منذ شهر آب، عندما تم تدشين المرحلة الاولى من الجدار الفاصل، يراقب سكان باقة الشرقية كيف يحول الجدار حياتهم الى مهمة مستحيلة. لا يفصل الجدار باقة الشرقية عن اسرائيل، بل يقطعها عن الضفة الغربية واراضيها الزراعية. السكان الذين يبلغ عددهم 3500 نسمة سيضطرون من الآن للحصول على تصريح من الجيش للخروج من قريتهم والعودة اليها.
هداس لهب
منذ شهر آب، عندما تم تدشين المرحلة الاولى من الجدار الفاصل، يراقب سكان باقة الشرقية كيف يحول الجدار حياتهم الى مهمة مستحيلة. رغم تسميته ب"الجدار" الا ان قسما منه فقط له شكل الجدار ويبلغ طول اعمدته ثمانية امتار. اما في اقسامه الاخرى فيأتي على شكل اسلاك شائكة، انفاق مضادة للدبابات، جدار كهربائي، كاميرات مراقبة وطرق ترابية مخصصة للمراكب العسكرية.
نعته ب"الفاصل" ليس دقيقا هو الآخر وهو بعيد عن ان يحدد حدود دولة اسرائيل. فالجيش الاسرائيلي يسيطر على جانبي الجدار الذي يمتد اليوم من قرية سالم شمالي الضفة وحتى مستوطنة القنا جنوبيها (قرب قرية مسحة). وتبلغ المساحة التي يحتلها 14680 دونما صودرت من 51 قرية. وبالاضافة للمصادرة تم اقتلاع 100 الف شجرة معظمها اشجار زيتون تجدونها اليوم تزين الكثير من المتنزهات والحدائق الخاصة في اسرائيل.
ولا يفصل الجدار باقة الشرقية عن اسرائيل، بل يقطعها عن الضفة الغربية واراضيها الزراعية. فالجدار لم يُبنَ على الخط الاخضر، وانما داخل الضفة على بعد ثلاثة كيلومترات شرقي الخط الاخضر. هكذا وجدت باقة الشرقية نفسها خارج الضفة وخارج اسرائيل، محاصرة بين الجدار والخط الاخضر.
السكان الذين يبلغ عددهم 3500 نسمة سيضطرون من الآن للحصول على تصريح من الجيش للخروج من قريتهم والعودة اليها. بوابتان كهربائيتان ستنظمان حركة السير بين باقة الشرقية واراضي الضفة.
جمال مجادلة، رئيس بلدية باقة الشرقية السابق، واليوم تاجر اثاث، يقول وابتسامة حزينة تعلو وجهه: "في آب 2002 تلقت البلدية بلاغا بقرار اقامة الجدار. ودعا مندوبون عن الجيش الفلاحين لاجتماع، فسروا لهم فيه المواقع التي سيمر بها الجدار في المنطقة. اصيب الناس بالذهول. حتى اليوم لا نعلم ماذا سيكون مصيرنا: فلا نحن خاضعون للسلطة الفلسطينية، ولا نحن مواطنون اسرائيليون. بقينا معلقين بين الارض والسماء".
منطقة الحرام
250 دونما و3200 شجرة زيتون كانت الضريبة الفورية التي دفعتها باقة الشرقية لصالح انشاء الجدار. بالاضافة لذلك، فقدت عشرات العائلات امكانية الوصول لاراضيها الزراعية. ولكن الضرر المادي والتأثير السلبي على الحياة اليومية، لا يقدران بثمن.
يضيف مجادلة: "منذ عام 67 تحولت باقة الشرقية الى مركز تجاري وصناعي لكل منطقة شمال الضفة، وذلك بسبب قربها من الخط الاخضر الذي يسهل الوصول السريع لاسواق اسرائيل. وقد اجتذبت القرية اليها مستثمرين من جميع انحاء الضفة، وايضا من اسرائيل. وقد كان فيها 500 مركز تجاري، 40 مصنع رخام، 18 منجرة، خمسة مصانع للنسيج، مصنعان للطوب وآخر للاسمنت.
"الانتفاضة الاخيرة التي اندلعت في ايلول (سبتمبر) 2000، وضعت حدا للانتعاش الاقتصادي، وجففت كل المصادر المعيشية للقرية. من المراكز التجارية بقي مئة محل تجاري، وهذه ايضا بالكاد تنجح في الصمود. معظم المصانع اغلقت. المستهلكون الاسرائيليون الذين شكلوا 90% من مجمل المشترين، اختفوا. تجار الضفة لا يستطيعون الدخول اليها. حشر باقة الشرقية بين الجدار الفاصل والخط الاخضر، يحولها الى ارض مهملة".
مؤيد حسين، رئيس البلدية الحالي لباقة الشرقية، حدثنا عن الضرر الذي يحدثه الجدار في الخدمات الحيوية للسكان. في باقة اربع مدارس يأتي 80% من معلميها من خارج القرية. بسبب الجدار، لم يعد المعلمون يستطيعون الوصول لعملهم في الوقت، ومنذ العام القادم سنضطر للارتكان على المعلمين المحليين. في مجال الصحة بقينا دون اية خدمات صحية. الجدار يمنع الناس من الوصول لتلقي العلاج في المستشفى الوحيد الذي يخدم المنطقة، والموجود في طولكرم. كما يعيق النساء الحوامل عن الوصول في الوقت للمستشفى، ولا يمكّننا من الاستنجاد بطبيب او سيارة اسعاف".
"امس" يروي حسين، "استدعى بعض الاهالي سيارة اسعاف لنقل مريض اصيب بنوبة قلبية. وسمح للسيارة بدخول القرية عن طريق الجدار، بعد ربع ساعة وصلت السيارة الى الجدار في طريقها للخروج بالمريض الى المستشفى، هذه المرة كانت البوابة مغلقة. تبين لاحقا ان الجندي الذي يحمل المفتاح، ذهب لشرب القهوة مع اصدقائه! تأخرت السيارة لمدة ساعتين ولم تسعف السائق ولا المريض صفارة الانذار. احد لم يفتح البوابة".
يعترف حسين بان البلدية عاجزة، ويعزو ذلك الى ان "البلدية لا تملك اية ميزانية". الجيش الاسرائيلي لم يعد ينسق معها اي شيء منذ الانتفاضة. الجيش يفعل ما يحلو له. العنوان الوحيد لتقديم شكوى، يبقى مؤسسات الامم المتحدة والصليب الاحمر، ولكن هذه لا تستطيع فعل شيء سوى نقل شكواك الى من يهمه الامر".
آبار الماء في باقة الشرقية كانت تروي في السابق 20 الف دونم من الاراضي الزراعية التي تعود ملكيتها للقرى المجاورة، قفين وزيتا وعتيل. مع بناء الجدار تم تدمير شبكة انابيب ري طولها 37 الف كم، والتي تحتوي على كل الماء الذي ينقل من باقة الشرقية للقرى المجاورة. بدون هذه المياه لا يستطيع سكان القرى المجاورة الحفاظ على محاصيلهم التي يعتاشون عليها اليوم. ويعني هذا المزيد من الفقر والبطالة. ومن جهة اخرى، سيتم تحويل فائض المياه التي تنتجها الآبار، الى اسرائيل. الامر الذي سيُفقد الفلاحين الفلسطينيين مصادر المياه النظيفة والمهمة جدا لمزارعي الموز والقطن الاسرائيليين.
يوسف بواقنة الذي يعمل مساحا في بلدية باقة الشرقية، وهو عضو اللجنة الوطنية لمنع اقامة الجدار، مقتنع بان اسرائيل تطمع بالاستيلاء على آبار باقة الشرقية منذ زمن. "هذا هو السبب انه منذ عام 67 وحتى اليوم، لم يسمحوا للبلدية بتغيير شبكة المياه. في كل مرة توجهنا اليهم حظينا بالاجابة – اشتروا المياه من شركة مكوروت".
بين الجدارين
حتى تتأكد اسرائيل بان السكان الذين فصلوا عن الضفة لن يتسللوا لاراضيها، راحت تخطط لاقامة جدار اضافي عند الخط الاخضر. بهذا سيسجن اهالي باقة والقرية المجاورة نزلة عيسى بين جدارين. والى حين تجهيز البنية التحتية لاقامة الجدار الثاني، يستغل الجيش وقته في هدم سوق نزلة عيسى، والذي شكل لمدة عامين مركزا جذب اليه كل سكان المنطقة. ولم يتم الهدم دون معارضة، فقد خرج الاهالي بمظاهرات واشتبكوا مع الجيش الذي استخدم الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي لتفريقهم.
التنقل بين باقة الشرقية وباقة الغربية الذي كان في السابق يحتاج لدقائق معدودة، اصبح اليوم يحتاج ساعات طويلة، بسبب الدور اللامتناهي في الحاجز العسكري الذي اقيم على الحدود، والمكتظ طيلة ال24 ساعة يوميا بعشرات الجنود.
زياد سالم، رئيس مجلس نزلة عيسى المحلي، روى للصبّار الاحداث التي اندلعت هناك مؤخرا: "في السادسة صباحا من يوم 21 آب، وصلت 25 جرافة الى نزلة عيسى يرافقها جنود. وحتى الساعة الثامنة مساء هدمت الجرافات 120 مشغلا ومقصفا، وثلاثة بيوت مؤلف كل منها من طابقين تابعة لتيسير محمد طه، احمد اسعد، وبلال وزياد اسعد. فضلا عن ذلك، تم هدم بيت لمواطن من باقة الغربية (مواطن اسرائيلي) هو اياد معروف الوش. وقد تم في كانون ثان (يناير) 2003 هدم 73 مبنى في نفس المنطقة".
تسكن عائلة اسعد في عدد من بيوت الحجر الجميلة المحاذية للخط الاخضر. عندما زرنا العائلة في منتصف شهر آب، لم تكن قد عرفت بعد الطريق الذي سيمر منه الجدار الجديد. وهو سؤال مهم لان مسلك الجدار سيحدد مصير العائلة: فهل ستبقى في باقة الشرقية ام ستضم لاسرائيل. عملية الهدم الاخيرة، اكّدت مخاوفها. فقد تم هدم بيتين من بيوت العائلة، لاخلاء مكانهما للجدار الذي سيفصل العائلة عن اسرائيل.
عباس بواقنة، ابن لعائلة لاجئين من قرية سنديانة، صاحب محمص عباس، لم يعلم انه خلال اسبوعين سيضطر للتفرج على هدم مشروع حياته، وللمرة الثالثة لصالح "حاجات اسرائيل الامنية".
يقول زياد سالم ان العملية التي قام بها الجيش مؤخرا، وضعت حدا للحياة الاقتصادية في القرية. خلال الهدم هدمت كليا شبكة الكهرباء، الماء والهواتف: "نزلة عيسى وسكانها ال2500 بقوا دون مصدر للعيش. الضرر المباشر الذي لحق باصحاب البيوت والمشاغل المهدّمة يقدر بعشرة ملايين دولار. الجدار شل الحياة الاقتصادية للقرية التي اعتاشت من التجارة والزارعة والعمل في اسرائيل. العمال لا يجدون عملا ويمنعون اليوم من دخول اسرائيل، وهدم السوق قضى على مصدر المعيشة الاساسي للفلاحين الذي كانوا يبيعون منتجاتهم في السوق المحلية. نزلة عيسى تحولت الى بلدة منكوبة".
الجدار والاحتلال
التخطيط الذي وضعته اسرائيل لبناء الجدار، اثار نقاشا عاصفا في المحافل الدولية من الامم المتحدة وحتى وزارة الخارجية الامريكية. المجتمع الدولي مشغول بالآثار المدمرة للجدار على حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية واقتصادهم الضعيف اصلا. الجميع يفهم ان هدف اسرائيل لا يقتصر فقط على تقوية سيطرتها على الضفة الغربية، او الدفاع عن حدودها من تسلل ذوي "النوايا الخبيثة". انما تهدف لخلق امر واقع جديد، من خلال ضم مساحات واسعة من الضفة لحدودها والاستيلاء على موارد المياه، ورسم حدود جديدة بشكل احادي الجانب، دون مشاورات او مفاوضات.
مر الجدار بتقلبات عديدة، اثرت على مواقف القوى السياسية الاسرائيلية. فاذا كان في السابق قد لعب دورا بارزا في الحملة الانتخابية لايهود براك في 2002، وكان الموضوع المفضل لليسار الاسرائيلي، فاليوم تبناه اريئل شارون، وتحول الى بطاقة دخول للاجماع الاسرائيلي.
ان الضائقة التي يعيشها الشعب الفلسطيني غير ناجمة عن الجدار، بل عن الاحتلال الاسرائيلي، الخنق الاقتصادي، وانعدام الحل السياسي لدى كلا الطرفين. وبدل ان يتم معالجة القضايا الجوهرية، اصبح النقاش يدور حول موضع مرور الجدار وعدد الابواب التي ستفتح به
الصبار