وقت كان الطفل مجرد عبء قد تتركه الأم عند أي خطر للنجاة بنفسها, ومع التطور الذي حصل في شكل الأصابع و تموضعها وطريقة الوقوف صار بإمكان الطفل أن يؤدي مهام جماعية ومن هنا برزت أول فكرة للأسرة. أي لم يعد الطفل مجرد حيوان يولد تتركه الأم عند الخطر كما تفعل الغزلان بصغارها, أو يتهرب منه الأب كما يفعل الحيوان الكاسر حيث يقدم لصغاره ما بقي من طعامه. لقد بدأ الإنسان يدرك أن تعاضده في إطار ضيق يمكن أن يكون عونا له على البقاء. ومن هذه الحاجة ظهرت أولى الأخلاق, أول أسرة, أول مجتمع يربطه ما هو أكثر من مجرد الترافق على طريق البحث عن الغذاء. الطفل صار يشارك في جمع الثمار والأم في أعداد الطعام والرجل في الصيد والدفاع عن أفراد أسرته. الدفاع المستميت لم يكن قد ظهر بعد, لقد كان حتى مرحلة ما شكلا بسيطا من الدفاع يشبه دفاع الحيوانات عن بعضها البعض اليوم. حيث يقوم الحيوان الكبير بحركات إلتفافية وربما قد يقلص المسافة بينه وبين الحيوان المفترس على أمل أن يغريه بوجبة أكبر ويتيح المجال للصغير كي ينجو( ما تزال النعامة تفعل ذلك إلى اليوم ).
حتى الساعة لم يكن الطفل مرعيا في الأسرة, بل لم تكن هناك أسرة على الغالب. لقد كانت جماعات تعيش وفقا لنظام القوة تجمعها ضرورة واحدة هي الغذاء والجنس. هذه الطريقة من الحياة كانت هي المعمول بها لدى جميع الكائنات.الفردية المطلقة. إن اعتقد البعض أن الإنسان تاريخيا كان مخلوقا اجتماعيا, وتاليا ذا أخلاق, وأن الحيوانات بالضرورة غير اجتماعية هو مخطأ. إن ابعد الحيوانات عن السلوك الاجتماعي في ذهن الكثيرين هي الأسماك ومع ذلك فإنه بحسب الدراسة التي نشرتها دورية سلوك الحيوان, فالأسماك تختلف في السمات الشخصية التي تميزها عن بعضها، فمنها من يميل إلى المغامرة، ومنها من يظهر عدوانية واضحة، فيما تبدو أسماك أخرى أكثر اجتماعية. أي أنها بكل بساطة تعيش كما كان البشر يعيشون قبل أن يدركوا أهمية التعاضد والأسرة, مجرد أفراد في جماعات. ببساطة لم تحتج وفقا لبيئتها إلى ما يدفعها لأن تطور دماغها في اتجاه مزيد من التخصص في الوظائف الراقية أو الوظائف التواصلية والإدراك الخارجي. أو أنها لم تعش تجربة الإنسان حيث ينهار السيد المطلق ( الديناصور ) تحت وطأة الغذاء, ويتسيد القرود, قليل الوزن نسبيا, ضعيفي التسليح ( أنياب ) خفيفي الحركة قياسا بباقي المخلوقات. إنها ملاحظة لم تتوافر لكائنات المياه ولكن أحد كائنات اليابسة ( جد الإنسان ) استخلص منها عبرة. الأخلاق وليدة تلك العبرة. التعاضد والأسرة وليدة الحاجة للاستمرار رغم الضعف.
أي أن الأخلاق منشأها شكل من أشكال البقاء, وتطورها نتيجة لتطور قشرة الدماغ, وبالتالي الوظائف الراقية والتواصلية وليست فطرة سماوية كما يحلو للبسطاء أو المبسطين أن يفهموا الأمور.
في تلك المرحلة ظهر أول فكر استراتيجي في التاريخ حين قرر اللاوعي في الدماغ أن يسيطر على المحيط عبر تفعيل أكثر للوعي. فخصص له أكثر مما كان قد خصص سابقا, سواء في الجهد أو التغير والتطور, كي يضمن بقاءً أكثر استقراراً. لقد صار الإنسان يحقق نجاحات عبر إعادة إنتاج الظرف البيئية بما يوائم حالته الجسمانية بدلا من العمل وفقا للطريقة التي يعمل كان عليها والتي يعمل وفقا لها باقي أشقائه في الخليقة, واقصد هنا اقتصار الاعتماد على إستراتيجية إعادة إنتاج الجسم ليكون ملائما للبيئة.
فلم يعد الوعي الداخلي يطور الأيدي ولأعضاء والأعصاب ..الخ وحسب وإنما صار يقوم بإحداث تغير في الدماغ يؤهله كي يعيد إنتاج البيئة لصالح البقاء. لقد صار يفكر خارج إطار عالمه الداخلي.
طبعا كلا التغييرين كانا بطيئين ولكنهما سارا معا. فتطور الإنسان بيولوجيا لم يتوقف, ولن يتوقف. ومشوار السعي للسيطرة على البيئة بدأ ولم يتوقف, ولن يتوقف.
هذا المشوار مر بلحظة تاريخية حاسمة حين عرف الإنسان كيف يسيطر على النار. في أجيال سابقة كان قد توصل إلى استخدام النار, ولكن كان عليها أن تنتج منفردة وضمن ضوابط معينة كي يتمكن من الاقتراب والاستفادة منها. فمصدره منها كان الحرائق الصغيرة التي ربما قتلت بعض الحيوانات فحرقت جزءً وأنضجت جزءً تناوله أحد الجياع ولمس الفرق فبدأ المشوار. وبنفس الطريقة أنضجت بعض الثمار التي كانت عصية على معدته فأدرك أن عليه أن يسعى للتحكم بإشعال النار كي ما يكون قادرا على الحصول على هذا الغذاء ساعة يشاء.
حين سيطر الإنسان على النار أمكنه أن يحقق من خلال هذا النجاح تطورا في كلا المسارين, لا اقصد المسار السوري واللبناني, ولكن مسار التطور البيولوجي ومسار التوظيف البيئي. لقد صار بحاجة اقل إلى الدفء الداخلي إذ صار بإمكانه أن يؤمن لخلاياه مصادر خارجية دائمة للدفء. لقد أمكن تقليص عددا من أسباب الوفاة سواء بالمرض أو البرد, وتشير النتائج المخبرية إلى أن أكثر المستحثات البشرية القديمة لم تكن قد تجاوزت الأربعين من العمر, لذا يقدر العلماء أن الأعمار في تلك المرحلة السابقة لانتشار النار أو التي كان استخدام النار فيها ليس شائعا لدى جميع البشر كانت قصيرة. ومن المفيد أن أورد ما له ارتباط بالأمر, اقصد العمر والبيئة, فمعدل الأعمار قد زاد مؤخرا في المجتمعات المتقدمة مع تطور أشكال الرعاية الصحية ( النار يومها ) ليصل معدل عمر المرأة إلى 83.7 و الرجل إلى 76.8 . أمل أن يعم التطور كي نعيش جميعا مدة أطول, فكما صار الأوربيون يعيشون عقدا أكثر منا, نحن اليوم نعيش عقدين أو ثلاثة أكثر من أبائنا. وعلينا ألا ننسى أن الإنسان حين سخر النار لنفسه استخدمها في الطبخ فدخل مرحلة مختلفة جدا في تطوره الداخلي لأن مصادر التغذية لديه صارت مختلفة تماما عن مصادر التغذية لباقي أخوانه في الخليقة ( نجاح علماء بتحويل الجنس في حمل الفأرة عبر تغير الغذاء- موقع الجمعية الأميركية لتقدم العلوم الالكتروني يلقي الضوء على أثر الغذاء في التكوين الجسماني). ففي حين كانت تطورات باقي الكائنات تعتمد على الغذاء المؤمن من أنواع محددة من النبات أو اللحوم صار التطور الذي يخلقه الإنسان في ذاته ناتج عن غذاء جديد وجيد. إنها لحظة تشبه اللحظة التي زال فيها الجدار بين الخلايا الأولى ( أول ممارسة للجنس ), أو اللحظة التي قضمت أحدى الخلايا الأحادية من خلية أخت لها ( أول مرة أكلت الكائنات بعضها البعض ), وما شكله كلا الأمرين من انتقال جوهري في تاريخ الكائنات. هنا أيضا تغير مسار التاريخ على كوكبنا لقد صار هناك كائن يتطور بصورة دارماتيكية وسريعة قياسا بباقي أخوانه في الخليقة.
إذن الدماغ البشري صار أكثر استقلالية عن باقي أنماط الأدمغة المعروفة لدى باقي الكائنات, كونه أدرك أهمية السيطرة على البيئة, كوسيلة موازية للتطور البيولوجي الداخلي في تحقيق البقاء. فصار يطور تلك الأجزاء التي تتواصل مع الخارج كي تدركه أفضل, ويحفظ بياناته أفضل. وفي نفس الوقت وقع على كنز ثمين من المواد الغذائية. فلم يعد مثل باقي الكائنات لا يستطيع أن يأكل إلا ما أورثه أبائه من قدرات في المعدة على هضم أغذية محددة. لقد صار يطبخ ويشوي ويسلق ( عثر في تدمر على مقبرة جماعية لشباب قتلوا قبل 300 ألف سنة وبجوارهم أدوات- أي أن تاريخ صناعة الإنسان للأدوات تغير ومازال ممكنا أن يعثر على ما هو أبعد من 300 الف سنة كبداية للصناعة). لقد صار الإنسان يحصل على وجبة أفضل ( سلسلة فايتمينات أكبر وجزئيات غذائية أوفر لم تكن بالضرورة موجودة في غذائه السابق ). يبرز هنا سؤال محوري : لماذا لم تقم الحيوانات الأخرى بما هو لازم لمجارات الإنسان في تحقيق تطوره الدماغي, اقصد نحو المحيط؟. ببساطة حين قرر الإنسان قبل عشرات الملايين من السنين أن يركز فعله الداخلي على أعادة موضعه الأصابع في اليد وطبيعة الوقوف مهد لورثته أن يسيطروا على النار.إطلاق الشرارة بعمد يتطلب ما هو أكثر من قدرة القرد على إمساك التفاحة, ولن ننسى أن السيطرة عليها لاحقا بعد اندلاعها هو المهمة الأكثر مشقة. الأمر بحاجة إلى أكثر مما أورثه أباء القردة لورثتهم. خلاصة الفكرة هنا أن يدرك الجميع أن الفضل في سيطرتنا على الكون لا تعود فقط إلى ذكائنا, إنها قضية خيارات إستراتيجية. فهناك حيوانات قد لا تقل عنا ذكاء إن لم نقل أنها أذكى ( اختبارات ذكاء أكدت تفوق احد أنواع الشمبانزي على طلبة جامعة في اليابان -دورية البيولوجيا الحديثة, الدكتور تتسورو ماتسوزاوا ), ولكن بكل بساطة اتخذت أجيالها الأولى قرارا خاطئا حين قررت أن تستمر في تطوير الأنياب أو الأظافر للحصول على الغذاء, أو الشعر الخارجي للحصول على الدفء. في حين اتخذ أبائنا قرارا استراتيجيا قديما بتطوير تموضع الأصابع كي يتمكنوا من السيطرة على البيئة المحيطة ويوظفوها لمصلحة بقائهم. قد يكون هناك من الكائنات ما هو أكثر ذكاء منا ولكننا نحن من بين الأذكياء من لنا مقدرة تحويل الذكاء إلى فعل تراكمي خارجي. باقي الكائنات توظف ذكاءها في التحولات الداخلية والاستجابات الدماغية لفهمها الخاص. مشكلة تواصل. هنا علينا أن نتصور أن هذا القرار الاستراتيجي وقع على دفعتين وربما مر بمراحل تجريبية استغرقت ملايين السنين. وأن الأنسال التي ترددت لم تعد قادرة على مجارات باقي الكائنات, فلا هي ذات أنياب, ولا هي دقيقة في حركتها وقدرتها على استخدام الأدوات. وكذلك الأنسال التي يمكن أن تكون قد اندفعت ربما فنيت لأنها خسرت قدرتها على مقاومة الظروف البيئة كونها لا تملك تراكما معرفيا يخولها لتوظيف هذا التطور في الشكل الخارجي لصالح المهمة النهائية. فمثلا القرود فقدت سيطرتها على الكون بعد أن اكتمل شرطي التوازن الجمساني والمعرفي لنا مع قصور لديهم في تسجيل المعرفة. أي فصارت أجسامها الأكثر تطورا من قدرتها المعرفية غير قادرة على مجاراة الطبيعة أو على مجارات أعداءها فمنها من فني حين تحدى بقوة ومنها من فر من الجغرافيا التي قرر الإنسان أنه سيدها. لقد استسلمت للملك الجديد. الأغلب أن اكتشاف النار ساعد على حماية بيئية أكبر للإنسان فصار أعدائه يخافون منه وهو يحمل النار. والنار جلبت له غذاء مختلفا ومفيدا لنمو أوضح لقشرة الدماغ ( منطقة الوظائف الراقية ) وقدرته على التواصل الخارجي. ضمن هذه المعادلة فإن الهياكل التي يعثر عليها أو الرسومات التي تكتشف على جدران الكهوف لا تعني السلسلة البشرية على طريقة أ أنتج ب و ب أنتج ج . الأمور كانت تسير بشكل متباين ومتزامن. إنها تراكمات من الاحتمالات احد, أو مجموعة من تلك الآحاد, استطاعت في النهاية أن تحقق القفزة الأخيرة والأكثر أهمية. مجلة العلوم الأمريكية قالت إن ما نعتبره مرض الفصام -الشيزوفرينيا - هو خيار جيني من اجل التطور. وان هذا المرض هو ما دفع الإنسان في خط مغاير للشمبانزي. هذه الدراسة التي شارك فيها فريق مكون من برنارد كريسبي بروفيسور تطور الأحياء في جامعة سيمون فريسر في كولومبيا البريطانية، وكايل سمرز بروفيسور التطور في جامعة كارولينا الشرقية – هذه الدراسة قامت بالتركيز على حوالي 76 تشكيلة جينية مختلفة مرتبطة بالفصام. وبمقارنة تلك التركيبات مع تطور جينات أخرى تؤثر في العمليات العصبية للكائن حدد الباحثون ثمان وعشرين جيناً مرتبطين بمرض الفصام تم انتقاؤهم وتفضيلهم خلال في الأعراق البشرية. قد تكون هذه المرحلة دخلت في تطور دراماتيكي حين بدأ الإنسان يشاهد الديناصور يفنى بكل ما له من قوة ومن هيبة فأوقف بشكل تدرجي تفاعلات كبر الحجم والقوة وصار يثابر أكثر في التفاعلات الداخلية التي تطور المكر والدهاء, تفاعلات يعبر عنها بالعنصرية والاعتزاز بالذات, لقد بدأ مشوار الاعتقاد الموهوم بأنه مختلف عن باقي الحيوانات. أننا بحاجة لأن نتصور حياته. كان يصعد إلى الشجرة فيتخلص من الحيوانات المفترسة وهو ما دفعه إلى التركيز على خفة الحركة. القرود اندفعت أكثر في هذا الاتجاه في حين بعض السلالات كانت أكثر تأني . ولعله حين رغب في تطوير الأنياب أوقفته مشاهد الديناصورات وهي تهرس هذا الحيوان الفاتك تحت أقدامها. البعض ربما استمر والبعض توقف. إلا أن المؤكد أن بعض السلالات اندفعت وأخرى تأنت وثالثة مزجت بين الأمرين فطورت أنيابنا الحالية أو شكل أخر اقرب لها وفي نفس الوقت حافظت على قدر من الخفة. امتزاج تلك التجارب عبر مئات آلاف السنين هو ما جعل بعض السلالات تحدث معادلة توفيقية بين خفة الحركة وبين الوعي التواصلي وبين تموضع الأصابع وقدرة الانتصاب. عناصر ساند بعضها بعضا. نحن أبناء تلك السلالات, ولنا أشقاء في المصدر التكويني الأول لم تكن قرارات أجدادهم التكوينية, أو للدقة تراكمات قراراتهم التكوينية, تسير وفقا لتلك المعادلة التوفيقية وهذا هو مصدر التباينات في الشكل الخارجي بين البشر اللذين يعثر عليهم في الاكتشافات المستحاثية المختلفة وهو مصدر الاعتقاد الخاطئ بأن السلسلة البشرية أنتجت بعضها البعض. نحن جميعا من مصدر كائني واحد ولكننا في الحقيقة أبناء رؤيا تطورية مختلفة وظروف بيئية متباينة. سوف أقول أننا أنجحها في السيطرة على البيئة وأستمر بالتحفظ على القول أننا أكثرها ذكاء.
#حسام_مطلق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟