أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - فوزي حامد الهيتي - نحو بناء مجتمع مدني مفتوح















المزيد.....



نحو بناء مجتمع مدني مفتوح


فوزي حامد الهيتي

الحوار المتمدن-العدد: 2089 - 2007 / 11 / 4 - 01:59
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


يمر العراق اليوم بمنعطف تاريخي خطير وزلزال ثقافي وحضاري قل حدوثه في تاريخ المنطقة حيث ان الاحتلال الأمريكي للعراق الذي أنهى الحكم الدكتاتوري المأساوي فيه قد وضع البلد أمام احتمالات وإمكانات يصعب حصرها ونرى إن فعل الاحتلال وما نتج عنه من فراغ سياسي قد فجر قوى وإرادات عديدة متصارعة فيما بينها، ونعتقد إن نتيجة هذا الصراع هي التي ستحدد ملامح البلد المستقبلية والتي ستختلف بالتأكيد عن صورته قبل الاحتلال. ونعتقد أيضا إن كل القوى السياسة والاجتماعية العراقية المعنية بمستقبل العراق وكل مكونات المجتمع العراقي تقع عليها مسؤولية إنقاذ وجود بلدهم والمشاركة الفاعلة في رسم مستقبله، حيث أن عراق الغد لن يوجد إلا بحضور ومشاركة جميع أطيافه ومكوناته الاجتماعية، ومحاولة تفرد أي قوة من قواه الاجتماعية والسياسية في السلطة لن يعني سوى دفع البلد نحو الانتحار والتمزق ولن يكن بعد ذلك بلد اسمه العراق والحصيلة تكون خسارة للجميع وعليه نحن نعتقد ليس أمام العراقيين من خيارات عديدة تسمح لهم بالحفاظ على بلدهم بل هو خيار واحد هو إشراك الجميع في عملية البناء هذه . وبالرغم من الصورة المأساوية للمشهد العراقي اليوم الذي نتج عن فعل الاحتلال والتركة الثقيلة للنظام السابق وغياب فعل السلطة الوطنية نعتقد أن خيار إشراك الجميع يمكن أن يحيل هذه الصورة السوداوية إلى صوره مشرقة، وبخاصة إذا اعتمدنا آلية مدروسة في إنجاز هذا الخيار: فما هي هذه الآلية التي يمكن أن نعتمدها لإشراك الجميع في إنقاذ البلد وبناء مجتمع عصري خال من العنف والقهر والانفجاريات الكارثية ؟؟ ..
الخيار الديمقراطي وبنية المجتمع العراقي:
إن الإجابة الحاضرة أو الجاهزة على هذا السؤال هي في الغالب : الديمقراطية والانتخابات الحرة النزيهة وربما نضيف إليه جملا أخرى من قبيل .. إشاعة روح الحرية والأجواء المناسبة للنقد والنقد البناء وان نؤمن جميعا أن الأصل والمرجع في التشريع هي الأمة وما تقره الأكثرية هو الحق والصواب وللقلة أن تحتفظ برأيها وتدافع عنه . وان يكون الحوار السلمي اللغة الوحيدة في حل مشاكلنا … الخ من الجمل والعبارات التي نسمعها تتكرر على ألسنة بعض النخب السياسية وأجهزة الإعلام . والجواب أعلاه صادق بذاته ولكن ليس صحيحا أن يساق بلا مقدماته فالنظام الديمقراطي هو منظومة متسقة ومتكاملة من المفاهيم لا يمكن إقحامها على نظم فكرية وثقافية أخرى مختلفة عنها. قد يقول البعض أن الديمقراطية هي ليست أكثر من آلية في الحكم ولا ضير في استعارتها وتبنيها طريقا في بناء نظام حكم جديد وهي ليست خاصية لمجتمع تصلح له دون غيره . هذا الكلام صحيح ولكن الديمقراطية بعدها آلية في الحكم تتطلب ثقافة تنسجم معها فلا يمكن اعتمادها في مجتمع تسود فيه نظم سياسية شمولية وفكر الغائي تكفيري ومنطق وحدة الحقيقة . وإنما تتطلب ثقافة يكون فيها المواطن الفرد هو المقولة الرئيسة فيها … ثقافة ترتكز على مبدأ يقول أن الاختلاف والتنوع هو الأصل في الوجود وان الآخر المختلف هو الأكثر قدرة على اكتشاف أخطائي وان كل النظريات والأفكار والمبادئ يجب أن تكون في خدمة المواطن ولا يجوز أن نضع المواطن مشروع استشهاد في سبيل مفاهيم وأفكار قد لا ترى النور . فالوطن والأمة لا تكبر إلا بتكبير المواطن ورفع مكانته كما يقول أستاذنا مدني صالح.
هذا الكلام يقودنا إلى طرح سؤال آخر وهو : هل إن ثقافتنا السائدة تنسجم مع الديمقراطية لاختيارها آلية في الحكم ؟ . وجواب هذا السؤال يتطلب قراءة نقدية لهذه الثقافة . فما هي مكونات ثقافتنا السياسية السائدة وما هي مرجعياتها الفكرية ؟؟ .
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة نود الإشارة إلى قضية نوجزها بآلاتي : إن الثقافة العراقية السائدة هي حصيلة لكل الثقافات والحضارات التي ظهرت وسادت في هذا الجزء من العالم وان هذا الإرث الثقافي والحضاري لم يتحدد في الغالب بحدود العراق السياسية وإنما امتد إلى الدول العربية والإسلامية المحيطة والقريبة منه وما يصدق على هذه الدول يصدق بصورة وأخرى على العراق أيضا وعليه فان الإجابة عن السؤال السابق تقتضي تفكيك هذا الإرث الفكري الضخم والمعقد ومعرفة مكوناته وآلية عمله، ولا ندعي أننا قادرين بمفردنا على إنجاز هذا الجهد الفكري الكبير ناهيك عن إيجازه في مقال صغير . ولكي لا يكون كلامنا هذا هروبا من الإجابة وتسليما بالفوضى السياسية السائدة اليوم، سنحاول في هذا المقال أن نقدم قراءة أولية لهذه المشكلة تعتمد على مقولتين رئيستين نعتقد إنهما تحكمان منظومتنا الثقافية وفكرنا السياسي، المقولة الأولى هي مقولة ( العصبية ) التي قال بها فيلسوفنا الكبير ابن خلدون والمقولة الثانية ( الأبوة ) أو ( النظام الأبوي ) التي قال بها الفيلسوف الألماني الكبير هيجل .
1– مقولة العصبية :
ربما يتفق معي الكثير في القول إن نظرية ( العصبية ) التي أراد من خلالها صاحبها أن يفسر حركة التاريخ الاجتماعي وبناء الدولة بعامة ، أي إن ابن خلدون قدمها على إنها نظرية كلية شاملة مفسرة لحركة التاريخ الاجتماعي لكنها في الحقيقة تصدق أكثر على الواقع الاجتماعي والسياسي العربي الإسلامي لان هذا الواقع هو في الحقيقة كان مجاله التجريبي لاختبار نظريته وبناءها. والعصبية كما يعرفها ابن خلدون هي ( إنما تكون من الالتحام بالنسب أو في معناه ) ولا يعني ابن خلدون هنا إن علة العصبية هي الرابطة الدموية فقط إنما يعطيها أحيانا دلالة أوسع يوجزها محمد عابد الجابري بقوله ( رابطة اجتماعية سيكولوجية شعورية ولا شعورية تربط أفراد جماعة معينة قائمة على القرابة المادية أو المعنوية ربطا مستمرا يبرز ويشتد عندما يكون هناك خطرا يهدد أولئك الأفراد كأفراد أو كجماعة ) ودوافع هذه الرابطة هي المصلحة المشتركة الدائمة للعصبة . والعصبية سواء كانت بدلالتها الخاصة والتي تعـني ( أقارب الرجل الذي يلازمونه ) أم بدلالتها العامة أي الجماعة التي ترتبط بنسب عام أو بعيد أو لطول المعاشرة فهي رابطة بين الفرد والجماعة ، يذوب فيها الفرد داخل كيان الجماعة ويكون هذا الكيان رمزا متجسدا في كل فرد من أفرادها وما ينتج عن هذه العلاقة المتبادلة بين الفرد وعصبته هو فقدان الفرد لهويته أو ذاتيته فلا اسم له سوى اسم عصبته ولا يعرف إلا بها وليس له كيان شخصي خارج الجماعة وعلاقته وتواصله مع غيره محدود بحدود عصبته فقط ومن كان خارج هذه العصبة فهو غريب عنه يجب الحذر منه ورفضه . ومكانة الفرد ووزنه داخل عصبته يتحدد بمقدار تجسد صورة الجماعة في سلوكه وتفانيه في سبيل خدمتهم والدفاع عنهم أي بمقدار ولائه لهم وحمل اسمهم . والشخص الذي لا ينتمي إلى عصبة في المجتمع العصبوي، يمنحها ولاءه، هو شخص مغيب، منفي ، منبوذ ، صعلوك ، ولهذا صار أقسى عقوبة توجه إلى الأفراد في هذا المجتمع هي طردهم من الجماعة إذ سيصعب عليه العيش والبقاء خارج حدود الجماعة. ان هذا النسق من العلاقات ينتج أفرادا ممسوخين طيعين خاضعين موالين ... أفرادا قاصرين خائفين دائما من السلطة والحياة وبالوقت ذاته ينتج حفنة من الأفراد ذوي النفوذ والسلطان
وبكلمة أخرى إن ابرز ما يتصف به المجتمع العصبوي هو:
أ – تعد العصبة في المجتمع العصبوي هي البنية الرئيسة فيه وليس مفهوم الوطن والمواطنة، والمواطن الفرد هو مهمش ومغيب تماما وان حضر في خطابهم السياسي يكون حضوره لصالح العصبة ليس إلا .
ب – إن الوطن والأمة تختزل بالعصبة وعندما يتحدث الفـــرد العصبوي (المنتمي) عن الوطن والأمة هو في الحقيقة يتحدث عن عصبته وهو لا يرى وجود حقيقي وشرعي خارجها .
لقد تحول هذا المبدأ مع بدء الدعوى الإسلامية إلى رسالة إنسانية كما يقول مطاع صفدي قادها الفارس العربي الذي وسع دائرة ولاءه من القبيلة إلى الأمة التي اتسعت وشملت كل الشعوب التي دخلت فيها فحطم بهذا مختلف العصبويات القبلية القائمة وشيد ( مصدر وحيد للسلطة يستمد شرعيته وقوته من تحقيق دلالته على ارض الواقع ) أي بتفجير العصبويات القبلية داخل الأمة وتحويل الولاء للأمة فقط بدلا من القبيلة . غير أن اغتيال بني أمية لهذا المشروع الرسالي وتحويلهم الدولة إلى ملك عضوض أعاد مبدأ العصبية وبشكله القبلي إلى الحياة الاجتماعية والسياسية العربية الإسلامية والذي استعان به ابن خلدون في تفسير تاريخنا الاجتماعي والسياسي . ونعتقد أن هذه المقولة مازالت صالحة ويمكن أن نفسر بها بعض الظواهر الاجتماعية والسياسية في مجتمعنا العراقي مثل الولاء الفئوي وظاهرة الطائفية السياسية.
2- النظام الأبوي :
يقدم الفيلسوف الألماني الكبير هيجل دراسة تحليلية لبنية الفكر الشرقي بعامة في كتابه ( محاضرات في فلسفة التاريخ : العالم الشرقي ) . ومع كل المؤاخذات والانتقادات التي وجهت إلى هذا الكتاب وتشخيص الأخطاء الفكرية التي وقع بها هذا الفيلسوف الفذ لكن لا يمكن لأحد أن ينكر عليه دقة تحليلاته للشخصية الشرقية والفكر الشرقي بعامة ويمكننا أن نرى الكثير من تلك الخصائص التي شخصها هيجل في كتابه هذا مازالت ماثلة أمامنا . فنعتقد أن مقولة الأبوة أو النظام الأبوي هي واحدة من تلك المقولات الرئيسة التي يتحدث عنها مازالت تحكم فكرنا السياسي وتشكل لبنة رئيسة في بنية نظامنا الاجتماعي ، يمكن أن نستعين بها في تفسير الكثير من الظواهر الاجتماعية والسياسية السائدة في مجتمعنا العراقي .
ان مفهوم الأبوة أو النظام الأبوي هو مجموعة من العلاقات التي تحكم علاقة الأب بالأبناء في النظام الاجتماعي . فالأب في المجتمعات الشرقية هو رب الأسرة والمسؤول عنها أمام المجتمع وله السلطة المطلقة . لا يمكن خروج أحد أفراد أسرته عن طاعته والتصرف دون علمه وموافقته . طاعته واجبة والخروج عن تعليماته وأوامره معصية والتصرف دون علمه وموافقته مكروه وإساءة أدب لثقافة المجتمع . والأب هو حر التصرف أمام أسرته لا يحاسب على أخطاءه والعلاقة بين الأب وأبنائه هي علاقة عضوية دائمة لا يمكن للأبناء أن يبدلوا آباءهم أو أن يرفضوا أبوته في حين يمكن للأب أن ينكر أبوته لأبنائه ولا يعترف بهم أبناء له. والأب في هذه المنظومة ( يمثل أداة القمع الأساسية فيها ) . والأسرة في المجتمع الأبوي هي الوحدة الرئيسة فيه فالمجتمع يتألف من مجموعة من الأسر ، قد تصغر الأسرة فتتألف فقط من الأب وزوجه وأبنائه المباشرين وقد تكبر فتصبح أسرة كبيرة تظم عدد من الأسر الصغيرة التي ترتبط مع بعضها أيضا برابطة الدم ، ويمثل الابن الكبير أو من يختاره الأب من أبنائه الآخرين مقام الأب عند أفراد الأسرة والآخرين وبخاصة في حالة غيابه أو وفاته . والدولة في المجتمع الأبوي هي أسرة كبيرة يحتل الملك أو الحاكم فيها مقام الأب وله المكانة ذاتها التي يحتلها الأب في أسرته فطاعته أيضا واجبة ولا يمكن الخروج عن إرادته أو محاسبته على أخطاءه أو التفكير إبداله .
بعد هذا العرض الموجز لمفهومي ( العصبية) و ( النظام الأبوي ) نود أن نتوقف قليلا لمعرفة فكرنا وثقافتنا السياسية مستعينين بهذين المفهومين.
يرى اغلب دارسي المجتمع العربي والعراقي المعاصر بخاصة إن هذا المجتمع يعاني من تصارع منظومتين مختلفتين هما البداوة والحضارة فنسق العلاقات القبلية هو الذي يحكم نظامنا الاجتماعي وكل محاولات التحديث منذ العهد العثماني إلى يومنا هذا لم تنجح في تفكيك البنية التقليدية لمجتمعاتنا ، بل على العكس تماما فكل المحاولات التحديثية قد ساهمت في ترسيخ نسق العلاقات الاجتماعية التقليدية، يقول هشام شرابي ( في المجتمع "الأبوي المستحدث" يجد المرء نفسه ضائعا متى انقطع عن عائلته وعشيرته وجماعته، إذ أن الدولة لا تستطيع أن تحل مكان هذه البنى الأولية التي توفر الحماية له وبالطبع فان الدولة قوة تدفعه إلى الاغتراب وتضطهده تماما كما هو دور المجتمع المدني، فهذا غابة لا يحظى فيها بالاحترام والتقدير إلا الأغنياء وذوو السلطة) ، لهذا نرى إن الولاء الحقيقي في مثل هذه المجتمعات لا يكون للوطن أو للأمة وإنما لهذه العصبويات ( العائلة، العشيرة، الطائفة، الحزب .... الخ) التي ينتمي أليها الفرد ويشعر بظلها بالحماية والأمان وتحقيق المصلحة وقد عزز تقليد (الواسطة) فضلا عن نسق من القيم الأخلاقية الأبوية المترسخة بيننا هذا النمط من الولاء في المجتمع العراقي ومنحه مرونة وحيوية كبيرة ( فالواسطة تضمن حماية الفرد والمجتمع ومصالحهما المادية بما في ذلك الفرد الأدنى مرتبة في المجتمع ) .
يتألف المجتمع العرقي سياسيا من مجموعات متمايزة تتخذ صفة الحزب او الطائفة او المذهب أو القومية. والولاءات السياسية تتوزع بين هذه المجموعات التي صارت عصبويات بالدلالة الخلدونية لمفهوم العصبة .كما إن المرجعيات الفكرية للقوى والأحزاب السياسية العراقية سواء كانت إسلامية آم علمانية ... ماركسية هي منظومات فكرية شمولية تعمل بنسق من المفاهيم المغلقة . فكل مرجعية من هذه المرجعيات تشكل بنية كاملة مغلقة تٌقَدم من قبل متبنيها على أنها جواب لمشكلاتنا الاجتماعية والسياسية ومشروع نهضوي لسؤالنا ( كيف ننهض ؟) . والجهاز المفاهيمي الذي يحكم عمل هذه القوى والأحزاب السياسية والية تعاطيها مع الأحداث والتعامل مع المنظومات الأخرى المختلفة لا يمكن أن يعمل في ضل أو مع جهاز مفاهيمي مختلف آخر ، فهو لا يعمل إلا من خلال إلغاء الآخر ونفيه أو بمعنى أدق تغييبه، ووجودها يقوم على أساس نفي وإنكار وجود المنظومات الفكرية الأخرى.
لقد تحولت القوى والأحزاب السياسية العراقية إلى عصبويات مغلقة لا تقبل من هو خارج عنها ولا تستطيع أن تفسر أو تتفهم وجود هذا الخارجي، فالحزب او الحركة يقدم نفسه دائما على انه ممثل عن الشعب والأمة والوطن والناطق بكل هذه الأسماء ويتصرف في الغالب على انه هو الشعب والأمة والوطن وهذا ما يفسر التاريخ الدموي لحركاتنا السياسية الراهنة فالعلاقة بين القوى والحركات والأحزاب السياسية هي في الأصل نفي وإلغاء . أما التحالف والتعاون فهو استثناء تقتضيه ظروف الحركة أو الحزب ويتجسد مفهوم العصبوية ليس فقط على صعيد العلاقات الخارجية بين الأحزاب السياسية أو بينها وباقي المواطنين أللامنتميين إليها وإنما أيضا داخل بناءها التنظيمي فالعضو داخل الحزب يتحول إلى رقم فقط لا يحق له بناء علاقات مع أفراد آخرين خارج تنظيمه الحزبي وليس له وجود ألا بالحدود التي يتمثل فيها فكر حركته ويجسدها على ارض الواقع . لا يحق له أن ينطق برأي ويتبنى موقف خارج ما تقره حركته وهو مطالب ان يعمل من اجلها ويدافع عنها حد الاستشهاد ، وبكلمة مختصرة ان العلاقة بين العضو وحركته هي علاقة فناء وذوبان حيث يفنى ويذوب العضو في الحركة ويصبح هو الحركة التي تتحرك وتتجسد على ارض الواقع وقيمته الحقيقية تتمثل في هذا التماثل والتجسيد للحركة في القول والفعل . أما وجود المواطنين الأفراد غير المرتبطين بحركة سياسية أو مذهبية هو وجود مغيب وهم أشبه بالصعاليك في المجتمع الجاهلي … مرفوضين ومبعدين من أي فعل سياسي وفي الغالب يجيرون لصالح عصبويات أخرى. وهذا يطابق تماما أوصاف الذهنية الأبوية كما يلخصها هشام شرابي في هذا النص ( تتمثل الذهنية الأبوية أول ما تتمثل في نزعتها السلطوية الشاملة التي ترفض النقد ولا تقبل بالحوار إلا إسلوبا لفرض رأيها فرضا.إنها ذهنية امتلاك الحقيقة الواحدة التي لا تعرف الشك ولا تقر بإمكانية إعادة النظر ومن هذا المنطق فان التفاعل والحوار " بين الأفراد والجماعات" لا يرمي إلى التوصل إلى تفاهم أو اتفاق بين وجهتي نظر، بل إلى إظهار الحقيقة الواحدة وتأكيد انتصارها على كل وجهات النظر الأخرى.) ولهذا فان هذه الذهنية " دينية أو علمانية " غير قادرة على تغير موقفها لأنها لا تستطيع أن تدرك أو تفهم وجود الآخر المختلف إلا بعده وجودا ضالا منحرفا عن الحق.
أما وضيفة ومكانة زعيم الحزب او قيادته فهي تماثل دور الأبوة في النظام الأبوي حيث يتجسد الحزب كله في شخص الزعيم حتى بلغ الأمر في بعض الحركات السياسية ان تسمى الحركة أو الحزب باسم زعيمها السياسي الذي تربع على عرش حركته منذ تأسيسها ونرى ان القيادة في بعض هذه الحركات تتوارث من داخل أسرة الزعيم المؤسس فيصبح الابن الكبير أو أحد أفراد أسرته زعيما سياسيا للحركة ويتولى قيادتها ( أبوتها ) بعد وفاة أو غياب الأب المؤسس .
بعد هذا العرض الموجز لبنية الفكر السياسي العراقي والية عمله يمكن ان نعود الى سؤلنا السابق : هل إن ثقافتنا السائدة وفكرنا السياسي الراهن ينسجمان مع مفهوم الديمقراطية لاختيارها آلية في الحكم ؟؟؟ .

الديمقراطية والمجتمع المدني المفتوح :
إن مفهوم الديمقراطية يعني بدلالته البسيطة حكم الشعب بنفسه أو بمعنى أدق حكم الأكثرية مع حق الأقلية بالاحتفاظ برئيها وإعلانه والدفاع عنه بالوسائل السلمية التي توفرها مؤسسات المجتمع الديمقراطي لهم مثل البرلمانات والمنتديات ووسائل الإعلام وتكفلها القوانين والتشريعات الدستورية . والنظام الديمقراطي على وفق الدلالة أعلاه اكثر من شكل ونوع وهنالك آلية عديدة لتحقيق حكم الشعب لنفسه او حكم الأكثرية ، منها الاقتراع والتصويت المباشر وتعرف بالحكومات الجماهيرية او ( ديمقراطية اثنا ) ، ومنها الديمقراطية النيابية او البرلمانية يكون حكم الشعب فيها من خلال نواب يختارهم ممثلين عنه أما بصورة مباشرة بالانتخابات وأما بصورة غير مباشرة من خلال الأحزاب والجمعيات ومؤسسات المجتمع الأخرى التي ينضوي تحتها افراد الشعب ويحكم النواب دائما باسم الشعب ووفق آلية ثابتة وواضحة محددة بدستور تسمى فيه صلاحية النواب الممنوحة لهم من قبل الشعب ومدة نيابتهم كما توزع فيه السلطات إلى تشريعية وتنفيذية وتحديد محكمة دستورية تكون مرجعا لفض المنازعات ورفع الخلافات بين السلطات وحماية الدستور ويكون هذا الدستور مقر سلفا من قبل الشعب ذاته باستفتاء مباشر.
ارتبط مفهوم الديمقراطية تاريخيا بالغرب وعد احد أهم مظاهر المشروع الحداثوي الغربي وشكل مع مجموعة من المفاهيم الأخرى مثل ( المجتمع المدني ، الحرية الفردية ،المساواة ، المجتمع الحقوقي وسيادة القانون ... الخ ) بنية متكاملة بحيث أن أية محاولة عزل أو تجميد أو إلغاء لواحد أو أكثر من هذه المفاهيم سيترتب عليه تعطيل او تشويه المشروع برمته. فقد اعتقد منظرو المشروع الحداثوي الغربي ان المجتمعات البشرية هي من إنتاج البشر أنفسهم، ومن ثم فان هذه التجمعات وما تنتجه من مؤسسات مثل المجتمع المدني والسلطة السياسية هي نتاج تاريخي دنيوي نمى وتطور عبر سيرورة الإنسان الطويلة نحو الحرية كما يقول هيجل ، والإنسان كائن نوعي يمتاز عن سائر الكائنات الطبيعية بالوعي والعقل والإرادة وبسعيه الدائم الى انتاج وتحقيق ذاته وحريته في التاريخ . يقول اسبينوزا : إن الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليس السيادة أو إرهاب الناس او جعلهم يقعون تحت نير الآخرين بل هو تحرير الفرد من الخوف بحيث يعيش كل فرد في أمان بقدر الإمكان ، أي يحتفظ بالقدر المستطاع بحقه الطبيعي في الحياة وفي العمل دون إلحاق الضرر بالغير ... فالحرية إذا هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة ) وفي ضوء هذا الفهم لوظيفة الدولة أعطى جون لوك ( للمجتمع حق تغيير الهيئة التي تتولى السلطة عندما تفقد الثقة التي منها لها ) وتعد مؤسسات المجتمع المدني الضمان الحقيقي لحماية الحريات العامة وحقوق الأفراد والأقليات في أنظمة الحكم وبخاصة أنظمة الحكم الديمقراطية فد عده كثير من الفلاسفة ومنظري السياسة حلقة الوصل بين السلطة والمجتمع والنافذة التي يشرف ويراقب منها المجتمع على أعمال السلطة السياسية وظهوره يمثل مرحلة متطورة في حياة الإنسان الاجتماعية والسياسية وشرط ( ضروري لتحقيق مبدأ المواطنة وقيام دولة الحق والقانون، وتحقيق مبدأ مساواة المواطنين كافة أمام القانون، بل شرط لقيام القانون الوضعي بصفته تعبيرا عما هو عام ومشترك بين جميع المواطنين، وجميع الفئات الاجتماعية والسياسية، وتوفيقا او توليفا عبقريا بين مصالح متعارضة عمياء، لو تركت كل منها لشانها لانتكست البشرية إلى حالة الافتراس ) وارتبط مفهوم المجتمع المدني تاريخيا بمفهوم الدولة المدنية والعلمانية فكلاهما نتاج إنساني تاريخي مثل المجتمع الذي أنتجها. ويستخدم هذا المفهوم عادة في مقابل مفهوم المجتمع الطبيعي والمجتمع اللاهوتي الأبوي ألبطريركي التراتبي، الذي يمثل عند الغرب مرحلة سابقة على المجتمع المدني وبكلمة أخرى فان حضور هذا المفهوم يعني بالضرورة استبعاد مفهوم دولة الطغمة ( الاوليغارشية ) ودولة العشيرة ودولة الحزب الواحد مثلما نستبعد الدولة الدينية لان هذه الأشكال من الدول لا تضع حدودا بين نظام الدولة والمجتمع فضلا عن أنها لا تعترف بوجود خصائص متمايزة للجماعات المكونة لمجتمعها في حين ان الحديث عن المجتمع المدني والدولة الديمقراطية ( يعني مباشرة اعترافا بالتمايز بين الدولة والمجتمع ... ويعني أيضا اعتراف بالفردي كمواطن حقوقي قائم بذاته ويعني ثالثا اعترافا بالفروق والتمايزات المكونة لهذا المجتمع ويعني أخيرا تحرير المساحات الاجتماعية من القمع العملي والرمزي وتحسين شروط الاختيار الحر للأفراد والجماعات) وقولنا إن الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني يستبعدان الدولة الدينية لا يعني أنهما يستبعدان الدين ذاته أو يعارضانه وإنما يعني استبعاد ومعارضة سلطة المؤسسة الدينية الرسمية وادعائها بالعصمة وحق الوصاية على شؤون الدولة وعلى حياة الناس، لان قيام مثل هكذا سلطة دينية ( يتعارض مع واقع التعدد الديني والمذهبي في المجتمع الذي يفترض أن تكون الدولة تعبيرا عن كليته وتحديدا ذاتيا لوجوده) إن الدولة الديمقراطية هي دولة محايدة إزاء جميع الأديان والمذاب والأيديولوجيات، والدين داخل هذا النظام يعد واحدا من مؤسسات المجتمع المدني المهمة التي تتولى وضيفة أخلاقية واجتماعية.
نستخلص من كل ما ذكرنا ان الديمقراطية هي منظومة فكرية مؤلفة من نسق من المفاهيم المتكاملة تحتل فيها مقولة المواطن الفرد المقولة المركزية والرئيسة فيها فالمواطن هو اللبنة التي يتألف منها المجتمع الديمقراطي وليس الجماعة سواء كانت أسرة أو قبيلة أو حزب أو طائفة أو ملة أو طبقة اجتماعية ... الخ، وهو القيمة الأعلى والمحور الأهم في النظام الديمقراطي. وشرعية الحزب أو الحركة أو أي تنظيم سياسي آخر مهما كانت مرجعياته تستمد من تمثيله لأكبر عدد من المواطنين وتعبيره عن مصالحهم وآرائهم وليس من تاريخه أو ما يمتلكه من قوة وسطوة أو شوكة أو ما يحمله من أراء وأفكار وعقائد. والحقوق المدنية للمواطن الفرد مصانة والتي منها حق الحياة وحق الاعتقاد وحق العمل وحق التعلم وحق التملك وحق التجمع ودعوة الآخرين لأرائه وحق الفرح في أوقات الحزن وحق الحزن في أوقات الفرح وحق النوم في النهار وحق السهر في الليل وحق فعل كل هذه في أوقاتها وكل ما لا يكون فيه تجاوز على حقوق وحريات الآخرين ولا يحق لأي حزب أو جماعة مهما كان عدد تمثيلهم في المجتمع ان يصادر هذه الحقوق وغيرها من الحقوق الشخصية المدنية للمواطن والتي منها حق الحفاظ على اسمه وان لا يمنحه لأحد ولا يحق لأحد أن يتحدث باسمه إلا بتفويض منه.


وأنظمة الحكم الديمقراطية ترتكز على فلسفة في الوجود والحياة تمثلان الفضاء الثقافي والبنية الفكرية للمجتمع الديمقراطي . فالاختلاف والتنوع والتعدد هو الأصل في الوجود وليس التطابق والتشابه والوحدة وإذا كان الوجود متنوع ومتعدد فالأحرى بالحياة الإنسانية أن تكون كذلك فمن طبائع الناس الاختلاف في الفكر والثقافة والمعتقد مثلما هم مختلفون في الأعراق والأجناس والألوان . وان الإنسان بطبعه يميل إلى الاجتماع مع بني جنسه من البشر لذلك صار لازما عليه إيجاد نوع من التنظيم الاجتماعي بما يحفظ له تفرده واختلافه مع الآخرين ويحقق له العيش معهم بسلام، وهذا لا يتحقق إلا من خلال الإيمان. إن كل مجموعة بشرية هي مؤلفة من عدد من الأفراد يسمون بالمواطنين يعيشون على مساحة من الأرض تسمى الوطن وهؤلاء المواطنون هو جميعا أحرار ومتساوون في الحقوق والواجبات . ولغرض إنجاز هذا النوع من الاجتماع الإنساني طرحت فكرة ( العقد الاجتماعي ) أو الدستور وهو الذي ينظم حياة الجماعة ويديرها وفق نظام والية تعرف بالحكم الديمقراطي الذي انتقلت فيه البشرية من الحكومة الطبيعية إلى الحكومة المدنية .
ان الديمقراطية على وفق التوصيف الذي ذكرناه هي التي أنتجها الفكر الغربي وعلى مدى قرون مضت وقد ساهمت شبكة من العوامل الذاتية والتاريخية والموضوعية على صياغتها بالشكل الذي نعرفه عليها اليوم وقد تحدث فلاسفة ومنظرو الفكر السياسي عن اكثر من نظام ديمقراطي وقدموا انتقادات مهمة وكشفوا عن تناقضات كبيرة داخل هذا النظام السياسي معتمدين في كل ذلك على المنطلقات والأسس الفكرية ذاتها التي أقيم عليها النظام الديمقراطي ولا مجال لتفصيل القول في كل هذا

يتضح لنا مما ذكرناه سابقا ان هناك منظومتان فكريتان مختلفتان لا يمكن التوفيق بينهما أو إقحام أحدهما على الأخرى وان الدعوى لتبني النظام الديمقراطي آلية في الحكم في مجتمع تسود فيه نظم سياسية شمولية وتشكل فيه العصبة ـ مهما كانت مسمياتها ـ اللبنة الرئيسة وليس المواطن الفرد ، وان المواطنين يذوبون ويغيبون داخل عصبويات الغائية متعددة ، مجتمع تسود فيه ثقافة الوصاية ويحكمه مبدأ وحدة الحقيقة ورفض الاختلاف والتنوع … هي في الحقيقة دعوة مظللة واهمة ، وما سيتحقق بالفعل جراء تبني مثل هذه الدعوى هو ظهور أنظمة أبوية شمولية استبدادية جديدة.ففي مجتمع يسود فيه ( الولاء القائم على العجز والخضوع لا يمكن تصور فكرة العقد الاجتماعي ) لان أفراد هذا المجتمع هم في الواقع خاضعون فقط لإرادة أصحاب النفوذ والجاه وليس لسلطة القانون بل القانون ذاته يصبح قي خدمة وتصرف النظام الاجتماعي الأبوي .


ان هذه النتيجة تدفعنا إلى اقتراح سؤال آخر جديد هو : إذا كانت الديمقراطية هي نظام الحكم الأمثل لتجاوز الانفجاريات السياسية والاجتماعية في بلدنا وتمنح جميع المواطنين فرصة المشاركة في إدارة البلد وهي صمام الأمان الذي يستوعب كل المتغيرات الاجتماعية والثقافية في بنية المجتمع . فهل هناك من سبيل لتوفير مناخ ثقافي يتناسب وينسجم مع نظام الحكم الديمقراطي ويسمح بتبنيه آلية في الحكم ؟؟ .
تبين لنا الدراسات والأبحاث العلمية المعاصرة أن البنى والنظم المعرفية مكونة تاريخيا فهي ليست ثابتة وجامدة وإنما متغيرة ، والتغير في النظم المعرفية يصاحبه بالضرورة تغير في البنى الفكرية والفلسفية المؤسسة عليها . فالثورة الابستمولوجية المصاحبة للثورة العلمية في مطلع القرن العشرين قد نتج عنها تحطم التصورات الميكانيكية الآلية الحتمية للوجود ومفهوم الحقيقة ودور العارف في إنتاج المعرفة . وانعكس ذلك كله على البنى الفكرية والمدارس الفلسفية في القرن العشرين وبخاصة في نصفه الثاني فسادت مفاهيم مثل الاحتمالية ونسبية الحقيقة واللاتماثل والتنوع والاختلاف ولم ينحصر هذا التغير في نظريات المعرفة وفلسفة العلم وإنما تجاوزها إلى نظريات علم الاجتماع والمشروع الحضاري الغربي وفلسفته بعامة . فقد تحطم مفهوم اللوغوس ومركزية الإنسان والحضارة الغربية ومشروع الحداثة القائم على مبدأ التماثل والتشابه ووحدة الحقيقة التي سادت في العصر الحديث وظهرت بدلا عن ذلك مفاهيم جديدة أحكمت العقل الغربي المعاصر مثل مفهوم تنوع وتعدد نظم الثقافة والحضارة ، واللاتماثل والاهتمام بالهامشي واللامقيول والمغيب والبحث عن المختلف الذي صار أكثر قدرة على تفسير الحقيقة وكل مظاهر الوجود … الوجود الفيزيائي والوجود الإنساني . والبنية الفكرية الأوربية في العصر الحديث ذاتها قد تغيرت نوعيا عن ما كان قبل عصر النهضة أي عن العصر الوسيط . وما يصدق على الغرب وثقافته يصدق على بنيتنا الثقافية أيضا .
ان التغير في البنى الاجتماعية والفكرية في مجتمعنا بطيء جدا ويكاد لا يلحظ فما زال نمط القبلي الأبوي هو السائد في العلاقات الاجتماعية ، واقتصاديا يكاد النمط الزراعي والرعوي والتجاري السمة البارزة في الاقتصاد العراقي فلم ندخل بعد عصر الصناعة بدلالته الغربية ، وكل المحاولات التحديثية مازالت بسيطة وأحيانا مشوهة وليس لها تأثير واضح على البنى الاجتماعية والفكرية إلا بحدود ضيقة وعلى شريحة صغيرة من المجتمع العراقي. وعملية الإصلاح قد تأخذ وقتا طويلا وجهود فكرية جبارة ليس اقلها إعادة تدوين ثقافتنا ومنتوجنا الفكري تاريخيا ومحاولة تفكيك بناه للكشف عن أسسه ومقولاته الابستمولوجية التي تشغله ومعرفة منطقه الداخلي والية عمله حتى يمكننا إعادة إنتاجه على أسس معرفية جديدة تعيننا على التعاطي مع همومنا الحضارية والثقافية وتمنحنا قدرة اكبر على مواجهة مشكلاتنا الفكرية والاجتماعية.ونعتقد نحن بحاجة ماسة لان نبدأ بإعادة بناء منظومتنا التربوية والقيمية بعد عملية تحليل نقدية جريئة للكشف عن المبادئ والمفاهيم السلبية التي أنتجت أفرادا مسلوبي الإرادة ... عبيدا ... طيعين ... متكلين ، لا مواطنين أحرار قادرين على حسن الاختيار.إن أردنا الإصلاح حقا علينا أن نعرف أولا إن ( ما بين الاستقلال عن الأمير أو التبعية له تقف منظومة تربوية متكاملة، تبدأ من الأسرة وتنتهي في شبكة العلاقات السياسية ... يجمع بينها جميعها مفهوم الطاعة الذي ينتج الولاء والتبعية ، وعندما تكون الطاعة هي القيمة الأولى في المجتمع تنتفي الإرادة وينحصر الاختيار الحر. ) ولذلك فان أي عملية إصلاح لا تقترب من هذه المبادئ لن تحقق أهدافها .
إن هذا الكلام يعني باختصار ان عملية الإصلاح ممكنة وليست مستحيلة وان لهذه العملية بداية ونعتقد إن ظروفنا الراهنة مواتية تماما لبدء مشروعنا الإصلاحي حيث لا توجد قوى سياسية متفردة تستحوذ على السلطة الآن لتمارس سلوك الإلغاء والنفي للقوى الأخرى أو إسكاتها .
ان عملية الإصلاح هي معقدة كما أشرت لكن لابد من نقطة شروع ولا بأس ان تكون هذه النقطة في العملية السياسية التي بدأت بالفعل . ولظمآن إنجاح هذه العملية وإنجاز مشروعنا الإصلاحي اعتقد من الضروري ان تراجع جميع القوى والأحزاب والحركات السياسية الفاعلة في الساحة العراقية منظوماتها الفكرية وجهازها المفاهيمي بما يتناسب ومتطلبات الإصلاح الجاد والمثمر . وبكلمة أدق أن تبدأ هذه القوى السياسية بإصلاح ذاتها من خلال التخلي عن فلسفاتها الشمولية الاقصائية التي تحلم وتهدف دائما إلى بناء الوطن على مقاسها وبكلمة أخرى يجب أن نفجر كل عصبياتنا الحزبية والطائفية والقومية تحت خيمة الوطن وان ينحصر ولاءنا له فقط ، يجب ان تعلو المواطنة فوق كل المسميات الأخرى ويجب أن تكون كل فلسفاتنا ونظرياتنا مشروعات لخدمة المواطن لا أن يكون المواطن مشروع تضحية من اجل فكرة مهما كانت سامية فلا أسمى من المواطن وحياته وحريته .
نحو صياغة جديدة لإشكالية الحكم :
أن غياب مفهوم المواطنة في ثقافتنا وسيادة العصبويات في حياتنا السياسية هو الذي يدفعنا إلى طرح سؤال خاطئ في فلسفة الحكم لن تفرز الإجابة عليه سوى كوارث دموية ناتجة عن إقصاء الآخر المختلف . وهو في الحقيقة سؤال أفلاطوني سيطرة على نظرية الحكم منذ أفلاطون وبقي حاضرا في الفلسفة السياسية لقرون طويلة يتلخص بآلاتي ( من يجب أن يحكم ؟ ) أو ( ألحاكمية لمن ؟؟.) . هل ألحاكمية للأحكم ألاعدل الفيلسوف أم للأقوى ألأقهر ؟ … هل ألحاكمية لله … الإمام المعصوم … الفقيه … أهل الحل والعقد … أم للأمة … الشعب . هل ألحاكمية للرأسمالي المحتكر صاحب الرساميل ومالك الرقاب ام للعامل البروليتاري ، هل ألحاكمية للعرب … أم للكرد … المسلمين أم للمسيحيين … للشيعة أم للسنة … وغيرها من الأسئلة التي تبحث عن المصدر في التشريع وهذه الأسئلة كما يصفها كارل بوبر هي أسئلة برجوازية تحكمية تسأل عن الأصل والفصل أسئلة تبحث عن المثال … الكامل … الإلهي … المقدس .وتعين هذا المصدر واتخاذه مرجعا هو الذي يمنح الأحكام مشروعيتها وصدقها فالحكم لا يمتلك صلاحيته وقيمته بذاته وإنما بالمرجع … الأصل الذي يرتكز عليه ومنه يستمد مشروعيته وقدسيته .
إن محاولة الإجابة عن مثل هذه الأسئلة الاقصائية ألالغائية لن تساهم في إشراك الجميع في المسؤولية وتحقيق الإصلاح المتمثل في تطوير وتقدم مؤسسات المجتمع السياسية والمدنية بما يحقق للمواطنين أعلى درجة من الحرية والرفاه الاقتصادي والأمن الاجتماعي والسياسي، لان النمو والتطور يعني حركية المجتمع المتحققة بمواجهة مشكلاتنا واقتراح حلول لها وإزالة أخطاء كانت تعيق عملية التنمية والإصلاح وهذا لا يتحقق إلا من خلال اقتراح صياغة جديدة لإشكالية الحكم يشترط فيها توافر مبدأين أساسين هما :
أ – أن نرفع الطابع القدسي عن السلطة السياسية ونحد من عملية الوصاية التي تمارسها السلطة السياسية إزاء المواطن فالعلاقة بين المواطن الفرد والدولة هي علاقة تعاقدية يتنازل بموجبها المواطن عن بعض حقوقه وحريته لصالح الدولة في مقابل حماية وجوده ومصالحه من قبل الدولة وعليه ان يراعى في صياغة العقد ( الدستور ) الجوانب الضرورية فقط من وجود الدولة ولا يجوز تضخيم قواها ومنحها صلاحيات أكثر مما هو ضروري لأداء وضيفتها في حماية حياة وحرية ومصالح مواطنيها .
ب – ان لا تتضمن الصياغة الجديدة لنظرية الحكم أي شكل من أشكال الإلغاء والإقصاء والتهميش لأية فئة اجتماعية أو سياسية فالمشاركة في الحكم هو حق طبيعي لكل المواطنين الذين يحملون هوية الوطن ويتحملون مسؤولية بناءه والدفاع عنه بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الطائفية أو المذهبية أو السياسية طالما كان ولاءهم للوطن وليس لما ينتمون إليه من هذه المسميات. ونعتقد إن الصياغة المقترحة آلاتية يمكن ان تكون مطابقة لما حددناه آنفا من شروط هي :
كيف يمكن ان ننظم مؤسساتنا السياسية بحيث يمكن ان نقلل من أخطاءها ونحد من شرورها وتضخم قواها الى ابعد مما هو ضروري لوجودها … ما هي الآلية ـ الميكانزم ـ التي تحكم هذه المؤسسات وتضمن الشفافية في أداءها بحيث يمكن أن نقلل من أخطاء الحكام غير الأكفاء الذين استطاعوا الوصول بطريقة أو بأخرى إلى السلطة ، ونزيله بأقل ضرر ممكن ؟؟ … كيف يمكن ان نظمن التداول السلمي للسلطة ؟ …
ان الصياغة الجديدة المقترحة لا تتحدث عن الحاكم وخصاله واصله المقدس حتى تضفي على حكمه قدسية وعصمة وإنما تتحدث عن عمل الحاكم وحدود صلاحياته ووضع آلية يمكن أن تحد من أخطاءه وتجاوزاته كما إنها لا تحاول اختزال الوطن والخير والحق في جهة أو فئة دون أخرى وإنما تتعامل مع المواطنين على أنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية أو الفئوية الأخرى .
والدعوى إلى تجاوز الانتماء والجهوية في الولاء لصالح الوطن لا يعني نفي وإلغاء الاختلاف وتحريم الانتماء والتحزب بل على العكس تماما فالصياغة الجديدة تفترض سلفا وجود تعدد في الانتماء فالاجتماع الإنساني ليس خلايا نحل يخلو من التنوع والصراع فالأصل في الوجود كما أشرنا سابقا هو التنوع والاختلاف وهو حاصل في الاجتماع الإنساني مثلما هو حاصل في مظاهر الوجود الأخرى والاختلاف والتنوع في الوجود الإنساني مرده في الغالب إلى التنوع والاختلاف في انتماءاتهم الدينية والعرقية والأيديولوجية وتمثل هذه الانتماءات في المجتمعات البدائية الطبيعية هوية الفرد او عصبته بالاصطلاح الخلدوني ويتحدد في ضوءها ولاءه ؛ اما في المجتمعات المدنية التعاقدية فتصبح هذه الانتماءات حقوق شخصية للمواطن لا تحدد هويته ولا ولاءه .فهوية المواطن هي اسم البلد الذي يحمل جنسيته ويمنحه ولاءه ، مثلا العراقي هو كل من يحمل الجنسية العراقية ويتمتع بحقوقها ويلتزم بواجبات المواطنة التي تنص عليها القوانين المرعية في البلد .وللمواطن الفرد حق الاختلاف والتعبير عن آراءه ومصالحه والدفاع عنها .إذا المشكلة ليست في الانتماء الجهوي أو الفكري أو الأيديولوجي وإنما في اختزال الوطن وحصر الولاء في هذه الانتماءات عندها يفقد الوطن دلالته ويتشضى إلى هويات ويضيع اسمه. أما الاختلاف بين المواطنين داخل حدوده ولصالح هويته فهذا من النافع المفيد ويعد من ابرز مميزات المجتمعات الديمقراطية الحديثة لان هذا التنوع و الذي يمنحه قوة وحيوية وانفتاح على المستقبل.
إن مفهوم "الاختلاف" الذي يعني ببساطة إن الآخر المختلف عني ضروري لوجودي بحيث إن منظومتي الفكرية وجهازي المفاهيمي لا يعمل بغيابه فهو يشكل جزء مهما منها . يعد من المفاهيم المهمة في الفكر السياسي المعاصر ونعتقد ان تبنيه ضرورة ملحة في أية عملية إصلاح سياسي عندنا لان الهدف الأسمى للنظرية السياسية وفلسفة الحكم تتلخص في إحداث تنمية دائمة وشاملة للاجتماع الإنساني على مستوى الصحة والتعليم والرفاه الاقتصادي والأمن والاستقرار السياسي. وإنجاز هذا الهدف يعني نحن في مواجه مستمرة لمشكلات متجددة ، وأي تقدم نحققه يعني إننا اكتشفنا مجهولا وأزلنا خطأ كان يعيق تقدمنا ونعتقد إن أفضل طريقة يمكن اعتمادها لإنجاز هذا الهدف هو في إشراك الآخر المختلف في عملية التنمية لان هذا الآخر المختلف هو الأكثر قدرة على اكتشاف أخطائي ونقد كل أطروحاتي وتشخيص ضعفها . وكلما كان الآخر اكثر اختلافا عني صار اكثر قدرة على أداء وظيفته في اكتشاف الأخطاء وبالتالي صار وجوده انفع للمجتمع ولهذا يمكن القول ان الآخر المختلف هو شرط في وجودي بعدي صانع للتنمية.
ان هذا النوع من الثقافة هو الذي نحتاجه في المرحلة القادمة فقبول الآخر المختلف عني ليس شريكا فقط يمكن تحمله والتعايش معه مرحليا وهو مفروض عليّ ومقحم على وجودي ولا املك خيار إبعاده لهذا أجد نفسي مرغما على قبوله والتفاوض أو التحالف معه وهو بالتأكيد قبول مؤقت وآني سأتخلى عنه بمجرد توفر خيار الإقصاء وإنما يجب أن يكون قبول الآخر المختلف بعده الشرط الضروري لوجودي النافع والفاعل في المجتمع وبكلمة أخرى إن اعتماد وترسيخ ثقافة المختلف في حياتنا السياسية سيسهل في عملية الإصلاح الذي نأمله وهو بناء نظام اجتماعي سياسي مستقر مفتوح على المستقبل ليسهم فيه جميع مكونات المجتمع العراقي.



#فوزي_حامد_الهيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل هناك حل لازمة العنف الطائفي في العراق
- الصراع الحضاري والحلم الفلسفي : قراءة اولية في فلسفة مدني صا ...
- الوداع الاخير لمدني صالح ... الانسان الفيلسوف


المزيد.....




- صحفي إيراني يتحدث لـCNN عن كيفية تغطية وسائل الإعلام الإيران ...
- إصابة ياباني في هجوم انتحاري جنوب باكستان
- كييف تعلن إسقاط قاذفة استراتيجية روسية بعيدة المدى وموسكو ت ...
- دعوات لوقف التصعيد عقب انفجارات في إيران نُسبت لإسرائيل
- أنقرة تحذر من -صراع دائم- بدأ باستهداف القنصلية الإيرانية في ...
- لافروف: أبلغنا إسرائيل عبر القنوات الدبلوماسية بعدم رغبة إير ...
- -الرجل يهلوس-.. وزراء إسرائيليون ينتقدون تصريحات بن غفير بشأ ...
- سوريا تدين الفيتو الأمريكي بشأن فلسطين: وصمة عار أخرى
- خبير ألماني: زيلينسكي دمر أوكرانيا وقضى على جيل كامل من الرج ...
- زلزال يضرب غرب تركيا


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - فوزي حامد الهيتي - نحو بناء مجتمع مدني مفتوح