|
|
ما بعد الهوية ، جدل الثقافات ضمن حركة التاريخ (3)
راشد مصطفي بخيت
الحوار المتمدن-العدد: 2009 - 2007 / 8 / 16 - 11:04
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
سنركز اهتمامنا في هذا المقال ، علي محاولة رصد أبرز التجليات الجديدة في حركة الثقافات السودانية وتداخلها العام منذ فترات قديمة ، والتي كما أسلفنا القول ، وَلَّدت نمطاً متميزاً من الثقافات الجديدة ، ولا بد أننا سنشير قبل ذلك كله إلي أن الأرضية التي قامت عليها الثقافة في السودان ، منذ الحضارات القديمة كانت إفريقية المنبت والتكوين في الأصل ، فقد " عرف العالم ميلاد ثلاثة مراكز ، نمت كلها مع الوقت وازدهرت ، لتحمل الثقافة والحضارة إلي داخل إفريقيا . وكان أول مركز من هذه المراكز هو ( كوش ) التي تمتعت بمكانة عالمية خلال القرن الثامن قبل الميلاد ، وظلت قويةً منيعةً في نفسها من بعد . بل أكثر من ذلك كانت في كثير من النواحي ، أكثر حضارات العهد القديم إفريقيةً . وما تميزت غيرها بما تميزت به ( كوش ) من طابع إفريقي خالص " بازل دافيدسون / أفريقيا تحت أضواء جديدة / ترجمة جمال محمد أحمد / دار الثقافة للنشر والتوزيع / بيروت / ص 79 . ذلك لأن الثقافات السودانية ، تعرضت في ماضيها الطويل إلي عدد من الموجات الثقافية المختلفة التي بدأت منذ القدم ولا ذالت مستمرةً إلي يومنا هذا . الشئ الذي أثر بدوره علي مسارات تكوين هذه الثقافات بدرجات متفاوتة . فقد تأثرت الثقافات السودانية القديمة بالثقافة العربية الإسلامية مثلاً وأثرت فيها في ذات الوقت ، الشئ الذي نلحظه جلياً في حالات أنماط التدين السائدة في العديد من مجموعاتنا الثقافية ذات الجذر العربي والإسلامي ، والذي خلق نوعاً مغايراً من نمط الثقافة والتدين المختلف كلياً عن وافده الأصل ، ووسمته الدراسات السودانية وخصوصاً الفلكور باسم ( الإسلام الشعبي ) الذي يكتسب تعريفه بواسطة مقارنته بسلبه الوافد (الإسلام الرسمي ) وهو الإسلام النصوصي أو الإسلام كما تقول به تفسيرات عصر التدوين الأولي . ففي حالة الدين مثلاً نجد أن الثقافات السودانية تعاملت بشكل أكثر إنفتاحاً مع ظاهرة الإسلام الصوفي الذي إنتشر بواستطته الإسلام في السودان . ويعود ذلك الأمر إلي أن ثقافة التصوف كشكل وكمحتوي ، تظل هي الثقافة الأكثر إقتراباً وتماثلاً مع شكل ومحتوي الثقافات الإفريقية .( فحلقة الذكر ) في شكل ممارسات التعبد عند المتصوفة ، تسقط نفسها أو تتماثل كلياً مع ( دائرة الرقص الإفريقي ) ذات الجذر الممتد في معظم الثقافات الأفريقية ، وترافق الطبول والترانيم المصاحبة لكلٍ تمثل قاسماً مشتركاً بين البنيتين . ومفهوم ( الولي ) في فكر وثقافة وإعتقاد المتصوفة ، يسقط نفسه هو الآخر ، أو يتماثل مع مفهوم ( الحكيم ) في الثقافات الإفريقية . وفكرة ( المهدي المنتظر ) الذي يأتي في غفلةٍ من الزمان ويلعب دور المخلص لآلام المسحوقين ومعاناتهم ، في الفكر الصوفي ، تقترب هي الأُخري من مفهوم ( الغريب الحكيم ) كما تقول به الثقافات الأفريقية ، وهكذا . إذن وجدت هذه الثقافات المحلية ضالتها المنشودة في التدين ، بواسطة ما وفرته خصائص هذا النمط المتماثل مع بنيتها شكلاً ومحتوي فأستقبلته بشكل مختلف عن وافده الأصلي وأضافت إليه العديد من موروثاتها المحلية . ولذلك فنحن عادة ما نجد أكثر من إسلام واحد بين هذه المجموعات الثقافية السودانية المختلفة ، لا يشبه نظيره الآخر في أي شئ في حالة توفره ضمن منظومات مجموعة أُخري . فمثلاً يختلف إسلام مجموعات النوبة التي تقطن شمال السودان ( دناقلة /حلفاويين / سكوت / محس ) والتي لا تري في شرب الخمر جرماً إجتماعياً خطيراً بينما يظل أكل لحم الخنزير بالنسبة لها من الموبقات ! عن إسلام مجموعات غرب السودان التي تمارس عادة إختطاف الأُنثي قبل الزواج وإرجاعها من بعد ذلك لتكملة مراسم الزواج وهي حبلي ، دون أن ينتقص ذلك من إسلامهم شئ . وفي ذات السياق تكمل قبائل البجا في بواديها معظم أركان الزواج الإسلامي بما فيها الإشهار ، لكنهم في ذات الوقت لا يأبهون كثيراً لأمر العقد الشرعي الموثق دون أن يتعارض ذلك مع إسلامهم في شئ أيضاً . وهناك أكثر من طقس أو عادة ثقافية ، تعود في تاريخها إلي أُصول مسيحية من تاريخ السودان لا ذالت مستمرةً إلي الآن تمارسها قبائل ومجموعات مسلمة ، كما أوضح ذلك الأب ( جيوفاني فانتيني ) ، ففي " الكثير من المناطق النيلية الواقعة بين وادي حلفا والخرطوم ، لا يجوز للمرأة الوالدة أن تخرج من البت قبل أن تتم أربعين يوماً . وفي عشية الأربعين نفسه ، يبدأ الإحتفال بالمولود ، فتحمله أمه إلي نهر النيل لتقوم بغسله هناك وفقاً للطقوس المطلوبة . وترافق الوالدة نساء أُخريات يحملن أغصان النخيل ويغنين بعض الأغاني المحلية ، فتغسل الوالدة وجهها ويديها وتقوم بغسل وجه الوليد ورجليه ،بينما تطلق رفيقاتها الزغاريد . وتعود هذه العادات إلي الطقوس المماثلة التي تتم عند ( عماد الطفل بالغطاس ) وربما دمجت فيها طقوس مسيحية أُخري تحويها الرتبة المدعوة ب( دخول الوالدة إلي الكنيسة ) ونلاحظ أن الطقس المختص بأربعين الولادة جاء كما رسمه ( سفر اللاويين ) ولا يزال متبعاً ببعض الكنائس الشرقية بمصر وأثيوبيا " . وهناك أيضاً في بعض القري ما بين وادي حلفا ودار سكوت ودار المحس وحتي ضواحي دنقلا " إحتفالاً يسمي بطقس ( ماريا ) وفيه يحمل النساء المولود ، بعد يومين أو ثلاثة إلي النيل ليغسلن وجهه ويديه ورجليه ، وتقود الموكب القابلة حاملة الوليد ، وتحمل إمرأة أخري طبقاً مصنوعاً من الأعشاب توضع فيه أدوات الولادة والنفايات المجموعة بعد تنظيف البيت ، يضاف إليها قرصاًمن الخبز . ويرمي الطبق بمحتوياته في النهر وتأخذ النساء قليلاً من لتحفظنه بعناية في البيت لبضعة أيام ، ثم يدلقنه من بعد ذلك . ويروي بعض المواطنين ، أن في بعض القري لا يزال الأهالي في هذه المناسبة يغطسون الطفل في ماء النيل مع ترديد مقولة ( أغطسك غطاس حنَّا ) تبركاً ب ( يوحنا المعمدان ) . وتذبح لهذه المناسبة أضحية يحرص الأهالي علي أن لا يكسر منها عظم ويوضع علي حائط البيت رسم كف تحمل دم الضحية ، وفي هذا الطقس أثراً من ( زبح الحمل الفُصحي ) في العهد القديم الذي خلده المسيحيون في عشية عيد الفصح المجيد ، ولا تزال هذه الكف مستخدمةً في العديد من المناسبات السودانية وخصوصاً عند عودة الحجيج من تمام فروض الحج ببيت الله الحرام أو عند شراء عقار جديد .
#راشد_مصطفي_بخيت (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما بعد الهوية ، جدل الثقافات ضمن حركة التاريخ (2)
-
ما بعد الهوية ، جدل الثقافات ضمن حركة التاريخ (1)
-
الماركسية والفن . جدل السلطة وإعادة البناء
-
خطاب الهوية في المسرح السوداني زمرة التجلي والكيقيات
-
صياغات جدلية حول أطروحات التجديد في الفكر الماركسي
-
حوار مع المفكر اللبناني كريم مروة
المزيد.....
-
الجلسة العامة الثلاثون للندوة الدولية للأحزاب والمنظمات الما
...
-
صوفيا ملك// يستفحل عفن الحياة السياسية..ماذا عن ضحايا عدة ل
...
-
Beyond the State: The PKK’s Socialism of the 21st Century
-
Donald Trump, Union Buster
-
Gaza’s vs Ukraine’s Capitulations: The Triumph of Western Pr
...
-
Unity, Consciousness, and Struggle: Afghan Women’s Fight to
...
-
هيمنة الرأسمال على الصحافة وتكريس القمع السياسي من خلال فضيح
...
-
الذكرى 53 لمؤامرة حل الحزب الشيوعي وتداعياته
-
منظمة فيا كامبسينا ترفض بشدة قرار مجلس أمن الأمم المتحدة رق
...
-
قمة المناخ كوب 30:ترسيخ أزمة سياسة المناخ
المزيد.....
-
الاقتصاد الإشتراكي إقتصاد مخطّط – الفصل السادس من كتاب - الإ
...
/ شادي الشماوي
-
في تطوير الإقتصاد الوطنيّ يجب أن نعوّل على الفلاحة كأساس و ا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (المادية التاريخية والفنون) [Manual no: 64] جو
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كراسات شيوعية(ماركس، كينز، هايك وأزمة الرأسمالية) [Manual no
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
تطوير الإنتاج الإشتراكي بنتائج أكبر و أسرع و أفضل و أكثر توف
...
/ شادي الشماوي
-
الإنتاجية ل -العمل الرقمي- من منظور ماركسية!
/ كاوە کریم
-
إرساء علاقات تعاونيّة بين الناس وفق المبادئ الإشتراكيّة - ال
...
/ شادي الشماوي
-
المجتمع الإشتراكي يدشّن عصرا جديدا في تاريخ الإنسانيّة -الفص
...
/ شادي الشماوي
-
النظام الإشتراكي للملكيّة هو أساس علاقات الإنتاج الإشتراكية
...
/ شادي الشماوي
-
الإقتصاد الماويّ و مستقبل الإشتراكيّة - مقدّمة ريموند لوتا ل
...
/ شادي الشماوي
المزيد.....
|