أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف هريمة - دمعة على أعتاب جسد: الجزء الثاني















المزيد.....

دمعة على أعتاب جسد: الجزء الثاني


يوسف هريمة

الحوار المتمدن-العدد: 2083 - 2007 / 10 / 29 - 11:07
المحور: الادب والفن
    


...كانت هذه هي حالها ورفعتها بين أركان وجدران البيت الذي آمنها من خوف السوق. وأصبحت الآن بين أحضان عشيق واحد وليس رواد كثر. ولكن يد الزمان تصفع من حيث لا يدري كل واحد منا. لقد كان سمير بحكم دراسته المتواضعة يرسل رسائل وطلبات عمل داخل الوطن وخارجها. كما أن خبرته في مجال السياقة جعلت من العديد من الشركات تتهافت على خدماته. لم يكن يدْرِ أن أبواب الخارج ستفتح يديها لتحتضنه من سياحته وجولاته، إذ توصل برسالة عرض عمل إلى دولة من دول الخليج للاشتغال سائقا لإحدى كبرى الشركات هناك.
لن يفوِّتَ الفرصة سمير هذه المرة. فالمستقبل يبني له أسسا متينة لوْ ضيَّعَها لضاعت أحلام وأحلام، ولَسُرِق منه العمر كما سُرق منه عيش كريم. لم يكن باليد حيلة أن يختار بين حضن الخارج وحضن الحبيبة. فكلاهما حلو وفراقهما أيضا مر. خاض تجربة الصراع النفسي المرير، قبل أن يستقر على الرجوع إلى أهله ليبدأ تنفيذ مشروعه المستقبلي. مشروع الخروج عن الأفق المظلم الذي رسمه له الواقع بكل تجلياته. تجربة صعبة خاضها قبل أن يعترف لعلية بالفراق، ويختار رسم مسار آخر سينعكس على " علية " سلبا، وهي التي هجرت الأهل والأحباب في سبيل توفير رغباته مقابل أجر معين يدفعه لها.
لعلها مشاعر الحزن والأسى قد ارتسمت على الوجه الجميل، لتملأه بخيبة الأمل في معانقة الحلم. نزل الخبر على قلبها نزول صاعقة بأرض الأمان. لم تكن تتوقع أن يأتيها الخبر ليخرج أثقالها وأحزانها بهذه الفجائية غير المتوقعة. مسحت دموعها التي تسابق الزمان والأسئلة تتدافع بين دروب خيالها: كيف ستواجه الأهل والأحباب؟
كيف ستتلقى ضربات اللوم والعتاب؟
من سيمسح حزنا دفينا ويفتح للسعادة الأبواب؟
غادر سمير بيته وغادرت معه أحلام " علية " عائدة إلى سوق الراحة، وصخب المارة وانتظارات الزبائن المنهوكة بالجراح. وصلت إلى بيت شريف والخجل يكاد يوقعها من الحيرة والشك في قبول مسار جديد. عادت لتلتقي بوجه الأب المملوء بالحزن العميق، وقلب الأم المقطع لفراق فلذة الكبد، وابتسامة الأخت المصفوعة بيد الزمان من سوق الراحة. تحملت ما تحملته ككل من سيقوم بمغادرة الأهل، والسماح في لقمة العيش ولو على حساب الشرف الضائع. ولم يُسْكِتْ صدى الحزن العميق إلا دراهم قد تبقت عليها من ذكرى الحبيب.
صفت الأجواء بالدراهم وعادت " علية " إلى ساحة معركة الحياة تقلب بين الزبناء عن السخاء في الحرمان والكبت. تغازل هذا وتغمز ذاك، وتخضع بالقول لكل من يقصد قبلة السوق زائرا أو حاجاًّ ما استطاع إلى ذلك سبيلا. ظل هذا هو حالها محاولة نسيان ذكرى العشيق الذي سلك مساره بعيدا عنها، إلى أن توقفت حركتها في يوم من الأيام على أرصفة السوق. أحست بصداع في الرأس وألم في البطن وغثيان جعلها تفقد وعيها بالكامل.
حملها بعض من يعرفها على جناح السرعة إلى مستشفى بعيد عن السوق. إذ السوق لا يوفر للبشر إلا راحة نفسية وليس إنسانية. دخلت غرفة الطبيب الذي أشار لخطورة حالتها، وسأل عنها بعض من رافقها هل هي متزوجة أم لا؟. فأخبروه بأنها غير متزوجة. ليسأل بعد ذلك عن ذويها أو أقاربها. وصل الخبر عائلة " شريف " لتأتي مسرعة إلى حيث مكان " علية " وكأنها على موعد مع الصدمة الكبرى. صدمة الخبر الفاجع بأن " علية " تحمل مولودا على وشك السقوط، وأنها لا بد من عملية إسقاط فوري وإلا تعرضت حياتها للخطر.
لم يكن أمام شريف إلا أن يركن إلى زاوية حزنه من جديد. إذ يبدو أن يد الواقع لا تريد أن ترفع سطوتها على الجسد المنهوك. وتُحَوِّل من جبروتها رحمة لهذا العالم الظالم. لم يكن أمامه إلا أن يقترض نقودا من أحد أفراد عائلته لإتمام العملية، وإنقاذ فلذة الكبد من ضياع الحياة بعد أن ضاع الشرف. وتمت العملية بنجاح تام خرجت على إثره علية من غرفة العمليات بصحة مهزوزة ستؤثر على مسار حياتها، بالمقارنة مع ما كان ينتظرها لو تأخر موعد العملية، أو تم إلغاؤها بالكامل لظروف المنطقة الاجتماعية والاقتصادية.
كان الغياب الصحي " لعلية " عن السوق وما توفره من راحة للزبناء، سببا في اعتلاء " سامية " أمانة الأسرة من جديد. فهي لا تنقصها الجرأة والجمال أيضا ليتم التركيز عليها كمورد أساسي لجلب الرزق. " سامية " فتاة صعبة الطباع بالمقارنة مع أختها. لا تكترث للمصاعب والمواجهات التي يحدثها السوق وزبانيته. فهاهي بين صفوف المارة تارة، وهاهي في مخافر الشرطة تارة أخرى. لا تَمَلُّ أن تستعطف وتسأل وتستجدي في سبيل تحقيق مآربها المالية. لا يهمها شكل الزبون ولا لونه ولا مكانته الاجتماعية. ترتمي في أي حضن يوفر لها دراهم معدودات ولو كان أسفل السافلين. كانت تعي جيدا حجم الفراغ الذي أحدثته " علية ". لهذا لم تنتق أيا من زبنائها لتوفير القدر الكبير مما يسد رمق العائلة. ظلت قبلة لكل ما تجود به الأفواه من رغبات أب وأم وأخت جريحة، وقبلة لأفواج الحجيج من كل الألوان والأشكال.
تتوالى الأيام وتتحرك ضمائر الموت من رقادها في مناسبة من المناسبات. جاءت قافلة لأطباء الدم إلى مكان السوق، تحاول أن تستعطف الناس أن يعطوا دماءهم كما أعطوا شرفهم. كل التحفيزات موجودة هنا ويا لها من تحفيزات !!!.، فالذي يعطي دمه سيكون نصيبه عصير ليمون لم يُذَقْ له يوما في القرية طعما إلا في أحلام ميتة، ولا ينتهي إليه العطاء بهذا الجود الكبير، بل سيرافق العصير قطعة حلوى لم تلكها أفواه المحرومين كما لاكت غيظا على المصير المجهول. أخذت القافلة تستحث وتعبئ الناس بإنسانية الحملة واستخدم الدين والأخلاق، والكل انصهر في بوتقة الإيمان المطلق من أجل امتصاص الدم المغدور. كان لزاما أن تستجيب بنت " شريف " نزولا على رغبة الإنسانيين، فتعطي دمها كما أعطت جسدها من قبل، وتم تسليمها المكافأة الرائعة من عصير وحلوى وهي تضحك على المصير المكنون. ثم شكرها الطاقم و تم تسليمها ورقة تستلم بموجبها النتائج النهائية لفحص الدم.
غادر الفريق الطبي سوق الراحة، ليخلف وراءه ذكريات العطش إلى العصير الليموني وقطعات الحلوى المختلفة. وعادت " سامية " تسابق الزمان إلى ودِّ الزبناء واحتضانهم حضن العاشق بأجر زهيد. فمرة بحضن سائق ومرة في حضن زائر، ومرة بين المتشردين والواقفين على جنبات الموت بأرصفة الضياع. ومرت الأيام وجاء الموعد المحسوم، واستقبلت في ابتسامة صباحية أباها وأمها وقبَّلت أختها المريضة، وغادرتهم لاكتشاف ما ستجود به نتائج الفحص الطبي. لم تكن ابتسامتها إلا سخرية من ضمير العار، ولم يكن وداعها أهلها وتقبيلها لأختها إلا وداعا لحياة واستقبال لحياة أخرى مليئة بالأسرار والأخطار. وصلت إلى المستشفى وسألت عن الطبيب ومدت ورقة الموعد، لتسلمها الممرضة نتائج الصدمة الكبرى. لقد أخبرتها بأن الكشوفات الطبية أثبتت حملها لفيروس السيدا القاتل. وأنها في حاجة إلى علاجات مكثفة ومتابعة طبية من أجل الوصول إلى نتائج أفضل.
أَسَرَّتْ " سامية " الأمر في نفسها ولم تستطع رجلاها أن تحملاها إلى مكانها الأبدي. فالقضية هذه المرة أكبر من حجمها، وتَوَقُّفُ حياتها بات وشيكا. كيف ستتعامل مع الناس والأهل إذا أخبرتهم؟ هل المجتمع مستوعب بالشكل الكبير طبيعة هذه الأمراض؟ ماذا لو تم عزلها اجتماعيا؟. أسئلة توقفت عندها نفس " سامية " قبل أن تؤمن بأن الحل الوحيد في مجتمع الصمت هو الصمت، ولو تعلق الأمر بأقرب الناس إليها. وعادت تخفي حزنها ملقية تحية بابتسامتها المعهودة. وأخبرت الأهل بأن نتائج الفحص الطبي أكدت خلو دمها من أي مرض جنسي أو بدني. وتبادلت معهم ضحكات السخرية على القدر المرسوم بتهانيهم لها بالصحة والعافية.
تحولت حياة " سامية " إلى فراغ روحي بعد الصدمة الكبرى. فضغط الواقع يدفع بها نحو معانقة الزبناء. ووخز الضمير والأمانة التي تحملها تغرس في قلبها سيوف الذنب مما تسببه من نقل للفيروس لزبنائها. مطرقة الواقع تضرب وسندان الذنب يصفع، وأمينة تلوِّح بيديها ولا من يمد حبل النجاة من عمق الجريمة. كانت كلما ارتمت بين حضن مهووس إلا قالت في مناجاة نفسية:" ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم... ". وكلما مرت على عجوز أو شيخ يدب على عصا الفقر، إلا ومدَّتْ يدها لتخرج له من عرق الجبين المهووس دراهم سائلة إياه الدعاء لها ب:" الله يسامحك...". كانت هذه مسيرتها بعد الفحص الطبي تضرب في أعماق الواقع المؤزم. فلا هي تستطيع أن تسد الأفواه الجائعة، ولا هي قادرة عن الإقلاع والاعتراف بالجريمة لأن المجتمع مات ضميره.
وفي موسم من المواسم تأتي حملات السياسة الموسمية، لتشعل الأمل في أوساط سوق الراحة. فقد كثرت البرامج الحزبية الداعية إلى الإقلاع الاقتصادي والسمو الأخلاقي ومحاربة الفساد. كل الأحزاب تواطأت على شعار:" لا للفساد ". اختزلت البرامج الفساد في ما تقوم به بعض الأهالي على غير رغبتها بتطويع الجسد إلى قبلة أخرى. استعملت الشعارات والمواقف والخطب التعبوية والدينية من أجل تغيير واقع الفساد، والكل حمل على عاتقه مسؤولية الجهر بواقع القرية والسوق، فصوْت الأمة سيُسْمعه النواب داخل الغرف المغلقة، وتجارة الأجساد ستتحول إلى تجارة السياسة لتباع بالمزاد العلني أمام الضمير الإنساني. لم يكترث أحد من الأهالي بما يلغو به البعض من تجارة الكلام. لقد مر زمان وزمان وتُجَّارُ الكلام لا يغيرون من اللهجة أو الخطاب. ملَّ الناس منطق الوعود الفارغة من محتواها. وحتى " شريف " لم يكلف نفسه الذهاب إلى مكاتب التصويت واكتفى بالمقاطعة. مقاطعة أوصلها إلى الضمير الإنساني الذي قطع عنه رزقه ودفع بالحلم الجميل إلى مراودة الجنس، ومقاطعة أسلمت طفله الوحيد في غيابات جب ليشهد فصول جريمة التاريخ. أما " علية " فقد صوتت على حزب المرض الذي جعلها طريحة الفراش، ولم تعد تتذكر من السوق إلا ليالي قضتها بين أحضان العاشق السامر. وأما " سامية " فلم تُخْفِ صوتها أمام البرامج المطروحة لتقول بمنطق الحال:" كتقتلوا الميت وكتمشيو في جنازته... ".
انتهت



#يوسف_هريمة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محراب الحرية
- في محراب وردة...!!!
- وَهْمُ سُورٍ...؟
- أنا ومستنقع العربان...!!!
- بلاد الوهم...!!!
- القرآن وأزمة التأصيل: حوار صحفي...
- الباحث يوسف هريمة التديّن إذا اصطبغ بالفكر الشمولي انتهى.. آ ...
- عين على منهج إبراهيم ابن نبي في قراءة القرآن*
- القرآن ومنطق الإقصاء
- إبراهيم النبي وأزمة الثقافة الروائية
- إبراهيم النبي وأزمة الثقافة الروائية
- الشفاعة المحمدية والامتداد العقدي المسيحي
- الفكر الإسلامي وأزمة البنيات المُؤَسِّسَة
- حفظ الدين وقصور نظرية مقاصد الشريعة
- ثقافة الاحتكار واختراق منتدى المعراج
- أُميَّة الرسول بين القرآن والمفهوم الثقافي
- التنوع الثقافي والتنمية المنشودة
- علم مصطلح الحديث وتأسيس الثقافة الروائية
- الأديان ومستقبل الإنسانية
- نزول عيسى مسيانية يهودية مسيحية في قالب إسلامي


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف هريمة - دمعة على أعتاب جسد: الجزء الثاني