أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - تيسير محيسن - النظام الاجتماعي الفلسطيني: جدل التحول والتفكك - رؤية تحليلية















المزيد.....



النظام الاجتماعي الفلسطيني: جدل التحول والتفكك - رؤية تحليلية


تيسير محيسن

الحوار المتمدن-العدد: 1979 - 2007 / 7 / 17 - 10:53
المحور: القضية الفلسطينية
    


مقدمة:
تفترض هذه الورقة البحثية أن النظام الاجتماعي الفلسطيني المتشكل في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية تعرض للتفكيك بفعل إستراتيجية الاقتلاع والتشريد عام 1948 فيما عرف بالنكبة. وأن النظام الاجتماعي المتشكل في الضفة الغربية وقطاع غزة إثر عملية التوحيد القسري للفلسطينيين في أعقاب حرب حزيران 1967 آخذ بالتفكك التدريجي-منذ الانتفاضة الأولى- بفعل إستراتيجية الفصل والتقييد التي بدأت بالبطاقة الممغنطة، مع تأثير عوامل إضافية أبرزها:
1- حرب الخليج الأولى وتداعياتها السياسية والاقتصادية على مجمل الحالة الفلسطينية
3- ظاهرة العسكرة وتشكل المجموعات المسلحة واحتدام الصراع بين الفصائل
4- عجز السلطة الفلسطينية عن الاستمرار كمشروع دولاني
5- الانتفاضة الثانية وما صاحبها من ظواهر وما نجم عنها من تداعيات
إذا كان الاحتلال يشكل العامل الأبرز في تشغيل ديناميات التفكك وتحريض مسببات اختلال توازن النظام الاجتماعي، فإن عجز النظام السياسي الفلسطيني وولوجه أزمة هوية وشرعية يعدان معاً بمثابة العامل الأبرز الثاني.
حددت تقارير التنمية البشرية العربية، من منظور التنمية المستدامة، ثلاثة أوجه لقصور الحالة العربية تشير بوضوح إلى ما آلت إليه النظم الاجتماعية العربية من ضعف وخلل: فأنظمة الحكم فاسدة. ومجتمع المعرفة متردٍ. والنساء العربيات يعانين من التمييز وانعدام المساواة الكاملة. ومما يفاقم الأمر أن هذا كله يحدث في ظل تنامي العولمة وبسببها، واستمرار المواجهة مع المشروع الصهيوني ونجاحه في إدامة نفي إمكانية تبلور كيان فلسطيني.
من مظاهر تفكك النسق الاجتماعي وأعراضه: استمرار التمييز ضد النساء وتهميشهن، علاوة على أنهن صرن الأكثر تضرراً من جراء عملية التفكك وتداعياتها الاقتصادية والنفسية والأمنية. ويزيد تصاعد التيارات الأصولية التي تتبنى منظوراً محافظاً تجاه النساء وتجاه قضاياهن من وطأة هذا الأمر. ويتأثر النظام التعليمي، بما هو، هنا، نسق فرعي، بالتردي الاقتصادي وبعدم الاستقرار السياسي وبغياب الرؤية التربوية الواضحة وبتراجع التعليم عن قمة سلم القيم.

النظام الاجتماعي الفلسطيني: بين التدمير وإعادة التشكل
الاقتلاع والتشريد:
تمخض الصراع الذي نشب على أرض فلسطين بين مشروعين متناقضين عام 1948 عن انتصار المشروع الصهيوني المتمثل في إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين، بينما هزم المشروع الوطني الفلسطيني رغم امتلاكه الأرض والمجتمع. كان من نتيجة ذلك أن فقد الفلسطينيون الأرض وتشظى مجتمعهم إلى كيانات وكتل متفرقة. ومنذ ذلك التاريخ، يتمحور الصراع مع المشروع الصهيوني على إقامة كيانية فلسطينية بمفهومها المعاصر (أرض وهوية وكيان سياسي). كان المجتمع الفلسطيني آنذاك مجتمعاً فلاحياً بسيطاً تسيطر عليه طبقة من الوجهاء والأعيان ذات سمات شبه إقطاعية. وتحت تأثير عوامل عديدة، أخذ هذا المجتمع يتعرض لعمليات تغير سريعة من تعبيراتها: نمو المدن وظهور مؤسسات تعليم وصحافة وأنشطة ثقافية وظهور طبقة عمالية وشريحة من الفلاحين المعدمين كما ظهرت أحزاب وحركات سياسية .
يلاحظ عزمي بشارة أن الأغلبية الساحقة من النخبة الفلسطينية التي تطورت في آخر المرحلة العثمانية وأيام الانتداب البريطاني كانت قد تشردت بعد عام 48. شملت هذه النخبة فئات الأرستقراطية والطبقة المتوسطة والمتعلمين والنخبة الثقافية التي بدأت تنتظم وتنظم أحزاباً سياسية. يعتبر قيام دولة إسرائيل بالنسبة للفلسطينيين كشعب "إجهاضاً تاريخياً لعملية تحديثهم التي بدأت قبل عام 1948" . إذاً، عندما حلت النكبة وتشتت الشعب الفلسطيني لم تكن الهوية الوطنية الفلسطينية قد منحت فرصة التبلور بالكامل، و"لم يكن المجتمع الفلسطيني قد تواصل تماماً كمجتمع مدني موحد، تحكمه علاقات التبادل الاقتصادي والثقافي بين أجزائه المختلفة وتبرز تطلعاته السياسية الخاصة به" .
لم يكن غريباً والحال كذلك، أن يتمحور كفاح الفلسطينيين منذ ذلك التاريخ حول تأكيد هويتهم الوطنية الثقافية والسياسية، وبحثهم عن كيانية سياسية خاصة بهم. يرى يزيد الصايغ أن العملية التاريخية الغالبة والمتضمنة في باطن النضال الوطني الفلسطيني عبر العقود، إنما كانت عملية بناء مؤسسي، لمؤسسات تشبه الدولة (منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية)، ولا ينتقص من ذلك معاناة كل منهما من شوائب وقيود عادية وبنيوية حكمت عليهما أن يبقيا دون مستوى الدولة .
دخلت الجماعات الفلسطينية بعد النكبة في فضاءات حقول سياسية مختلفة. حقول تجمعها رؤية تتراوح بين النظرة الحذرة تجاه تعبيرات الهوية والكيانية الفلسطينية وبين الرؤية العدوانية تجاه هذه التعبيرات. ضُمت الضفة الغربية للملكة الأردنية، وخضع قطاع غزة للإدارة المصرية، بينما مُنحت الأقلية الفلسطينية في إسرائيل الجنسية مع وضعها تحت الحكم العسكري حتى عام 1966. ُمنح الفلسطينيون في الضفة الغربية الجنسية الأردنية مع حجز حرية التعبير عن هوية أو كيانية فلسطينية خاصة. وإذا كان الفلسطينيون في قطاع غزة قد حافظوا على هويتهم الفلسطينية، فإنهم خضعوا لقيود مشددة على تشكيل مؤسسات وطنية. و"في الحالات الثلاث جرى إنعاش وتقوية العشائرية والزعامات التقليدية والانتماءات المحلية، أي سياسة تستهدف تقطيع الهوية الفلسطينية" .
لم تنسف دينامية الاقتلاع والتشتيت التي تعرض لها المجتمع الفلسطيني، وما نجم عنها من توقف تطور المجتمع وتشظيه، الشرطَ المادي لقيام كيانية سياسية فحسب، بل أورثت الحالة الفلسطينية العديد من الظواهر التي لا زالت بادية إلى اليوم، أيضاً. فخسارة المدن الساحلية أفقدت الفلسطينيين حاضنة طبيعية لبروز طبقة وسطى ومعملاً اجتماعياً لتوليد الأفكار والحركات السياسية والثقافية. وقواعد اتخاذ القرار الفلسطيني غير عقلانية إلى حد كبير بسبب انسحاق المكونات الأساسية للنموذج العقلاني ومبادئه (وجود نظام بيروقراطي يمكنه أن يتصرف بناء على تحليل قائم على أساس من الاختيار العقلاني وعلى معايير الربح والخسارة). ومع فقدان الأرض وتراجع الزراعة، تولد لدى الفلسطيني شعورٌ بعدم جدوى أي شيء آخر إلا استرجاع الأرض أو الموت في سبيلها، وهو ما ساهم في تغييب العقلانية السياسية وأوهن فرصة التعامل مع السياسة باعتبارها فن الممكن. وفي ظل غياب السلطة المركزية المعقلنة والمجسدة في مؤسسات متمايزة وظيفياً، أي ضعف عمليات التسييس الاجتماعية، برزت الجماعات الوسيطة كمنظومات دفاعية وكقنوات لتأكيد الذات والاستقواء وطلب المنافع. هذه الجماعات أدت في نهاية المطاف إلى إضعاف ديناميات توليد الولاء الوطني/الهوية الوطنية مقابل تكريس شتى أنواع الانتماءات للجماعات العضوية. ونظراً لوجود مثل هذه الجماعات التي غالباً ما كانت معزولة بعضها عن بعض ولا يوجد بالتالي الكثير من الصلات بينها، فلم تتراكم المعرفة لتحدث نوعاً من التغيير من أجل الصالح العام. كما هيمنت ثقافة الوضع الافتراضي، حيث يتجلى الواقع من خلال منظومة تصورات افتراضية تحل فيها الرموز بديلاً للواقع والتجربة الفعلية. وترتب على ضعف العمليات الإنتاجية وضعف نمو الطبقات وتطورها إعاقة نمو علاقات إنتاج رأسمالية تقوم على المبادرة الفردية. ولذلك، جرى التركيز على النشاط التجاري والعقاري والخدمي، فتنامت الاتكالية وعقلية التكسب السريع، وأعيد إنتاج علاقات اجتماعية تقليدية سِمَتُها الأبرز تجلت في الأبوية والبطريركية والشخصانية. وهو ما يفسر صعود نموذج قيادي سلطوي يتجلى في ممارسة القوة والتسامح في كل المؤسسات السياسية والمدنية الفلسطينية .
الافتقار إلى التكوين المجتمعي الموحد جعل الدور التوحـيدي لمنظمة التحرير الفلسطينية (التعبير المؤسساتي عن النظام السياسي الفلسطيني) عاملاً أساسياً في صيانة الهوية الفلسطينية الوطنية وتطويرها. ساهم في هذا الأمر اتحادات م.ت.ف الشعبية والمهنية، وكذلك الشبكات التنظيمية للفصائل السياسية المؤتلفة في إطارها. كما ساهمت في هذا الأمر المؤسسات الجامعة التي شُكلت لتمثيل التجمعات الفلسطينية ووفرت منبراً موحداً لبلورة الخطاب السياسي للشعب الفلسطيني. هذا الأمر أكسب م.ت.ف الاعتراف العربي والدولي بما هي ممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني. يعود الفضل في جانب أساسي منه ليس فقط للتضحيات والمثابرة، بل، أيضاً، لنجاح استراتيجية تحول المنظمة إلى مؤسسة مركزية فاعلة بوصفها حركة تحرر وطني. ومع ذلك، فإن نشأة المنظمة في المنفى جعل من الصعب اختبار تلك الشرعية وما أنتجته من مؤسسات تمثيلية على قاعدة المراقبة والمشاركة الشعبية والتفاعل الحقيقي مع جماهير حقيقية، بطريقة مباشرة ومن غير وسطاء .
بروز الهوية الفلسطينية وتطورها:
في ظل الدولة العثمانية، لم تكن ثمة حاجة لفكرة الهوية الوطنية. فقد كان معظم سكان الأقاليم العربية، ومنها فلسطين، يعرّفون أنفسهم بأنهم مسلمون. مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بدأت شعوب المنطقة تتطلع إلى إعادة بناء شخصيتها الوطنية. في سياق ذلك، تشكلت متصرفية القدس عام 1871 لتوفر المقدمات الموضوعية لتبلور مفهوم هوية وطنية فلسطينية . تمتعت المتصرفية بمستوى متقدم من الحكم الذاتي، وضمت لدى أول تشكيل لها كل ما عرف لاحقاً بفلسطين الانتدابية. من جهة ثانية، أدى موقعها بين القاهرة وبيروت إلى تعرضها للمؤثرات الثقافية. برزت عدة تيارات فكرية سياسية أهمها التيار الإسلامي والتيار القومي العربي والتيار الوطني.
لقد وجدت نخب سياسية وثقافية فلسطينية أيدت الإصلاح في إطار الدولة العثمانية، إلا أن التيار العام في متصرفية القدس كان تياراً متديناً محافظاً أقرب إلى التيار الإسلامي الداعي إلى اعتبار الإسلام عاملاً أساسياً للانتماء. كذلك لقي التيار القومي العربي تجاوباً في صفوف النخبة الثقافية. وازدهر الاهتمام باللغة العربية بما هي مقوم أساسي من مقومات القومية العربية. بالإضافة إلى تشكيل متصرفية القدس، لعبت عوامل أخرى في بلورة مقدمات الهوية الفلسطينية، منها الكفاح ضد الحركة الصهيونية، وطبيعة التركيبة السكانية الفلسطينية، وضعف مساهمة الفلسطينيين في إطار الحركة الوطنية السورية.
لم يعتنق الفلسطينيون فكرة الدولة الوطنية القطرية مبكراً، على النحو الذي فعله اللبنانيون والمصريون على سبيل المثال، وذلك بفعل أن الثقافة السائدة كانت هي الثقافة الإسلامية المتمسكة بإطار الدولة العثمانية الإسلامية، أو الدولة العربية الإسلامية الواحدة في سياق ثورة الشريف حسين، وبسبب حاجة الفلسطينيين المستهدفين بخطر المشروع الصهيوني إلى الاستقواء وعليه بالاتكاء على المحيط . فلهذه الأسباب، كانت الأصوات الداعية إلى ثقافة فلسطينية وإلي فلسطينية الفكر السياسي قليلة وضئيلة التأثير.
تحولت م.ت.ف منذ الستينيات إلى ما جعلها بمثابة دولة فوق إقليمية عملت على تأسيس هوية سياسية فلسطينية. تعرضت هذه الهوية للإنهاك بفعل الشد والجذب بين بعض الحركات القومية العربية، ثم بفعل تيار الإسلام السياسي، وبفعل عدم تمكن الفلسطينيين من حسم مسألة تحديد الإقليم من جهة أخرى. ساهم ذلك كله في إضعاف الهوية السياسية الخاصة، الأمر الذي حال دون تشكيل وعاء لهوية ثقافية فلسطينية واحدة ناضجة.
الفكرة القومية نتاج جدلية تاريخية لعمليتين متزامنتين تتجاوزان حدود البنى العضوية أو البنى الاجتماعية التقليدية والموروثة نحو الخارج ونحو الداخل، وذلك عبر تذريرها ونشوء الأفراد، وثانياً بتطور تعريف المجتمع كاجتماع للأفراد ذوي الإرادة المستقلة عن الانتماءات المولودة . يرى البعض أن تشكل الهويات الوطنية في العالم الثالث قد مر في ثلاث مراحل: الأولى هي مرحلة وضع حدود الأقاليم من قبل القوة الاستعمارية. والثانية هي مرحلة تشكل الحركات الوطنية. والثالثة هي مرحلة الدولة التي تقوم بوظيفة تشكيل الهويات الوطنية لسكانها من خلال سياساتها التطويرية. إزاء الواقع الذي وجد الفلسطينيون أنفسهم فيه بعد النكبة وطوال عقدين، تحولت الهوية الوطنية إلى مجرد هوية فولكلورية غالباً ما يتم الاحتفاظ بها بصفتها نوعاً من الحنين وتحول الانتماء الوطني إما إلى نوع من الانتماء إلى الماضي وإما إلى ولاءات عضوية تعصبية للفصيل أو العائلة أو الجهة.
المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة:
بالرغم من الصعوبات والعثرات والهزائم، واصل الفلسطينيون كفاحهم بحثاً عن هوية وتأكيدها في ظل كيانية سياسية خاصة بهم كشعب وليس كجماعات. وقد واجهوا الواقع الناجم عن نكبة 1948 ونكسة 1967 بطرق وأشكال متفاوتة بتفاوت مواقعهم ومناطق تواجدهم. واصل الشتات كفاحه من خلال منظمة التحرير وتنظيماتها المسلحة وانتظم في أطرها المهنية والجماهيرية الشكلانية غالباً. إلا أن علامات الترهل والتراجع والتخبط بدأت تدب في الكيانية لتطال، كما أسلفنا، الهوية ذاتها. يقع تفسير ما حدث وبيانه خارج اهتمام هذه الورقة. وكذلك أمر ما آلت إليه أوضاع الأقلية الفلسطينية التي بقيت ضمن دولة إسرائيل تكافح من أجل المساواة والدفاع عن هويتها في جانبها الثقافي تحديداً والتمسك بالأرض والبقاء عليها.
هذه الورقة ليست معنية كثيراً بالملابسات المحلية والإقليمية لوضع قطاع غزة تحت الإدارة المصرية، أو ضم الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية. ومع ذلك، يجدر التنويه بأن البنية الاجتماعية الأساسية في المنطقتين بقيت على حالها تقريباً، بالرغم من استقبالهما موجه كبيرة من اللاجئين. وما أسرع ما راحت هذه البنية تتغير بشكل ملحوظ. في هذه الفترة، شكل التعليم أحد أهم أدوات الحراك الاجتماعي. وبالإضافة لعوامل أخرى أثرت في هذا السياق، بدأت تظهر طبقة وسطى ناشئة. يشير بعض الباحثين إلى أن هدف الإدارة المصرية والنظام الأردني تركز في البداية على مركزة السلطة والقوة والسيطرة باستخدام وسائل عنيفة وقاسية. ولم يتم عمل الكثير لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالرغم من السيطرة على جميع شؤون التعليم والصحة والرفاه الاجتماعي والتجارة. ويضيف هؤلاء أن التطور الاقتصادي الاجتماعي الذي بدأت بعض ملامحه تتشكل في عهد الانتداب، وخصوصاً خلال الحرب العالمية الثانية، قد توقف تماماً بعد حرب عام 1948 .
في أعقاب حرب حزيران/يونيو 1967 أعيد الاتصال مرة أخرى بين الفلسطينيين على أرض فلسطين الانتدابية، أو ما يسميه البعض بالتوحيد القسري. وإذا كانت نتائج الحرب شكلت نهاية محزنة للمد القومي الجارف، فإنها فتحت أفقاً جديداً للفلسطينيين؛ فعلى مستوى الخارج، سارعت قيادات الفلسطينيين الجديدة إلى انتزاع شرعية التمثيل ووحدانيته. وعلى مستوى الداخل، بادر الفلسطينيون إلى قلع (شوكهم) بأيديهم، ففاجأوا أنفسهم قبل أن يفاجأوا أعداءهم.
زعزع احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة سنة 1967 البنية المؤسسية الضعيفة أصـلاً. فلم يتمكن الفلسطينيون من التحرك للرد على صدمة الاحتلال في المجالات الاقتصادية والاجتماعية إلا أواخر السبعينات. وقد حدث هذا في وقت تصاعد التحدي الإسرائيلي للوجود الفلسطيني إلى درجة التهديد بالاقتلاع والتشريد. جاء رد الفلسطينيين على شكل يعزز قدرتهم الجماعية على الصمود أمام الضغوط المتصاعدة والمدمرة التي فرضها الاحتلال.
انخرط الفلسطينيون في عمليات تواصل وتفاعل ثقافي وتجاري واجتماعي وسياسي. فأوجدوا مؤسسات ومرجعيات ناظمة لهذا التفاعل، وتجاوزوا الأطر والهياكل التقليدية، كالجهة والعشيرة، مطورين هوية وطنية زاخرة بالتعبيرات والقيم المستمدة من تفاعلهم التاريخي بعضهم ببعض ومع بيئتهم الاجتماعية والمادية. كانت هذه عملية بنائية تدرجية تنطوي على تحدٍ ووعي تاريخي.
وجد الفلسطينيون أنفسهم في منعطف جديد ينطوي على تحولات وتبدلات اجتماعية واقتصادية وسياسية. تعرضت الضفة والقطاع إلى موجة جديدة من الهجرة إلى الخارج مما ألحق بالغ الضرر بمختلف الفئات الاجتماعية وحرم بموجبها المجتمع من طاقات مهنية واقتصادية. كما تعرض المجتمع إلى عملية حراك اجتماعي في ظروف جديدة؛ فقد سقطت النخب التقليدية لتصعد نخب جديدة أبرزها نخبة إدارية وبيروقراطية تتكون من كبار العاملين في الإدارة المدنية. ومع فتح الأسواق للمنتجات الإسرائيلية، نشأت فئة جديدة من تجار الوكالات والخدمات. هذا، إلى جانب تعزيز الطبقة الوسطى لوجودها بفضل توسيع التعليم والانخراط في الكفاح الوطني. ومع هذا وذاك، يمكن القول إن ملامح تشكيلة اجتماعية واقتصادية بدأت تتبلور كحاضنة لمشروع وطني جاءت الانتفاضة الأولى تعبيراً عنه وتجسيداً له .
نحج الفلسطينيون في إطلاق عملية تنظيم المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة على أساس من العلاقات القصدية والطوعية في أطر وحركات ومنظمات نقابية وثقافية واجتماعية. بدت هذه الحركات بمثابة ركيزة أساسية للنضال الفلسطيني، وليس بديلاً مؤقتاً للعمل العسكري. وفرت المنظمات التطوعية للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة شبكة أمان اجتماعية خلال الانتفاضة الأولى. هذه الشبكة مكنته من تقليص الاعتماد على الواردات الإسرائيلية، ومقاومة التقييدات الصارمة على نقل الأموال، ومواجهة العقوبات الجماعية، وذلك في مجالات حيوية، كالتربية والتعليم والصحة والزراعة والاقتصاد المنزلي الغذائي.
لم تكتف سلطات الاحتلال بالحيلولة دون بناء بنية تحتية ومن ثم تحقيق نمو اقتصادي في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، بل عمدت إلى ترسيخ وضعية إلحاق الاقتصاد الفلسطيني باقتصاد إسرائيل وتبعيته له. تجلت هذه الوضعية في تشغيل فائض قوة العمل الفلسطينية في قطاعات الاقتصاد الإسرائيلي التقليدية (البناء، الزراعة)، وإقامة صناعات التعاقد من الباطن (النسيج والملابس)، وقطع مبادلات هذه المناطق بشكل كلي مع المحيط العربي والخارج. جرى هذا بالتزامن مع فتح سوق الضفة الغربية وقطاع غزة للمنتجات الإسرائيلية، وتحويل المنطقتين إلى مصادر للعمل الرخيص. وبهذا، نشأت فئة من تجار الوكالات والخدمات. ومع تحول أعداد هائلة من الفلسطينيين إلى سوق العمل غير الماهر في إسرائيل، نشأت شريحة أخرى، لم تكن معروفة من قبل لدى الفلسطينيين، هي فئة المقاولين.
ليس من الصعب ملاحظة تزامن صعود الحركة الثقافية والفنية أواخر سبعينيات القرن الفائت مع صعود الحركات النسوية والتطوعية والطلابية والنقابية في الضفة الغربية وقطاع غزة. لقد بدت هذه الحركات كروافد للحركة الوطنية الفلسطينية، وكآليات للدفاع عن النفس والحفاظ على الذات، في مواجهة آلة الاحتلال العسكري والاستيطاني، وكقنوات للتعبئة الاجتماعية وإعادة تنظيم المجتمع الفلسطيني. لا يقتصر الأمر على تزامن الصعود والتوافق في الأسباب والغايات وحدهما، بل أيضاً على التوظيف المتبادل لعناصر كل من هذه الحركات في خدمة الأخرى. وأسطع مثال على ذلك المهرجان التطوعي السنوي في الناصرة. في عام 1974، عرضت في نابلس مسرحية "بياع الصبر" من تأليف الكاتبة الفلسطينية سحر خليفة، تزامنت مع الظهور العلني لتعبيرات الوطنية الفلسطينية ممثلة في الحركات الطلابية والنقابية. وفي رام الله، تأسست فرقة بلالين، ثم فرقة دبابيس. ومع تصاعد إضراب عمال شركة كهرباء القدس وموظفيها عام 1979، قدمت مسرحية "حفلة ارتجال من أجل العمال" استهدفت الدفاع عن الشركة وعمالها كرمز للوجود الفلسطيني في مدينة القدس. في أواسط الثمانينيات، شكلت تجربة مسرح الحكواتي نقلة نوعية في الحركة المسرحية على أيدي خريجين من معاهد عليا في المسرح، مع توفر امكانات لوجستية أكبر، وبانفتاح أوسع على التجربة الإنسانية من خلال ترجمة نصوص عالمية وتقديمها. وقد تزامنت تجربة الحكواتي مع صعود الأغنية الوطنية وشيوع أغاني المصري الشيخ إمام واللبناني مرسيل خليفة. في أوائل التسعينيات، تأسس مسرح عشتار، وقد امتاز بالتجريب المسرحي، وبامتلاك تقنيات عالية، وبجرأة كبيرة في تناول الموضوعات المختلفة. وفي الفترة ذاتها، بادر الشاعر الفلسطيني المرحوم عبد اللطيف عقل إلى تحويل دار سينما إلى مسرح "السراج" وكرَّس له حياته. وبعد توقف، تحول مسرح السراج إلى مسرح القصبة على يد جورج إبراهيم، وهو اليوم بمثابة مركز ثقافي متعدد النشاطات في مختلف حقول الثقافة والفن. كما نشطت الحركة الأدبية، وبرز العديد من الكتاب والشعراء، وتشكل اتحاد لهم ساهم في رفد الحركة الوطنية والجماهيرية بمضامين وقراءات ثورية ونصوص شعرية ونثرية ومسرحية عبر مجلة الكاتب وغيرها. ساهمت الجامعات الفلسطينية، وخصوصاً جامعة بيرزيت وجامعة النجاح، بالإضافة إلى دورها الأكاديمي في إثراء الحياة الثقافية ومضامين الهوية الوطنية الفلسطينية.
الانتفاضة الفلسطينية الأولى:
تولد فضاء سياسي في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام1967 تقاسمته ثلاثة تيارات، أبرزها كان التيار الذي مثلته تنظيمات اليسار (الشيوعيون والجبهتان الشعبية والديمقراطية) بالتحالف مع شخصيات وطنية اعتبارية. ساهم هذا التيار في تعزيز الشعور بالوطنية الفلسطينية وبإبداع التعبيرات السياسة والمؤسساتية عنها في مواجهة ممارسات الاحتلال. كانت القدس عاصمة الفعل الفلسطيني ومركز التوجيه والتنسيق والإدارة. وكانت الفعاليات الشعبية والجماهيرية تتوالى تكريساً لهوية فلسطينية متميزة على الأرض الفلسطينية وفي أتون الصراع مع الآخر الإحلالي. حافظت تنظيمات اليسار وحلفاؤها عبر تشكيلات جبهوية وتحالفات مؤقتة على جوهر الكفاح الوطني الفلسطيني في النزوع نحو الحرية والاستقلال وبناء الدولة والحفاظ على الهوية السياسية. فقد اعتمدت منطق بناء القوة التدرجي والتراكمي وتحقيق المكاسب والبناء عليها، واستخدمت أدوات ووسائل كفاحية ناجعة وملائمة ومرتبطة حصراً بأهداف سياسية واقعية. غير أن مساحة النفوذ التي كان يحتلها اليسار انحسرت مع انهيار المعسكر الاشتراكي وحرب الخليج الثانية وعسكرة الانتفاضة ودخول المجتمع الفلسطيني حالة من الفوضى والتفكك الاجتماعي.
شكلت التنظيمات اليسارية الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية المحتلة حتى مطلع تسعينيات القرن العشرين تياراً قوياً وفاعلاً، قدم إسهامات مميزة في مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني. وإذا كان الفضل في تكريس الدور التوحيدي للمنظمة وانتزاع الاعتراف العربي والعالمي بها يعود إلى حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" أساساً، فإن الفضل في تعبئة طاقات المجتمع الفلسطيني وتنظيمه وتكريس الأرض الفلسطينية ساحةً رئيسة للصراع مع الاحتلال يعود إلى اليسار. فقد قدم هذا اليسار، خصوصاً في الأراضي المحتلة، نموذجاً مختلفاً عبرت الانتفاضة الأولى عنه أفضل تعبير. انبثق من رحم اليسار قيادات وطنية نشطة نجحت في تكوين شبكات كبرى من الدعم والتعبئة واستطاعت أن تبني علاقات تضامن واسعة في أوروبا تحديداً. كما ساهم اليسار ومناضلوه في إثراء مضامين الهوية الفلسطينية سياسياً وثقافياً وإنسانياً.
السلطة الفلسطينية: فشل المشروع الدولاني
منذ عام 1994، أخذت السلطة الفلسطينية تحل محل منظمة التحرير في لعب دور الدولة قيد التكوين. واحتلت السلطة الموقع المركزي في عملية البناء المؤسسي والسياسي، محكومة بطبيعتها المؤسسية وعناصرها الاجتماعية وقيودها السياسية وبالظروف الإقليمية والدولية. ومنذ ذلك الحين، أضحت هي العامل الغالب في تحديد نوعية مشروع الدولانية الفلسطيني ومساره.
يستند التعريف الأكثر شيوعاً في العلوم الاجتماعية الغربية للدولة القومية إلى المنهجين الفكريين اللذين مثلهما كل من كارل ماركس وماكس فيبر. ففي حين ركز ماكس فيبر على وجود مجتمع تحتكر الدولة شرعية استخدام العنف في حدود إقليمه، ركز ماركس على الدور الذي تقوم به الدولة في تنظيم عملية سيطرة طبقية، دون أن يغفل درجة من الاستقلالية الذاتية لها. نشأت الدولة الحديثة ضمن منطق متواصل من التمايز في المهام السياسية داخل المجتمع: تشكل هوية سياسية، اختزال الروابط العديدة للتبعية الشخصية وولادة المواطن بالمعنى الحديث، تنوع المؤسسات السياسية والإدارية وولادة البيروقراطية الحديثة، تقنين العلاقات بين الحكام والمحكومين مع بروز النظام البرلماني والدساتير. إن الفرضية الأساسية للدولة الحديثة تتمثل في عدم تجزئة السيادة، ووحدانية تمثيل الشخصية الوطنية لشعب ما.
لا يمكن اعتبار السلطة الناشئة بموجب اتفاقية أوسلو بمثابة دولة. وبسبب الممارسة الفعلية على الأرض، عجزت السلطة عن التحول إلى شبه دولة. أجحفت هذه الممارسات، إلى جانب الوقائع التي نجح الاحتلال الإسرائيلي في خلقها على الأرض، بقدرة الفلسطينيين على المضي قدماً في مشروع بناء دولة:
1- لم تحصل السلطة الفلسطينية على السيطرة الكاملة على أرضها ومواطنيها واقتصادها، وبذلك لم تكن ولن تكون قادرة على اكتساب الدور الشامل والأوحد في التمثيل الوطني.
2- التماس المباشر مع إسرائيل، على كافة الأصعدة، سواء عبر الاتفاقيات المعقودة أو من خلال الصراع والمواجهة، بات يشكل الإطار الأول للتكوين التاريخي للدولة والمجتمع الفلسطيني.
3- مع تعثر عمليات التمايز السياسية في مجتمع يرزح تحت وطأة احتلال استيطاني ويتسم بالنزعة التقليدية، لم تتمتع السلطة الفلسطينية بالاستقلالية والمركزية. فلم تمتلك حق سن القوانين الملزمة لجميع المقيمين على أرضها، ولم تحتفظ طويلاً بحق استخدام القوة لضمان سيطرتها وانصياع الجميع إلى قوانينها وسياستها في مختلف الميادين الحياتية.
4- تعرضت السلطة الفلسطينية إلى محاولات مقصودة وغير مقصودة، مباشرة وغير مباشرة لتقويضها وإفشالها. جاءت المحاولات الأولى من داخل السلطة ذاتها وحزبها السياسي "فتح"وما على شاكلته، حيث جرى التعاطي معها كأنها ملكية خاصة ومشروع تجاري ومجال للتكسب والإثراء السريع. لم ُيسند قيامها بالتنظيرات الفكرية والسياسية الصائبة وافتقرت منذ البداية إلى السند المجتمعي. المحاولات الأخرى جاءت من طرف المعارضة، وخصوصاً حركة المقاومة الإسلامية "حماس". لم تبذل "حماس" أي جهد في نقد السلطة وتقويم اعوجاجها ورفدها بالكفاءات والاستشارات اللازمة، بل اتبعت عن قصد استراتيجية إحراج السلطة وتوريطها، فساهمت في التعجيل بتآكل هيبة السلطة وتراجع قدرتها على السيطرة. الضربة القاضية جاءت من حكومة أرييل شارون، وقبلها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، عبر التنصل من الالتزامات، واستمرار محاولات فرض الأمر الواقع، وجر السلطة إلى المربع الأمني الإسرائيلي وحده، وحجب المستحقات المالية للسلطة، والتدمير المنظم لمنشآتها وللبنية التحتية، وخلق وقائع على الأرض. أخيراً، بسبب الطبيعة التقليدية للمجتمع الفلسطيني، وبالتالي ضعف الوعي المدني وصعوبة الانصياع لسلطة القانون، وضعف الثقافة السياسية الديمقراطية وغلبة الولاءات الفئوية.
5- خضعت الممارسة الديمقراطية وعملية التحول الديمقراطي في ظل السلطة الفلسطينية بشكل مباشر أو غير مباشر لعوامل خارجية. فالاعتماد بشكل أساسي على الدعم الخارجي سمح للأطراف الخارجية بممارسة الضغوط على السلطة.
6- شكلت الانتخابات التشريعية عام 1996 نقطة تحول نوعي لآفاق الممارسة الديمقراطية والتحول الديمقراطي في فلسطين. ومع ذلك، نجحت مجموعة من العوامل في إضعاف دور المجلس التشريعي في إحداث هذا التحول. فهو لم يكن مجلساً سيادياً، بل مجلساً محكوماً بعدد من القيود المفروضة على عمله. وصلاحيات المجلس بقيت محدودة وغير واضحة، وكذلك الدور المنوط به. الديمقراطية لم تكن على رأس أولويات السلطة الفلسطينية وقدرة النظام الجديد على إحداث انتقال تراكمي من منطق الثورة إلى منطق الدولة بدت ضئيلة. أما قدرة السلطة التنفيذية على توسيع هامش نفوذها في مواجهة السلطة التشريعية فكانت بارزة ووجود أغلبية ساحقة من "فتح" أبقى المجلس دون معارضة جدية وحرمها من دورها. يضاف إلى هذه الأسباب كلها حداثة التجربة البرلمانية الفلسطينية وغياب التقاليد والأعراف والخبرة.

أما في الشأن الاقتصادي، فقد استمرت وضعية الاقتصاد التابع و تكرست على أسوأ أشكالها في اتفاقية باريس الاقتصادية. وبالرغم من توليد مناخات مواتية نسبياً لجذب الاستثمارات الخارجية، فإن هذه الاستثمارات كانت أقرب إلى المضاربة، فلم تمتد إلى القطاعات الإنتاجية (الصناعة، الزراعة). وبينما جرى ما يشبه تقسيم العمل بين السلطة الفلسطينية من جهة وبين البنك الدولي ومجتمع المانحين من جهة ثانية، فقد جرى التركيز على المشاريع والبرامج ذات المردود السياسي السريع، وتحولت السلطة إلى أكبر مشغل في فلسطين، فترهل جهازها الإداري واخترقته ظواهر الفساد والمحسوبية والزبائنية .
تفاقمت الأوضاع الاقتصادية بعد اندلاع الانتفاضة الثانية بسبب الإغلاق والتدمير المنهجي للبنية التحتية الإنتاجية وخصوصاً القطاع الزراعي، ليُحِكم المجتمع الدولي، بُعيد الانتخابات التشريعية 2006، دائرةَ الإغلاق عبر الحصار المالي والاقتصادي لحكومة السلطة الفلسطينية. اجتمعت أسباب إضافية للفساد وسوء الإدارة والاحتكارات وغياب الخطة التنموية وترهل أجهزة الإدارة العامة، وأهمها تدمير مؤسسات السلطة ذاتها بالمعني الفعلي للكلمة وتقويض قدرتها الحقيقية عبر خنقها وخنق حركة الاقتصاد والأفراد في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ارتفعت نسب البطالة ومعدلات الفقر بصورة غير مسبوقة، مما مهد، أولاً، لبروز ظواهر اجتماعية سلبية وغير معهودة في المجتمع الفلسطيني، وثانياً، لبروز عامل إضافي للصراع المحتدم بين التنظيمين الكبيرين "فتح" و"حماس" عبر تعبئة العاطلين عن العمل وتجييشهم ورشوتهم بالمساعدات العينية وبأوهام التفريغ على الأجهزة الأمنية، وحتى بتشكيل أجهزة جديدة وميليشيات متعددة.
تحفل السنوات الأربعون بسجل دامي لممارسات الاحتلال العدوانية التي طالت كل شيء. فمنذ الأيام الأولى، عمد الاحتلال إلى آلة البطش العسكرية والأمنية لقمع كل مظاهر الوطنية الفلسطينية وتعبيراتها، ولم يتردد في كل مرة في استخدامها، كما فعل في أعوام الانتفاضة الأولى والثانية. إلى جانب القمع الوحشي المباشر، أقيمت المستوطنات الإسرائيلية وتوسعت طوال الوقت، وأُلحق الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي.
مع الانتفاضة الأولى، أضاف الإسرائيليون تهديداً استراتيجياً جديداً لأمنهم ووجودهم هو خطر الديموغرافيا الفلسطينية المتزايدة، ومحاولات بناء مجتمع وتدشين بدايات وإرهاصات دولانية. تمثل رد الفعل الفوري للاحتلال في القمع الشرس للانتفاضة وقيادتها وفعالياتها المختلفة، وبلغ ذروته في سياسة تكسير العظام. ولكن، سرعان ما أدركت قيادة إسرائيل عقم هذه السياسة وعجزها عن وقف مشاعر شعب وتطلعاته. منذ ذلك الحين، برزت تدريجياً استراتيجيتان: الأولى تبناها حزب العمل، وتمثلت في احتواء هذه المشاعر والتطلعات في كيان منقوص السيادة يفصل الفلسطينيين عن دولة إسرائيل ويبقيهم قيد الحظر والمراقبة والتحكم. الاستراتيجية الثانية، وهي نتاج يميني عنصري صرف، تمثلت في التصفية النهائية، ولكن التدرجية، ليس فقط للمشاعر والتطلعات بل، أيضاً، لتعبيراتها المؤسسية والكيانية بما في ذلك تلك الناجمة عن تطبيق الاستراتيجية الأولى (السلطة الفلسطينية). على هذه الخلفية، يمكن فهم وظيفة حكومة بنيامين نتنياهو المتمثلة في وقف مسيرة أوسلو وتجميد عملية السلام. أما المهمة الأساسية في هذا المضمار، فقد أخذها أرييل شارون على عاتقه. الاختلاف الأساسي بين الاستراتيجيتين يكمن في عمق الفصل وطبيعته. فإذا كانت الأولى لم تمس التواصل بين الفلسطينيين أنفسهم إلا قليلا، فإن استراتيجية اليمين حرصت ليس فقط على الفصل بين الطرفين فصلاً كاملاً، بل تحقيق الفصل شبه الكامل بين الفلسطينيين أنفسهم، كذلك. وهو ما ينطوي على رغبة في تحطيم الكيانية السياسة والمجتمعية وإرهاصات التطور الدولاني للفلسطينيين على جزء من إقليمهم.
كالعادة، كان من بين ما فعله الفلسطينيون أو بعضهم، وما لم يفعلوه، ما ساعد في نجاح الاستراتيجيين: التقييد ومن ثم الفصل وقطع الطريق على تنامي تعبيرات الوطنية الفلسطينية ومأسستها وترسيخها على الأرض الفلسطينية.

فشلت السلطة الفلسطينية على أعتاب القرن الواحد والعشرين في المحافظة على طبيعتها بما هي مشروع دولاني قيد التطور. لم يقع الفشل بسبب الإسرائيليين فقط، بل، أيضاً، لأن قيادة السلطة فشلت في اختبار الجدارة. ومنذ ذلك التاريخ، تحولت السلطة تدريجياً إلى عبئ حقيقي على مسيرة الكفاح الوطني. فهي لم تعد قادرة على إدارة هذه العملية، وهي قد أخفقت في إدارة عمليات البناء الاجتماعي والتحول الديمقراطي والنهوض التنموي. وبسبب ذلك، تحولت إلى غاية يتصارع الفلسطينيون فيما بينهم على الفوز بها.


استنتاجات أولية:
يقودنا هذا الاستعراض السريع للتطورات السياسية والتحولات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدها المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى عدد من الاستنتاجات، سنوردها مع شرح موجز لبعض الظواهر التي رافقت هذه التحولات أو انبثقت عنها أو بسببها:

الاستنتاج الأول: تحتاج أي جماعة من البشر لكي تصبح شعباً إلى عنصرين: المكان والزمان، والإدارة المركزية الواحدة والموحدة. يجتمع الشعب في المكان ويراكم تجاربه مع مرور الوقت بتفاعل الجماعة فيما بينها وبتفاعلها مع بيئتها أو مكانها، وبذلك يكتسب هويته وسماته الثقافية والنفسية وذاكرته الجماعية. وقد أتيحت للفلسطينيين مثل هذه الظروف مرتين: المرة الأولى توفرت ما بين الحربين الأولى والثانية. والمرة الثانية توفرت بفضل التوحيد القسري (تحت الاحتلال) منذ 1967 وحتى 1994 عندما اتصلت ثلاث كتل ديموغرافية فلسطينية في علاقات يومية منتظمة. وإذا كانت الحركة الصهيونية قد نجحت في وأد مسار تطور المجتمع الفلسطيني في المرحلة الأولى عبر اقتلاعه وتشتيته ووقف نمو المدن الفلسطينية الساحلية وبالتالي القضاء المبرم على فرص الحداثة، فإنها تنجح اليوم في وقف تطور التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية المتكونة ما بعد حرب حزيران/يونيو عبر سياسة الفصل ومطها إلى الحد الذي تقترب فيه من الترانسفير، وأيضاً من خلال دورها المعلن والخفي في تأجيج ديناميات التفكك الاجتماعي وتمظهراتها المختلفة. وإذا كان من الصعب تبرئة الفلسطينيين مما حل بهم في عام النكبة وإلقاء اللوم فقط على الآخرين، فإن ما يحدث اليوم، يشير بما يقطع كل شك إلى تواطؤ واضح من قبل بعضهم في تقديم الذرائع، أولاً، وفي تحييد العالم الخارجي، ثانياً، وفي إضعاف قدرة الفلسطينيين على مقاومة ما يحدث بهم ولهم، ثالثاً. بالطبع، لا يمكن أن نلقي باللوم كله على الفلسطينيين، فثمة عوامل وظروف موضوعية عديدة تساعد إسرائيل على المضي في سياساتها الاحلالية والاحتلالية دون خوف أو تردد.

الاستنتاج الثاني: مع نشأة أول سلطة فلسطينية على جزء من إقليمها، توفرت فرصة كبيرة وجدية لإعادة بناء نظام سياسي على الأرض الفلسطينية بتفاعل وثيق مع المجتمع الفلسطيني. إلا أن النخبة السياسية المهيمنة عملت، بسبب طبيعتها الطبقية والفكرية المحافظة، على إعادة إنتاج النظام السابق وفقاً لصيغ مستجدة، فحافظت على تفردها واحتكارها الموارد والقرارات في وقت واحد. وبالإضافة إلى استنساخ أنماط العمل السائدة في المنظمة، شكل صعود الأصولية السياسية والاجتماعية ونتائجها على المجتمع وتوجهاته الأساسية فرصةً جديدة لتقويض النظام السياسي برمته والدخول في صراع على أسس هذا النظام وقواعده ومواقع النفوذ والسيطرة فيه.
أظهر تسارع الأحداث وتدهور الأوضاع مدى الحاجة إلى إعادة بناء نظام سياسي يقوم على مصادر أخرى للشرعية، ويعتمد الشراكة السياسية الحقيقية بديلاً للمحاصصة الفصائلية، ويكرس عمليات المساءلة والمراقبة ومأسسة القرار الوطني، ويعتمد الإصلاح السياسي الشامل مدخلاً لتحقيق ذلك.
كان من المتوقع أن تشكل الانتخابات البلدية والرئاسية والتشريعية رافعة للإصلاح الشامل ومدخلاً لإعادة بناء النظام، إلا أن نتائجها كشفت عن وجوه أخرى لأزمة النظام والمجتمع. فمن جهة، اُتخذت نتائجها ذريعةً وحجةً من قبل الإسرائيليين والأمريكيين وبعض دول العالم لفرض حصار اقتصادي وعزلة سياسية. ومن جهة ثانية، تبين أن ما يجرى لا يعدوا كونه مجرد تبديل مواقع، دون توفر القدرة على إحداث تغيير جدي في غياب مشروع مجتمعي كامل وانطبق على ما جرى قول الذي قال "الانتخابات في هذه البلدان-بلدان العالم الثالث- دون مؤسسات سياسية ومستوى معين من التنظيم السياسي، تخدم فقط في رفع قدرة القوى الاجتماعية التمزيقية وغالباً الرجعية في هدم السلطة العامة. المشكلة ليس في الحرية، وإنما في خلق نظام عام شرعي" .

الاستنتاج الثالث: من الواضح أن السلطة أُفشلت كمشروع دولاني. حدث هذا لأسباب عدة يمكن أن نورد أهمها: أولاً، بسبب قيودها ومحدداتها المتعلقة باتفاقية إنشائها ذاتها. وثانياً، بسبب ممارسات الاحتلال تجاهها، بدءاً من تنصل حكوماته من التزاماتها بموجب الاتفاقيات الموقعة بين الطرفين، مروراً باستهداف مؤسسات السلطة الفلسطينية بالتدمير والتقويض، وانتهاءً بمحاصرتها ومحاولات خنقها اقتصادياً، وثالثاً، بسبب أدائها وأداء حزبها السياسي (الافتقار إلى السند المجتمعي، والرؤية الإدارية والتنموية السليمة: إهمال التعليم، عشرنة السلطة، المساهمة في عسكرة المجتمع، تعزيز الاتجاهات غير المنتجة..إلخ). ورابعاً، بسبب ممارسات المعارضة ومواقفها، وخصوصاً "حماس" (المواجهة العسكرية مع الاحتلال، والمواجهة السياسية مع قيادة السلطة). أخيراً، فنقص الوعي المدني، والطبيعة التقليدية للمجتمع الفلسطيني، وصعوبة الانصياع لسلطة القانون وضعف الثقافة السياسية الديمقراطية وغلبة الولاءات الفئوية، كلها عوامل لم تساعد على تكريس وحدانية السلطة واحترام حقها في ممارسة عمليات الضبط والسيطرة وفق أحكام القانون.
أخفق الفلسطينيون لأسباب ذكرت آنفاً في عقلنة سلطتهم (استبدال السلطات التقليدية بسلطة سياسية وطنية علمانية مفردة). وفي تحقيق التمايز في الوظائف السياسية وتطوير بنى متخصصة لإنجاز هذه الوظائف (فصل الوظائف القانونية والأمنية والإدارية والعلمية عن السياسة). ولذلك، أخفقت المشاركة السياسية- مع عدم تحقق العقلانية والاندماج الوطني والتمايز الوظيفي- في خلق سلطة فعالة تجمع بين الإصلاح الاجتماعي والاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي.

الاستنتاج الرابع: تبحث الهوية السياسية عن عناصر ارتكاز لها في الهوية الثقافية. صحيح أنها لا تعبر عن المصالح، لكنها تشكل الوسيلة الأكثر نجاعة لبلورة برنامج متميز للجماعة. فالفكرة القومية/الوطنية هي فكرة سياسية وثقافية في آن. وقد أدرك الفلسطينيون مبكراً هذه الجدلية وتفاعلوا معها بصورة انعكست أحياناً في نجاحات تحققت لمشروعهم ولكفاحهم. وحين كانوا يغلبون واحدة على الأخرى، كانوا يُمنون بإخفاقات صارخة. أثبت كفاح الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال عشرين عاماً بعد الاحتلال صحة الجمع بين الفكرتين وضرورته. وفي تقديري أن اختفاء السياسة واضمحلال الثقافة شكلا معاً الأرضية الخصبة التي مكنت الإسرائيليين لاحقاً من تقويض السلطة وقطع الطريق عليها بما هي مشروع دولاني، ومن ثم محاولاتهم تقويض مجمل النظام الاجتماعي الفلسطيني كمقدمة للتخلص من الفلسطينيين بالمعنى الوجودي والمادي.

الاستنتاج الخامس: من المهم ملاحظة كيف تمت عملية استهداف النخبة، هذه التي برز دورها في معمان الكفاح الوطني الشعبي في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتجسدت قمة نضالاتها إبان الانتفاضة الأولى. جزء كبير من القادة الميدانيين "راشقي الحجارة ومشعلي الإطارات" تحولوا إلى مطاردين بوهم قدرة البندقية على تحقيق ما فشل الحجر في تحقيقه، وبتشجيع من أطراف خارجية في فصائل العمل الوطني سعت لاستمالتهم ومن ثم احتوائهم. وبالتأكيد، لعب قمع الاحتلال وشراسته دوراً في ذلك. مع المطاردة، انفصل هؤلاء عن جمهورهم وعن التواصل اليومي والتفاعل البناء مع هموم الناس وتطلعاتها. ثم عاد هؤلاء إلى الناس عبر الأوامر، وهم ملثمون وبدون ملامح أو هوية تميزهم. وكلما استهدفتهم الآلة الجهنمية للاحتلال انعكس ذلك عنفاً وغلظة في سلوكهم فيما بينهم، ثم فيما بينهم وبين الجمهور.
تولت اليد التي أغدقت المنح والمساعدات القادة الجماهيريين، فجعلت منهم مدراء وخبراء ومحترفين، يتقنون كتابة المقترحات لجلب مزيد من التمويل، ويفقدون تدريجياً قدرتهم على مخاطبة جمهورهم، يطورن أجندة احتياجات تبتعد رويداً رويدا عن الاحتياجات الفعلية للفئات المتضررة والضعيفة والمحرومة، ليقتربوا أكثر من أجندات الممول، لغةً ومضموناً ومساراتٍ عملية. فيهم يقول إدوارد سعيد إنهم انحرفوا عن أجندة الكفاح الفعلية بوهم العمل على تقديم المساعدات للفقراء.
أخفق القادة السياسيون في امتلاك مهارات حياتية تمكنهم من الاندماج الحقيقي في حياة المجتمع والتعاطي مع التطورات المستجدة، فتشبثوا بمواقع قيادية وهمية، ومالوا إلى الاحتراف السياسي، ومالأوا السلطة طمعاً في منافعها وسعياً وراء مكاسب شخصية أو فئوية وبهذا، لم يعد العمل الكفاحي أو السياسي أكثر من مشروع شخصي. ومن بين هؤلاء برز قادة إعلاميون أجادوا فن القول والتعليق من على شاشات الفضائيات المتعددة، فتضخمت ذواتهم، وعاشوا واقعاً خيالياً ومفترضاً تماماً كما هو الواقع المفترض في تكنولوجيا الاتصالات، واعتقدوا واهمين أن التحدث بلغة الناس أو التماشي مع ما يريده الناس هو ما يجب أن يفعلوه، فانحرفوا عن الواقع الفعلي، وفشلوا في قراءته، وقدموا وصفات كارثية، فساهموا في إيصال مجمل الحالة الفلسطينية إلى ما وصلت إليه.
إلى ذلك، انخرط خيرة الأكاديميين والباحثين المتميزين في إجراء دراسات وأبحاث "بالطلب"، دون أن يتمكنوا من إعلاء شأن البحث العلمي ومرجعية العلم فوق السياسة وقبل التمويل. ولم يبذلوا هؤلاء جهداً في تقديم قراءات تحليلية للواقع المعقد والمتغير، فلم يسهموا قطعاً في القرار الوطني أو في رسم السياسات العامة. ولعل الظاهرة الأكثر مدعاة للتأمل هي ظاهرة بروز ما يعرف في اللغة الدراجة "بالإستوزار". وقد تشكلت هذه الظاهرة في أوساط هذه النخب تحديداً، أي النخب التي انحرفت بشكل أو بآخر عن أجندة الكفاح الفعلية.
ديناميات التفكك ومظاهره
العسكرة: وهي العملية التي ينظم بها مجتمع ما نفسه لإنتاج العنف. وللعسكرة ثلاث تأثيرات خبيثة في مجال التنمية: الديمقراطية، النمو الاقتصادي، الإنصاف.
يقترن ضياع فلسطين في ذاكرة أبنائها الجمعية بالسلاح العربي الفاسد تارة وبنقص السلاح في أيدي الفلسطينيين أنفسهم تارة أخرى ما مكن أعداءهم من إلحاق الهزيمة بهم. وامتشاق السلاح واقتناؤه والمحافظة عليه والافتخار به، كلها أوجه سلوك شائعة تشكل جزءاً من الموروث الثقافي. لوحظ على سبيل المثال إقبال الشباب والصبيان في ظل الانتفاضة الثانية على وجه التحديد على الاحتفاظ بصور فوتوغرافية لهم وهم يمتشقون السلاح بصورة استعراضية وبإحساس عال بالرجولة.
اشتمل القاموس السياسي الفلسطيني على مصطلحات عديدة اقترنت بنضال الفلسطينيين ضد الحركة الصهيونية. احتلت تعبيرات، من قبيل المقاومة والكفاح المسلح والجهاد، حيزاً كبيراً في قاموس الفلسطينيين ولغتهم المتداولة وثقافتهم السياسية. مع الوقت، تحولت هذه المقولات إلى أيقونات وأصنام وغايات في ذاتها، وصارت مادة للتفاضل والخلاف والتمايز فيما بين الفلسطينيين، أفراداً وتنظيمات. مما لا شك فيه أن التمسك بالمقاومة كحق وكواجب والاعتداد الفلسطيني الناجم عن حمل السلاح وخوض المعارك ضد الاحتلال أكسبت الفلسطيني، أولاً، ثقته في نفسه، وساهمت، ثانياً، في لفت انتباه العالم لنضاله العادل، كما ألحقت بعدوه الخسائر وأشعرته أن ثمة شعباً شديد التمسك بحقه وعنيداً في التماس وسائل الوصول إلى تحقيقه وممارستها ببسالة شهد لها الجميع. عندما اقترن الكفاح المسلح بنظرية تسنده وبرؤية سياسية تبرره وتعقلنه وبمنطق يحكمه وبحركة وطنية توظفه أثمر نتائج وحقق غايات. أما عندما تحول إلى سلاح شارد يحمله كل من هب ودب فقد وظيفته وبات عبئاً على الكفاح الوطني.
العسكرة والتسييس الفئوي عمليتان ساهمتا، مع الافتقار إلى المضمون والرؤية المجتمعية، في إضعاف قدرة الفلسطينيين على مواجهة عدوهم. يعتبر الادعاء بغير ذلك ضرباً من ضروب خداع الذات. ولننظر بتمعن إلى السلطة الفلسطينية ومؤسساتها وأنماط سلوك القائمين عليها وسلوك الفلسطينيين في الانتفاضتين كي نتأكد من صحة ما نقول. فالعسكرة ساهمت في إضعاف الانتفاضة الأولى عن طريق تحييد المشاركة الجماهيرية الواسعة، وتوفير المبررات والمسوغات للمحتل كي يستخدم أعنف الوسائل في قمع الانتفاضة وإخماد جذوتها. لم تكن العسكرة تصعيداً مدروساً في استخدام وسائل الكفاح.كما لم تكن استراتيجية مخططة مرتبطة بأهداف محددة، بل صارت وسيلة لاستعراض القوة الموهومة وللتفاضل بين التنظيمات التي رغبت بشدة في أن تنسب هذا الكفاح لها وتحصد نتائج فئوية، وهي كانت أداة القيادة الموجودة في الخارج لبسط إرادتها على قيادة الانتفاضة وتوجيهها والتحكم في قراراتها.
اقترنت عملية بناء السلطة بظاهرتين تركتا أبعد الأثر على طبيعتها وقدرتها على القيام بوظائفها ومن ثم فرصة استمرارها كتجسيد لإرادة عامة وتعبير عن سلطة عامة ممركزة: العسكرة بوسائل متعددة (إناطة إدارات مدنية لأشخاص عسكريين، المبالغة في إعطاء الرتب العسكرية لأسباب سياسية وفئوية دون جدارة ميدانية أو كفاءة مهنية، الإفراط في تشكيل أجهزة أمنية وتوظيف أعداد كبيرة فيها، تكون جيش من المرافقين المدججين بأسلحة حديثة، وشيوع علاقات وممارسات أخرى كانت سائدة في زمن الثورة..إلخ) حتى تحولت السلطة برمتها إلى جهاز عسكري مترهل وفضفاض وفارغ من محتواه، دون عقيدة عسكرية، ودون رؤية سياسية، ودون منظور استراتيجي. انتقلت عدوى العسكرة من السلطة إلى المجتمع، باستخدام السلاح بشكل غير مبرر في المناسبات السعيدة والحزينة على حد سواء، في المآتم والأعراس، كما في المنازعات العائلية التي كانت تحل في وقت من الأوقات على فنجان قهوة كما نقول في العادة. ومن بين أكثر المؤسسات الاجتماعية التي تضررت من هذه الظاهرة المدرسةُ والجامعةُ. الظاهرة الثانية، وسيأتي الحديث عنها لاحقاً، هي عشرنة السلطة (أي اختراق السلطة بممارسات وعلاقات العشيرة).
لم تبنِ السلطة مؤسسةً سيادية أمنية حقيقية، بالرغم من عسكرتها من قمة رأسها إلى أخمص القدم، وهو ما ظهر أثناء اندلاع الاقتتال الداخلي بين "فتح" و"حماس". في الانتفاضة الثانية انتشرت ظاهرة العسكرة فطغت على كل ظاهرة أخرى. فبوهم المقاومة، فرخت التنظيمات السياسية أجهزة وأذرع عسكرية من كل لون. ورافق ذلك خطاب تعبوي تصعيدي لا ينسجم مع القوة الفعلية التي يملكها الفلسطيني في مواجهة الاحتلال. وقد ساهم هذا الخطاب في إضعاف التركيز على مواطن القوة الحقيقية. كانت النتيجة المنطقية لذلك انهيار وحدانية السلطة وفقدان هيبتها، ومن ثم اندلاع موجه من الفوضى والفلتان غير المسبوقين وتشكيل تحالف من الزعران بيافطات عائلية وحزبية ودينية. العسكرة هي محاولة لتغطية الإفلاس المعرفي والفقر السياسي وفقدان القدرة على تعبئة الجمهور بالنسبة للتنظيم السياسي. وهي سوق مربحة لتجار الأنفاق والمهربين. وهي ملاذ الشباب الحائر الذي فقد المثال وانسدت آفاق المستقبل في وجهه للحماية ولتأكيد الذات وكمصدر رزق. وهي وسيلة العائلة الباحثة عن حماية أو عن مكان ومكانة لها في مجتمع اختلطت فيه البنى والعلاقات والقيم. وهي ذريعة لحكومات فاشلة ووزراء باحثين عن ألق إعلامي شخصي ومجد موهوم على شاشات الفضائيات. وهي مادة استجداء مزيد من التمويل لمنظمات ليس لها من رسالة إلا تجنيد المزيد من الأموال التي تذهب في غير وجهتها أو غرضها. وهي-أخيراً- حالة استعراضية لإخفاء عجز فردي وجماعي مستحكم. إنها ظاهرة بات لها اقتصادها السياسي الكامل.
العائلية: تعتبر العائلة في خصائصها الأساسية بمثابة صورة مصغرة عن المجتمع، فالقيم التي تسودها، من سلطة وتسلسل وتبعية وقمع، هي التي تسود العلاقات الاجتماعية بصورة عامة. وبنية العائلة القائمة على السلطة الفوقية تقابلها بنية اجتماعية مماثلة. فجميع المؤسسات الوسيطة، بما في ذلك المؤسسات التربوية والدينية، تقوم هي أيضاً بتعزيز القيم والمواقف التي بواسطتها تدرج العائلة أعضاءها في الحياة الاجتماعية. يتأرجح المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة بين التقليد، حيث تقوم العائلة، في الآن ذاته، بتجسيد النظام الاجتماعي الأكبر ودعمه، وبين حداثة مجهضة بسبب عوامل عديدة أبرزها بالطبع الاحتلال الاستيطاني. ويتم التعبير عن هذه الأرجحة من زاوية القيم والمعايير بالتشديد على القيم العضوية والانصهار في الجماعة، أكثر مما يتم التشديد على قيم الاستقلال الفردي. هنا ينمو الميل نحو الاتكالية على حساب الاعتماد على الذات والتمسك بحق الاختيار، ويتكرس الامتثال القسري والتمسك بقيم الطاعة وسيطرة الرجل على المرأة والعزل بينهما في الوقت ذاته. ويحتدم الصراع بين القيم السلفية وبين القيم المستقبلية وكذلك الصراعُ بين قيم الإتباع وبين قيم الإبداع (المحافظة مقابل التجدد)، بين قيم العقل وقيم القلب، بين قيم احترام السلطة وقيم التمرد عليها، ويتم التركيز على الحفظ والتلقين مقابل الفهم والتحليل.
لا يتم استحضار شيء لا يكون موجوداً أو كامناً. فالبنية العائلية تشكل نواة تنظيم المجتمع الفلسطيني وأبرز الوحدات الاجتماعية والاقتصادية فيه. كان الانتماء للعائلة لا يتعارض مع نزوع الفلسطيني نحو هوية وطنية تحميه وتصون ثقافته وحقوقه. ولم يتحول هذا الانتماء إلى ولاء غالب إلا عندما كانت تغيب أو تضعف المؤسسات والمرجعيات الوطنية ذات المصداقية والمعبرة عن تطلعات الفلسطينيين أينما كانوا. وقد شكلت العائلة والانتماءات العضوية الأخرى وسائل حماية وتكافل وتنشئة لنقل الثقافة والتراث في أصعب الظروف: فدفعت بأبنائها إلى التعليم، وشجعت على الانخراط في الكفاح الوطني، ومثّل لها ذلك مصدر افتخار واعتزاز. ساهمت الأعراف والتقاليد العائلية في سد الفراغ الناجم عن غياب القانون الفلسطيني.
مع نشوء السلطة، انقلبت الأوضاع رأساً على عقب. فالسلطة لم تشكل إطاراً يُسّهل ويواصل عملية الاندماج الوطني والسياسي، بل شكلت عائقاً، وحرّضت على توليد نزعات وولاءات عضوية على حساب الولاء الوطني. قدمت السلطة نموذجاً سيئاً، بما في ذلك تحريض ديناميات التفكيك، وليس عوامل البناء والاندماج. وربما وقع أكثر من ذلك، ففقدت مصداقيتها وشرعيتها في أن تكون حاملة للمشروع الوطني وأداة كفاح، وهو ما يفسر عودة العائلية من جهة وصعود الأصولية من جهة أخرى، وبروز شكل من أشكال التحالف/التواطؤ بين مختلف العضويات، حمل أسوأ ما فيها من مثالب ونواقص. فالعائلة التي تقوم على التراحم والتوادد تحولت إلى شكل من أشكال الهوية وتعريف الأنا والآخر من خلالها، وبالتالي تعميق نزعة الصراع والعنف والشقاق. وبالرغم من الطابع السلبي والضار للنزعة العائلية المتنامية، لم تسلم العائلة من محاولات التقويض والتدمير، أولاً، بوصفها أحد أهم ضمانات الوحدة الاجتماعية بمعناها الوجداني والنفسي، وثانياً، لأنها تمتلك منظومة أعراف تمكنها من ضبط العلاقات والسيطرة على المنازعات وحلها، وثالثاً، لكونها الشكل الأكثر انسجاماً مع الطبيعة الأساسية للمجتمع مجهض الحداثة ضعيف التمايز على أسس طبقية وسياسية تمثيلية. بدأت محاولات التقويض حين أُعطيت العائلة دوراً أكبر من حجمها، وحين اُستغلت في حشد المؤيدين والتابعين. تواصلت هذه المحاولات بتنشيط عوامل التفرقة والخلاف بين العائلات، وبإبراز قيادات ووجهاء من بين أفرادها دون كفاءة أو مهنية، وبتعظيم دور هؤلاء الوجهاء في مجمل القضايا العامة دون وجه حق. المحاولة الأكثر خطورة هي جر العائلة إلى أتون الصراع على السلطة، حتى باتت عائلات بكاملها تحسب على هذا التنظيم أو ذاك، مع ما يصاحب هذا الأمر من إضعاف المرجعيات العائلية الناظمة وتفتيت منظومة قيمها.

العنف: العنف ظاهرة تعبر عن أزمة عميقة تعكس العجز العام عن حل المشاكل المتراكمة ويشترك فيها الدولة والمجتمع والحكومة والناس بمختلف طبقاتهم، نظراً للتطورات العالمية الاجتماعية والعلمية والتكنولوجية التي تتيح مجال انتشارها وتوسعها. من الواضح أن العنف لا يرتبط بعقيدة بعينها، بل ينجم من الإخفاق في حل التناقضات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بالطرق السلمية. وهو ما يدفع الناس إلى تأويل عقائدهم الدينية والعلمانية تأويلات عنيفة.
عرف المجتمع الفلسطيني أشكالاً مختلفة من العنف، شأنه في ذلك شأن كل المجتمعات. تقول روز ماري صايغ في دراسة لها حول تحول الفلسطينيين من فلاحين إلى ثوار "إن تضامن القرية وتضامن عائلاتها لا يتناقضان، بل يرسخ بعضهما البعض، الخلافات والنزاعات كانت جزءاً من حياة القرية ولم تهددا أبداً تهديداً جدياً التعاون والتماسك الاجتماعي. إن الميل للنزاع، الأمر المرتبط بندرة الموارد، والذي تعززه المنافسة في سبيل الشرف والوجاهة، كان يوازيه سعي دائم للمصالحة" . ولكن العلاقة الأبرز بين الفلسطينيين وظاهرة العنف تمثلت في تعرضهم بما هم شعب وأفراد وثقافة إلى أبشع أنواع العنف المنظم؛ إنه العنف الذي استهدف ولازال تغييبهم تماماً من المشهد العالمي وحرمانهم من تطوير كيان وطني خاص بهم وطمس حقيقة أنهم شعب له حقوق وهوية خاصة تميزه.
ليس من الصعب ملاحظة أن العنف الذي يشهده المجتمع الفلسطيني اليوم، ووصوله إلى حد الاقتتال والصراع المسلح، يرتبط ارتباطاً وثيقاً، أولاً، بظاهرة العسكرة التي تحدثنا عنها آنفاً، وثانياً، بانتشار ثقافة الموت عبر عمليات التعبئة والتحريض، وثالثاً، بولادة جيل من الفلسطينيين (ما بعد الانتفاضة الأولى) لديه استعداد لاستخدام العنف في ظل عدوان إسرائيلي شرس وسلطة فلسطينية عجزت عن تقديم نموذج ناجح في الحكم والإدارة والأداء. فلم يكن غريباً أن تتراجع لدى هذا الجيل الروح المعنوية وتتدهور قيم التسامح والعمل الجماعي، وخصوصاً إذا ما أضفنا عاملاً آخر هو حرمان هذا الجيل من العمل ضمن حاضنات فلسطينية متواصلة، ومن فرص التطور الطبيعي في ظل الإغلاق والحصار والتردي الاقتصادي. رابعاً، ترتبط ظاهرة العنف وانتشاره بالطريقة التي أدار بها الفلسطينيون انتفاضتهم الثانية، من حيث تغليب الجانب العنيف والتعبئة العسكرية المفرطة، وطرح الشعارات غير العقلانية، مع ما صاحب ذلك من بروز تشكيلات شبه عسكرية تتنافس وتتقاتل فيما بينها، وتُسَّتخدم استخداماً سيئاً، تارة من قبل الأجهزة الأمنية، وتارة من قبل التنظيم السياسي، وتارة ثالثة من قبل العائلة.
يمكن الحدث باختصار عن ثلاثة أشكال من العنف في الحالة الفلسطينية الراهنة، متداخلة ومترابطة ويغذي بعضها البعض الآخر. الشكل الأول عنف انفجاري، ناجم عن الانهيار المتسارع للنظام الاجتماعي وخصوصاً النظام السياسي، وأبرز تعبيرات هذا الشكل الصراع المكشوف على السلطة، مع ما رافق ذلك أيضاً من انهيار المنظومة القيمية. بمعنى آخر، العنف هنا هو تعبير عن أزمة شرعية النظام بمجمله، أي تقبل أفراد المجتمع لهذا النظام وخضوعهم طوعاً له. الشكل الثاني هو العنف الارتدادي الناجم عن الإخفاق العام في تحقيق أهداف الانتفاضة الثانية مع ما رافقها من شحنة هائلة من الغضب والنقمة والرغبة في الانتقام. ويعبر هذا الشكل عن ذاته بصور عدة، أبرزها المبالغة في مظاهر القوة واستعراضها واستخدام القوة لتحقيق أغراض وأهداف أخرى. العنف هنا تعبير عن التشوش بين الهدف والوسيلة. الشكل الأخير هو العنف الأيديولوجي، أو العنف الذي يبحث له عن مسوغات في العقيدة. ويرتبط هذا الشكل بظاهرة سنتحدث عنها لاحقاً، هي انتشار الأصولية والفكر السلفي، على خلفية التردي العام في مجمل الحالة الفلسطينية، وتحت تأثير أحداث واتجاهات إقليمية أبرزها ما يحدث في العراق.
يمكن رد الأصولية في الحالة الفلسطينية إلى جذرين: الجذر الأول هو محاولة توظيف الدين لأغراض سياسية، وإلتماس وسائل تعبوية شديدة التأثير عبر نمذجة الشعارات في سياق يتسم بالتعقيد وفقدان البوصلة والتعرض لضغوط نفسية واجتماعية واقتصادية هائلة. يعود الجذر الثاني جزئياً إلى الميْل الذي يبدو مكوناً أساسياً من مكوّنات النفس البشرية، أي التردّد الطبيعي بين التقليد والتجديد، بين المحافظة والتحرّر، بين الإتباع والإبداع في مجتمع انتقالي يتعرض لمحاولات متواصلة للتدمير والتقويض. فالرغبة في التواصل مع الماضي تشكل أحد أوليات الدفاع عن الذات والهوية المهددة. وفي الوقت ذاته، فإرادة الحياة والتواصل مع الراهن تشكل أحد شروط التطور ويعطي الحياة بعدها التفاعلي. هذا الترنح بين الماضي والرغبة في استعادته وبين الحاضر وضرورات الحياة شكل دينامية وسمت إلى حد كبير التفكير والسلوك الفلسطيني على المستوى الفردي كما على مستوى الجماعة. وفي مضمار الفكر السياسي، جرى التعبير عن هذه الدينامية/الجدلية بالمراوحة بين التجريبية المفرطة من جهة وبين العدمية السياسية من جهة ثانية. ومن طبائع الأمور، أنه في مجتمع محافظ ستكون الغلبة بالتأكيد للأصولية الدينية على ما سواها من الأصوليات.
تجد الأصولية في المجتمع الفلسطيني ركائزها في ثلاثة أشياء: الشخصية الكاريزمية، والخطاب الأيديولوجي، وغياب النخب المدينية. فأما الكاريزمية فتعبير عن شخصية الأب في المجتمع الأبوي الذي يتحكم في مقاليد الأمور، وينصاع له بقية أفراد العائلة أو القبيلة أو التنظيم السياسي. وأما الخطاب الأيديولوجي، فهو صادر عن الأب أو منقول بواسطته، وبالتالي يجب تقبله دون نقاش. ينطوي هذا الخطاب على نمذجة تبسيطية ساذجة لأعقد القضايا والمسائل الكبرى التي أرقت العلماء والفقهاء والخبراء على مر الأزمان، وهو خطاب إطلاقي قاسٍ وحازمٌ ومحشوٌ باقتباسات دينية خارج سياقها النصي والتاريخي، يمتلك الحقيقة، ومن يجرؤ على نقده أو نقضه يقع في دائرة الكفر أو المروق أو الخروج على ولي الأمر. وأما الركيزة الثالثة، فهي غياب نخبة متقدمة وبروز نخبة متحكمة تصنع الزعيم وتقدسه، وتعيد إنتاج الخطاب بما يلائم مقتضى الحال وتشحنه بالدلالات اللازمة. نخبة سمتها الأساسية الهامشية. ليس غريباً أن الصهيونية استهدفت تدمير المدينة الفلسطينية، فالمدينة بفضائها العام تشكل حاضنة الحداثة، حاضنة المجتمع المدني وقيمه. غياب النخبة التي تفرزها ظروف متقدمة ومستقرة أفسح المجال لنخب برزت على هامش المدينة وعلى هامش الإنتاج وعلى هامش الكفاح الوطني الفعلي، أي على هامش الثقافة والسياسة معاً. في ظل تنامي تأثير قوى خارجية، تتحكم هذه النخب اليوم في إدارة الشأن الفلسطيني برمته.
غياب الثقافة والسياسة:
الفكرة القومية-كما يقول عزمي بشارة- هي نتاج توحيد المجتمع بتجاوز حدود الجماعات العضوية الأهلية والجهوية والقبلية نحو وحدة اجتماعية شاملة، وهي فكرة ثقافية وسياسية في آن. والمقصود بالثقافة هنا الثقافة المدنية، أي ثقافة المدينة، التي توحد الشخصية الثقافية لشعب بعينه، ومن معينها يمتح السياسي وهو يبني مشروعاً سياسياً. أجهضت الصهيونية مشروع المدينة الفلسطينية مرتين، وبتدميرها المدينة تم تدمير الحداثة الفلسطينية النامية. وبمعنى آخر، نجحت إسرائيل في تدمير الشرط الثقافي لقيام الكيانية، كما دمرت الشرط السياسي بعد أن استلبت الأرض واغتصبتها. ولا يمكن تفسير ما يحدث اليوم من ممارسات احتلالية وخصوصاً في الضفة الغربية إلا من هذه الزاوية. المفارقة أن السلوك الفلسطيني يشكل غطاءاً وتبريراً لهذه الممارسات، وأخطر من ذلك أن يقعد الفلسطيني عن المواجهة الجدية لهذه الممارسات. تغيب الثقافة والسياسة معاً في سلوك الفلسطينيين أفراداً وجماعة: الثقافة من حيث وظيفتها في إطار النسق الاجتماعي ككل، حيث يتم توحيد الأنساق الفرعية عن طريق توحيد الأنماط العقلية التي تحكمها وتغذيتها بقيم تجعل من النسق الاجتماعي نسيجاً واحداً قادراً على إعادة إنتاج نفسه بشكل متكامل في أي نقطة يتعرض فيها للفساد .
مع فشل السلطة الفلسطينية على أعتاب القرن الواحد والعشرين في المحافظة على طبيعتها كمشروع دولاني قيد التطور، لم تعد هذه السلطة تعبيراً عن مشروع مجتمعي سياسياً وثقافياً، والأهم أنها باتت أداة تغييبهما معاً. ولعل من المهم الإشارة هنا إلى أن اختفاء السياسة واضمحلال الثقافة شكلا معاً الأرضية الخصبة التي مكنت الإسرائيليين من تقويض السلطة وقطع الطريق عليها بما هي مشروع دولاني. ف"فتح" التي تولت عملية إنشاء السلطة وشكلت حكوماتها المتعاقبة إلى ما قبل فوز "حماس" في الانتخابات التشريعية الثانية مطلع عام 2006، عملت عن قصد وبدون قصد على إفراغ السلطة من مضمونها بوصفها مشروع بناء مجتمع جديد. بدورها تواجه "حماس" الفائزة في الانتخابات صعوبات في التكيف مع دورها الجديد، وفي الانتقال من عقلية التنظيم الحركي إلى عقلية التنظيم الدولاني، من المعارضة إلى السلطة، إلا أن وجودها داخل النظام كأحد أهم اللاعبين السياسيين أصبح حقيقة سياسية. وهذا هو ما يفسر الصراع المحتدم بين الطرفين على سلطة لم يعد لها معنى.
بدت مشكلة "حماس" و"فتح" ليس في ممارسة السياسة بمعناها المتداول، وإنما في عدم تعاطيهما مع السياسة بوصفها، في أبسط معانيها، التقرير العقلاني والمختار للغايات التي يقوم عليها الاجتماع المدني وتنظيم وسائل تحقيقها وتعيين الأهداف المشتركة. أخطأت "حماس" حين حاولت الخلط بين الأهداف الدينية والسياسية وبالتالي العجز عن التمييز، ثم الاختيار بين الوسائل والقواعد والتقنيات المختلفة. السياسة، في نهاية المطاف، لا تهدف إلى تغيير أفكار الناس واعتقاداتهم، ولكن رعاية مصالحهم. وإذا كان من الطبيعي استلهام القيم الدينية في العمل السياسي، فإن هذا الاستلهام سيؤدي إلى الفشل إذا ما اُعتبر وسيلةً لتحقيق شيء آخر غير رعاية المصالح البشرية. من جانبها، أخطأت "فتح" حين ضيعت السياسة وعيها الدقيق بموضوعها وغايتها ووسائلها، فعادت إلى ممارسة ما كانت قد تخلت عنه بقوة الواقع والتجربة وجرت وراء منافع ومصالح فئوية خافت أن تضيع في زحمة صراعها مع "حماس". منذ تشكيل السلطة الفلسطينية، تخبطت الحركتان في ممارسة السياسة بوصفها رعاية مصالح الناس، أولاً بالتركيز على مصالحهما هما وحدهما، ثانياً بالاستعاضة عن الرعاية الواجبة بالشعار المجرد. وفشلتا في السياسة بما هي وسيلة للتعامل مع عالم متعدد ومعقد، كما ترددتا كثيراً في ممارسة السياسة بوصفها وسيلة لإيجاد التسويات الضرورية للحفاظ على الوحدة الاجتماعية.
تبحث الهوية السياسية عن عناصر ارتكاز لها في الهوية الثقافية، وسرعان ما يقع حامل هذه الهوية الملتبسة والغامضة، فريسةَ الصراع بين الاتكاء على عنجهية الخطبة وبين المواجهة الفعلية مع عنجهية القوة، الانكفاء على الذات وضرورة إعادة مناقشة مكونات الذات، قوة التعبئة الناجمة عن الهوية الثقافية ومحدوديتها في تعبئة القوة في الحياة العملية.
وإذا كانت "فتح" وحكوماتها قد واجهت مأزقاً ناجماً عن هذه الهوية الملتبسة مع مشروعها وتاريخها، فدخلت في محنة طويلة ومهلكة بسبب من ذلك، فإن "حماس" وحكومتها واجهتا مأزقاً في علاقتهما مع العالم ناجماً أيضاً، ولكن بصورة معكوسة، عن هذه الهوية الملتبسة. وبهذا دخلت "حماس" ورطة عميقة أورثتها لمجمل الحالة الفلسطينية.
غابت الثقافة، فأين ذهب المثقفون؟
غابت الثقافة حين حلت الثقافة الشعبوية التي تقوم، كما يقول حسن خضر، على أوهام الكهف والمسرح والجنس والسوق، هذه الثقافة التي يعد الخروج عنها خروجاً عن الجماعة ونقدها خيانة للأمة. هذا بالإضافة إلى تنامي الفكر الأصولي والسلفي وتراجع العملية التعليمية وعودة الشعارات المنمذجة والإطلاقية في أجواء الموت والدمار. ومع غيابها، كان أكثر الناس حضوراً هو المثقف الغائب، أو المثقف الموظف، أو المثقف المتأفف، أو شبه المثقف. غابت الثقافة الناقدة والإبداعية وغاب المثقف الحقيقي.
ظهر مصطلح مثقف وجماعة المثقفين معاً في أواخر القرن التاسع عشر في أوروبا وروسيا. التجربة الروسية ملهمة ومضيئة في هذا المجال: قدمت الاسم والمناقشات المكثفة. انجذبت الإنتلجنسيا الروسية نحو الفوضوية والاشتراكية، وقد ميزت نفسها بثلاث سمات، بقوتها الأيديولوجية والسياسية؛ واغترابها عن الدولة وعدائها لها؛ وبإسقاط الدين من الاعتبار. وفي فرنسا أيضاً، ظهر المثقفون نقاداً للدولة والمجتمع. في هذه الأثناء، ولدت فكرة المثقف الملتزم كعضو في جماعة تتكون من الكتاب والفنانين وكل المشتغلين بالثقافة. المثقف الملتزم يقع خارج أبنية السلطة في المجتمع، ويعبر عن رأيه باسم مبادئ أخلاقية أو ثقافية عليا، دون اعتبار للحقائق الرسمية.
خلال القرن العشرين هاجر المثقفون إلى المؤسسات ليصيروا اختصاصيين ومهنيين. وظهر ما يعرف بالمثقف المحترف. أصبح المثقفون مرتبطين بأوضاع المؤسسات كما لم يحدث من قبل، فالمجتمع بات يتطلب إنتاجاً بالجملة لمهنيين مدربين تدريباً أكاديمياً.
في الوطن العربي، مع أفول نجم عصر رواد النهضة من المثقفين الكبار، ومع التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي رافقت ظهور الدولة العربية ما بعد الاستقلال، أعجب المثقفون بهذه الدولة التي فتحت أمامهم أبواب المناصب الإدارية التي سبق أن أغلقها الاستعمار، فقاموا بتوفير المستشارين والمخططين وإطارات التجنيد الجماعي التي كانت تحتاجها هذه الدولة لتسيير المجتمع، فكان لهم دور هام في سيرورة تغييب المجتمع المدني وتسلط الدولة على المجتمع. بذلك، ساهم هؤلاء المثقفون في تغييب دورهم الثقافي وفي فقدان سلطتهم الثقافية.
يمكن، بقليل من التعسف المنهجي، التأريخ لثلاث لحظات في حياة المثقف الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة: لحظة الانخراط في العمل السياسي، لحظة الانفضاض عنه، ولحظة الانتقال إلى المؤسسة. بطبيعة الحال، رافقت هذه اللحظات منظومات قيم متغيرة. كما يمكن الحديث عن ثلاثة أجيال منذ نصف قرن: جيل الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، هذا الذي تمثل أساساً في رجالات التعليم وبعض النشطاء السياسيين وبعض الكتاب والشعراء. جيل السبعينيات والثمانينيات، حيث برز المثقف العضوي الملتزم بالتنظيم السياسي والمكافح من أجل قضية عامة. في هذا الجيل، برز كذلك بعض المهنيين والمتخصصين من الأطباء والمحامين والمهندسين، ممن شكلوا روافد أساسية لمكونات الحركة الوطنية: النقابية والنسائية والتطوعية. أخيراً، جيل التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، جيل الموظفين الرسميين. من نتائج غياب الثقافة، ومن أسبابها أيضاً، إخلاء المثقف العلماني المستنير منابره لصالح الداعية الأصولي أو لصالح الموظف السلطوي أو وكلاء التنمية.

المساجد وعمليات التعبئة الاجتماعية:
لغوياً، لفظة مسجد اسم مكان يدل على المكان الذي يُسجد فيه، والسجود أحد أبرز أركان الصلاة. والآيات التي تناولت موضوع المساجد أكدت المعني من حيث هو مكان يذكر فيه اسم الله، ويسبح له في الغُدوّ والآصال أناسٌ لا تلهيهم تجارة ولا يشغلهم بيع. ولم يكن لأول بيت وضع للناس من وظيفة سوى العبادة والتأمل والاعتكاف. وبالنظر إلى التصميم العمراني للمسجد، بعيداً عن الزخرف والصنعة، نجد أنه بدأ بمكان نظيف مظلل بسعف نخيل، ومحراب ومكان مرتفع للأذان، ومنافع أخرى تعين المصلي على أداء صلاته، ما يدل على الغرض والوظيفة لهذا المكان دون عناء. لكن دور المسجد لم يقتصر على ذلك. فقد اكتسب المسجد في سياق التجربة الإسلامية في إدارة شؤون البلاد والعباد وظائف أخرى، طارئة وعابرة وجائزة، لكنها تاريخية بقدر واقعيتها، وليس من الصحة القول أنها حتمية، فتغير الأحوال والتطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والتقني اقتضى فصل وظائف عديدة عن المسجد.
هناك إذن تعيين أول للمسجد، بوصفه مكاناً للعبادة، وهو ينتمي بهذه الصفة إلى الحقل الخاص، والتعيين الثاني الناجم عن الأول بحكم الضرورة كفضاء اجتماعي سياسي ثقافي لمجرد اجتماع الناس للصلاة والعبادة، ويتجاوز بهذه الصفة الحقل الخاص ليدخل تخوم الحقل العام، وأيضاً كفضاء سياسي اجتماعي بحكم الصدفة التاريخية، يتسع ويضيق طبقاً لأحوال الأمة ومقتضيات أوضاعها ومتطلبات نهضتها أو مواجهتها لعوامل طارئة. ففي ظل الاحتلال استخدم المسجد لأغراض المقاومة، ولكن من غير المفهوم مثلاً استخدامه في عمليات التنافس السياسي أو الاقتتال الفصائلي أو التحريض ضد هذا التنظيم أو ذاك.
استخدم المسجد أيضاً في عمليات التعبئة والتنشئة الاجتماعية والثقافية والأخلاقية، ولكن لا يجوز سحب هذه الوظيفة دائماً من مؤسساتها الفعلية: الأسرة والمدرسة الحديثة التي تقوم على مناهج تربوية ونظم تعليمية تخضع لإشراف جهة محددة وتضمن التكامل والتناسق والانسجام، والمؤسسة المدنية المختصة بشأن من الشئون وغيرها. يمكن للمسجد أن يواصل دوره في بعض عمليات التثقيف الديني والأخلاقي، لكن بقاء المساجد خارج إطار وحدة حال الجماعة وإرادتها العامة وإجماعها، ووقوعه أسيراً لأهواء فئوية وأغراض حزبية يفسد هذا الدور أو يقلل من تأثيره.
صحيح أن عمارة المسجد أمر منصوص عليه. ولكن، علينا أن نفهم العمارة هنا بمدلولين. العمران المادي بمعنى التوسع؛ والعمران المعنوي إننا نقول إن البيوت عامرة بأهلها. وإذا كان العمران المعنوي يشترط المواظبة والطهارة، فإن للعمران المادي قواعد وشروط، أهمها، أولاً، البساطة وعدم التكلف بدون الإفراط في الزخرف والصنعة، ثانياً، إناطة الأمر بجهة واحدة، مكلفة بالتخطيط الحضري الذي يأخذ بعين الاعتبار الحاجات المادية والرمزية والروحية والاجتماعية للسكان، طبقاً لعددهم ومعدلات تزايدهم وتزايد هذه الحاجات. وثالثاً، إتباع قاعدة الأولويات والإمكانيات، فلا يجوز إنفاق الموارد المحدودة بطبعها في أمر دون آخر أو على حساب أمر آخر.
لا يستقيم المسجد بوظيفته الروحية مع فكرة التنوع والتعدد السياسي والثقافي، وبالتالي التنافس والتسابق، واللافت للنظر أن الأمة شهدت تنوعاً في مذاهبها، وبالتالي في مساجدها، لكنها لم تعرف التنوع داخل المسجد الواحد، الأمر الذي يُخشى معه طغيان وجهة نظر واحدة، متخذة مما للمسجد من قدسية. فإذا كان من الجائز أن نلوذ بالمساجد عندما تنحصر الفضاءات العامة وتضيق بفعل سلطان جائر أو احتلال غاشم، فندير أمورنا منه، فإنه لا يجوز أن يتحول الأمر إلى قاعدة في كل الأحوال مهما تبدلت الظروف وتغيرت. اليوم، يجري صراع سياسي بين فصائل سياسية، اتخذت من المساجد ساحة لبعض هذا الصراع، وفي تقديري أن هذا الأمر لا يجوز، فإما أن تتسع ساحة التنوع داخل المسجد الواحد، وإما أن يبقى المسجد مكان عبادة آمن بعيداً عن الخلافات التنظيمية والعائلية والسياسية، ويولى أمور المساجد من ينوب عن الجماعة، إدارة وإشرافاً وإنفاقاً. ولما كانت الولاية على المساجد لله، فهي تنسحب على الجماعة كلها، والجماعة هي التي تفوض وتنيب من يمثلها.
إذا لم يكن من الجائز بحكم التاريخ والتجربة الفصل بين السياسة والمكون الديني، فمن الممكن، على الأقل، الاتفاق على قواعد ناظمة ومبادئ حاكمة، دون أن نهدر البعد التاريخي ودون أن نوحد بين الفكر والدين. وفي ذلك، يجب الحرص على المكانة الأولى للمسجد ملاذاً آمناً ومكاناً للعبادة والسجود والتسبيح والتأمل، مع الاحتفاظ بدور مقنن وبإشراف من ذوي الاختصاص والمعرفة في مجال الدمج والتثقيف وبناء الهوية، بينما يمكن تطوير قنوات أخرى للتعبئة الاجتماعية والسياسية وللتنافس السياسي على السلطة أو لنقدها وتهذيبها ومعارضتها.
الشباب ومنظومة القيم
تمكن جيل الشباب الفلسطيني ما بعد النكبة من إيقاد نار الثورة وترميم شتات الهوية وبناء كيانية رمزية. وانشغل جيل الشباب ما بعد حزيران 1967 بإعادة تنظيم المجتمع وتعبئته ملتمساً من التعليم تعويضاً عن شحة الموارد، ومن العمل الطوعي والتنظيم الجماهيري وسيلة لتعبئة الطاقات وتفعيل المبادرات الفردية والجماعية، ومن التواصل مع العالم دعماً ومساندة وفضاءً لفضح الاحتلال وممارساته. الجيل الثالث من الشباب الفلسطيني يقع ضحية صراع القيم والمرجعيات الثقافية في مجتمع يتعرض للتحلل وديناميات التفكك الاجتماعي. فأمام العدوان الإسرائيلي المتواصل وانسداد أفق الحل السياسي العادل وتخبط القيادة الفلسطينية وفقدانها الرؤية والاستراتيجية، يميل الشباب أكثر فأكثر نحو العنف. تتراجع أهمية التعليم في سلم القيم الدافعة، وتزداد صور التهميش ومظاهره فيتحول الشباب إلى أدوات تسيرها قوى اجتماعية وسياسية لها أجندات مختلفة عن تلك التي يجب أن تكون للشباب. كما إن تدمير معظم البنى الإنتاجية ولّد عزوفاً لدى قطاع كبير من الشباب عن البحث عن فرص عمل منتجة، وجعلهم أكثر ميلاً للوظائف الحكومية وخصوصاً وظائف الأجهزة الأمنية. ومن الطبيعي أن يصاحب ذلك بروز قيم بعينها وانتشارها، كالكسل، والإتكالية، والعزوف عن الإبداع والابتكار. وبالرغم من انخراط الشباب الفاعل في حياة المجتمع، أو ما يبدو أنه انخراط فاعل، فإن الحقيقة تظهر كم يتعرضون إلى أبشع صور التهميش والاستبعاد والإقصاء.
تشير ظاهرة التهميش أو الإقصاء إلى مجموعة الأوضاع والعوامل التي تنقطع فيها الصلة بين الأفراد والجماعات من ناحية وانخراطهم في أنشطة المجتمع الواسع من ناحية أخرى. والمجموعة المهمشة، طبقاً لعلم الاجتماع، هي المجموعة التي تقع خارج التيار العام وتفتقر إلى صوت في المجتمع، وهي لا تحظى بالتمثيل السياسي أو الاجتماعي. إلى ذلك، فالتهميش يعني إقصاء الأفراد والمجموعات والأفكار نحو هامش المجتمع أو النقاش العام. في حالة التهميش الاقتصادي، يُفصل الأفراد والجماعات عن البنية الاقتصادية العامة للمجتمع من ناحيتي الإنتاج والاستهلاك (فقدان المشاركة في سوق العمل، الافتقار إلى القدرة على شراء السلع واستخدامها). أما التهميش السياسي فيشير إلى الحرمان من المشاركة في الأنشطة السياسية بما في ذلك اتخاذ القرارات. والنتيجة المباشرة إنتاج دائرة مفرغة تعزل فيها هموم الجماعة المهمشة عن التيارات الرئيسة للهموم والمطالب والتوقعات السائدة، وتُسقط فيها مشكلات هذه الجماعة من الأجندات السياسية لمنظمات العمل الاجتماعي والسياسي. وأما التهميش الاجتماعي فيتمثل في حرمان المهمشين من فرص الوصول إلى، والمشاركة في كثير من المرافق الاجتماعية التي تزود المجتمع بالخدمات المختلفة. يعود التهميش، في الأساس، إلى عوامل بنيوية خارجة عن إرادة الفرد أو الجماعة. ويحدث في بعض الحالات أن ينجم التهميش عن انعزال فرد أو فئة ما عن الانخراط في التيار العام للمجتمع. من النتائج المؤكدة للتهميش اللجوء للعنف كأسلوب للتعبير عن الذات. في سياق توليد التهميش، تسعى المؤسسة المسيطرة إلى ترويج أنماط قيم محددة، كما هو الحال إزاء الموقف من المرأة.
التهميش والعزلة عمليتان متضافرتان تتحكمان في علاقة الشباب بالنخب وتجعلانها علاقة تلقٍ سلبي وإملاء. النخبة تستخدم آليات إقصاء تحول دون مشاركة الشباب، والشباب يستمرئون الحالة فينكفئون على أنفسهم في عزلة واغتراب اجتماعي ونفسي تورثهم القلق وافتقاد الأمن وضعف التواصل مع الآخرين. يتولد عن ذلك بيئة مواتية للتطرف والاستقطاب الأعمى وإلغاء العقل والتحرك بأوامر عليا وباندفاعات غير محسوبة العواقب.
يمكن بسهولة تفسير عديد من الظواهر الناجمة عن هذا الوضع الغائم. فمن ارتفاع عدد الراغبين في الهجرة خصوصاً في أوساط الشباب المتعلم، إلى إقبال أعداد متزايدة منهم على المخدرات بأنواعها تعاطياً واتجاراً، ومن انتشار ظاهرة السرقة، إلى إتباع أشكال متعددة ومتفاوتة الخطورة من عمليات النصب والاحتيال. وبالإجمال، لا يجد الشباب الضائع ملاذاً غير الالتحاق بالأجهزة الأمنية أو الانتساب لميليشيا مسلحة، تعويضاً عن أمن مفقود وطلباً لقوة موهومة، وتأكيداً لذات مهزوزة، وبحثاً عن هوية غائمة الملامح. يمكن الاستنتاج بسهولة أن ثمة محاولات لتدمير العنصر الوحيد الذي يمكن التعويل عليه والاستناد إلى طاقاته والاستثمار في خبراته ومهاراته وحيويته. يتعرض الشباب الفلسطيني، شأنهم في ذلك شأن نظامهم برمته، وبالتالي مشروعهم التحرري والإنساني، إلى عملية سحق منظمة وقاسية، عملية تجري عبر الإمعان في تهميشهم وتجهيلهم ودفعهم إلى الرحيل الطوعي عن الوطن. ويتعرضون إلى أبشع أنواع المعاناة، هي المعاناة المتمثلة في وقوعهم ضحايا صراع مفتوح، لا معنى له، فتتمزق أرواحهم بين خيارين، إما أن يَقتلوا أو ُيقتلوا. الشباب في هذا الوضع هم ضحايا النموذج السلطوي وما انطوى عليه من فساد وإفساد، والمقاومة وما انطوت عليه من أخطاء وشحن عواطف واستنفار مشاعر ودفع أثمان باهظة في سياق من عزلة أشبه بعزلة المسجون، كذلك، هم ضحايا عالم متوتر ومتغير يأتيهم عبر فضاء تكنولوجي وتواصلي مفتوح من أقصي تقييدات الجسد والعقل إلى أكثر أشكال العري والتهتك ابتذالاً. إنهم، باختصار، جيل العزلة بامتياز. " فمعظم الشباب لـم يغادر مناطق سكناه في الـمخيم، أو في الأحياء الفقيرة، بحكم سياسة الإغلاق التي مورست منذ بداية التسعينيات. وهم يشاركون الجيل الأكبر الإحساس بخيبة الأمل تجاه السلطة الفلسطينية، لكنهم أقل منهم ميلاً إلى السياسة والانخراط في التنظيمات، والاهتمام بالسياسة الحزبية. وبالرغم من هذه الصفات فأنهم أكثر إحساساً باليأس، وإدراكاً لصعوبة الإفلات من قبضة الظروف الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية القاهرة. وبالتالي ليس لديهم ما يخسرونه من ناحية فعلية، لكن لديهم ما يربحونه بطريقة رمزية، يحققون من خلالها الجدارة والعرفان الاجتماعي ".
أصوات احتجاج خفيضة:
تجدر الإشارة إلى أن المجتمع الفلسطيني لم يقف، بالرغم كل ما أشرنا إليه من ظواهر الفلتان وديناميات التفكك، مكتوف الأيدي أمام ما يجري. فقد تحركت مؤسسات وأحزاب ولجان وأفراد بشكل عفوي ومنظم في محاولة منها لوقف التدهور والضغط على أصحاب القرار لاتخاذ الإجراءات والقرارات الكفيلة بذلك. بدأت المحاولات الأولى في عهود حكومات "فتح" المتعاقبة على مسار ما سمي لاحقاً بالإصلاح ومكافحة مظاهر الفساد والكف عن إهدار المال العام. ثم تشكلت لجان عمالية مستقلة للدفاع عن حقوق العمال العاطلين عن العمل جراء إغلاق المعابر ومنعهم من العمل داخل إسرائيل. كما بدأت تظهر إلى النور ملامح جنينية لحركة شبابية ضاغطة. واصلت المؤسسات الأهلية تقديم خدماتها العينية والتعبوية، بالرغم من اتجاه التمويل الخارجي نحو الانحسار والتركيز على النشاطات الإغاثية. هذا، وقد عقدت مؤتمرات وورش عمل عديدة لمناقشة الأوضاع المتردية وتقديم مقترحات للخروج من الأزمة. وأفضى بعض المحاولات إلى تشكيل ائتلافات ضاغطة تمحورت حول قضية معينة. كما لوحظ انخراط ممثلي القطاع الخاص في الفعاليات الجماهيرية الهادفة لوقف الفلتان وتدعيم السلم المجتمعي.
ربما لم يتحقق الهدف من وراء كل ذلك بالكامل. لكن التحركات الشعبية ساهمت في لجم حالة الاقتتال، وأسمعت أصحاب القرار صوتها، كما أبرزت جدوى مثل هذه النشاطات وأهميتها، وذكرت الجميع بحيوية المجتمع الفلسطيني على الرغم مما أصابه ويصيبه، وبقدرته على تجاوز الأزمة وإيجاد الحلول المناسبة. وهنا يمكن أن نشير إلى عدد من الملاحظات اللافتة وذات الدلالة:
1- لم تكن هذه التحركات بمجموعها على قدر كبير من التحدي، وقد جاءت متأخرة، أحياناً، وبدت، أحياناً أخرى، كأنها مجرد "رفع عتب". وفي ظروف بعينها، انخرط في هذه التحركات حتى أولئك الذين هم في موقع الاتهام والتسبب. ويبدو أن تقاليد العمل الجماعي وأسس الشراكة الحقة لم تتبلور بعد كما ينبغي. فمثلاً، في المؤتمرات الشعبية التي تنعقد ضد الفلتان يصر قادة التنظيمات جميعاً على إلقاء كلمة، فتبرز أصواتهم هم ويغيب صوت الناس العاديين، ضحايا الجوع والفقر وانعدام الأمن، أي أصحاب المصلحة الحقيقية.
2- غالباً ما تنتهي الفعالية ببيان ختامي أو تصريح صحفي أو تأجيل انعقاد الاجتماع التالي إلى أجل غير مسمى. لم يكتمل أي فعل حقيقي حتى النهاية. فعلى سبيل المثال، كان متوقعاً أن تستمر اللجان العمالية المستقلة في تصعيد احتجاجاتها حتى النهاية، لكن الجميع فوجئ بانتهاء بعض القائمين عليها إلى جمعية أهلية. وهذا هو ما حدث مع "حملة فلسطين أكبر منا جميعاً"، وائتلاف "نداء من أجل فلسطين" وغيرها.
3- معظم هذه الفعاليات لم يكن جماهيرياً حقاً، وكثير منها اعتمد أسلوب الحشد دون تعبئة حقيقية. القائمون عليها كانوا من نخب مؤسسات مجتمع مدني، أو قادة سياسيين، أو رجال أعمال معروفين تنتهي مهمتهم بانتهاء الفعالية، لتبدأ مباشرة محاولات كل طرف توظيفها لغرضه ومأربه. هذا، عدا عن أن عمليات التمايز الاجتماعي والاقتصادي غير مكتملة، فالعامل لا يشعر حقاً بأن مصلحته توجب عليه التقارب مع جمهور العمال الآخرين، لضعف الوعي الاجتماعي من جهة، وللنماذج السيئة التي أفقدت الناس الثقة في عمل كل المؤسسات والتنظيمات والنقابات.
4- لم تنجُ هذه الفعاليات والتحركات ذاتها مما قامت هي من أجل منعه أو وقفه أو الحيلولة دون انتشاره، وخصوصاً المحاصصة، والصراع الفصائلي، وتغليب الأجندات الفئوية والشخصية على حساب أجندة العمل الفعلية. هذا، إلى جانب تعرض بعض الفعاليات لمحاولات اختراق من خارجها، أو التشويش عليها، أو التشكيك في القائمين بها.
5- الافتقار إلى الرؤية السديدة حول الظاهرة أو القضية التي تتعاطى معها هذه الفعالية أو تلك. فالجميع يزعم أن الأمور واضحة ولا داعي للتحليل أو التفسير. وفي اليقين أن أسباب جزء كبير من الفشل تعود تحديداً إما لعدم وجود تحليل سليم وتشخيص علمي، وإما لاضطراب الرؤيات والتفسيرات المتعددة واتساع التباين بين القول والسلوك. على سبيل المثال، لا يمكن فهم اشتراك تنظيم سياسي في فعالية ضد العسكرة أو الفلتان الأمني فيما هو يسعى في الوقت ذاته بكل السبل والوسائل لتفريغ أكبر عدد ممكن من أعضائه في الأجهزة الأمنية، أو ينشئ ميليشيا مسلحة تتصارع مع نظيراتها، أو يرفض إعادة ترتيب استراتيجيات المقاومة ووسائلها ومرجعياتها الناظمة بما يخدم الهدف والمصلحة الوطنية.
فشل المأسسة:
يسجل للفلسطينيين ولعهم بإنشاء المؤسسات. ويفسر الأمر بنزوعهم نحو الكيانية، هذه التي تنطوي على جانب مؤسسي بالضرورة، وإيمانهم بالتعددية. ويسجل عليهم، في جميع المراحل، خروجهم عن المؤسسة، وتحويل مؤسساتهم إلى هياكل بلا مضمون، والإفراط في عملية البناء من النواحي التنظيمية والإدارية والشكلية عموماً دون كبير اهتمام بالمضمون والصلاحية ونطاق الاختصاص. فليس غريباً، على سبيل المثال، أن يحصل سبعة منهم على ترخيص لجمعية، ومقر لها. فإذا سألت أحدهم عن رسالة هذه الجمعية أو مجال عملها أو نطاق اختصاصها فنادراً ما ستحظى بإجابة مقنعة. تثبت التجربة أن كثرة المؤسسات وتعدد أسمائها لا يؤشر إلى تتقدم حقيقي أو نضوج ديمقراطي أو زيادة كفاءة وفعالية أو نجاح في تأمين خدمات وتسهيلات فعلية للجمهور. يرى الدكتور محمد عبد المعطي عساف أن الدول النامية تعجز عن بناء مؤسساتها السياسية وغير السياسية المختلفة، ولازال معظمها يعاني من عدم اكتمال التنظيم العام للدولة والتمزق البنيوي في إطارها. ويلاحظ هذا الكاتب المتخصص في شؤون التنمية أن المؤسسات التي تُبنى في هذه الدول تبدو من الناحية الهيكلية حديثة ومتطورة، لكنها من حيث المضمون ومن الناحية العملية تبقى عديمة الجدوى والفعالية لدرجة كبيرة، ويفسر عساف هذه المفارقة بعدم قدرة هذه المؤسسات على الاندماج المجتمعي، الأمر الذي يبرزها وكأنها لا تخدم أهدافاً عامة أصلا .
جاء في تقرير روكار، أن مأسسة الحقوق وإقامة حكم القانون وإيجاد نظام قضائي مجدٍ ومستقل وتمكين المجتمع المدني وتفعيل القطاع الخاص وتفويض السلطة والتأكيد على الاستقلالية المؤسساتية في كافة مناحي الإدارة العامة، تعتبر جزء لا يتجزأ من ممارسة حق تقرير مصير حقيقي للفلسطينيين. ويبدو أن الفلسطينيين لم يدركوا جيداً ما ينطوي عليه هذا القول من تحذير، فبقدر ما أنشأ الفلسطينيون مؤسسات من كل طراز ولون، بقدر ما اخترقت مظاهر اللامأسسة جميع مناحي حياتهم.
ساهم غياب المؤسسة الفعلية، من بين عوامل أخرى جرى الإشارة إليها، في تقويض المبنى العام للسلطة وفقدان هيبتها ووحدانيتها وقدرتها على فرض سيادة القانون. كما فقدت المؤسسات الوسيطة قدرتها على التمثيل والدفاع عن مصالح من تمثلهم، وتحولت إلى أدوات وقياداتها نخب بيروقراطية منتفعة من علاقتها الوظيفية بمراكز القرار في السلطة أو في الحزب السياسي. التنظيمات السياسية فقدت قدرتها على القيام بعملية التسييس الاجتماعي التي تضمن تنمية روح المواطنة بين أفراد المجتمع، كما فقدت القدرة على توكيد الروح العامة والحماس والالتزام للمصالح العامة ولمستلزمات البناء والتطور من خلال التعبئة النظرية ومن خلال التدريبات والممارسات التي تنظمها . ففقدت ثقة الناس فيها بانفضاضها عنهم واكتفت بالحضور الشكلاني في الأطر والمرجعيات العليا أو بممارسات كفاحية وهمية أو فعاليات مطلبية واجتماعية احتفالية.
وبضرب أحد أهم أركان الكيانية، المؤسسة الفاعلة، وبتحويل المؤسسات إلى ساحات للفساد واستقطاب الولاءات والصراع على مواقع النفوذ فيها، ضُرب المشروع الدولاني في الصميم. ليس هذا فحسب، فقد تعطلت إمكانيات المحاسبة والمساءلة، ولم يعد في متناول الجمهور أن يتلقى ما يحتاج إليه من خدمات بالمستوى المعقول. وبهذا، عاد الفرد إلى العائلة، الشكل الأول للتنظيم الاجتماعي، ملتمساً الحماية والخدمة وتأكيد الذات. باتت المؤسسة عائقاً جدياً أمام أي حل للأزمة، أولاً، لأنها لازالت أحد أهم مصادر المشاكل والمنازعات (كما يحدث على سبيل المثال في الصراع على المؤسسة الأمنية، حتى وهي عاجزة عن القيام بوظيفتها)، وثانياً، لأنها أعطت ولا تزال نموذجاً سيئاً للمواطن العادي، فلم يعد هذا راغباً في الانتساب إلى الأحزاب مثلاً، أو الانتساب لنقابة ما، بل بات عازفاً عن أي شكل من أشكال المشاركة العامة، وأخيراً، لأنها تشكل بالنسبة للمواطن المحبط والعاجز شماعةً لإخفاء عجزه، فمثلاً وجود أجهزة أمنية عطل بروز مبادرات مجتمعية لحماية الممتلكات الخاصة والعامة من السرقة أو التعدي، وهو ما كان يحدث قبل أن تنشأ لدينا العديد من المؤسسات الأمنية، وأكوام القمامة تنتشر بين الفينة والأخرى، فلا يحرك أحد ساكناً بوهم أن ثمة مؤسسة مطلوب منها القيام بهذه المهمة، وهكذا.

النظام التربوي والتعليمي:
وصف ناظر مدرسة أوضاع مدرسته حين باشر العمل فيها قبل بضعة سنوات وقال إنها كانت مما يرثى له، الأسوار التي يفترض أن تحجب المدرسة عن محيطها لم تكن موجودة، والمقاعد التي يفترض أن يستخدمها التلاميذ كانت محطمة. ونصف التلاميذ لم يكن يحضر إلى المدرسة في الوقت المحدد. وقال الناظر إن المعلمين كانوا كثيراً ما يتعرضون للإهانة ويشعرون بالعجز وقلة الحيلة. وقد اكتفى هو في يومه الأول في المدرسة بمراقبة ما يجري. ثم عقد اجتماعاً لطاقم التدريس وسأل الحاضرين: هل يمكن أن يعاد الاعتبار لكرامتهم، لهيبة المدرسة، وضمان انتظام الدراسة، وهل هم مستعدون للتجربة؟ وكان أن أبلغ الناظر الجديد التلاميذ أن منْ لا يحضر منهم إلى المدرسة قبل قرع الجرس الذي يؤذن ببدء العمل لن يسمح له بدخولها، ومنْ يحضر دون ارتداء الزي المدرسي سيتعرض للعقوبة ذاتها. فانتظم الحضور في الأيام التالية، وصار التلاميذ جميعهم يجيئون في الوقت المناسب. وشكل الناظر لجنة من التلاميذ لمساعدة الإدارة: "قمنا بحملة جمع تبرعات من المجتمع المحلي واستنفرنا جهود الوجهاء وقادة المجتمع، فلم يمض وقت طويل حتى استعادت المدرسة رونقها والعملية التعليمية جديتها، وفازت المدرسة في غير مسابقة على مستوى القطاع كله" .

يخرج عن اهتمام هذه الورقة البحث في النظام التربوي والتعليمي في ذاته، من حيث مكوناته ومشاكله وسبل النهوض به وتطويره. الورقة تبحث في النظام التربوي والتعليمي بوصفه منظومة فرعية من جملة المنظومات المكونة للنسق الاجتماعي الفلسطيني، بما يشمله من منظومات سياسية واقتصادية وثقافية وغيرها. وإذا كانت فرضية هذه الورقة تقوم على أن ديناميات التفكك تعمل على تدمير النسق الاجتماعي، فإنه يصبح من الضروري فحص مدى تأثير النظام التعليمي والتربوي وتأثره بما يحدث.
قلنا إن المشروع الفلسطيني هو مشروع بناء كيانية جديدة وتنمية هوية وطنية في سياق الرد على المشروع الصهيوني. ولذلك، احتل النظام التعليمي والتربوي مكانة مميزة في هذا المشروع وخصوصاً في إعادة بناء فلسفة شاملة للمجتمع الفلسطيني. يرى علماء التربية أن الدور الذي يمكن أن يقوم به النظام التربوي لبلورة فلسفة المجتمع ومن ثم العمل على تحقيقها يتم على مستويين: مستوى بلورة فلسفة للتربية تحدد المنطلقات والمفاهيم الأساسية؛ ومستوى تحديد مسارات وتوجهات تخضع لها جهات التنفيذ والقائمين على العملية التعليمية والتربوية، وهو ما يسمى بالسياسة التعليمية . وإذا كان من الممكن أن تتغير السياسة التعليمية من فترة إلى أخرى بتغير سلطة التعليم، فإن فلسفة التربية تتميز بثبات نسبي، ولا تتغير إلا بتغير النظام السياسي نفسه.
لا توجد في الحالة الفلسطينية فلسفة تربوية واضحة، ولا رؤية مجتمعية عامة وموحدة تشتق منها فلسفة للتربية، بل ثمة سلطات سياسية تتغير. ولذلك، خضعت السياسة التعليمية للتغير بين فترة وأخرى. وفي عهد السلطة الفلسطينية، تمت أبرز التغيرات في مرحلتين: مرحلة التأسيس حين تغير المنهاج في ظل حكومات "فتح"، ومرحلة إدارة العملية التعليمية من قبل الحكومة التي شكلتها "حماس". ولابد من التأكيد على أن العقبة الأبرز أمام وضع فلسفة تربوية فلسطينية كانت ولازالت تتمثل في الاحتلال، إذ كيف يمكن أن تتواكب الفلسفة التربوية للشعب الفلسطيني التي تبرز من خلالها شخصيتهُ وتتحدّد هويته وتتناسب وحاجاته، وتتحقق بها طموحاته وأهدافه، وتعبر عن أحلامه وأمانيه في تطوير مجتمعه وخدمة أمته مع وجود الاحتلال؟
اتفق الفلسطينيون بمختلف مشاربهم على أن كفاحهم يستهدف استعادة ما اغتصب من أرض، وإقامةَ كيان سياسي، والحفاظ على هويتهم وتنمية مكوناتها. لكنهم اختلفوا حول مساحة الأرض المغتصبة المأمول استعادتها، والوسائل، كما اختلفوا حول طبيعة الكيان السياسي الذي ينشدون بنائه، اختلفوا كلك حول مكونات هويتهم وعناصرها الرئيسة وبالتالي علاقتهم بالأنا والآخر. من هنا، يمكن فهم لماذا تغلب الجانب السياسي على مشروعهم، ليقتصر لاحقاً على وسائل تحقيق الأهداف الوطنية. وبالرغم من ذلك، أي من غياب رؤية مجتمعية متكاملة وموحدة، أدرك الفلسطينيون جميعاً أهمية الاستثمار في التعليم كرافعة لتمكينهم من الصمود والتقدم والمواجهة. ساهم التعليم ومؤسساته، وخصوصاً جامعات الأرض المحتلة، في استنهاض الهوية الوطنية وإعادة بنائها والدفاع عنها وإثرائها. وشكل التعليم استراتيجية استثمار في العنصر البشري بعد تدمير البنى الإنتاجية المختلفة في المجتمع الفلسطيني ما قبل النكبة، وإضعافها إلى حد كبير في مجتمع الضفة الغربية وقطاع غزة بعد عام 1967، وغيابها بالكامل في مخيمات اللجوء والشتات. إلى ذلك، لعب التعليم باحتلاله موقعاً متقدماً في سلم القيم دوراً في تعميق الإحساس بالتفوق والتمايز وشكل تعويضاً نفسياً عن حالة الضياع والتيه. وصارت المؤسسات التعليمية، والجامعات تحديداً، بمثابة حاضنات لبناء القيادات السياسية والجماهيرية والنقابية وتنميتها.


ملامح النظام التربوي والتعليمي وأبرز مشاكله في السنوات الأخيرة:
يتكون النظام التعليمي المدرسي في فلسطين من مراحل (التعليم قبل المدرسي، التعليم المدرسي). تشرف على التعليم ما قبل المدرسة (رياض الأطفال) مؤسسات أهلية أو أفراد من القطاع الخاص. ينقسم التعليم المدرسي إلى مرحلتين، مرحلة التعليم الأساسي/الإلزامي ومرحلة التعليم الثانوي (أكاديمي ومهني). ويشرف على التعليم المدرسي ثلاث جهات: وزارة التربية والتعليم؛ ووكالة غوث اللاجئين (الأونروا)؛ والقطاع الخاص. هناك زيادة مستمرة في أعداد التلاميذ، ترجع إلى سببين: ارتفاع معدل الخصوبة، والارتفاع في نسب الالتحاق بالتعليم. في سبعينيات القرن المنصرم، بلغت النسبة حوالي النصف فقط في المرحلة المتوسطة وحوالي الثلث في المرحلة العليا. أما الآن فالنسبة في المرحلة المتوسطة صارت شبه كاملة، وفي المرحلة العليا فاقت النصف. لذلك، يعتبر تحدي الحجم أحد التحديات الرئيسة التي تواجه التعليم لعقد كامل وربما أكثر. وتشير تقارير التنمية البشرية في فلسطين إلى أن عدد المدارس الذي يزداد حوالي مائة مدرسة سنوياً لن يتمكن من اللحاق بارتفاع عدد التلاميذ. من المشكلات المرتبطة بهذا السياق، الاكتظاظ، وقصر الفترة التعليمية الواحدة، والتسرب، وغير ذلك.
ولا يمكن الاستهانة بإنجازات التعليم العالي في فلسطين. فقد شكل إنشاء الجامعات في ظل الاحتلال تحدياً حقيقياً وفرصة لإثبات مقدرة الفلسطينيين وتخريج أعداد كبيرة جداً من الجامعيين من مختلف الاختصاصات زودت المجتمع، وخصوصاً عند إنشاء السلطة الفلسطينية، بالطاقات والخبرات اللازمة لمرحلة البناء. يشهد الإقبال على الالتحاق بالجامعات الفلسطينية تزايداً مضطرداً، من شأنه إذا ما استمر على هذا النحو أن يؤثر سلباً على نوعية التعليم العالي ومستواه. يشهد التعليم العالي في السنوات الأخيرة تدهوراً ملحوظاً. ولعل أبرز النقاط التي سنتوقف عندها في مكان آخر من هذه الورقة هي علاقة هذا التدهور بمجمل النظام الاجتماعي والأثر المتبادل بينهما.
من الإنجازات الرئيسة في حقل التعليم إعادةُ صياغة المناهج التدريسية وتطويرها بما يتناسب والخصوصية الفلسطينية ويواكب التطورات العلمية والتكنولوجية. تكّفل مركز تطوير المناهج الفلسطينية بهذه المهمة عبر مراحل. بدأ التطوير بوضع خطة لتطبق تدريجياً. وكان الابتداء بتطبيق الخطة على صفوف المرحلة الأساسية ومن ثم الانتهاء بتطبيقها بالكامل. من التطورات التربوية الهامة التي أدخلتها المناهج الجديدة ما يتعلق بتدريس اللغة الإنجليزية من الصف الأول الأساسي، وتدريس التكنولوجيا من الصف الخامس، وإدخال مواضيع الصحة والبيئة والتربية المدنية كمباحث مستقلة. وبالرغم من ذلك، فثمة انتقادات تركز على مضامين المناهج؛ من حيث قدرتها على تشجيع الإبداع والتفكير العلمي، ومن حيث حساسيتها للنوع الاجتماعي. ومن الانتقادات التقصير في إعادة تأهيل المدرسين بما يتناسب ومقتضيات هذه المناهج، إلى جانب انتقاد ضخامة حجمها وصعوبتها من وجهة نظر التلاميذ وأولياء أمورهم.
تعرض النظام التعليمي والعملية التعليمية في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى عوامل ومؤثرات عدة، كان لها نتائج سلبية كبيرة أضرت بجودة التعليم ودوره في المشروع الوطني. لعب الاحتلال الإسرائيلي دوراً كبيراً في ذلك. على سبيل المثال، كانت سلطات الاحتلال تلزم الإدارات التعليمية بمناهج لا تستقيم وضرورات بناء شخصية وطنية سوية. هذا، وألحقت الانتفاضة الأولى بالنظام التعليمي أضراراً جمة، حيث توقفت العملية التربوية والتعليمية لفترات طويلة. وكان عنف الاحتلال في قمع الانتفاضة سبباً في خلق أثار نفسية وثقافية بعيدة المدى. فبسبب الإضرابات والفعاليات الأخرى برز جيل لا يقيم وزناً للتعليم ويتمرد على كل القيم والمثل. إلى ذلك، عانى التعليم في عهد السلطة الفلسطينية من غياب الخطط، وعدم وضوح الرؤية، ومن قلة الموارد. وساهمت الانتفاضة الثانية وما نجم عنها من ظواهر التسييس والعسكرة وتغير سلم القيم، في الإضرار بالعملية التعليمية ومخرجاتها.
من الملاحظة المباشرة ومن نتائج لقاءات مع عدد من المدرسين وخبراء التربية وأولياء الأمور، يمكن تحديد المشاكل والصعوبات التالية: يبدأ العام المدرسي بالنقص الحاد في عدد المعلمين. وحين يجري توظيف معلمين جدد، تبدأ العملية متأخرة ويستغرق هؤلاء فترة طويلة في الإجراءات الإدارية، كالكمسيون الطبي وغيره، على حساب الحصص الدراسية. ينخرط المعلمون ونظار المدارس في عملية جمع التبرعات الإلزامية فيشعرون بأنهم محصلو ضرائب. وعند توزيع الكتب بعد تأخير قد يمتد إلى نهاية العام، يتوجب على المعلمين تحصيل أثمانها في ظل حالة الفقر الشديد والبطالة المتفشية في المجتمع. المعلم يشعر بالإحباط والخوف، ويعاني من تدني الراتب قياساً لمستوى المعيشة والأسعار المتداولة، فيضطر للعمل في مهنة أخرى قد تقلل من هيبته ووقاره في عيون طلابه وربما دفعه هذا إلى ممارسة أشكال من التحايل، كاستنفاذ أجازات الطوارئ دون مبرر، أو الحصول على تقارير طبية كاذبة، أو مقايضة الطلاب وإرغامهم على تلقي دروس خصوصية عنده. سياسة تعليمية غير واضحة، وسلطة تعليمية متبدلة بتبدل القوى في النظام السياسي، وخاضعة لتوجهاته ومرجعياته. إجازة يوم الخميس ضارة من الزاوية التربوية. وتخفيض عدد الحصص المقررة لبعض المواد لا يبرره ضيق الوقت وحده: وربما ليس صدفة على سبيل المثال إلغاء حكاية "الفيل يا ملك الزمان" و"خبز الفداء" من مقرر النثر في اللغة العربية، بما لهذه الحكايات من دلالة سياسة وتعبوية، وكذلك إلغاء الأسئلة الاستنتاجية التي تحض على التفكير والاجتهاد وغير ذلك. يضاف إلى هذا ممارسة سياسة الإقصاء الوظيفي على أسس سياسية وحزبية، وضعف دور أولياء الأمور، وتراجع السمة التشاركية وتضافر أطراف العملية التعليمية.
والآن سنتناول التعليم والنظام التعليمي في سياق التجربة الفلسطينية وتفاعله مع المنظومات الفرعية الأخرى، وتأثيره عليها وتأثره بها، منطلقين من حقيقة أن التعليم ساهم في مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني بوصفه أحد أهم مدخلات عمليات الاستنهاض والبناء في مجالات الاقتصاد والسياسة والتنمية كما في مجال الثقافة. حدث ذلك في أعقاب النكبة، حيث وجد الفلسطيني نفسه مضطراً للاستثمار في التعليم لأنه المورد الوحيد المتبقي له، بعد اقتلاعه وتشريده بعيداً عن وطنه وفقدانه موارده البيئية والمادية. المفارقة أن الدور الثوري الذي لعبه التعليم ما قبل نشوء السلطة بالرغم من قلة الإمكانيات وصعوبة الظروف وضعف المناهج وخضوعها لمرجعيات ليست فلسطينية سواء في مخيمات الشتات أو في الضفة الغربية وقطاع غزة، بدأ يخفت تدريجياً ويتراجع وتقل أهميته كوسيلة للحراك الاجتماعي واكتساب المكانة أو تحقيق الذات. وعلى مستوى النوعية، لم يتحقق أي تقدم ملموس أو جدي، وكذلك على مستوى تأثير التعليم في المجتمع، حيث راح التعليم يتأثر أكثر مما يؤثر، فتغلغلت فيه أمراض شتى، سيجري الحديث عنها لاحقاً، ومع استمرار هذه الحالة ُيخشى أن يتحول التعليم ومؤسساته إلى عامل مساعد في هدم ما تبقى من النظام الاجتماعي الفلسطيني.

تسييس التعليم: نحن لا نتحدث، هنا، عن عملية التسييس الاجتماعي الهادفة إلى تنمية الحس المدني وبناء المواطنة، إذ أن المقصود بتعبير تسييس، هنا، هو إدارة العملية التعليمية برمتها من منطلقات حزبية وفئوية، أي وضع التعليم ومؤسساته في خدمة التنظيم السياسي المهيمن والمسيطر. هذه ظاهرة ليست جديدة على كل حال، فالتعليم نشأ في بلادنا لتزويد الإدارة الاستعمارية بجيوش الموظفين. وفي الأنظمة القومية الراديكالية تحول التعليم إلى مصدر لشرعية خطاب هذه الأنظمة الأيديولوجي. مارست حكومات السلطة الفلسطينية المتعاقبة بصورة أو بأخرى هذه العملية، أولاً، من خلال التوظيف على أساس الولاء والانتماء؛ وثانياً، من خلال الترفيع على سلم الدرجات وفق القاعدة ذاتها؛ وثالثاً، من خلال الإجراءات والتوجيهات الإدارية اليومية وبعض القرارات التي لم تكن نابعة من ضرورة تربوية أو حاجة تطويرية لنظام التعليم؛ وأخيراً، بالتحكم بهذه الدرجة أو تلك في طبيعة المواد المقررة وطريقة تدريسها، حذفاً أو إهمالاً أو تشديداً.
مع إضراب المعلمين، يأخذ التسييس منحى خطيراً ومهدداً لمجمل النظام التربوي والتعليمي. فبالرغم من حق المعلمين في النضال لتحسين أوضاعهم الوظيفية خصوصاً في ظروف بالغة السوء، فإن اللجوء إلى الإضراب تحول إلى موضوع للخلاف السياسي والاستقطاب الفئوي والتحريض وسبباً لاستخدام العنف غير المبرر. تفيد الوثائق أن الإدارة التعليمية لم تلتزم ما وقعت عليه مع ممثلي اللجنة المطلبية للقوى الوطنية والإسلامية في تاريخ 6/9/2006، بينما التزمت اللجنة وقف الإضراب ثم فوجئت بإعطاء وكيل وزارة التربية والتعليم العالي إذناً بتسهيل مهمة جمعية نقابة المعلمين في تنسيب المدرسين داخل المدارس في كافة أرجاء الوطن بتاريخ 19/11/2006. وبالرغم من إصدار محكمة العدل العليا قراراً بمنع الجمعية المحسوبة على "حماس" من إجراء الانتخابات، فإن الجمعية والإدارة التعليمية كليهما غضتا الطرف عن هذا القرار. ويوم أعلنت الجمعية عن إضراب جديد للمعلمين، لم تعترض الإدارة التعليمية أيضاً، علماً بأن الإدارة ذاتها قد كالت التهم للمضربين بدعوة من الاتحاد العام للمعلمين الفلسطينيين، حتى أنها اتهمتهم بالعمل طبقاً لأجندة صهيونية أمريكية. وقد تم قمع المضربين بالضرب المباشر من قبل أفراد من القوة التنفيذية، أو بإحلال متطوعين من "حماس" محل المعلمين المضربين.
إن من شأن الخلط بين العمل النقابي ومشروعيته بما هو وسيلة للدفاع عن الحقوق والمصالح وبين الصراع السياسي الفئوي أن يضر بالأمرين معاً. ويصبح الأمر شديد الخطورة عندما ينتقل هذا الصراع غير المبرر إلى النظام التعليمي، فيعرضه للتفرقة والتمزيق وتضييع الجهد وفقدان الانضباط الإداري وتغليب الأهواء والأمزجة على مصلحة العملية التعليمية وأهدافها.
المظهر الأكثر خطورة للتسييس هو ما يجري في الجامعات أو بعضها؛ فعدا عن انقسامها من حيث التابعية والمرجعية بين الفرقاء السياسيين الأساسيين، أخذت مظاهر الفرقة تخترق الجامعة الواحدة. وتحولت بعض الجامعات في غزة إلى أهداف للتدمير والحرق أثناء المواجهات المسلحة التي شهدها قطاع غزة.

التعليم والعنف
إذا كان الاحتلال تكفل بالجزء الأهم في تدمير التعليم، خصوصاً في السنوات الأخيرة، عبر سياسة الإغلاق والحواجز والعدوان المستمر واستهداف البنية التحتية له، فإن ما يحدث اليوم من فوضى عارمة وصراع محموم على السلطة وغياب مرجعيات ناظمة إلى جانب الافتقار إلى الرؤية الموحدة، سيتكفل بالإجهاز التام على النظام التعليمي والتربوي. باتت معظم المدارس والجامعات ساحات للصراع الحزبي والنزاع العائلي وأماكن لترويج المخدرات. وكفّ كثير من التلاميذ والطلاب عن الإقبال على تلقي العلم والمعرفة واستعاضوا عنه بالانهماك في أنشطة وفعاليات أخرى ظنوا أنها توحدهم وتنمي مواهبهم وتصقل عقولهم. حدث هذا لقلة الموارد وضعف التجهيزات تارة، وبسبب الأوضاع الأمنية المتردية تارة، وبتأثير إضراب المعلمين تارة أخرى، وبسبب تدخل الأجهزة الأمنية والتنظيمات السياسية في النظام التعليمي بوسائل وطرق شتى في كل الأحوال.
تتجسد مظاهر العنف في المدارس، أولاً في علاقة الطلاب بعضهم ببعض، وثانياً في علاقة المعلم بطلابه، وثالثاًً في علاقة الإدارة العليا بالإدارات المدرسية، وأخيراً في علاقة المجتمع بالنظام التعليمي بالمجمل. ويأخذ العنف أشكالاً متعددة مادية ومعنوية: الاعتداء بالضرب، استخدام السلاح، الإقصاء الوظيفي، الإهانة والسب، التنافس والاستقطاب التناحريان بين التنظيمات داخل المدارس، نقص التجهيزات وضعف الأنشطة الترويحية، وغير ذلك. وبالرغم من تعدد الاجتهادات حول أسباب العنف في المدارس، فإن الواقع يقول إن هذا العنف، شأنه في ذلك شأن العنف العائلي، هو امتداد وتجسيد لأشكال العنف الثلاثة التي تحدثنا عنها سابقاً (الانفجاري والارتدادي والأيديولوجي)، والفارق بين الحالتين، أن التلاميذ يشكلون تربة خصبة لحالة الاستقطاب أو التجييش أو الاندفاع لممارسة العنف لأسباب منها التغيرات الفسيولوجية المصاحبة لسن المراهقة، ومنها الافتقاد للحنان الأسري، ومنها العلاقة الأبوية السائدة في النظام التعليمي الهرمي، وبروز نزعة التمرد والرغبة في موت الأب وممارسة ذلك فعلاً بصورة أو بأخرى، إذا ما توفرت الظروف المناسبة (الفوضى العامة، التحلل القيمي، تراجع هيبة المعلم..إلخ). فعملية التلقين أو ما يسميه بعض خبراء التربية بالنظام البنكي لا تمارس إلا من خلال علاقة تسلطية: سلطة المعلم التي لا تناقش "هذه العلاقة اللاعقلانية تعزز النظرة الانفعالية للعالم، لأنها تمنع الطالب من التمرس بالسيطرة على شؤونه ومصيره" . وحينما تتاح لهذا الطالب فرصة الاستقواء أو الإحساس بالقوة التي يوفرها له التشديد على الانتماء للعائلة أو لتنظيم سياسي أو ميليشيا مسلحة، كما هو حاصل اليوم، تنقلب العلاقة التسلطية في الاتجاه العكسي، أي تتحول نحو قهر المعلم وإخضاعه.
ترتبط هذه العلاقة العكسية وتتعزز، خصوصاً خضوع المعلم، بسياقات اجتماعية واقتصادية أخرى. فقلة الراتب تدفع الكثير من المعلمين إما للدروس الخصوصية أو للعمل سائقاً لسيارة أجرة، مما يفقده هيبته أمام تلميذه. وأيضاً، تسييس النظام التعليمي، بالمعنى الفئوي، يدفع المدرسين للحذر في التعامل مع الطلاب المنتمين لهذا التنظيم أو ذاك.
تكتمل دائرة إنتاج العنف وممارسته حينما يجري تصدير خريجين غير مؤهلين وغير أسوياء وقليلي المعرفة النقدية والقدرات التحليلية في غياب النموذج والقدوة القيادية، للمجتمع وللسياسة، في مقابل تصدير المجتمع لأسباب العنف ومظاهره إلى المدرسة والجامعة.
العلاقة بين الأكاديميا ورسم السياسات العامة:
لعبت الجامعات ودور العلم عموماً أدواراً ملحوظة في الكفاح الوطني من أجل الاستقلال في الكثير من دول العالم الثالث، كما ساهمت في نقاش قضايا عديدة كالتحديث والتنمية والديمقراطية والعولمة، وضخت في شرايين المجتمعات آلاف من المهنيين والمتخصصين وحملة الشهادات الجامعية في مختلف مناحي العلم والمعرفة والتكنولوجيا، وهو ما كان له أثر بعيد على مسيرة التطور والتنمية والاستقلال. ومع بروز الدولة القطرية، لعب المثقفون والأكاديميون وأساتذة الجامعات دوراً حيوياً في الدفاع عنها وفي التنظير لها وفي تزويدها بالخبرات والمعارف والرؤى المجتمعية. لكن سرعان ما انقلبت الدولة على مجمل عناصر المجتمع المدني، ومن بينها الجامعات ودور العلم ومراكز البحث. فتراجع دور الجامعات إلى داخل أسوارها. وتعرض أساتذة كبار إلى ملاحقات أمنية وصلت حد الفصل والاعتقال. وسيطرت مناخات غير نقدية سواء على مناهج التدريس وموضوعاته أو على العلاقة بين أطراف العمل الأكاديمي، وبينهم وبين من هم خارج حدوده. والجامعات في بلدان العالم النامي تعاني من شح الموارد وضآلة التمويل الذي تقدمه لها الحكومات، في ظل مواجهة تحديات التوسع وتنويع التخصصات وضرورات استخدام التكنولوجيا الحديثة مع تزايد عدد الطلاب.
في بلادنا، حدث الشيء ذاته، مع اختلاف ناجم عن اختلاف في الظروف. وبقدر ما كانت الجامعات الفلسطينية معاقل للكفاح الوطني، ساهمت في ترسيخ رؤى وسياسات وتوجهات عديدة في مسيرة التطور المجتمعي: من ذلك العملُ الطوعي، وتعزيز المبادرات الجماعية، والمساهمة في التطوير المفاهيمي للتنمية في الحالة الفلسطينية، والمساهمة في بلورة سيناريوهات سياسية واقتصادية تلائم الوضع الفلسطيني خصوصاً بعد نشوء السلطة الفلسطينية، وطرح صياغات وتقديم استشارات ذات طبيعة مهنية وفنية في قضايا البيئة والمياه والقانون والبنية التحتية والاقتصاد والتجارة والمأسسة والإصلاح، وغير ذلك كثير. وكان لبعض الجامعات تأثير أيديولوجي وقيمي واضح وخصوصاً في إنتاج منظومات سلوكية ومفاهيمية تخدم اتجاهات سياسية وأيديولوجية معينة، بعضها أصبح جزءاً من منظومة المعايير المعتمدة للانتساب أو الحصول على الشهادة. تتسم الجامعات الفلسطينية بدرجة أو بأخرى بحداثة العهد وغياب الرؤية وانعدام السياسات وضعف الاستقلالية وقلة الإنفاق بسبب التوسع الكمي، وأخيراً بضعف العلاقة بالمجتمع. ويرى خبراء تربويون أن بقاء بعضها على ما هي عليه بات يشكل خطراً على المجتمع أكثر مما يشكل وسيلة لتمكينه من حل أزماته.
عمليات صنع السياسات هي بالضرورة عمليات تنطوي على فكرة الصراع المرتبطة بالندرة، والمرتبطة بتعارض المصالح. والعاملون في الحقل الأكاديمي غالباً ما ينأون بأنفسهم عن عمليات الصراع الاجتماعي بوهم الحياد أو الموضوعية. بينما نتائج أبحاثهم يجري في الغالب توظيفها من قبل السلطات الرسمية، وأحياناً المؤسسات الدولية، بغض النظر عن درجة تلاؤمها مع حاجات المجتمع وفئاته الضعيفة تحديداً ومتطلباتها. هناك ثلاثة مستويات للعلاقة بين الأكاديمي وصنع السياسات في بلادنا:
1- مستوى أكاديميين أفراد، منخرطين في أطر ومؤسسات سياسية ومدنية خارج أسوار الجامعة، انتقلوا من المنظور التقني للعلم والمعرفة إلى المنظور السياسي، وبذلك قدموا إسهامات مميزة في مجمل قضايا الشأن العام الفلسطيني.
2- مستوى أكاديميين أفراد وبعض الهيئات، جرى استقطابهم خارج حدود الجامعة، فاجتذبوا إلى الاشتغال مقابل أجر على أبحاث ودراسات واستشارات في حقول عدة، كالبيئة والبنية التحتية والتدريب. وقلما يهتم هؤلاء بتطوير الأجندات الوطنية والمجتمعية، فهم بالتالي أقرب لتوجهات الممول منهم لاحتياجات المجتمع.
3- مستوى مؤسسات بحثية، وأقسام جامعية، وربما كليات ومعاهد، راحت تنخرط في عمل أكاديمي أدائي، من قياس الرأي العام إلى وضع التصميمات الهندسية ودراسات الجدوى الاقتصادية، ومن الانشغال بالموضوعات النظرية المجردة إلى الإسهام العملي والفاعل في صياغة الخطط الوطنية والسياسات العامة.

تمكين النساء الفلسطينيات:
اعتقد المفكر الفلسطيني الراحل هشام شرابي أن الخروج من أزمة المجتمعات العربية يكمن في قيام الحركات الاجتماعية بتجسيد خطاب النقد الحضاري في نشاطاتها وأهدافها وممارساتها، وفي تبني المحاور التالية لمشروعها السياسي: الحداثة، الديمقراطية، تحرير المرأة. وشدد شرابي على دور المجتمع المدني دون الإقلال من أهمية دور الدولة. وإلى حد ما، جاءت تقارير التنمية البشرية العربية لتؤكد مدى الحاجة لتطوير أنظمة الحكم وتأكيد الحرية كضامن أساسي، على قاعدة بناء مجتمعات ديمقراطية حقيقية، ولبناء مجتمع المعرفة، أي الحداثة، بمضامينها العقلية والعلمية، وتحرير المرأة وتمكينها من حقوقها وإدماجها بصورة كاملة وعلى قدم المساواة مع الرجل في كافة مناحي حياة المجتمع.
في الحالة الفلسطينية، تشكل هذه المحاور روافع أساسية واستراتيجيات لا بديل عنها لاستنهاض مجمل الحالة في مواجهة خطرين: الخطر الأول الذي مثلته الحركة الصهيونية ولازالت من حيث سعيها الدؤوب نحو بناء دولة يهودية خالصة على أرض فلسطين. والخطر الثاني يتمثل في تراجع قدرة الفلسطينيين على مواجهة الخطر الأول. استندت المواجهة، أولاً على الاستمرار في الوجود المادي للفلسطينيين على أرضهم أو على ما تبقى من أجزاء منها ومنع أي محاولة أخرى لطردهم منها، وثانياً على محاولة ترميم ما تبقى من مجتمع وإعادة بنائه كقاعدة ضرورية لقيام كيان سياسي مستقل لهم وتطوير هوية خاصة بهم.
بالرغم من ظروف الحرمان والتمييز والتهميش الذي عاشتها النساء الفلسطينيات في كل المراحل، ولأسباب سيأتي بيانها لاحقاً، ساهمت النساء بفعالية لا تقل عن مساهمة الرجال في تعزيز شروط مواجهة الخطرين معاً. وتبدو التعبيرات الشائعة حول المرأة المناضلة والشهيدة والمعتقلة قاصرة عن بيان جوانب المساهمة الحقيقية للنساء في مواجهة محاولات الاقتلاع والتشتيت. فالمرأة الفلسطينية، حافظت من خلال اضطلاعها بعمليات التنشئة الاجتماعية، على دوام الثقافة الفلسطينية بوصفها أنماطاً من طرق العيش والسلوك والتفكير، ونقلت جوانب كثيرة من الموروث الشعبي المتمثل في الأمثال والحكايا والمشغولات، كما شكلت ملاذاً دافئاً بالرغم من كل أشكال القمع والخوف والملاحقة لأطفال مذعورين، ولرجال مطاردين. في الانتفاضة الأولى، كانت النساء تخبئ راشقي الحجارة تحت أثوابهن الفضفاضة وفي أيام منع التجوال ولياليه كانت النساء يقطعن وحشة الوقت ويعوضن غياب الزوج والولد بقص الحكايا على الأطفال همساً في زوايا البيوت المعتمة. وفي مجال الاقتصاد المنزلي، الذي شكل أحد استراتيجيات الصمود ومواجهة الفقر وضيق أسباب العيش، تولت المرأة الإدارة والإشراف والتنفيذ والتوزيع والبيع وتحمل معظم جوانب المسؤولية.
لم يقتصر دور النساء في مسيرة الكفاح الوطني وفي القلب منها محاولة بناء مجتمع جديد، على دور إعادة الإنتاج، بل إنهن تعدينه إلى الأدوار الأخرى بكفاءة عالية وبجدارة فاقت جدارة الرجل في مجالات عدة، كالتعليم على سبيل المثال. انخرطت المرأة في حياة مجتمعها، وتعاطت مع القضايا العامة، وشاركت في محطات الكفاح والبناء بجهود كبيرة، فحققت إنجازات عديدة أبرزها الإقرار الوطني العام بدورها وبحقوقها وبمساواتها وبجدارتها كما جسدته وثيقة الاستقلال. الانجاز الثاني هو بروز حركة نسوية نشطة تضم جمعيات واتحادات وأطر نسائية مختلفة. هذه الأطر تعنى بقضايا النساء وبتمثيل مصالحهن والدفاع عن حقوقهن، وتؤّمن حاضنات لبناء الوعي وتنسيق الجهد على طريق بناء مجتمع ديمقراطي متعدد يرفض التمييز على أساس النوع الاجتماعي ويكفل الحريات لجميع مواطنيه. الانجاز الثالث تحقيق مكاسب جزئية هنا وهناك، على سبيل المثال إقرار حصة إلزامية للنساء في المجلس التشريعي والمجالس البلدية، وزيادة نسبة الالتحاق بالتعليم في كافة مستوياته، والانخراط في عالم العمل والإبداع، وغيرها كثير.
ومع كل ذلك، فالنساء في بلادنا مازلن بالإجمال ضحايا مجتمع أبوي وبطريركي. وضحايا ثقافة ذكورية مهيمنة، وضحايا نظام يقوم على الاستبعاد والتهميش. والأهم من كل هذا، أن الانجازات التي تحققت لصالح النساء يجري تهديدها اليوم في إطار حالة التفكك التي يشهدها الوضع الفلسطيني بشكل عام.

حال المرأة الفلسطينية
يمكن أن نرصد أبرز المكتسبات والإنجازات التي تحققت للنساء، فيما يلي:
1- تزايد الاهتمام بتعزيز دور المرأة الفلسطينية في الحياة العامة وفي تنمية المجتمع، وتشكيل أطر نسوية تعنى بقضايا النساء والدفاع عن حقوقهن والعمل على تمكينهن سياسياً واجتماعياً واقتصادياً
2- إعلان الاستقلال المتضمن التأكيد على مبدأ المساواة وإنصاف النساء الفلسطينيات. ثم إقرار قانون الانتخابات البلدية والمحلية متضمناً كوتة نسائية لا تقل عن 20%
3- تظهير قضية العنف ضد النساء والانتقال بها من الحيز الخاص إلى الحيز العام، واتخاذ الإجراءات والتدابير المؤسسية والقانونية المناسبة للتعامل مع هذه القضية.
4- مكتسبات قانونية تمثلت في المادة الثانية من قانون العمل، القاضية بتكافؤ فرص العمل دون تمييز، وكذلك قانون الخدمة المدنية وحقوق المعاقين والتعليم العالي والأحوال المدنية.
5- تحقيق تقدم كبير في مجال التعليم، حيث تضاعفت نسبة التعليم بين النساء ثمانية أضعاف خلال العقود الأربعة الأخيرة. إلى ذلك، طرأ تحسن ملحوظ على مكانة المرأة في المجتمع وانخراطها في مجالات العمل الرسمي والأهلي والخاص.
6- إقرار الاستراتيجية الوطنية للمرأة الفلسطينية، بما يتلاءم مع المواثيق والعهود والاتفاقيات الدولية المتعلقة بالنساء.
أما المؤشرات المتصلة بحقل التنمية البشرية في الحقل النسوي فيمكن رصد تجلياتها فيما يلي:
في مجال الصحة: تؤثر الظروف المادية في وضع المرأة الصحي. ويميل المجتمع لتصنيف النساء وفقاً للطبقة الاجتماعية أو لمكانة أزواجهن، مما يعطي صورة مشوهة عن أوضاعهن الصحية. قد تسهم بعض العوامل البيولوجية في الفجوة الصحية بين الجنسين، إلا أن ذلك لا يفسر جميع الفوارق. تنجم أنماط الصحة في كثير من جوانبها عن عوامل اجتماعية وشروط مادية مختلفة (الفقر، العمل المنزلي، وأعباء رعاية الأطفال التي تزيد الضغط النفسي وتورث النساء الأمراض)، هذا بالإضافة إلى تأثير ممارسات الاحتلال في النواحي النفسية والصحية للأطفال وللنساء كما للرجال على حد سواء. تزيد نسبة الخصوبة بين الفلسطينيات عن أي دولة في العالم، فهي تبلغ تقريباً 6,34%. ومما لاشك فيه أن الحمل والإنجاب المتكرر يؤثران على صحة المرأة وفرصها في تطوير نفسها وشخصيتها. هذا، إلى جانب الضرر الصحي والنفسي الناجم عن ممارسة العنف ضد النساء (العنف الأسري، أو العنف المجتمعي المتمثل في حالة الفلتان والاقتتال الداخلي)
في مجال التعليم: حققت الفلسطينيات قفزة في مجال التعليم ذكرنا آنفاً بعض تجلياتها، وخصوصاً في الفترة ما بعد قيام السلطة الفلسطينية. فقد تقلصت الفجوة بين الجنسين في نسبة الأمية، واختفت هذه الفجوة تماماً في نسبة الالتحاق بمرحلتي التعليم الأساسي والثانوي. كما تشير المعطيات المختلفة إلى تقلص الفجوة بين الجنسين في نسب الالتحاق بالجامعات والكليات المتوسطة. غير أن نسب التسرب من المدارس في نهاية المرحلة الأساسية تزيد بين الإناث عن الذكور (تفضيل تعليم الولد، الزواج المبكر،..إلخ). هذا، ويميل النظام التعليمي ومناهجه في المراحل الابتدائية والثانوية عموماً إلى ترسيخ جوانب التفاوت واللامساواة، ولاسيما في مجال رسم أدوار وتقديم صور للمرأة لا تتفق ومبادئ المساواة بين الجنسين بالرغم من التفوق الواضح للإناث على الذكور.
في مجال العمل: تاريخياً، حدث الفصل بين النشاط الإنتاجي والبيتي مع تطور الصناعة الحديثة، كما حدث الفصل بين المجال الخاص والعام مع التطورات السياسية. وقد أدى هذا وذاك إلى استئثار الرجال بالعمل خارج المنزل، وارتباط النساء بالعمل البيتي. بعد الحرب العالمية الثانية، تزايدت أعداد النساء المنخرطات في سوق العمل (الضغوط والمسؤوليات الاقتصادية الأسرية، ارتفاع تكلفة المعيشة اليومية، الرغبة في تحقيق الاستقلال الشخصي،..إلخ). ولقد أصبح العمل خارج المنزل بالنسبة للنساء القضيةَ المركزية وأحدَ أهم مستلزمات تحقيق الاستقلال والمساواة في المجتمع. وتتعرض النساء عموماً إلى الفصل المهني على مستويين: مستوى عمودي حيث يتم التركيز على المهن الوسطى والمتدنية في التراتب المهني بعيداً عن مراكز وضع السياسات واتخاذ القرارات. ومستوى أفقي، حيث ينصب التركيز على الوظائف التي تتطلب مهارات أقل وتخصص أقل. هذا، ولا تعود أنماط العمل للنساء في كافة المجتمعات إلى خيارات النساء أنفسهن بالضرورة، بل كثيراً ما تتحكم فيها الترتيبات والمعايير الاجتماعية.
فلسطينياً، تعتبر نسبة مشاركة النساء في القوى العاملة متدنية، فهي لا تتجاوز 12%، وتزداد نسبة المشاركة بزيادة السنوات الدراسية (أي بدرجة التعليم). وينحصر عمل النساء في قطاع الخدمات على الأغلب. فهذا القطاع ضم حوالي 55% من إجمالي النساء العاملات عام 2006 على سبيل المثال. وتظهر البيانات المختلفة وجود فجوة واسعة في الأجور بين الجنسين. تلعب عدة عوامل كمحددات لعمل المرأة في القطاع المنظم (ضعف الصناعة والزراعة، عوامل ثقافية واجتماعية، مستوى التعليم..إلخ). ولذلك، يعتبر العمل غير الرسمي أكثر الخيارات المتاحة بالنسبة للمرأة الفلسطينية. هذا، وتعاني النساء من فجوة كبيرة في فرص التدريب المهني ومجالاته .
في مجال المشاركة السياسية: بينما لم تمثل المرأة أبداً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، فقد تراوحت نسبة مشاركتها في المجلس المركزي حتى عام 1994 ما بين 2% إلى 5,7%. وقد تشكل الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية ليعكس التقدير العام لدورها، دون أن يتحول هذا التقدير إلى وعي وممارسة جدية تجاه تعزيز المشاركة السياسية للفلسطينيات. وحدث الشيء ذاته في الأحزاب والتنظيمات، إذ تشكلت هنا دوائر خاصة بالنساء، دون أن يتحسن مستوى مشاركتها في عمليات اتخاذ القرار وتمثيلها في الهيئات القيادية لهذه الأحزاب. فازت خمس نساء في انتخابات المجلس التشريعي الأول، ثم ارتفع العدد إلى سبع عشرة في المجلس الثاني، الحالي. وقد ارتفع معدل مشاركة المرأة في الوظيفة العامة فبلغ 30% من مجموع الوظائف و15% من الوظائف الإدارية العليا .
السياق المجتمعي لتمكين المرأة الفلسطينية اليوم:
بالإجمال لا يمكن اعتبار السياق الفلسطيني الراهن بمثابة بيئة تمكينية ملائمة ليس فقط بالنسبة للنساء وإنما لجموع الفلسطينيين وخصوصاً في الضفة الغربية وقطاع غزة. فالاحتلال وممارساته المتواصلة من جهة، والتفكك الاجتماعي والسياسي من جهة ثانية يعملان على تسريع وتائر الإضعاف والانكشاف للمرأة ولبقية الفئات الاجتماعية. اكتسب مفهوم التمكين في السياق الفلسطيني مضموناً تحررياً بالأساس، فالحرية شرط التنمية الأول وغايتها الأسمى. وبالنسبة للمسألة النسوية أضيفت مضامين أخرى له كالتمكين السياسي والاقتصادي وغير ذلك.
لمصطلح "التمكين" معان ودلالات متعددة بتعدد السياقات. وثمة مصطلحات قريبة من حيث المعنى يجري تداولها في أدبيات التنمية، التقوية الذاتية، التحكم، الاختيار الشخصي، القدرة على النضال من أجل حقوق الفرد، الاستقلالية، الاستقواء، الاعتماد على الذات، وغير ذلك كثير. والتمكين، كما تظهر هذه الأدبيات يكون على المستوى الفردي كما على المستوى الجمعي، وله أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية، ويستخدم لتوصيف العلاقات داخل الأسرة والمؤسسة والمجتمع، كما يستخدم بالمقدار ذاته لتوصيف العلاقة بين الفقراء والفاعلين الآخرين على المستوى الكوني. ولا يخفى على المتابع أن مفهوم التمكين صار مفهوماً مركزياً في الخطاب والممارسة التنموية خلال التسعينيات من القرن العشرين. كما لا يخفى أن جل الأدبيات التي تصدت لمعالجة هذا المفهوم اتفقت على أمرين: الأول أنه معقد وشامل ومتداخل وبالتالي يصعب الإمساك به وتتبع مستوياته وحفرياته وعملياته، لأنه يتسع لتفسيرات وتأويلات متنوعة. والثاني أن محاولات تحديد المفهوم تتطلب البدء بفحص وفهم فكرة القوة أو القدرة والتركيز على توظيفها وتوزيعها لفهم التحولات والعمليات الاجتماعية. التمكين من منظور القوة عبارة عن عمليات مستمرة من المقاومات والتحديات من قبل المجموعات الأقل قوة أو القطاعات المهمشة وهو ما يؤدي إلى إحداث تغيير في درجات الاستحواذ على القوة. وهو لا يعالج النتائج السلبية الناجمة عن التسلط والهيمنة فقط، بل يستهدف، أيضاً، تغيير طبيعة القوى النظامية التي تعمل على الإقصاء والتهميش والظلم وتبديل اتجاهها، أي أنه تغيير شامل في علاقات القوة.
البنية الثقافية والمجتمعية:
تشير الأحداث الجارية في بلادنا اليوم إلى تصاعد الفكر الأصولي وتناميه وتحوله إلى ممارسات. ومع هذا التنامي، تزداد البنية الثقافية والمجتمعية ذكورة وبطريركية وأبوية، وتصبح النساء، جسداً وروحاً، حقل الاستهداف الأول لهذه الاتجاهات والممارسات، لتصل حد القتل كما حدث في قطاع غزة في ظروف غامضة وملتبسة.
البطريركية تتضمن نسقاً من البنى والممارسات الاجتماعية يقوم الرجال فيه بإخضاع النساء وقمعهن واستغلالهن وممارسة التمييز ضدهن: على مستوى الأسرة (العنف الذكوري المعبر عن درجة كبيرة من الإحباط الناجم عن تردي الأوضاع العامة، دفع النساء إلى العمل في أي مجال ليغطين حاجات الأسرة في ظل بطالة الزوج ورفضه القيام بأعمال تقبل بها المرأة مضطرة..إلخ). وعلى مستوى العمل، يُمارس إقصاء النساء عن أنواع معينة من العمل، أو دفع أجور أقل لهن، وما يفاقم ذلك عدم دفع الرواتب والاستغناء عن عمل النساء في ظل البطالة المرتفعة، وامتهان كرامتهن مقابل عوائد مادية...إلخ). وعلى مستوى المؤسسات الثقافية (وسائل الإعلام، الدين، التربية ..إلخ) تتجسد البطريركية في مجموعة من الممارسات التي تعيد إنتاج نماذج المرأة وأدوارها بالشكل الذي ترغبه النزعة البطريركية. وإذا كان الرجل يستحوذ على السلطة داخل الأسرة كلية، فإن البطريركية العامة تضع حدوداً صارمة تفصل النساء عن الثروة والقوة والمكانة.
انتشار ثقافة الموت واندلاع موجات العنف والاقتتال عززا من هيمنة الذكورة بشكل لافت. وأمام الإحساس بالعجز الذي يتملك الرجال فاقدي القدرة على السيطرة والتحكم في زمام كثير من القضايا والفشل في تحقيق الأهداف، يميل الرجل إلى تأكيد رجولته بزيادة جرعة التسلط على جسد المرأة وفضائها، ويمارس أبشع أشكال العنف عليها. يمتهن المسكونون بهذه الميول والنزعات كرامة النساء ويسحقون إنسانيتهن. وتزيد نزعات التسلط الذكوري من تعرضهن وانكشافهن، وتُستهدف منجزاتهن بالتدمير، وتنسف أي فرصة لتمكينهن وإدماجهن وتعزيز مشاركتهن في العملية الكفاحية والتنموية على حد سواء.
البنية السياسية والقانونية:
مع التفكك السياسي واندلاع العنف بكافة أشكاله، ينهار النظام، وتفقد الحكومة شرعيتها وفعاليتها، وتنخفض الروح المعنوية المدنية. توقفت المؤسسة التشريعية بعيد الانتخابات مباشرة، فلم تجتمع سوى أربع مرات، ثلاثاً منها ذوات طابع بروتوكولي. لا يمارس المجلس وظائفه في التشريع والرقابة. وكذلك تعطلت مؤسسة القضاء، فتعرضت سيادة القانون إلى ضربات قاتلة. والمؤسسة التنفيذية، الأمنية والمدنية، عاجزة ومنقسمة وغير قادرة على القيام بوظائفها بالشكل المطلوب.
النساء في مثل هذه الحالة هن أكثر ضحايا التفكك السياسي وانعدام سيادة القانون وانتشار العنف. وهذا الأمر لا يحتاج إلى برهان. فالشواهد تقول إن المرأة أكثر عرضة من غيرها في حالة انعدام الأمن في الحقلين الخاص والعام، باعتبارها، وفق الثقافة السائدة،كائناً ضعيفاً. والمرأة تخسر أكثر من أي فئة اجتماعية في غياب القانون وتراجع مستوى المشاركة السياسية وتغليب المصالح الفئوية لهذا التنظيم أو ذاك.

البنية الاقتصادية:
لن نتحدث عن الإحصائيات التي تشير إلى انهيار الاقتصاد الفلسطيني ومدى الضرر الناجم خلال الأعوام الأخيرة عن تدمير البنية الإنتاجية واستهداف القطاع الزراعي ومن ثم فرض الحصار الاقتصادي والمالي وبروز مشكلة الرواتب. كما لن نتحدث عن نسب الفقر والبطالة. فهذه أمور باتت معروفة للجميع، وتشهد بها التقارير المحلية والدولية على حد سواء. ويمكن الاكتفاء بالإشارة إلى أن من بين نتائج الفقر على الأسرة الفلسطينية الميل نحو إعادة إنتاج علاقات القوة والتحكم في الموارد القليلة لصالح الرجال. ومن مظاهر ذلك، توقيف البنات عن التعليم بحجة الوضع الاقتصادي والأمني الصعب، وإرغامهن على الزواج المبكر بدعوى توفير الستر والحماية لهن، وممارسة أشكال التمييز داخل الأسرة، في المصروف اليومي ووجبات الطعام، وشراء الملابس. الظاهرة الأسوأ تتمثل في دفع النساء للعمل في مجالات، يعد العمل فيها، عملاً متدنياً أو قذراً من منظور اجتماعي أو اقتصادي أو أخلاقي.
تشير بعض الدراسات إلى أن عبء التكيف مع الفقر يقع بالأساس على النساء. فتقليل المصروف ينعكس عليهن أكثر مما على الرجال، واستهلاك المدخرات أو بيع الممتلكات يطال ما يعود لهن قبل أن يطال ما يعود للرجال (بيع حلي المرأة مثلاً). كما تتعرض النساء إلى مزيد من الأعباء الناجمة عن تربية الدواجن مثلاً أو زراعة مساحات خلف المنازل. وتتأثر المرأة أكثر من أفراد الأسرة الآخرين من تقليل الوجبات التي تتبعها الأسرة في مواجهة الفقر. وتعرض الاستدانة والبحث عن أماكن المساعدات ومصادرها النساءَ لذل السؤال، وامتهان الكرامة، وأحياناً الابتزاز والمس بالعفة.

توصيات ختامية:
ليست هذه توصيات بالمعنى المألوف، فهي غير موجهة لجهة بعينها، بل هي اقتراحات ومسارات معينة، أو تأملات مكثفة في قضايا محددة، في ضوء كل ما سبق تناوله من موضوعات. مسارات تقوم على قناعة لدى كاتبها بأن التحدي الذي يواجهه الفلسطينيون يتمثل في إنقاذ ما تبقى من مجتمع ليتم، إن أمكن، إنقاذ ما تبقى من المشروع الوطني.
المسار الأول:
مواجهة ثلاثة مهمات رئيسة :
1- التمسك بمكسب وحدة شعبنا الذي تحقق عبر نضالات طويلة وتضحيات جسيمة، بوصفه شعباً له حقوق سياسية يعترف بها المجتمع الدولي وفي مقدمتها حقه في الحرية والاستقلال. وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير بوصفها الممثل والعنوان، يشكل الشرط الضروري لذلك. على ألا يتم إصلاح المنظمة وإعادة بنائها على شاكلة ما جرى بخصوص السلطة وحكومتها (محاصصة من جهة وتفريغها من جوهرها ووظيفتها من جهة ثانية)
2- الاقتناع بأن المعركة مع الصهيونية لا تزال طويلة، وأن موازين القوى الراهنة لا توفر إمكان التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية يضمن شروط العدل الممكن. هذا الأمر يفرض علينا مواصلة النضال بأساليب ووسائل كفاحية يتفهمها الرأي العام الدولي وتتيح مشاركة أوسع قطاعات شعبنا في هذا النضال.
3- أن نعمل داخل الكيان الفلسطيني الذي يتخلق بصعوبة في الضفة الغربية وقطاع غزة ويتعرض للاندثار في هذه الآونة، من أجل قيام دولة ومجتمع حديثين. هذه المهمة تقع بالضرورة على عاتق القوى الديمقراطية والعلمانية الفلسطينية التي عليها أن تبادر إلى طرح مشروعها المجتمعي المتمايز عن مشروع "فتح" ومشروع "حماس" وبحيث يطاول كل القضايا المجتمعية، من الطبيعة الديمقراطية للنظام السياسي إلى الطبيعة العصرية لقانون الأحوال الشخصية.

المسار الثاني:
تغيير اتجاه الضغط على المؤسسة المتهالكة باتجاه الذات الحائرة. إعادة بناء الوعي وتشكيل تحالف بين الناس ذوي المصلحة الحقيقية في وقت التردي، وخوض عمليات التعبئة الاجتماعية الحقيقية. استعادة الثقة في الذات وبناء تيار الوعي. تعزيز التضامن بين الشرائح والفئات ذات المصلحة. عدم التعويل على المؤسسة بأشكالها واستثناء: المنظمة والعائلة ومؤسسات التربية والتعليم والصحة. وجود المؤسسة أصبح عائقاً: فهي التي تنتج معظم المشاكل، وهي عاجزة عن القيام بوظائفها لأسباب ذاتية وموضوعية، وهي تقدم نموذجاً فاسداً للعقد وللعمل الجماعي المنظم، وأخيراً لأنها تحولت إلى شماعة أو شيطان للرجم، ما يلجم الفعل الحقيقي الهادف للتغيير.

المسار الثالث:
السعي نحو تشكيل مجلس أعلى للتعليم يتبنى فلسفة تربوية تقوم على مركزية الفرد، وعلى أن المعرفة الحديثة قوة، الموقف النقدي، إعلاء قيمة الحوار، أسبقية الإبداع، بناء روح التحدي، تكافؤ الفرص التعليمية، النمو المتكامل للإنسان، الانفتاح والإيجابية، تكريس المنهج العلمي، تعزيز التطلع للمستقبل. والأهم ارتباط العملية التعليمية واشتقاقها من فلسفة عامة للمجتمع الفلسطيني تقوم على بناء دولة مستقلة ونظام سياسي ديمقراطي تعددي. والأهم أيضاً حماية التعليم والمنظومة التعليمية من تأثيرات الصراع الفئوي والاحتراب الداخلي وتنامي النزاعات العائلية. الحاجة إلى ثورة مفاهيمية ومؤسساتية وإدارية وتربوية لتغيير الوضع وتحسينه.

المسار الرابع:
تبني ما جاء في تقرير التنمية البشرية العربية الأخير من استراتيجية نهوض المرأة، والمكونة من جناحين: الإصلاح المجتمعي المطلوب؛ وحركة مجتمعية قادرة على إنجاز مهمة النهوض. وكنقطة انطلاق، يقتضي النهوض بأوضاع النساء أولاً إتاحة الفرص الحقيقية والكاملة لجميع النساء لاكتساب القدرات البشرية، الصحة والمعرفة تحديداً، وثانياً، إتاحة الفرصة الكاملة للمساهمة الفعالة في جميع صنوف النشاط البشري، خارج نطاق العائلة، وعلى قدم المساواة مع نظرائهن الرجال. من المفيد اعتبار هذا المسار جزءاً من المشروع الديمقراطي العلماني المقترح في مواجهة مشروعي "حماس" و"فتح". وربما من المفيد، أيضاً، التذكير بأن المحافظة على المكتسبات والإنجازات المتحققة لصالح النساء عبر نضالات طويلة، ينبغي أن تحتل سلم الأولوية أمام القوى المرشحة لحمل المشروع الديمقراطي البديل.





#تيسير_محيسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إنقاذ غزة: ممَ وممن وكيف؟
- بعد عام على تشكيلها: حكومة حماس بين الفكر والممارسة
- حكومة حماس بين الإغاثة والتنمية
- آفاق التحولات البنيوية في النظام السياسي الفلسطيني
- الإصلاح المؤسساتي
- علاقة المسرح بالمجتمع المدني في الضفة الغربية وقطاع غزة
- في مواجهة خطة شارون: استحقاقات فلسطينية عاجلة وآجلة
- في العمل مع الشباب: التنشيط الاجتماعي والثقافي


المزيد.....




- رحلة -ملك العملات المشفرة-، من -الملياردير الأسطورة- إلى مئة ...
- قتلى في هجوم إسرائيلي على حلب
- مجلس الشعب السوري يرفع الحصانة القانونية عن أحد نوابه تمهيدا ...
- تحذير عسكري إسرائيلي: إذا لم ينضم الحريديم للجيش فإن إسرائيل ...
- السفير الروسي ردا على بايدن: بوتين لم يطلق أي تصريحات مهينة ...
- بالفيديو.. صواريخ -حزب الله- اللبناني تضرب قوة عسكرية إسرائي ...
- وزير الدفاع الكندي يشكو من نفاد مخزون بلاده من الذخيرة بسبب ...
- مصر.. خطاب هام للرئيس السيسي بخصوص الفترة المقبلة يوم الثلاث ...
- -أضاف ابناً وهميا سعوديا-.. القضاء الكويتي يحكم بحبس مواطن 3 ...
- -تلغراف- تكشف وجود متطرفين يقاتلون إلى جانب قوات كييف وتفاصي ...


المزيد.....

- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ
- أهم الأحداث في تاريخ البشرية عموماً والأحداث التي تخص فلسطين ... / غازي الصوراني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - تيسير محيسن - النظام الاجتماعي الفلسطيني: جدل التحول والتفكك - رؤية تحليلية