أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - تيسير محيسن - بعد عام على تشكيلها: حكومة حماس بين الفكر والممارسة















المزيد.....



بعد عام على تشكيلها: حكومة حماس بين الفكر والممارسة


تيسير محيسن

الحوار المتمدن-العدد: 1928 - 2007 / 5 / 27 - 11:15
المحور: القضية الفلسطينية
    


مقدمة
شهدت الفترة التي تلت فوز حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في الانتخابات التشريعية الفلسطينية يناير 2005 ومن ثم تشكيلها الحكومة العاشرة للسلطة الفلسطينية، وحتى توقيع اتفاق مكة بين حركتي حماس وفتح برعاية سعودية تدهوراً كبيراً في الوضع الفلسطيني ناجماً عن استمرار العدوان الإسرائيلي وعن فرض الحصار المالي والاقتصادي من ناحية، وعن احتدام الصراع بين الحركتين على السلطة وصل حد اندلاع اقتتال دموي أودى بحياة العشرات من الفلسطينيين ووضع مجمل الحالة الفلسطينية على حافة الهاوية من ناحية أخرى. وبتقديم إسماعيل هنية، رئيس الوزراء الفلسطيني، استقالة حكومته يوم الخميس 15 فبراير 2007، واستلامه كتاب التكليف بتشكيل الحكومة الحادية عشرة، تُطوى صفحة الحكومة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس طوال عام تقريباً. هذه الورقة عبارة عن قراءة نقدية في سلوك حركة حماس وحكومتها تجاه عدد من القضايا الأساسية؛ المسألة الوطنية الفلسطينية، إدارة الحكم والمجتمع، الهوية الوطنية (جدل الأنا والآخر). والسؤال الأساسي، هو إلى أي مدى نجحت حماس في تقديم تجربة متميزة في السياسة والحكم والإدارة، ضمن المحددات والشروط والملابسات التي تحكم الحالة الفلسطينية؟ وهل تملك الحركة نموذجاً مسبقاً، وما هي منطلقاته الفكرية ومرجعياته النظرية؟ وإن كانت لا تملك مثل هذا النموذج، فكيف تُفسر سلوكها السياسي والاجتماعي؟ وثمة سؤال آخر: علام يؤشر قبول حماس بتشكيل حكومة وحدة وطنية ببرنامج توافقي وعلى أساس وثيقة الوفاق الوطني؟

نشأة الحركات الإسلامية: محاولة للتفسير
في تسعينيات القرن العشرين ساد اعتقاد بأن الحركات الإسلامية بجناحيها المعتدل والمتطرف تعيش حالة انكفاء وتراجع وحتى أفول. استند هذا الاعتقاد إلى حقيقة أن الحركات السياسية الإسلامية لم تصل إلى السلطة، وحين وصلتها عجزت عن الاحتفاظ بها أو إحكام القبضة عليها، ربما باستثناء الحالة الإيرانية. اليوم، يبدو هذا الاعتقاد قاصراً عن فهم النجاحات التي يحققها التيار المعتدل في الحركات الإسلامية، بما في ذلك نجاح بعض أطرافها في الانتخابات البرلمانية ووصول أطراف أخرى إلى سدة الحكم.
ثمة العديد من النظريات والأطر التي تحاول تفسير نشأة حركات الإسلام السياسي ومن ثم تطورها وتزايد جماهيريتها ووصول بعضها إلى السلطة. تتمحور هذه النظريات والأطر حول سؤال جوهري يتعلق بطبيعة هذه الحركات وأهدافها الفعلية، وعما إذا كانت حركات اجتماعية تمتلك برنامجاً شاملاً للتغيير أم أنها مجرد حركات احتجاج سياسي، وعما إذا كانت حركات دينية بالأساس أم أنها تستخدم الدين لأغراضها ومآربها السياسية.
تتبنى معظم مكونات الإسلام السياسي إطاراً تفسيرياً لنشأتها وطبيعتها ودورها، يقوم على فكرة إحياء الدين، والصحوة الإسلامية، واعتبار الإسلام دين ودنيا، وأن الخروج من الأزمة التي تعصف بالمجتمعات الإسلامية لا يتأتى إلا بالعودة إلى صحيح الدين وبالتمسك بشعار "الإسلام هو الحل" وهو ما نجد مقدماته في كتابات حسن البنا، مؤسس حركة الإخوان المسلمين "منذ أن تخلت الأمم الشرقية عن تعاليم الإسلام وأحلت محلها تعاليم أخرى اعتقاداً منها أنها تصلح شؤونها، مذاك نراها تتخبط في معارج الضلال وتعاني مرارات الفشل، وهي قد دفعت غالياً ثمن هذا الانحراف من كرامتها وأخلاقها وكبريائها وإداراتها" .
يصف أرنست جلنر الأصولية الإسلامية بأنها بسيطة للغاية، مفعمة بالقوة، عملية وأحياناً قاسية واستحواذية. وهي حركة محصنة اجتماعياً وتعطي معنى اتجاه وتوجه لملايين المسلمين والمسلمات، الذين يعيش معظمهم في فقر مرير ويتعرضون للاضطهاد الفظ، تمكنهم من التكيف من خلال تحديد وتماه مع الثقافة العليا القديمة ضمن العقيدة، وتشرح أسباب حرمانهم وبؤسهم كعقاب لانحرافهم عن الطريق الصحيح .
كان الإصلاحيون الأوائل قد رأوا، في معرض الرد على الحداثة الغربية، أنه يمكن محاكاة الغرب والإقتداء به، بينما تبنى التيار التجديدي فكرة إنشاء حداثة خاصة بالإسلام، ليس فقط كدين إنما كحضارة. مع حسن البنا وقيام تنظيم الإخوان المسلمين، قادت الحركات السياسية الإسلامية رؤية التجديديين إلى أقصى حدود منطقها: إنكار الحداثة الغربية ووضع بديل لها؛ حداثة إسلامية تؤسس الدولة على الإسلام، وهو نموذج يرسو على قواعد شديدة الوضوح: تربية متماشية مع الإسلام، قوانين مستمدة منه، وإدارة تستند إليه حصراً .
يقدم برهان غليون أطروحة مفادها أن مشكلة المجتمعات الإسلامية لا تتمثل في السلطة الثيوقراطية، وإنما في وجود السلطة التسلطية المطلقة الفردية (الأوتوقراطية). ويرى أن هيمنة هذا النموذج قد خلَفت التفسير الأحادي للدين بما يخدم حاجات تسيير الدولة وتشريع السياسة. وحول نشأة الحركات الإسلامية يقول غليون أن الإسلام كدين يمتلك تراثاً حياً، قابلاً لأن يفسر من قبل القوى الاجتماعية والسياسية حسب أوضاعها وتطلعاتها. ويرى أن هذه الحركات تتبنى أهدافاً تقع في صلب الصراع الاجتماعي، أي التحكم في سلطة الدولة وتوزيع الثروة والسياسات الثقافية المتعلقة بتحديد الهوية ومن ورائها بالخيارات الاستراتيجية ونمط القيم السائدة، والسياسات الوطنية والحريات العامة وغيرها. وهي، بناء على ذلك، حركات معارضة بالمعنى الحديث للكلمة .
يتفق مع هذه الرؤية كل من جهاد عودة وفرانسوا بورجا، فعودة يرى أن هذه الحركات هي حركات سياسية تعبر عن كل من يؤمن بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية ويعمل من أجلها سواء من خلال النظام السياسي أو في مواجهته . ويعتقد بورجا أن وظيفة الإسلام السياسي لا تنحصر في إعادة الصلة بالتراث المحلي، إذ يتزايد استخدامه وسيلة للتعبير ليس عن الاحباطات الخاصة بالهوية فحسب، بل للتعبير أيضاً وبطريقة أوسع عن الاحباطات الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية لدى الطبقات الوسطى التي تعاني من سلطة الحاكم كما تعاني من الفشل النسبي الناجم عن السياسات الاقتصادية .
يذهب رضوان السيد مذهباً آخر في رؤيته للحركات الإسلامية، فهو يرى أنها لا تسلك مسلك المعارضة السياسية التي تريد أن تصل السلطة من أجل الإصلاح، بل تسلك مسلك المخلص والمنقذ، ليس للمجتمع بل للدين. ويوضح السيد فكرته بالتشديد على أن هذه الحركات هي حركات إحيائية، ليس لها طبائع أو أثار سياسية، لكنه يستدرك بالقول أنها تتعمد أن تملك تأثيراً سياسياً، ليس لأهداف سياسية بل لكي تنفذ برنامجها الديني. ويشرح السيد ظاهرة التسييس الشديد التي تشهدها الحركات الإسلامية اليوم، موضحاً أنها ناجمة عن الظرف الاستثنائي الذي يمر به المجتمع والدولة في الوطن العربي والعالم الإسلامي، فبسبب الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمآزق ذات الأبعاد الرمزية الكبيرة، صارت الحركات الإسلامية حركات شعبية واسعة الانتشار، فاصطدمت بالسلطات السياسية. وكلما تفاقم الصراع ازدادت هذه الحركات تسييساً، وإن ظلت لغتها وأهدافها دينية اعتقادية وشعائرية .
إلى ذلك، فثمة نظرية يتبناها المفكر الاقتصادي سمير أمين، حيث يربط صعود الحركات الإسلامية المعاصرة بخصوصيات التراكم الرأسمالي على صعيد عالمي. فحركة التوسع الرأسمالي ما بعد الحرب العالمية تميزت بالتعمق في العولمة، باتت بلدان الأطراف معها منقسمة إلى مجموعتين، طبقاً لمعيار القدرة على المنافسة العالمية. هذا التمييز يلقي ضوءاً قوياً على نوعية حركات رد الفعل للواقع. فهناك حركات الرفض الشعبي في العالم الرابع، وهناك الصراعات السياسية والاجتماعية والأيديولوجية في العالم الثالث. ويعتبر أمين الحركات الإسلامية شكلاً من رد الفعل على الواقع في العالم الرابع. وأن السمة الرئيسية لها هي غيابها عن إدارة الصراع على أرضيات الحياة الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية وهجرها إلى سماوات الحلول العامة المجردة وامتناعها عن ترجمة الشعار المجرد إلى برنامج ملموس يتناول المطالب الشعبية وإجابات عينية للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية. وشعبية هذه الحركات تفسر بطبيعة الجماهير المهمشة والمستبعدة عن نظم إنتاجية فعالة .

في نشأة حركة حماس ومرجعياتها الفكرية والسياسية

النشأة والتطور:
لا يمكن تفسير نشأة حماس، ومن ثم تطورها، خارج إطار محددين حكما سلوكها وتوجهاتها ومنطلقاتها: المحدد الأول، نشأتها في بيئة فلسطينية كفاعل سياسي واجتماعي نشط، والمحدد الثاني يتصل بكونها، في منطلق الأمر ونهايته، امتداداً لتيار الإسلام السياسي في المنطقة ولحركة الإخوان المسلمين عالمية الطابع والتنظيم والانتشار.
وإذا كان أي من الأطر التفسيرية المذكورة آنفاً يقصر عن تفسير ظهور حركة الإخوان المسلمين في فلسطين، ولاحقاً تأسيس حركة المقاومة الإسلامية، فإنه، يمكن القول، أن حماس تنطوي على طاقة احتجاجية كبرى، وأنها تعتمد استراتيجية التعبئة على أساس أن الإسلام هو الحل، وتستند في برامجها وسلوكها ومواقفها إلى منطلقات دينية مرتبطة بنصوص في القرآن والسنة، أو مأخوذة من التجربة التاريخية للإسلام في الحكم والإدارة. إلى ذلك، تفتقر حركة حماس حتى الآن إلى برنامج كامل للتغيير، ولا تملك نموذجاً مسبقاً للحكم، وأنها، على الرغم من نجاحها وفوزها، لم تتجاوز منظمة التحرير من حيث الرؤية والوسائل والأطروحات الأساسية بل تجاورها وتحاورها. غير أن ذلك لا ينتقص من أصالتها كحركة سياسية واجتماعية فلسطينية تعبر بهذا القدر أو ذاك عن سيرورة تاريخية ونتاج تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية. كما لا ينتقص من كونها باتت لاعباً أساسياً في كل ما يتعلق بالشأن الفلسطيني، كما لا يقلل من أهمية تطورها ونضوجها السياسي واكتسابها خبرات عملية في كل المجالات ذات الصلة. كانت جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين قد عادت للعمل والنشاط في سبعينيات القرن المنصرم، وشهدت علاقتها مع فصائل منظمة التحرير تنافساً شديداً وأحياناً تحول إلى أحداث عنف، وخاصة في مجال العمل الطلابي والاجتماعي والنقابي، أي في مرحلة صناعة الهيمنة الأيديولوجية. ومع الانتفاضة الأولى، شهدت الجماعة تحولاً انعطافياً من حركة دعوية دينية إلى حركة اجتماعية سياسية. اقتصر دور التيار الإسلامي في المراحل الأولى من عمر النظام السياسي الفلسطيني على بناء القوة من أسفل وتعزيز مساهماته الكفاحية ضد الاحتلال، ولذلك كان تأثيره على القرار السياسي لازال محدوداً. يرى البعض أن حركة حماس أصبحت تشكل أحد مكونات النظام في الفترة ما قبل توقيع اتفاقية أوسلو في أعقاب مؤتمر مدريد، كما بدأت تشكل عاملاً مؤثراً في القرار السياسي وبالتالي في بنية النظام بعد قيام السلطة الفلسطينية على الرغم من بقائها خارج إطار م.ت.ف ورفضها الانخراط في مؤسسات السلطة الوطنية .

الهوية الفكرية والسياسية:
بالرغم من المؤشرات العديدة في سلوك حركة حماس الدالة على طبيعتها كفاعل في الحياة السياسية، إلا إنها في الواقع تنتمي إلى ما يعرف في علم الاجتماع السياسي بالحركات المحددة للهوية، إذ تقوم على أساس ديني. وتقوم العضوية الحركية على خلق شعور بامتلاك نمط حياة مختلف بعمق عن الآخرين، وتشكل شبكة لحياة اجتماعية كثيفة.

ميثاق الحركة
يدمج ميثاق الحركة هويتها السياسية بالهوية الدينية دمجاً محكماً، فالإسلام لا يشكل بالنسبة لها المنهج الذي تستمد منه أفكارها ومفاهيمها وتصوراتها عن الكون والحياة والإنسان فحسب، وإنما باتخاذه معياراً لتحديد علاقتها وموقفها من الآخر. تؤكد الحركة على عالميتها، أولاً باعتبارها جناحاً من أجنحة الإخوان المسلمين ذات التنظيم العالمي، وثانياً لأهليتها لذلك بسبب وضوح فكرتها ونبل غايتها وسمو أهدافها، وثالثاً، لأن وجودها المكاني مرتبط بتواجد المسلمين الذين يتخذون الإسلام منهج حياة لهم في أي بقعة من الأرض. ثم بعد ذلك، تؤكد الحركة على أنها حركة فلسطينية متميزة تعمل على رفع راية الله على كل شبر من فلسطين، فالوطنية في نظرها جزء من العقيدة الدينية، ووطنيتها باختلاف عن الآخرين تمتلك أسباباً ربانية تعطيها روحاً وحياة .
يفسر هذا الالتباس الواضح في هوية الحركة الكثير من سلوكها وسلوك حكومتها لاحقاً تجاه مجمل القضايا والموضوعات ذات الطبيعة الشائكة والمعقدة. الثنائية الحاكمة لهوية الحركة، بين هوية سياسية وهوية دينية، بين حركة عالمية وحركة وطنية، يثقل على حماس الانتقال من رفض الواقع إلى التعامل معه وإدارته ومجابهة تحدياته.

برنامج كتلة الإصلاح والتغيير:
جاء برنامج الحركة شاملاً وتفصيلياً. فمن حيث المنطلقات الفكرية أو المرجعيات العقيدية، أكد البرنامج استلهام المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، وأنها، أي الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع. وأن الإسلام نظام شامل يحترم الإنسان ويحفظ له حقوقه ويلزمه بتأدية واجباته وذلك بالتوازي مع حقوق المجتمع. وتكريس ثقافة الحوار واحترام كل الآراء شرط عدم تعارضها مع العقيدة وعدم تجاوزها للمعروف والمألوف. في الجانب الاقتصادي دعا البرنامج إلى بناء نظام اقتصادي فلسطيني مستقل عن إسرائيل في الوقت المناسب والعمل على توجيه الموارد المتاحة لتعزيز مقومات الصمود وتشجيع الإنتاج. مع تأكيد الحرص على بناء علاقات اقتصادية مع الدول العربية والإسلامية والانفتاح على باقي دول العالم. يشدد البرنامج، في مجال التربية والتعليم على تطوير المناهج بما يواكب التطور التقني الحديث ويحافظ على قيم الشعب وأخلاقه. تبني استراتجيات تعليم تركز على الكفاءة والنوعية، الاهتمام بالعلوم الإنسانية وتنقيتها من اللوثات الفكرية. ضمان تناسب مخرجات التعليم العالي مع احتياجات المجتمع من حيث الكوادر المتخصصة ونوعية الأبحاث. وأكد برنامج الكتلة على الحريات العامة وحقوق الإنسان، سن تشريعات تراعي خصوصيات الشعب الفلسطيني وقيمه وتراثه. وتحقيق أجندة الإصلاح الإداري بتبني مفهوم الإدارة الرشيدة، والإصلاح السياسي على أساس مبدأي الشورى والتداول العملي للسلطة، وإجراء إصلاحات دستورية تشكل مدخلاً لتنمية سياسية شاملة، وأيضاً الإصلاح القضائي الشامل. وفي مجال السياسات الثقافية والإعلامية، شدد البرنامج على مبدأ التعدد وحرية التفكير والتعبير وحق الاختيار، إتاحة فرص الوصول للمعلومات، وقف تدخلات الأمن في الشأن الإعلامي، رفع الوعي المدني بالحقوق والواجبات والمسؤوليات، وتحصين الشباب ضد الإفساد والتغريب والغزو الفكري والتطبيع الثقافي. وفي السياسات الاجتماعية تبنى البرنامج استراتيجية مكافحة الفقر كمدخل للتنمية الشاملة، مع تشجيع المشاريع التنموية وخبرات المجتمع لتلبية بعض احتياجاته، النهوض بالمستويات المختلفة للمرأة والرجل وحماية الطفولة ورعايتها والاهتمام بالمؤسسات الشبابية وتشجيع الرياضة والفن الملتزم. أما ما يتعلق بالموقف من المرأة فقد أكد على حقوقها الشرعية والمدنية، ودعا إلى إعادة وضع قانون أحوال شخصية واحد مستنبط من النصوص الشرعية والمذاهب الفقهية المعتمدة، واختيار ما يتناسب مع تطور المجتمع الفلسطيني المسلم. وفي إطار الحفاظ على النسيج الاجتماعي والأخلاقيات العامة وعدم انتهاك الثوابت الاجتماعية يجري تعزيز مكانة المرأة بعيداً عن العادات الوافدة والتقاليد الغربية الجامدة. التأكيد على دور المرأة في القيادة الاجتماعية. وشراكتها في الجهاد والمقاومة في البناء وفي التنمية وتحصينها بالثقافة الإسلامية من عفة واحتشام والتزام. تفعيل دور المنظمات النسائية وتوظيف الطاقات النسوية في العمل العام وبناء المجتمع.
حماس والمشروع الوطني
الكفاح الوطني:
ولدت المسألة الفلسطينية في أعقاب حرب عام 48 وما تلاها من أحداث وحروب وصراع متعدد الأشكال والوجوه. وقد تأكد حضورها تدريجياً كجزء أساسي من الصراع العربي الإسرائيلي، وكفاعل مؤثر في إطار الصراع الكوني الأشمل المعبر عنه بالحرب الباردة سياسياً، وبالصراع بين المركز الرأسمالي، ذي النزعة الإمبريالية التوسعية، وبين الأطراف اقتصادياً وثقافياً وتكنولوجياً.
شكلت حرب حزيران عام 67 مفترقاً حاسماً. فمن ناحية شكلت نهاية محزنة للمد القومي، وللبعد القومي للصراع، ومن ناحية ثانية، أتاحت فرصة لتنامي الشعور بالوطنية الفلسطينية وبإبداع التعبيرات السياسة والمؤسساتية عنها في مواجهة ممارسات الاحتلال. ففي غضون عشرين عاماً نجح فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس وفلسطينيو الداخل في تطوير إرهاصات دولانية وتعبيرات قومية، عبر التواصل والتفاعل وحرية الحركة النسبية، فكانت القدس عاصمة الفعل الفلسطيني ومركز التوجيه والتنسيق والإدارة، وكانت الفعاليات الشعبية والجماهيرية المتواصلة تكريساً لهوية فلسطينية متميزة على الأرض الفلسطينية، وفي أتون الصراع مع الآخر الإحلالي الرافض لفكرة وجود شيء "اسمه فلسطينيين" على حد تعبير رئيسة الوزراء الإسرائيلي غولدا مائير. وكانت الانتفاضة الشعبية الأولى التجسيد الأبرز لهذه الكيانية المتشكلة والهوية المتبلورة والوطنية المتأججة، وفي ذلك، يكمن سر عظمتها وقوتها وقدرتها على شد انتباه العالم وكسب تعاطفه وتأييده السياسي، والأمر الثاني تمثل في أهدافها الواقعية القابلة للتحقيق، وفي وسائلها حيث جردت آلة البطش الإسرائيلية من أخلاقياتها المزعومة، ومن جبروتها الموهوم. فبدا الاحتلال عارياً، ليس فقط أمام العالم، وإنما أمام الإسرائيليين أنفسهم.
لم تكن المؤسسة الأمنية والسياسية الإسرائيلية في غفلة عما يحدث على أرض فلسطين ما قبل الانتفاضة، لكنها الإرادة الفلسطينية التي تمكنت من إنجاز مقومات دولانية وحافظت على مقومات الهوية الوطنية السياسية، وتنميتها وإثرائها ثقافياً وإنسانياً. لم يأل الاحتلال جهداً في تقويض هذه الدينامية عن طريق القمع الإسرائيلي المباشر، ومحاولات ضرب الوطنية المتأججة تارة باصطناع البدائل وتارة أخر بتأجيج عوامل الفرقة والصراعات الداخلية بين الفرقاء السياسيين، ودائماً بمحاولة إشغال الفلسطينيين عن قضيتهم الأساسية. شكلت عسكرة الانتفاضة في سنواتها الأخيرة ودخول المجتمع الفلسطيني حالة من الفوضى والتفكك الاجتماعي التربة المناسبة لضرب الانتفاضة وبالتالي ضرب ما تمثله وتعبر عنه.
أدرك الإسرائيليون عمق التحولات الاجتماعية والسياسية والديمغرافية التي تحدث رغماً عنهم، فأجمعوا على لجمها وتقويضها، لكنهم انقسموا على أنفسهم في كيفية مواجهتها. اختار حزب العمل استراتيجية احتواء المنظمة المنهكة عبر اتفاقيات أوسلو، والفصل بين كيانين على أرض فلسطين، كيان مقيد ومنقوص السيادة وكيان مطلق السيادة وله حرية التصرف والتدخل. واختار اليمين الصهيوني استراتيجية تقويض القدرة الفلسطينية بأشكالها المتعددة، بما في ذلك تلك الناجمة عن اتفاقيات أوسلو.
يمكن تفهم قبول قيادة منظمة التحرير بأن تكون شريكاً في اتفاقيات أوسلو، في إطار موازين القوى ورهانات النظام العالمي الجديد المتشكل بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، وكمخرج من حالة الفوضى والتفكك والتعب التي بدت عليها الأراضي الفلسطينية بعد سنوات من الانتفاضة والقمع الشرس. إلا أنه من غير المقبول إقدام القيادة على خطوة تاريخية من هذا القبيل دون أن يكون لها تصور كامل ورؤية واضحة، وأن تنخرط بكليتها في معترك عملية تفاوضية عقيمة، وأن تخدع نفسها بوهم السيادة والاستقلال، وأن تترك عوامل ومظاهر الفساد تنخر في جسد الكيان الناشئ.
لقد تهيأت ظروف مواتية لتقويض القدرة الفلسطينية والإجهاز على المشروع الوطني، منها المناخ الدولي الناجم عن أحداث سبتمبر 2001، ومنها الأداء الكفاحي المنفلت في ظل الانتفاضة الثانية، ومنها الصراع المحتدم اليوم على السلطة. في هذا الوقت جاء فوز حماس كرهان فلسطيني على وقف التدهور وقطع الطريق على محاولات تقويض القدرة الفلسطينية المتمثلة في تنامي الوطنية الفلسطينية، وترسيخ الكيانية الناشئة والحفاظ على زخم التعاطف الدولي ودعمه، والتخلص من مظاهر الفرقة والفساد والفلتان والفوضى. فماذا فعلت حماس؟ علماً أنها كانت حاضرة في كل المراحل والمنعطفات خلال العقود القليلة المنصرمة، وتتحمل قسطاً من المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع من انكشاف وتردي.
تتمثل استجابة حماس وحكومتها لهذه التحديات على مستويين: مستوى الأفعال والممارسات العملية، ومستوى الأطروحات والشعارات والمواقف المعلنة. من المنطقي أن تقارن أفعال الحكومة وأطروحتها أولاً بما سبقها من منطق حاكم لسيرورة الكفاح الوطني، وثانياً باستراتيجية حركة حماس المعلنة والمعروفة قبل وصولها إلى سدة الحكم، وخاصة بسلوكها كبديل. وقد سبق عرض هذه السيرورة ومنطقها، ولا ينتقص من ذلك إخفاقات القيادة الفلسطينية أو أخطاؤها أو رهاناتها.
يتمثل جوهر الكفاح الوطني الفلسطيني في النزوع نحو الحرية والاستقلال وبناء الدولة والحفاظ على الهوية السياسية. وباعتماد منطق بناء القوة التدرجي والتراكمي وتحقيق المكاسب والبناء عليها، ومراعاة الظروف الضاغطة وغالباً غير المواتية بالتحايل السياسي، وبالمرونة والتفاعل النشط مع المحيط، وبإتباع استراتيجيات واستخدام أدوات ووسائل كفاحية ناجعة وملائمة ومرتبطة حصراً بأهداف سياسية واقعية وليس انطلاقاً من فهم ميثولوجي لفكرة الصراع، كانت الانتفاضة الأولى بجماهيريتها وبتركيزها على جوهر الصراع أفضل تجسيد لها، أخيراً في الوعي بأبعاد الصراع المختلفة والموازنة بينها وتوظيفها في خدمة الهدف الوطني.
الملفت أن حماس وحكومتها لم تعلن عن استراتيجية جديدة في التعاطي مع المسألة الوطنية، بينما لم تتمسك باستراتيجيتها المعروفة قبل الوصول للسلطة، فلا هي التزمت بالاتفاقيات، ولا هي واصلت المقاومة، ولا استطاعت أن تقود كفاحاً شعبياً ضد الاحتلال في الضفة الغربية، ولا هي أحسنت إدارة معركة كسب المجتمع الدولي ليس لانتزاع الحقوق المشروعة، وإنما لوقف الممارسات الاحتلالية التي انطوت بشكل سافر على تحدي للإرادة والشرعية الدوليين. استبدلت حكومة حماس كل ذلك بعنجهية الخطبة وتكرار المواقف الرافضة، وفي أول إشارة دالة على إمكانية حدوث تحول في موقف الحركة وحكومتها كوثيقة أحمد يوسف والحديث عن الهدنة طويلة المدى وتصريح خالد مشعل عن وجود إسرائيل كحقيقة، بدا أن الحركة تتخبط مما أثار السخط واللغط، لولا أن اندلاع الأحداث الداخلية غطى على ذلك، باعتبار أن الأولوية هي وقف النزيف الداخلي، بينما واصلت إسرائيل سياساتها الاحتلالية حرة طليقة.

حماس والنظام السياسي الفلسطيني
بينما يؤكد ميثاق الحركة على ضرورة استبدال النظم العلمانية، باعتبارها جزءاً من المؤامرة على الإسلام وعلى فلسطين، بأنظمة سياسية إسلامية. يصعب العثور، في أدبيات الحركة وتصريحات قادتها، على ما يعطي رؤية كاملة لماهية هذا النظام، وبماذا يختلف عن النظام الحالي؟ خاصة وأن فقهاء ذهبوا إلى أن الإسلام لا يقضي بإتباع نموذج محدد للحكم.
إطار (1) علاقة السلطة بالدين
المفهوم المحوري هنا، السلطة، طبيعتها وقيودها، مصدرها وشرعيتها، نقلها وتداولها، الانصياع لها أو الخروج عليها. تتراوح الرؤى والاجتهادات في الفكر السياسي العربي والإسلامي حول السلطة وعلاقتها بالدين. فتيارات الإسلام السياسي تؤكد الارتباط الحتمي والطبيعي بين الإسلام كدين والإسلام كنظام حكم وكدولة. ويتأسس هذا الاتجاه على فكرة حسن البنا، بأن الإسلام، ليس عقيدة عبادية فحسب ولكنه نظام شامل للحياة، لديه إجابات تامة، وحلول ناجعة لجميع المشاكل، وفي مقدمتها مسألة تنظيم ممارسة السلطة وتبيان أسلوب بناء الحكم السياسي. بينما يرى محمد سليم العوا أن القرآن الكريم والسنة النبوية لا يتضمنان نظام حكم محدد المعالم والتفاصيل يجب على المسلمين في كل العصور الالتزام به، والوقوف عند حدوده، وإلا كانوا في حكمهم أنفسهم خارجين عن الإسلام أو مخالفين له. ويحذر العوا من الوقوع في وهم أن النظام السياسي المقبول إسلامياً هو نظام بعينه، لا يصح الاختلاف حوله ولا الاجتهاد في تفاصيله. ويستدرك برهان غليون أنه إذا كان الإسلام على مستوى الإيمان وعلى مستوى النص (القرآن والسنة) لا يتضمن نظرية كاملة في الحكم أو في النظام السياسي، واكتفى بمبادئ ومقاصد عليا، إلا أن ملامح لمفهوم معين لنظام حكم خاص قد تبلورت في الإسلام التاريخي وكتابات الفقهاء على اختلاف اتجاهاتهم. رشيد رضا يعتبر السلطة السياسية بمثابة مفهوم كلي، يتكون من خلال مجموعة مفاهيم رئيسية تنطلق من سلطة الأمة ثم أهل العقد والحل والحاكم المنتخب من قبلهم. والسلطة السياسية عنده مدنية وليست دينية، وسطية تجمع بين مصالح الدين والدنيا، ومقيدة ومحكومة بمبدأ الشورى وتعبر عن الواقع الحضاري للأمة. وضوابط شرعية السلطة هي الالتزام بالقيم السياسية الإسلامية وخاصة العدل، وبالمقاصد العليا للشريعة (المصالح هي محور الشريعة) وفهم السنن الكونية والاجتماعية الحاكمة للوجود الإنساني والتجمع البشري. وتسقط الشرعية ويعزل الحاكم إذا ما قصر في واجباته ومسؤولياته وفي حال الجور والطغيان. عرف التاريخ الإسلامي أنماطاً مختلفة من الدول؛ الثيوقراطية والأوتوقراطية، والعلمانية كما هو الحال في تركيا الحديثة، بالإضافة إلى مزيج غير واضح من عناصر الحكم. والمؤكد، أنه لا يوجد ما يمكن أن نعتبره دولة حديثة، ترتبط بمفهوم الأمة وما يتصل بها من مفاهيم الديمقراطية والمواطنة والفصل بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية. وأن النموذج الغالب في التاريخ الإسلامي هو النموذج السلطاني، أو النظام الأتوقراطي، حيث التسلط الفردي وتكريس القراءة الأحادية للدين، بما يخدم في نهاية المطاف بقاء السلطان وديمومته.

ولد النظام السياسي الفلسطيني في سياق الرد على الحركة الصهيونية والكفاح من أجل التحرر والاستقلال وبناء الدولة. ومر منذ نشأته في طورين حتى نهاية 2005، وقد يكون على أعتاب طور ثالث مع فوز حماس في الانتخابات التشريعية ودخولها بقوة إلى قلب النظام . في طوره الأول، شهد ولادة منظمة التحرير الفلسطينية وتكريس قيادتها وتأكيد دورها التوحـيدي كعامل أساسي في صيانة الهوية الفلسطينية الوطنية وتطويرها، وبوصفها حركة تحرر وطني. الطور الثاني شهد قيام سلطة فلسطينية على إقليمها، الأمر الذي جعل الصراع الأساسي يدور حول حدود هذا الإقليم وشكل السيادة الوطنية عليه. شكل دخول حماس في النظام السياسي تتويجاً لعملية تاريخية طويلة ومعقدة.
خطوات بطيئة نحو الاندماج
في الوقت الذي شددت حماس على سعيها لإنشاء كيان إسلامي، لم تقدم سوى القليل من الأفكار المحددة حول الكيفية التي تعتزم بها تحقيق فلسطين الإسلامية والشكل الذي ستكون عليه. فميثاق الحركة يشجب علمانية المنظمة، رغم تأكيده على الأخوة وثقته بأن القيادة الفلسطينية ستكتشف في النهاية خطأ مسلكها وأنه "في اليوم الذي تلتزم فيه منظمة التحرير الفلسطينية بالإسلام كمنهج حياة فإننا سنكون جنودها المخلصين". حتى ذلك الوقت ستتعامل حماس معها من موقع "الابن تجاه أبيه، والأخ تجاه أخيه" (المادة 27). ومع ذلك، فمسيرة العلاقة بين حماس والمنظمة بوصفها التجسيد المؤسساتي للنظام السياسي الفلسطيني، أعقد من اختزالها بالموقف الوارد في الميثاق.
ظلت مسألة دمج حركة المقاومة الإسلامية في النظام السياسي الفلسطيني على الأجندة منذ تأسيسها. وقد فشلت الاتصالات الأولية والتي تمت في دول عربية متعددة قبل اتفاقيات أوسلو، بسبب مطالبة حماس بتغيير استراتيجية المنظمة وبرغبتها في الحصول على 40% على الأقل من المقاعد في المجلس الوطني الفلسطيني. والحقيقة أن حماس كانت تفضل العمل من خارج منظمة التحرير والتنافس معها على جبهة التمثيل الفلسطيني. بينما لم ترغب قيادة المنظمة حقاً في دخول شريك ومنافس قوي .
شكلت السلطة الفلسطينية ومؤسساتها والتعاطف الشعبي الجارف الذي حظيت به، تهديداً جدياً لحماس. وقد تفردت قيادة السلطة بالقرارات والموارد مستثنية إلى حد كبير الجميع. قاطعت حماس الانتخابات الرئاسية والتشريعية عام 1996 مؤكدة على لاشرعية السلطة من ناحية، والاستمرار في نهج المقاومة من ناحية ثانية. واتبعت استراتيجية المواجهة المسلحة مع الاحتلال والمواجهة السياسية مع السلطة وهو ما شكل إحراجاً متواصلاً للسلطة الفلسطينية وقيادتها. في الواقع، لم يكن من الممكن النجاح في دمج حماس في النظام السياسي المتشكل بعد أوسلو أيضاً، ليس فقط بسبب التناقض بين برنامج السلطة الملتزم بالعملية السلمية وبالتفاوض وبين برنامج حماس المتمسك بخيار المقاومة، وإنما بسبب عدم رغبة حماس في الدخول إلى النظام من موقع ضعيف لا يتيح لها إمكانية تعديل بنية النظام وبرنامجه كما لا يوفر لها نصيباً تعتقد أنها تستحقه في مؤسسات السلطة ومنافعها.
خلقت الانتفاضة الثانية مناخاً عزز التفاهم المبدئي، وتجاوزه إلى ما يمكن تسميته بالتعاون التنافسي. كما ساهم الرد الإسرائيلي ضد الانتفاضة في التقارب بين الأطراف المتنافسة، وتبني خطاباً مشتركاً امتزجت فيه التعبيرات الوطنية بالدينية. وفي الوقت الذي أُنهكت فيه السلطة الفلسطينية بالفساد وسوء الإدارة وباستهدافها من قبل الاحتلال، وبدا أن مشروعها قد وصل طريقاً مسدودا، تعززت شعبية حماس. وإذ أصبحت السلطة الفلسطينية غير قادرة على مواصلة الحكم، بدت حماس راغبة بالمشاركة وبالحصول على دور أكبر فيه، لكن قيادتها تمهلت في اتخاذ خطوات عملية باتجاه دخولها النظام، أولاً، لرغبتها في تحقيق ذلك بطريقة تضمن لها قوتها وتحفظ كرامتها وبحصولها على ضمانات، والأهم لخشيتها من أن تكون قيادة السلطة تسعى إلى احتواءها والسيطرة عليها عبر إدماجها بالنظام.
خلقت وفاة ياسر عرفات، واختيار محمود عباس لرئاسة المنظمة وانتخابه لاحقاً لرئاسة السلطة الفلسطينية، ظروفاً جديدة لمزيد من التقارب. ففرضية أبو مازن تقوم على أن تحقيق برنامجه يقتضي بالضرورة التعاون مع حماس، فعرض عليها المشاركة في السلطة والاندماج في مؤسساتها. كان يراهن على واحد من أمرين: إما انصياع حماس إلى منطق السلطة مقابل حصولها على مظلة شرعية تحميها من عنف الإسرائيليين وملاحقة الإدارة الأمريكية في حربها ضد الإرهاب. وإما توفير المبررات اللازمة لاتخاذ إجراءات رادعة ضد الحركة .
وفيما يبدو للبعض، أن حماس ابتلعت الطعم، تبنت الحركة استراتيجية مراوغة، دفعت بمحمود عباس إلى الزاوية، وبمجمل الحالة الفلسطينية إلى حافة الانهيار. فقد تهيأت الحركة لاستلام قطاع غزة بعد انسحاب قوات الاحتلال منه وتفكيك مستوطناته، وكرست شعار أن المقاومة نجحت في بضعة سنوات فيما فشلت المفاوضات في تحقيقه، وخاضت انتخابات الحكم المحلي بكفاءة عالية فحققت فوزاً كبيرا، وتهيأت للانتخابات التشريعية وقد التقطت في ذلك بحساسية فائقة نبض الشارع الفلسطيني وتوجهاته. وفيما بدا أنه تغير في مواقف الحركة، راهن البعض على إمكانية ترويضها واحتوائها، تبين أنه مجرد تكتيك، وذكاء عملي برغماتي. أصبح بوسع حماس دخول النظام السياسي الفلسطيني وهو في أضعف أوقاته، فمن أزمة السلطة الفلسطينية، إلى وهن القيادة وترهل فتح، إلى تمتع حماس بشعبية جارفة، ومن انسداد أفق العملية السياسية إلى تصاعد وتيرة العنف الإسرائيلي غير المسبوق. لم يعد أمام الحركة ما تخشاه من دخولها النظام دون أن يغير استراتيجيته وطبيعته كشرط مسبق، فالظروف تهيأت للحركة أن تحقق ما تريده من داخل النظام نفسه، دون الخوف من تأييد عملية ستحدث انقساماً عميقاً في الحركة أو ترغمها على إعادة النظر في مبادئها الأساسية. أدركت الحركة بذكاء كبير يحسب لها، أن ثمة تصادف بين مجموعة من الأحداث يمكنها من دخول النظام والاستيلاء عليه من الداخل بتكلفة زهيدة، قد لا يتحقق مرة أخرى في المدى المنظور.
لم يكن الأمر بهذه البساطة التي اعتقدتها الحركة، فقد بوغتت على أكثر من صعيد، حتى أنها تصرفت بردود فعل غاضبة تفتقر إلى حنكتها المعروفة، كما تفتقر إلى ذكائها السياسي، وتكشفت عن فقر معرفي هائل، فلجأت إلى نظرية المؤامرة لتفسير وتبرير سلوكها الذي كان أبعد ما يكون عن برنامج متكامل وتصور واضح. لم تقدم الحركة برنامجاً واقعياً يجمع بين مقتضيات الحكم في سلطة مقيدة ومنقوصة السيادة ومحصورة في رقعة جغرافية محدودة ومتحكم في منافذها، وبين متطلبات الاستمرار في برنامج المقاومة والجهاد. كما اكتشفت الحركة أن النظام السياسي الفلسطيني، بالرغم مما بدا عليه من وهن، يمتلك تقاليد عريقة ويضم قوى سياسية ومجتمعية متعددة، ويقوم على أسس وقواعد وآليات من الصعب الانقلاب عليها أو تغييرها، وغاية ما حدث تعرض النظام إلى حالة عدم استقرار.
السلطة الفلسطينية: التباس المفاهيم وغموض المواقف
من المعروف أن حماس لم تعترف باتفاقيات أوسلو، بل وعارضتها بطريقتها، وبالتالي لم تسلم بنتائج هذه الاتفاقيات وإن غضت الطرف عنها في الواقع، حتى أنها تعاملت معها بصورة أو بأخرى. كانت حماس تأخذ على السلطة الفلسطينية لاشرعيتها بحكم أنها نتاج اتفاقيات مرفوضة مع الاحتلال، وفسادها، بحكم ما ظهر من ممارسات ومظاهر. وما بين هذه وتلك، قبلت حماس عملياً بوظيفة حصرية للسلطة مرتبطة بإدارة الخدمات والرعاية وتأمين الأموال. الأمر الآخر، وهو على جانب كبير من الأهمية، حماس ترفض استراتيجية التفاوض وما ينجم عنها من اتفاقيات، وتؤمن بأن خيار المقاومة وحده هو ما يجب التمسك به. وإذا كان من المنصف القول، أن حماس لازالت، بعد مرور أشهر على حكومتها، ترفض ما كانت ترفضه سابقاً وهي في المعارضة، إلا أنه لم يتضح بعد ماذا تريد حماس وهي في السلطة؟ الافتراض هنا، إما أنها بوغتت فوقعت في الشرك على حد تعبير عزمي بشارة، الشرك الناجم عن التناقض الكبير بين أيدولوجيا الحركة ونهجها السياسي الذي أوصلها إلى السلطة، وبين التواجد في سلطة مقيدة موضوعياً في ظل الاحتلال. وإما أن الحركة تملك رؤية مختلفة، بعيدة المدى، ولحسابات ورهانات أكبر من حجم السلطة الحالية وأهم من استحقاقات المقاومة الآنية. ولا يمكن أن تكون، سوى الرغبة المبررة في كسب الوقت لتكريس سلطتها وسيطرتها على مجمل الحقل السياسي الفلسطيني وانتزاع الاعتراف الإقليمي والدولي بذلك.

تعاملت حماس مع الخيارات والبدائل الأخرى بذكاء سياسي يحسب لها. فلم يكن من المنطق حل السلطة لاعتبارات عديدة، كاحتمال نشوء فراغ سياسي وربما فوضى عارمة. كما أنها بررت قبولها بإدارة السلطة برفض القيود والمحددات التي فرضت على السلطة في زمن سابق، والحق أنها حاولت أن تفتح مسارات بديلة وعلاقات جديدة.
أقبلت الحركة منذ البداية على فكرة الحوار وقبلت مبدأ المشاركة ودعت إليه. ومارست الممانعة والرفض بصورة أعادت إلى الأذهان مواقف منظمة التحرير في فترة السبعينيات والثمانينيات. وأخيراً، قبلت الحركة بتشكيل حكومة وحدة وطنية على أساس وثيقة الوفاق الوطني. ولكن، لابد من تسجيل بعض الملاحظات: (1) هذه النقلة الهائلة في الموقف من السلطة لا يُفسر إلا بنجاحها في تبؤ سدتها، وليس بتغير طبيعة السلطة ومحدداتها. فالسلطة، لازالت سلطة مقيدة السيادة، وملزمة بالاتفاقيات المبرمة. (2) لم تعط حماس توصيفاً مختلفاً للسلطة، وهو ما يعني قبول مبدئي بجوهرها ووظيفتها، ولو كانت حماس تملك بديلاً حقيقياً لطرحته واستبدلت به مسيرة أوسلو وإفرازاتها. (3) في سبيل البقاء في السلطة أعلنت حماس عن إمكانية عقد هدنة طويلة مع الاحتلال. الأمر الذي يتنافى مع مواقف الحركة وسلوكها قبل الانتخابات، والأهم أنه يتنافى مع ضرورة استمرار الكفاح الوطني بأشكال مختلفة وملائمة طالما بقي الاحتلال "إن أخطر ما تعرضت له هذه القضية العظيمة من انحراف وتشويه وما أفضى بأعتى منظمة تحرير إلى الإفلاس هو تسرب منطق الدولة واستيلاؤه عليها وهي لمّا تتحول إلى نصف دولة، كما لا تزال أرض فلسطين ومياهها وبحارها وكل شيء فيها تحت السيطرة الإسرائيلية. إن على حماس أن تعيد الأمور إلى نصابها وتضع القضية الفلسطينية في إطارها الصحيح أنها قضية تحرير وطن محتل، وفي ضوء ذلك ينبغي أن تعاد صياغة كل شيء ولو بتدرج بما في ذلك صياغة منظمة التحرير، ووضع ما يسمى بالسلطة الوطنية في موضعها الصحيح، بالنزول بها إلى حقيقتها الفعلية أنها مجرد إدارة خدمات تعليمية وصحية" . وينصح عزمي بشارة حماس بالخروج من الشرك الذي وقعت فيه بتشكيل قيادة وطنية موحدة تتحكم باستراتيجية المفاوضات وسلطة تنفيذية من مهنيين لإدارة شؤون المجتمع .


حماس وجدل المقاومة والسلطة:
استحوذت إشكالية العلاقة بين التغيير والتحرير على فكر الإسلاميين الفلسطينيين منذ نشأتهم وحتى الآن. فالسؤال الإشكالي الدائم الذي كان يواجههم هو أين تقع الأولوية بالضبط عند مواجهة الاختيار بين سلوك طريق التغيير الاجتماعي والتربية والإعداد أو سلوك مواجهة الاحتلال وعدم الانتظار حتى يكتمل الإعداد لجيل التحرير. الانتفاضة الأولى شكلت لحظة الحسم التاريخي لصالح خيار التحرير. يمكن القول أن الموقف من المقاومة وممارستها من قبل حركة الإخوان المسلمين ولاحقاً حركة حماس، في فترة ما بعد حرب حزيران إلى يومنا هذا قد شهد ثلاثة مراحل: الموقف السلبي من الكفاح الفلسطيني الذي قادته منظمة التحرير والانشغال في عملية الإعداد والتهيئة وبناء القوة، وقد استمر هذا الموقف حتى بداية الانتفاضة الأولى، وفي مرحلة ما بعد أوسلو التشديد على خيار المقاومة المسلحة كخيار وحيد والاستعانة بموروث ديني وثقافي محرض ومحفز، وبناء عوامل القوة الذاتية والمادية، وبالممارسة الفعلية ويبدو أن هذه المرحلة انتهت أو ضعفت وتيرتها قبل وصول حماس للسلطة، وربما تكون أحد الدوافع للدخول في الانتخابات، ليس لتعميم استراتيجية المقاومة، كما هو واضح الآن، وإنما اتقاء ردود الفعل الإسرائيلية والدولية في إطار ما يسمى بالحرب ضد الإرهاب، وربما تعبيراً عن قناعة بأن أفق المقاومة المجرد، في ظل الموازين الحالية قد وصل إلى طريق مسدود.
لا تفاضل حماس اليوم بين استراتيجية وأخرى، فهي لا تغيب المقاومة العنيفة لصالح التفاوض مثلاً، أو لصالح الكفاح الشعبي السلمي كما هو في بلعين أو الانتفاضة الأولى، وإنما، وهو ما يبدو الأقرب للفهم، تساوم حماس على بقائها واستكمال سيطرتها السياسية على الحالة الفلسطينية، حتى في إطار كيان مجزوء السيادة، أو في مساحة جغرافية مقلصة، وبالطبع هذا لا يمنع من الإعلان المتكرر عن تمسكها بخيار المقاومة وبحق شعبنا المشروع في المقاومة وحتى بممارسة المقاومة بطريقة أو بأخرى كلما سنحت الفرصة لذلك، ولاعتبارات راهنة وسياسية أساساً.
أما عن شعار الجمع بين المقاومة والسلطة، فقد أثبتت أحداث اجتياح أريحا وبيت حانون وموقف دول العالم وتراجع مكانة القضية وعدم الاعتراف بحكومة حماس، وبتذرع الإسرائيليين واتخاذهم من السلوك الفلسطيني حجة، تهافت هذه المقولة واستحالتها واقعياً. وغاية ما يحدث هو إما تحويل السلطة إلى كيان هش لا معنى له عاجز ومقيد، وإما تحويل المقاومة إلى استعراض موهوم للقوة بما يخفي حقيقة ما يجري على الأرض، وفي جميع الأحوال هذا لا يستقيم مع بديل حماس ونهجها الذي حملها إلى السلطة وأكسبها تعاطف الجمهور الفلسطيني وتأييده، وهو أيضاً يتعارض، بل ويلحق الضرر بالمنطق الحاكم للعملية الكفاحية الفلسطينية المستمرة منذ عقود، وجوهرها كما أسلفنا، البناء التدريجي ولكن المواظب والمتراكم للكيانية الفلسطينية سلطة ومؤسسة وهوية، باستخدام الأدوات والوسائل المناسبة وليس انطلاقاً من فهم ميثولوجي لفكرة الصراع المطلق التي من شأنها أن تلحق أفدح الضرر بمشروع التحرر والدولانية وتعزيز الهوية الوطنية.
بعد مرور عام على تجربة حركة حماس في السلطة، يصعب القول أنها تمتلك رؤية متكاملة واستراتيجية واضحة فيما يتعلق بالمشروع الوطني، بعيداً عن الشعارات المعروفة والمعلنة، ولعل ما كان أكثر وضوحاً في سلوك الحركة وحكومتها في هذا الشأن تثبيت أركان سلطتها والحصول على شرعية عربية ودولية، وإصرارها على إعادة ترتيب أوضاع منظمة التحرير أملاً في أن تحصل على مساحة كبيرة من النفوذ والسيطرة عليها. يمكن الافتراض بالطبع، أن حماس تؤجل الإعلان عن استراتيجيتها الشاملة تجاه المشروع الوطني حتى تتمكن من إحكام قبضتها على المؤسسة الرسمية، أو على الأقل حتى تطمئن إلى أن وجودها في هذه المؤسسة بات مقبولاً ومعترفاً به ويحقق لها قدراً معقولاً من التأثير في القرار السياسي الفلسطيني. إلى ذلك، فثمة استنتاجات أخرى يمكن إيرادها كالتالي:
(1) من المشكوك فيه، أن يشكل صعود حماس قمة الهرم السياسي في السلطة وربما لاحقاً في المنظمة، وفي ظل تفرد تجربتها على مستوى الإقليم (عدم وجود نماذج حكم لحركات إسلامية في دول الجوار تحديداً) مساهمة نوعية في إحداث اختلال في موازين القوى مع إسرائيل لصالح الفلسطينيين، بل ربما على العكس من ذلك تماماً، ما لم تسارع حماس إلى التمسك بمنطق العملية الكفاحية الوطنية وتظهيره وممارسته والبناء عليه.
(2) ثمة خيارات عديدة أمام حماس، بمقدورها أن تلجأ إلى أفضلها من منظور المصلحة الوطنية العليا للفلسطينيين في هذا الظرف التاريخي المعقد. والحال، أن الأزمة الراهنة لا تعود إلى حماس وحدها، ولا إلى طبيعة برنامجها وسلوكها السياسي فحسب. ويبدو أن ما يطرح اليوم من تشكيل حكومة وحدة وطنية على قاعدة التقسيم الوظيفي للأدوار بين السلطة بمؤسستيها من جهة، وبين السلطة والمنظمة من جهة ثانية، يؤشر على إدراك، متأخر قليلاً، لطبيعة الشرك الذي وقعت فيه، وعلى تسليمها بعدم قدرة أي طرف فلسطيني وحده على تحمل مسؤولية قيادة الشأن الفلسطيني، وهو ما يسجل لها.
(3) استحضرت حماس التراث الإسلامي نصاً وممارسة في تأصيل فكرة الجهاد والمقاومة والحض عليهما، إلا أنها تتريث في استحضار ذات التراث في تفسير سلوكها وهي في السلطة وتبريره، وتلجأ إلى المرجعية الوطنية كمقولة الثوابت والتمسك بالحقوق وحتى بنتائج العملية الديمقراطية. والحقيقة، أن ذلك يمكن فهمه باعتباره مرحلة في سيرورة التكيف والتحول التي تعيشها الحركة، كما يدلل على امتلاك قيادتها الذكاء العملي الذي يقضي بعدم إثارة المزيد من الشقاق والخلاف وبتوجيه رسائل طمأنة لدوائر صنع القرار في العالم. بالطبع لا يخلو الأمر من أصوات هنا وهناك، لجأت إلى التلويح بالمرجعية الدينية والأحكام القطعية.
(4) لا يمكن تفهم التلويح بأوراق القوة التي تملكها حماس في مواجهة الضغوط والحصار بمعزل عن استراتيجية اشتباك سياسي معلنة وهادفة. إذ لا يكفي أن تعلن عن نقاط قوتك، المهم أن تدرك مدى قوتك حقاً، وقدرتك على تحقيق أجندة سياسية محددة. وهي أجندة وطنية بالضرورة وليست أجندة فئوية. وكما هو معروف، غالباً ما تسقط القلاع والحصون من داخلها، إما بسبب نقص في عوامل البقاء والصمود، وإما لانقسام الجماعة على نفسها، وبالتالي اختراقها من قبل أعدائها، أو أن قوة عاتية خارجية يمكن أن تهدمها. اليوم، وفي غياب الاستراتيجية والرؤية الموحدة، القلعة الفلسطينية مهددة من الخارج والداخل، وحماس لم تفعل في أغلب الأحوال إلا ما يفاقم الأمور ويزيدها تعقيداً، ولعل موضوع القوة التنفيذية، أو بعض الممارسات الفئوية، وعدم قدرتها على لجم تصرفات غير منضبطة، وترددها السياسي، وتصريحات بعض قياداتها، بعض الأمثلة على ذلك.
(5) بالرغم من أنه لم يمض على تشكيل حكومة حماس سوى بضعة أشهر، فإن الكثير من السلوكيات والمواقف التي اتبعتها الحركة وحكومتها حتى الآن لا يمكن تبريرها بقصر الفترة أو بنقص الخبرة، فحماس جزء فاعل في الحياة السياسية والاجتماعية الفلسطينية منذ ثلاثة عقود، وهي لم تقبل على ممارسة خيار المقاومة إلا بعد فترة إعداد وتهيئة استغرقت عقداً كاملاً. فإذا كان البعض يتذرع بنقص الخبرة، فلماذا أقدمت الحركة على السلطة دون الإعداد والتهيئة؟
(6) بات الإعلان عن تشكيل حكومة وحدة وطنية وشيكاً. وهو إنجاز يحسب لحماس، لكنه لا يغير كثيراً من استخلاصات الورقة الحالية، وخاصة فيما يتعلق برغبة حماس المشروعة في تثبيت سلطتها وانتزاع الاعتراف بها. تراجعت حماس خطوة إلى الوراء، ومع حكومة الوحدة الوطنية أصبحت بصدد خطوتين كبيرتين إلى الأمام. فعدا عن أن حكومة الوحدة هي مطلب فلسطيني بامتياز ومصلحة فلسطينية خالصة، فسوف تتيح فرصة جديدة لحركة حماس في حالين: فإذا ما قبلت من العالم أو بعضه، فهذا يعني كسر الحصار والعزلة وتخفيف وطأة المعاناة على الفلسطينيين، وفي نفس الوقت اعتراف بشرعية حماس باعتبار أن حكومة الوحدة هي أيضاً حكومتها. وأما في حال رفض العالم هذه الحكومة، وبالتالي استمر الحصار والعزلة، تكون حماس نجحت في جلب الآخرين (فتح تحديداً) إلى موقفها وخاصة في تحمل المسؤولية وتبعات الحصار. وفي جميع الأحوال، لن يسجل لهذه الحكومة أي إنجاز على صعيد المسألة الوطنية ما لم تستعد جوهر الكفاح الوطني الفلسطيني والتمسك بأدواته ومنطقه العقلاني.


حماس في إدارة الحكم والمجتمع
في ضوء التطورات المذهلة التي يشهدها عالم اليوم على كل الصعد، برز مفهوم إدارة شئون الدولة والمجتمع وذلك للتعبير عن ‏العلاقة المعقدة بين‎ ‎جهاز الدولة والحكم من ناحية، والقطاع الخاص من ناحية ‏أخرى، ومؤسسات المجتمع المدني‎ ‎من ناحية ثالثة، وتترتب على ذلك ‏نتيجتان رئيسيتان في التحليل السياسي‎ ‎والاجتماعي: النتيجة الأولى: أن مفهوم إدارة شئون الدولة والمجتمع يسعى للربط‎ ‎بين إدارة ‏الدولة وإدارة المجتمع في سياق واحد مركزاً على أنماط التفاعلات‎ ‎والتحالفات ‏والتناقضات بين العناصر الفاعلة في كل من الدولة والمجتمع. النتيجة الثانية: أن تطبيق مفهوم‎ ‎إدارة الدولة والمجتمع يقدم صورة أكثر واقعية ‏وعملية للحياة السياسية والاجتماعية‎ ‎والتي لا تشهد الثنائيات والحدود الفاصلة ‏التي يضعها الباحثون أحياناً لأغراض‎ ‎التحليل مثل التمييز بين الدولة والمجتمع، ‏وبين الاقتصادي والسياسي، وبين العام‎ ‎والخاص. ثمة وجهتا نظر حول هذا المفهوم: فالمتحمسون له يركزون على تأكيده على الشفافية والمساءلة والرقابة والتمكين والمشاركة. وأما المتوجسون فيؤكدون على أنه لم يأت بجديد، وإن كان تعبيراً عن أيديولوجيا ونظام سياسي بعينه يبدو منتصراً في الحقبة التاريخية التي نعيشها.
تعتقد سلوى شعراوي جمعة أنه على الرغم من شيوع استخدام مفهوم "إدارة الدولة والمجتمع" منذ ثمانينيات القرن المنصرم، فإنه ليس هناك إجماع على المعنى المقصود به. وتضيف أن هذا المفهوم يتضمن بعدين: البعد الإداري والاقتصادي المستند إلى فكر البنك الدولي، والبعد السياسي الذي يركز على الإصلاح والكفاءة الإدارية وعلى منظومة القيم الديمقراطية المعروفة في المجتمعات الغربية. ومنذ التسعينيات، نما المفهوم وتطور ليعكس قدرة الدولة على قيادة المجتمع في إطار سيادة القانون، بالتركيز على الأبعاد الديمقراطية من حيث تدعيم المشاركة وتفعيل المجتمع المدني وكل ما يجعل من الدولة ممثلاً شرعياً لمواطنيها .

برنامج حكومة حماس:
لم يترك برنامج الحكومة شاردة أو واردة إلا ذكرها في معرض تناوله لموضوعة الإصلاح، وهي الموضوع الغالب على البرنامج، وموضوع التنمية ومحاربة الفقر وتطوير القطاعات الإنتاجية والاستثمار وتطوير الخدمات وخاصة التعليم والصحة. ولكن، الملاحظ أن البرنامج اكتفى بالعموميات جداً، ولم يلامس جوهر الموضوعات ربما باستثناء إعادة بناء المؤسسات ومكافحة الفساد، وبالطبع يمتنع البرنامج عن تحديد آليات معينة أو ذكر طاقات يمكن تعبئتها وأغفل موضوع المشاركة في رسم السياسات من قبل الأطراف ذات الصلة. الملفت أن البرنامج لم يعكس بصورة واضحة العلاقة المتشابكة بين أجهزة الحكومة والسلطة بوجه عام بكل من القطاع الخاص ومكونات المجتمع المدني، مكتفياً بالحديث عن تعزيز بنية المجتمع المدني وتشجيع الاستثمار وسن القوانين المناسبة لذلك.

تعكس القراءة المتأنية للبرنامج مفهوم البنك الدولي للحكم قبل بروز مصطلح الحكم الصالح، من حيث التركيز على بعدين: الجوانب الإدارية والاقتصادية من جهة، ومن جهة أخرى الجانب السياسي الذي يشتمل على قضايا الإصلاح والكفاءة الإدارية، مع التشديد على منظومة القيم الديمقراطية المعروفة. "أعتقد أن البرنامج لا ينسجم مع الواقع العملي فهناك من التعقيدات والتفاصيل التي سيتعين على حماس التعامل معها. وهناك الكثير من الأسئلة سيتحتم الإجابة عنها. أنا لا أعتقد أن هذا البرنامج يجيب عن كل الأسئلة، فهو يجيب عن رغبة أعداد كبيرة من أبناء الشعب الفلسطيني الذين يعانون من الفقر واليأس والقهر من جراء العدوان الإسرائيلي ويستجيب للمشاعر العاطفية ولكنه لا يستجيب للاعتبارات العملية" (قدورة فارس: الانترنت). إلى ذلك، فقصر الفترة، والملابسات التي أحاطت بعمل الحكومة، بما في ذلك الضغوط الداخلية والخارجية ونقص الموارد، لم تتح الفرصة أمام الحكومة لتطبيق برنامجها. ولكن، ثمة مؤشرات عديدة ظهرت هنا وهناك تدل على أن سلوك الحكومة لا يختلف كثيراً عما سبقها من حكومات، والأهم لم تعط الحركة نموذجاً مختلفاً بحجم الرهانات الكبيرة التي انعقدت على حكومة حماس.

حماس في السلطة المحلية:
بنتيجة الانتخابات البلدية والمحلية تولت حماس مسؤولية معيشة الآلاف من موظفي البلدية والشؤون العامة للفلسطينيين بما في ذلك تقديم الخدمات. وفرت تلك الانتخابات أول موطئ قدم لحماس في النظام السياسي الفلسطيني. وبعد مرور سنة تقريباً على فوزها في الكثير من البلديات والمجالس المحلية، يمكن تقديم القراءة التالية :
1- البراغماتية: اتسمت قيادة البلديات التي تديرها حماس بمرونة عالية فيما يتعلق بالاتصال مع الإسرائيليين، فلم تمتنع عن مقابلة النظراء الإسرائيليين إذا كان ذلك ضرورياً للغاية، مع تجنب أي علاقة سياسية معهم. كما أنها استعانت بمرشحين لها من بين المهنيين والنشطاء في مجالات الخدمة العامة وليس فقط من السياسيين.
2- الفعالية: لم تفلت حماس من اتهامات بسوء الإدارة والممارسات غير المقبولة، وربما تكرر بصورة أو بأخرى النموذج السابق. بالطبع يسجل لحماس في بعض البلديات التزامها بمعايير الإدارة الرشيدة واهتمامها بتقديم خدمات للمواطنين، وقد أطرى خبراء عديدون المهنية والإنتاجية العالية. في كل الأحوال، وربما بسبب نقص في التمويل، تواجه حماس عوائق جدية، وخاصة في توفير الوظائف والاستمرار في تنفيذ المشاريع والبرامج.
3- الحيادية: إجمالاً ابتعدت قيادة البلديات التي تديرها حماس عن الصراع السياسي والأيديولوجي، في محاولة لتكريس سمعة مهنية ولتجنب الانتقادات التي كانت توجه لقيادة فتح من تحيز فئوي. بالطبع، هناك بعض المؤشرات التي تدل على غير ذلك.

حماس في الحكومة
إذا كانت فتح التي لم تستوعب هزيمتها في الانتخابات التشريعية، تصرفت كما لو كانت ما تزال في الحكم وتعاملت مع حكومة حماس كما لو أنها اغتصبت الحكم اغتصابا، فإن حركة حماس التي على ما يبدو لم تكن مستعدة للفوز، تصرفت كما لو أنها لا تزال في المعارضة، واستبدلت السياسة بشعارات عامة تتعلق بالصمود، وبرهنت إلى حد كبير على عدم قدرتها، أو عدم رغبتها، في التلاؤم مع دورها الجديد، ولم تتردد في اتخاذ إجراءات استفزازية. وقد اتسمت الحالة الفلسطينية منذ لحظة فوز حماس بصراع محموم وغير مسبوق على السلطة. ولعل الخلاف بين مؤسستي السلطة، الرئاسة ومجلس الوزراء، يمثل أحد أبرز مظاهر هذا الصراع. ولا يغير من هذه الحقيقة المؤلمة، اقتراب الطرفين اليوم من الاتفاق على حكومة وحدة وطنية، هي من حيث الجوهر استبدال استراتيجية الانقسام حول السلطة إلى اقتسامها، تحت تأثير عوامل وضغوط كثيرة بعضها يتعلق بتردي الأوضاع الداخلية ووصولها شفير الهاوية، وبعضها يتعلق بتطورات إقليمية ودولية، وبعضها يتعلق بتداعيات ذلك كله على الحركتين وحسابات الربح والخسارة لكل منهما.
هل يمكن أن تبني حماس نظاماً ديمقراطياً؟
يخلو ميثاق الحركة تقريباً من تحديد طبيعة النظام السياسي الإسلامي الذي تتبناه. ويعتبر الميثاق متوازناً تجاه الفلسطينيين المسيحيين، ومحافظاً تجاه المرأة، ومشدداً على التضامن الاجتماعي. من الصعب الركون إلى وثيقة مضى عليها أكثر من 15 عاماً، دون مراعاة البيئة العملياتية الحالية لحماس، ودون الأخذ بعين الاعتبار التطور الذي عاشته الحركة سواء ما يتعلق بمصالحها المؤسساتية وبرامجها التنظيمية أو بأهدافها السياسية وتحالفاتها الجديدة. ولعل البرنامج الانتخابي لكتلة التغيير والإصلاح يلقي مزيداً من الضوء على محددات النظام الذي تسعى إليه الحركة. فمن حيث المنطلقات الفكرية أو المرجعيات العقيدية، أكد البرنامج استلهام المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، وأنها، أي الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع. وأن الإسلام نظام شامل يحترم الإنسان ويحفظ له حقوقه ويلزمه بتأدية واجباته وذلك بالتوازي مع حقوق المجتمع. وتكريس ثقافة الحوار واحترام كل الآراء شرط عدم تعارضها مع العقيدة وعدم تجاوزها للمعروف والمألوف. مع التأكيد على الحريات العامة وحقوق الإنسان، سن تشريعات تراعي خصوصيات الشعب الفلسطيني وقيمه وتراثه. وتحقيق أجندة الإصلاح الإداري بتبني مفهوم الإدارة الرشيدة، والإصلاح السياسي على أساس مبدأي الشورى والتداول العملي للسلطة، وإجراء إصلاحات دستورية تشكل مدخلاً لتنمية سياسية شاملة، وأيضاً الإصلاح القضائي الشامل.

تشهد حماس منذ فوزها في الانتخابات مراجعات داخلية واسعة، وتأملات عميقة تشمل الأساليب والاستراتيجيات والمفاهيم والأفكار. وتتطلع في ضوء المتغيرات، إلى صياغة جديدة في بنيتها ومشروعها السياسي، ولعل من أبرز هذه المتغيرات اقتراب الحركة من الواقع تفاعلاً وتعايشاً وملامسة عن كثب، وتنزيل أطروحاتها النظرية ومشاريعها للتفاعل مع الواقع الموضوعي بكل تعقيداته وتداخلاته وتناقضاته. وفي سياق الاقتراب والتنزيل، بدت حماس تتحول من المعارضة إلى السلطة ولكن ببطء شديد وحذر كبير، ومن العمل الداخلي في إطار ما يعرف بالمجتمع المضاد إلى الكسب الاجتماعي العام. لكن من الملاحظ أن حماس لا تبذل جهداً فكرياً ملموساً في المحاولات التأصيلية لسلوكها وتوجهاتها. ورغم كل ذلك فالحركة لازالت بعيدة عن امتلاك رؤية متكاملة وتقبل بطرحها للنقاش العام حولها، كما لازالت تعتمد استراتيجية الغموض تجاه معظم القضايا الحيوية، ولازال خطابها العلني يتسم بقدر كبير من الانفعال، وبالتالي عدم الاتساق وحتى التضارب بين التصريحات في بعض الأحيان. ولعل المتصفح لأعداد الرسالة، الجريدة الرسمية لحماس، يلحظ دون عناء مقدار الجهد المبذول في الرد على خصوم الحركة وتبرير سلوكها أكثر من التشديد على برنامجها أو رؤيتها أو وجهة نظرها في هذه القضية أو تلك.

الموقف من الحكومة الإسلامية:
ترجح الورقة أن حركة حماس لا تسعى في المدى المنظور إلى حكومة ثيوقراطية، وإن كانت ستحاول الاستعاضة عن ذلك بالأسلمة التدريجية، وفي نفس الآن لن تكون الحركة حريصة على تشكيل حكومات تقوم على المشاركة الحقيقية إلا كضرورة وليس كخيار. والافتراض أن حماس ستشدد على أن الحكومة الإسلامية يؤسسها الشرع، وأن واجب الحاكم الدفاع عن الشرع وإعلاء شأنه والحفاظ عليه وفرضه. وستجادل الحركة في الركائز التالية للحكم: تؤمن حماس بأن الولاية للأمة، لكنها ليست مطلقة، وأنه إذا كان الدين لا يشكل مصدراً للسلطة، إلا أنه كذلك بالضرورة بالنسبة للقانون. وتؤمن حماس بأن المجتمع مكلف ومسئول، ولكن من واجب السلطة ليس فقط عمارة الدنيا ورعاية المصالح العامة وإنما أيضاً إقامة الدين. كما لا تنكر حماس أن الحرية حق للجميع شرط عدم تعارضها مع العقيدة وعدم تجاوزها للمعروف والمألوف. من الواضح، أنه في ضوء الضغوط والمعيقات التي تواجه الحركة وتفاعلها مع الواقع السياسي المعقد، يمكن لها أن تُعمل فقه الأولويات وفقه الموازنات وفقه المقاصد، فهي ترجح المشاركة والمخالطة والتدرج والعمل في نطاق الوسع وتحقيق الممكن التاريخي.

الموقف من الديمقراطية:
لعل أكثر الأطروحات تردداً خلال الأشهر السابقة على ألسنة قادة حماس وفي أدبياتها المنشورة التأكيد على نزاهة الانتخابات، وعلى نجاح العملية الديمقراطية، وعلى خيار الشعب وعلى ضرورة التمسك بنتائج الانتخابات. والحقيقة أن تجربة حماس في انتخابات مجالس الطلبة أو في الاتحادات المهنية تدلل أنها كانت غالباً تتمسك بنزاهة العملية الانتخابية واحترام نتائجها، ولا ينتقص من ذلك محاولات هنا وهناك تقول غير ذلك.
من الممكن الافتراض أن حماس تتناول موضوعة الديمقراطية ليس بوصفها مذهباً اجتماعياً وفلسفياً يغاير ما هو في الفكر الإسلامي، وإنما باعتبارها تتضمن مكاسب مطلوبة وراجحة ولا تتعارض ومقاصد التشريع الإسلامي. ولكن السؤال عن جدية الحركة في تبني الديمقراطية، وتكريس الانتخابات الدورية كآلية سلمية لتداول السلطة، لازال قيد البحث. ولعل النفور الواضح من فكرة الاستفتاء أو من الدعوة إلى انتخابات مبكرة ينذر بإمكانية انقلاب حماس على الخيار الديمقراطي إذا لم تكن نتيجته مضمونة لصالحها. فالتيار الرافض أو المتحفظ في الإسلام السياسي يرى أن الديمقراطية تقترن بالقومية والعلمانية، وأنها دنيوية وسلطة الأمة فيها مطلقة. وحتى التيار المعتدل يشترط قبول الديمقراطية كوسيلة لجعل الإرادة الشعبية حرة ونافذة سياسياً، بتجريدها من كل ما لا ينسجم مع أحكام الإسلام وقيمه ومبادئه ومقاصده.
من الشواهد الكثيرة في ممارسة حماس، أنها لا تتردد في المطالبة بمشاركتها فيما تعتقد أنه حق لها، وتلجأ إلى مسوغات ديمقراطية، بينما تتردد كثيراً حين ُتطالب هي بمشاركة الآخرين، وبإعطائهم الحق في التعبير عن أنفسهم، وتلجأ إلى مسوغات دينية. ومن غير المؤكد أن حماس تؤمن بالتعددية الفكرية والسياسية خصوصاً، بينما تسلم بالتعددية الدينية. على سبيل المثال، تبنى ميثاق الحركة موقفاً متوازناً تجاه المسيحيين، بينما اعتبر الميثاق أعضاء منظمة التحرير بوصفهم آباء وأبناء وأخوة حادوا عن طريق الصواب. إلى ذلك، لم يتردد بعض قادة الحركة في الإيحاء بمصدر آخر لشرعيتهم في السلطة، غير شرعية الانتخاب من قبل الناس.

الموقف من حقوق الإنسان:
شدد البرنامج الانتخابي لحركة حماس على كفالة الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان. وفور تشكيل حكومتها، طولبت الحركة باحترام قواعد اللعبة الديمقراطية التي لا تشتمل فقط على الانتخابات، وإنما تشمل الحريات الشخصية وحقوق الأفراد في اختيار مسار حياتهم وحقوق المواطنة وعدم الإكراه. وللناس في الإسلام حقوق على بعضهم البعض، ويدعو الإسلام إلى جلب كل مصلحة مندوبة، ودرء كل مفسدة محرمة أو مكروهة. ومن الحقوق التي نص عليها القرآن: حق الحياة والمساواة والحرية والملكية والتعليم والعمل والأمن وحقوق الأسرة والضمان والتكافل الاجتماعي. وإذا كانت هذه الورقة ليست في وارد فحص سجل الحكومة حول مدى صيانتها أو انتهاكها لهذه الحقوق، إلا إنه يمكن الاكتفاء بذكر بعض الأمثلة التي تدعو للقلق: قمع تظاهرات، السكوت على عمليات خطف وتعذيب وقتل واغتيال، انتهاك حق الأفراد والجماعات في الأمن، التردد في اتخاذ مواقف من شأنها جلب مصالح مندوبة، والسكوت عن مفاسد مكروهة. ولا يبرر للحركة وحكومتها أنها محاصرة أو عاجزة أو تنقصها الوسائل، فذلك كله أدعى أن تراجع حساباتها وتغير أولوياتها، طالما أن بقاء الحال على ما هو عليه يجلب مزيداً من المفاسد ولا يرد المظالم.

الموقف من العنف:
يسجل لحركة حماس عدم لجوئها للعنف في الوصول إلى السلطة. يقول محمود الزهار "حماس لا تحبذ التغيير بالعنف أو عن طريق الانقلابات. نحن نسعى لوحدة الشعب الفلسطيني، وحماس كانت دائماً منظمة سياسية تشمل نشاطاتها جميع المستويات – الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهي مستعدة للمنافسة في الانتخابات. نحن نحبذ الانتخابات ولكن من أجل الاستقلال وليس الحكم الذاتي. عندما تقوم دولة فلسطينية، سنشارك على جميع المستويات" وبذلك تنحاز حماس إلى منهج الاعتدال والوسطية في ضوء مراجعة منهج العنف والتشدد الذي أورث حركات إسلامية الخسارة والإنهاك الحركي والسياسي والاجتماعي.
يجدر الانتباه إلى أن حماس لم تتردد في التعبير عن استعدادها لممارسة العنف ضد خصومها أو للدفاع عن نفسها، وتبرر ذلك بأنه غالباً ما يكون فعلاً دفاعياً. حدث ذلك وهي في المعارضة، وربما كان لديها ما يفسر ذلك، ولكن أن يحدث وهي في السلطة فذلك أمر غير مبرر وغير مقبول. فحادث الاعتداء على راديو العمال، والتلويح باستخدام العنف من قبل ميلشيات محسوبة على وزارة الداخلية، مجرد أمثلة. وقد لوح أكثر من مسئول حكومي بورقة الاقتتال الداخلي فيما لو اتخذ الرئيس محمود عباس إجراءات تنتقص من سلطة حماس أو تنقلب على نتائج الانتخابات .

الموقف من السياسة:
السياسة في أبسط معانيها هي التقرير العقلاني والمختار للغايات التي يقوم عليها الاجتماع المدني وتنظيم وسائل تحقيقها وتعيين الأهداف المشتركة. وتبدو مشكلة حماس ليس في ممارسة السياسة بمعناها المتداول، فقد أثبتت مهارة وحنكة إلى حد كبير، لكنها قد تخطىء إذا ما حاولت الخلط بين الأهداف الدينية والسياسية وبالتالي العجز عن التمييز، ثم الاختيار بين الوسائل والقواعد والتقنيات المختلفة. فالسياسة في نهاية المطاف، لا تهدف إلى تغيير أفكار الناس واعتقاداتهم، ولكن رعاية مصالحهم. ومن الطبيعي استلهام القيم الدينية في العمل السياسي، إلا أنه سيفشل إذا ما نظر إليه كوسيلة لتحقيق شيء آخر غير رعاية المصالح البشرية. عندما تضيع السياسة وعيها الدقيق بموضوعها وغايتها ووسائلها ينشأ الاختلاط بين مهام الرعاية ومهام الهداية. تخبطت حماس في ممارسة السياسة بوصفها رعاية مصالح الناس، أولاً بالتركيز على مصالحها هي، ثانياً بالاستعاضة عن الرعاية الواجبة بالشعار المجرد. وفشلت في السياسة كوسيلة للتعامل مع عالم متعدد ومعقد، كما ترددت كثيراً في ممارسة السياسة بوصفها وسيلة لإيجاد التسويات الضرورية للحفاظ على الوحدة الاجتماعية.


إطار (2) أزمة النظام السياسي الفلسطيني
يمر النظام السياسي الفلسطيني في عملية إعادة بناء، تحتل حركة حماس فيها موقعاً مؤثراً وفاعلاً. ستطول هذه العملية، ما يعني وقوع النظام في حالة عدم استقرار قد تفضي إلى أزمة شرعية وهوية، إذا ما بقيت حماس تفتقر إلى رؤية واضحة ومنظور متكامل تقبل التفاوض حوله مع الفاعلين السياسيين والاجتماعيين الآخرين، وإذا ما أصرت على الاستيلاء على المؤسسة (سلطة ومنظمة) دون مراعاة لمحدداتهما وطبيعتهما ووظيفتهما، والتمسك بسمتهما الأساسية: الدور التوحـيدي لمنظمة التحرير الفلسطينية كعامل أساسي في صيانة الهوية الفلسطينية الوطنية وتطويرها، وبوصفها حركة تحرر وطني. والسلطة الفلسطينية بوصفها مشروع دولاني يجري الصراع على حدود إقليمه وشكل السيادة الوطنية عليه. من الواضح، أن ضرراً بالغاً سيلحق بالمشروع الوطني وبمسيرة الكفاح في ظل عدم استقرار النظام، والصراع المحتدم على السلطة. ولا توجد مؤشرات إيجابية على أن حركة حماس تسعى حقاً إلى بناء نظام سياسي ديمقراطي، بالرغم من شواهد تدل على النضج السياسي، والاستعداد للتكيف، والقبول بفعل الضرورة للتعدد والمشاركة. وثمة شواهد تدل على تعرض الحركة وحكومتها لضغوط داخلية وخارجية غير مبررة وبعضها غير أخلاقي، ما قد يهدد سيروة التحول والتكيف وإعطاء الفرصة، بموجب احترام خيار الشعب، لهذه الحركة كي تمارس حقها في الحكم بمقتضى رؤيتها وضروراته.


تركة ثقيلة في ظل حصار خارجي وعراقيل داخلية:
كان من عواقب الورطة التي وجدت حماس نفسها فيها، حرمانها من القدرة على تولي قيادة المجتمع وضمان إذعانه لسياساتها سواء في مجال الاقتصاد أو الأمن أو فرض منظومتها القيمية وتصوراتها على المجتمع. وفي ظل الافتقار الواضح لفهم الواقع وتعقيداته مع الحصار والعزلة، تخبطت الحكومة وفقدت قدرتها على الموازنة بين الأولويات والإمكانيات، واقتراح الحلول الواقعية ولجأت عوضاً عن ذلك لسياسة التبرير والاتهام.

هل كانت حماس تدرك طبيعة المشاكل وحجمها التي تواجه الفلسطينيين عشية دخولها النظام السياسي؟ وهل كانت تتوقع أن فوزها سوف يجلب مزيداً من المشاكل بدلاً من المساعدة في حلها والتخفيف منها؟ هل تأسس برنامجها الانتخابي على نتائج تحليل علمي ومنهجي للواقع وتعقيداته وبالتالي تبنت حلولاً واستراتيجيات واقعية وقابلة للتحقيق؟ وإذا كان الأمر كذلك، لماذا لجأت للشكوى من التركة الثقيلة ومن وطأة الضغوط ومن قلة الموارد ومن تعقيد القضايا وترابطها بعضها ببعض؟ هل هو فقر المعرفة وسطوة الأيدولوجيا وشهوة السلطة أم التقدير الساذج للأمور، والرغبة الصادقة في مواجهة المشاكل دون عميق تفكير؟

عكست وثائق حركة حماس ومن ثم حكومتها ، دراية من نوع ما بطبيعة هذه المشاكل، تبين أنها سطحية للغاية لاحقاً، ولذلك حملت وعوداً ما كان لها أن تتحقق حتى لو لم تواجه الحكومة بالحصار والعزلة. أولاً، فهاتان الوثيقتان لا تتماشيا مع ميثاق الحركة حقاً، ولا تعكس رؤية متكاملة في إدارة الحكم والمجتمع، وهي تعبير عن رغبات وأماني أكثر من كونها استجابة واعية وعقلانية وواقعية لطبيعة المشاكل ووسائل حلها. ثانياً، عكست الوثائق المذكورة رغبة الحركة في حصد الفوز أكثر من اعتبارها برنامج عمل فعلي. ثالثاً، تجاهلت الوثائق ربما عن عمد، أو بسبب الفقر المعرفي، محددات الحالة الفلسطينية وقيودها الموضوعية. وهذا ما انتبهت له الحركة بعد أن اصطدمت بالواقع، فراحت تشكو من المؤامرة التي تستهدف الحكومة، ومرة أخرى متجاهلة الأسباب الموضوعية.
فمثلاً، كيف نفهم رغبة الحركة في بناء نظام اقتصادي مستقل عن إسرائيل؟ وماذا يعني تنقية العلم من لوثات فكرية في ظل الانفتاح التكنولوجي على مختلف الثقافات؟ وكيف يستقيم وقف تدخلات الأمن في الشأن الإعلامي مع تصريحات مسئولين بالضرب بيد من حديد، والاعتداء على إذاعة محلية؟ وكيف يتم تحصين الشباب إذا كان الفقر والبطالة تدفع بعضهم إلى العنف وبعضهم الآخر إلى المخدرات أو الهجرة؟ وماذا يعني النهوض بمستويات المرأة في ظل التشديد على دورها في تدبير شؤون المنزل كما ورد في الميثاق؟ وكيف نفهم برنامج الحكومة الذي لم يترك قضية إلا تبناها بالعموم دون تحديد أولويات ودون تحديد استراتيجيات واقعية؟

لعله من نافل القول، أن على أي سلطة في الحالة الفلسطينية، كما في كل حالة أخرى، أن توازن بين أضلاع ثلاثة في مثلث الحكم: السياسة، الاقتصاد والأمن، وأن تقدم منظوراً متكاملاً يجمع بين مقتضيات كل من هذه الأضلاع. ويكمن خطأ حماس في عدم امتلاكها مثل هذا المنظور، واستعاضت عنه بإجراءات وتكتيكات منفصلة بعضها عن بعض، وحتى يعارض بعضها بعضاً. بالتأكيد، يمكن أن نلتمس العذر للحركة وحكومتها إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ثقل التركة الاقتصادية والأمنية، ووطأة الحصار والعزلة والمناكفة الداخلية. ولكن، يبقى من غير المفهوم، أو المبرر أن تقف الحركة عاجزة عن مواجهة التحدي بصورة معقولة تقوم على ترتيب الأولويات وإعادة صياغة الأهداف وتغيير المقاربات، وقبل كل ذلك ومعه امتلاك القدرات المعرفية والتحليلية للواقع المعقد الذي وجدت الحركة نفسها فيه وجعلت من الحالة الفلسطينية برمتها فريسة له. فمثلاً، لا يستقيم أي إجراء أمني دون اتخاذ قرارات واضحة تتعلق بالميليشيات وفوضى السلاح تحت حجة استمرار المقاومة، وفي ظل أوضاع تتفاقم من الناحيتين الاقتصادية والإنسانية، كما أن أي مدخل غير سياسي لحل الأزمة لن يكتب له النجاح. وبدلاً من تشكيل قوة تنفيذية كان بمقدور الحركة أن تطرح مشروعاً لإصلاح أوضاع الأجهزة الأمنية على المجلس التشريعي.


إطار (3) تحليل مضمون "الرسالة"
جريدة الرسالة: مرآة الخطاب والممارسة معاً
تشير القراءة المعمقة لأعداد الرسالة منذ مطلع هذا العام إلى الملاحظات التالية: المبالغة في الوعود الانتخابية والتركيز الشديد وأحياناً غير الموضوعي على أخطاء الماضي أفراداً ووزارات، عدم الالتفات إلى الصعوبات المحتملة (بالرغم من اقتراح غازي حمد، الناطق باسم الحكومة، بتجنب الوقوع في الشرك بالفصل بين الإدارة والسياسة، ونشر توقعات الجمهور من الحكومة وأهمها الأمن وسيادة القانون وتحسين الوضع الاقتصادي). منذ البداية لم تكن الحكومة تعرف ما هي أولوياتها، لدرجة أن ناصر الدين الشاعر، نائب رئيس الوزراء، اعتبر أن كل شيء هو بمثابة أولوية، وهو ما يعني عدم وجود خطة واضحة وتركيز محدد طبقاً لمنطق التدرج والتراكم. الرسالة، وبقلم غازي حمد أيضاً قدمت توصية جديرة لوزارة الداخلية بضرورة الحسم في موضوع الفوضى والفلتان وأن الجمهور لديه استعداد لتقبل عملية تغيير جذرية تقضي على مظاهر التسيب والفوضى، لكنها امتنعت لاحقاً عن تناول هذا الموضوع إلا من زاوية الإعلان عن خطتين أمنيتين لم تطبقا بحجة الأوضاع السياسة العامة، وبتهديدات واضحة للناطق الإعلامي للوزارة، وبشكوى وزير الداخلية، السيد سعيد صيام، من أن عناصر الأمن الفلسطيني يتبعون جهة حزبية معينة، وهو ما برر له تشكيل قوة تنفيذية أثارت العديد من التساؤلات. الملفت أن معظم المقابلات مع الوزراء كانت تركز على وصف التركة الثقيلة من الفساد والترهل السابق، والحديث عن مؤامرة إسقاط الحكومة، التذكير بالثوابت الوطنية، والقليل عن الإنجازات الفعلية أو عن خطط جادة وواقعية مع استثناءات قليلة أبرزها تمثلت في وزارة الصحة. بينما تتضمن معظم أعداد الرسالة في هذه الفترة إنجازات لبلديات أو لجمعيات وجامعات محسوبة على حركة حماس.
مع اشتداد وطأة الحصار بدأت انعطافة ملحوظة في خطاب الحركة وحكومتها عكسته الرسالة، باتجاه خطاب المقاومة والانتصار لها في لبنان وفلسطين، وطرح ملفات الفساد والعملاء على طاولة الحكومة. وبدأت الحملة على الإضراب والمضربين واتهامهم بمحاولة الانقلاب والتسييس. بالرغم من تعاطف بعض قيادات حماس مع مطالب المعلمين، أشار بيان للكتلة الإسلامية للمعلمين أن الإضراب ليس له أهداف نقابية وإنما سياسية. بينما اعتبرت جهات حكومية أن الإضراب غير قانوني. السيد موسى أبو مرزوق، عضو المكتب السياسي للحركة، رأى في الإضراب بعد ستة شهور من أزمة الرواتب دلالة إيجابية على قدرة شعبنا على التحمل، داعياً الجميع للتكاتف ومطالباً الرئاسة تحديداً بحل مشكلة الموظفين.

نخلص للقول، أن حماس لا تملك نموذجاً أو تصوراً خاصاً لإدارة الدولة والمجتمع، وأن الفترة التي أمضتها في الحكومة لم تكن كافية لتطوير مثل هذا التصور، آخذين بالاعتبار الضغوط الهائلة التي مورست عليها. ولكن الملفت أن حماس التي أعطت لسلوكها في المقاومة نكهة خاصة مميزة لها، فشلت في إعطاء مثل هذه النكهة الخاصة في سلوكها وهي تدير شؤون السلطة والمجتمع. ويصعب على المواطن العادي كما على المراقب الخبير أن يلحظ أي تمايز حقيقي بين إدارة فتح للسلطة والمجتمع وبين إدارة حماس لهما. إلى ذلك يمكن أن نستخلص بعض الملاحظات الأخرى تحت عنوان واحد "صعوبة التحول من رفض الواقع إلى إدارته":
(1) المرونة: لم تتحل الحركة وحكومتها بالمرونة اللازمة لإدارة الحكم والمجتمع. ولم يتحقق الفصل بين الحركة والحكومة على نحو ما يتيح للأخيرة هامشاً من المرونة. وتعزى الأسباب إلى: قوة المعتقدات والإيديولوجية الإسلامية في حركة حماس وصعوبة التكيف مع ظروف غير متوقعة. ويعزي البعض تصلب الحركة إلى تعرضها للضغط الداخلي والخارجي.
(2) تقديرات خاطئة: أصيبت الحكومة بشلل دبلوماسي واقتصادي وعجز مالي لم يمكنها من الإيفاء بالتزاماتها المختلفة وخاصة ما يتعلق بالرواتب. تبرر حماس ذلك بأنها لم ترث إلا الخراب، كالخزينة الفارغة، وأنهم لم يعطوا الفرصة للحكم في ظل معيقات داخلية وخارجية، أدت إلى تجريدهم من الموارد والمؤسسات والصلاحيات. ويرد محللون على ذلك، بأن حماس لم تكن مستعدة لمواجهة مقتضيات الحكم في ظل قيود ومحددات تعرفها جيداً، وأنها لم تكن تملك البديل الواقعي، وأنها راهنت على قبول المجتمع الدولي لها بمجرد فوزها في انتخابات ديمقراطية، وهو ما يعكس قصور معرفي لديها حول طبيعة العلاقات والالتزامات الدولية والمنطق الحاكم لها. والأهم، أن حماس تتصرف كما لو أن الشعب قد منحها تفويضاً غير مشروط بالحكم إلى ما لانهاية.
(3) أداء اقتصادي ضعيف:لم تكن أزمة الرواتب سوى مؤشر على أزمة بنيوية لم تلتفت لها الحركة أو حكومتها؛ إذ لا يوجد كيان يبلغ في اعتماده على العالم الخارجي مقدار ما تبلغه السلطة الفلسطينية، فهي تعتمد في بقائها على السياسات الإسرائيلية وعلى التمويل الدولي. والسلطة بحاجة إلى تأمين قرابة بليون دولار سنوياً لتمويل نفقاتها الجارية الأساسية. وليست الأزمة نتيجةً لتعليق المساعدات فحسب، وليس من الممكن تجنبها باستئناف المساعدات المباشرة. فالعامل الأساسي هنا هو استمرار تجميد إسرائيل تحويل الإيرادات المالية الفلسطينية إضافةً إلى سياسة الإغلاق الإسرائيلية الصارمة وغيرها من القيود . وللأزمات الاقتصادية كما هو معروف عواقب سياسية واجتماعية ونفسية. والبدائل التي لجأ إليها المجتمع الدولي، والتي تحمل طابعاً إنسانياً، حملت في ثناياها تهديدات جديدة. فماذا أعدت الحركة وحكومتها في مواجهة ذلك؟ وهو كان متوقعاً ومعروفاً. تعددت استراتيجيات حماس وحكومتها في مواجهة هذا الوضع: (1) استراتيجية الغموض الملتبس الذي يجمع بين خطاب الصمود والصبر من ناحية وتحميل الآخرين المسؤولية من ناحية ثانية. (2) التركيز على الاستثمار في شبكات الدعم الاجتماعي (الحركة لا تريد أن تضحي بمجتمعها المضاد) والتبرع الشعبي. (3) محاولة إدخال أموال بطرق مختلفة. (4) استراتيجية اقتصاد التقشف في الإدارة العامة وفي حياة السكان. من الواضح أنها استراتيجيات لا ترق لمستوى التحدي الفعلي.

(4) فشل في الانتقال من عقلية التنظيم الحركي إلى عقلية التنظيم الدولاني:كان من المتوقع كرهان، واستناداً إلى سلوك الحركة التنظيمي والإداري والإعلامي والجماهيري الذي يؤشر على تراكم خبرات واكتساب مهارات من شأن توظيفها في الإدارة العامة لشؤون الدولة (السلطة) أن تحدث تغييراً ملموساً، وفي الاتجاه الذي يجلب لها الدعم الشعبي: الانضباط، التخطيط، المهنية العالية، الإدارة الناجحة للمؤسسات النقابية والخيرية، تقديم الخدمات. أثبتت الحركة جدارتها "كمجتمع مضاد" لكنها لم تستطع أن تستلهم هذه النجاحات والجدارة وهي تتولى المسؤولية العامة عن إدارة مجمل الوضع الفلسطيني. تبرر حماس قصورها بالعدوان الإسرائيلي، وبالحصار الاقتصادي والعزلة السياسية، وأخيراً بالمحاولات الانقلابية الداخلية، لكنها تغفل ما يعتري خطابها من فقر معرفي، عدم القدرة على تحديد الأولويات والاتجاه المركزي، تداخل الأجندة الحزبية مع أجندة السلطة والحكومة، صعوبة الانتقال من عقلية المجتمع المضاد إلى رحاب المجتمع الأوسع، ربما لأنها غير مطمئنة لبقائها طويلاً في السلطة، فالأفضلية للمجتمع المضاد، خاصة أنه يضمر قناعة داخلية بفكرة سيد قطب عن الجاهلية.

(5) رهان في غير محله أو وقته: تراجعت الرهانات على نجاح حركة حماس في تقديم نموذج مغاير في الحكم، حتى أن المرشد العام للإخوان المسلمين في مصر صرح بأن حماس وصلت الحكم قبل موعدها بخمسة عشر عاماً. فالحركة لم تصب نجاحاً في بناء نموذج يعطي الثقة في قدرة هذه الحركة على التواجد والحضور، وعدم تمكين خصومها من إزاحتها وتغيير الصورة النمطية الشائعة، بإتباع تكتيك خطوة إلى الوراء خطوتان إلى الأمام. كما لم تنجح في نقل شعارات الصحوة الإسلامية إلى مرحلة البرامج عبر الاحتكاك بالواقع والاقتراب منه والتعرف عليه بتعقيداته، وبالتالي إعمال الفكر والاجتهاد وإبداع الحلول في نطاق أحكام الشريعة ومقاصدها. كما لم تنجح في الإسهام في تقديم صورة عملية لإمكانية اقتران الممارسة السياسية والحزبية بالمبادئ والقيم.

(6) خيارات أخرى: في الموضوع السياسي بما في ذلك إعادة بناء النظام السياسي واستراتيجيات المقاومة، يمكن التريث والانتظار وإتباع منطق التجربة والخطأ، ولكن الموضوع الاقتصادي والاجتماعي لا يحتمل التأجيل والرهانات الأيديولوجية والربط المباشر بالموضوع السياسي، فتلك وصفة للانتحار الجماعي. من شأن أي تفاقم في هذا الموضوع أن يضعف من مناعة وممانعة الفلسطينيين في الموضوع الأول، لذلك كان على حماس أن تدرك مقدار خطورة هذا الجانب وتعمل على تجنيب الناس مزيداً من الويلات، وليس صحيحاً أنه لم يعد أمام الفلسطينيين من خيار إما التمسك بالثوابت وإما الجوع. فتجربة قرن كامل، تقول عكس ذلك تماماً، أي لكي نتمسك بثوابتنا، وقد فعلنا ودوماً، لم يكن علينا أن نجوع، كنا دائماً نلتمس الحيلة والذكاء واستنفار الطاقات وتحييد هذه الأجندة عن الموضوع الوطني الحساس وأجبرنا العالم على التمييز بين هذا وذاك. وبمقدور حماس أن تفعل اليوم، بتحييد الملف الإنساني والاجتماعي والاقتصادي عن الخلافات السياسية الداخلية والخارجية على السواء، وأعتقد أن جبهة الأصدقاء في العالم حينئذ ستقف معنا وسنمكنها من اختراق حصار أمريكا وإسرائيل دون أن يتسبب لها ذلك في أي حرج سياسي أو قانوني أو أخلاقي ودبلوماسي.

(7) سلوك غير مفهوم: جوبهت حماس بعوائق عدة، وشعرت أنها في الزاوية، ولم يعطها العالم فرصة التقاط الأنفاس وإعادة التفكير في الأجندات والأولويات، ولكن بعض السلوكيات التي مارستها الحكومة أو بعض أفرادها أو مؤسساتها غير مرتبطة بذلك. التلويح باستخدام القوة والعنف والضرب بيد من حديد، قمع الصحافة، استبدال أطروحة الإصلاح الإداري بالتقدم بقائمة موظفين إلى الرئيس من قبل الحركة ومن المحسوبين عليها، اتهام المضربين بأنهم يخدمون مصلحة الأعداء أو بالخروج من الصف الوطني أو بالخروج عن تعاليم الإسلام، وفي كل الأحوال دون تقديم البديل. رئيس الوزراء، إسماعيل هنية، أعطى نموذجاً طيباً عندما خرج إلى الشارع في حملة نظافة تطوعية، لكن هذا النموذج لم يعمم ولم يجرِ التمسك به كخيار مؤقت وبديل لنضوب الموارد وشحتها، أي الاستثمار في الطاقات المحلية وخاصة في العنصر البشري.

حماس والهوية الوطنية
إذا كان صحيحاً أن الحركة تواجه صعوبات في التكيف مع دورها الجديد، وفي الانتقال من عقلية التنظيم الحركي إلى عقلية التنظيم الدولاني، من المعارضة إلى السلطة، إلا أن وجودها داخل النظام كأحد أهم اللاعبين السياسيين أصبح حقيقة سياسية، وعليه، سيدور الصراع ليس على توزيع السلطة والثروة فحسب، وإنما على هوية النظام نفسه، وهو ما سيقود حتماً إلى حالة عدم استقرار طويلة نسبياً مع تفاقم أزمة هوية النظام وشرعيته. يشرح برهان غليون طبيعة الصراع الدائر بين الحركات السياسية الإسلامية من جهة وبين السلطات الحاكمة وبعض النخب العلمانية من جهة أخرى قائلاً إنه صراع يتجاوز موضوع إعادة النظر بالثروة، كما يتجاوز موضوع الصراع السياسي الهادف إلى إعادة توزيع مواقع الحكم والسلطة، إنه صراع يتعلق أساساً بإعادة توزيع الرأسمال الرمزي "أي إعادة النظر في القيم العامة التي تحدد على المدى الطويل قالب توزيع السلطة ذاتها، كما تحدد قالب توزيع الثروة والدخل الاقتصادي، وهذا بالضبط ما يجعله –أي الصراع- شمولياً وشاملاً من جهة، ويغلق فرص التسوية فيه من جهة ثانية"
البحث عن هوية
مع دخول العصر الحديث، وتفكك السلطنة العثمانية، ونشوء الاستعمار، وجد العرب والمسلمون أنفسهم حيرى بين هويتهم من حيث هي واقع مادي وعملي يتسم بالانحطاط والتراجع، وبين تصورهم لهذه الهوية أو لما يجب أن تكون عليه. فقدت شخصيتهم التقليدية اتساقها ووعيها وحدتها، بعد أن كان تصورهم عن هويتهم مكوناً من ثلاثة مراكز: المركز الأول، المرجع الإسلامي في نظام القيم والعناصر التكوينية والمفاهيم الكبرى المنظمة للسلوك الفردي والجمعي. المركز الثاني، الخصوصية الثقافية أو الجهوية أو العشائرية، والتي تشارك في النظام الاجتماعي بوصفها مصدراً للتضامنات الجزئية والقيم الفلكلورية. المركز الثالث، العربية كنظام من الدلالات النسبية واللغوية والأدبية وبالارتباط بالمرجع الديني. انقلب هذا التصور التراتبي لتصور الهوية. ومع تنحية الإسلام كعنصر أول مركزي في بناء مفهوم الهوية السياسية، برزت الخصوصيات الجزئية إلى السطح وتحولت إلى مرتكزات لهوية جديدة قيد الإنشاء. وفي إطار سعيهم لمواجهة هذا التحدي الكبير: أي إعادة بناء شخصيتهم الوطنية وضمان اتساقها وفاعليتها، أدرك الرواد الأوائل أنه بدون عقيدة مرشدة ورؤية جديدة، لا يمكن لهذا الهدف أن يتحقق. في هذا السياق التاريخي من التحدي والبحث عن الذات، ولدت الفكرة العربية .
سبقت ولادة الفكرة العربية ومشروعها محاولات رواد الإصلاح الأوائل (الطهطاوي، خير الدين التونسي) التوفيق بين الشريعة والإقتداء بالغرب في مجالات ممارسة الحكم ونوع الحياة الاجتماعية التي خبروها أثناء إقامتهم في أوروبا. كما تعاطى هؤلاء الرواد مع مقولة الأمة كمقولة سياسية. لكنها مجردة من فكرة السيادة إلا في مواجهة الاستعمار. ميز الإصلاحيون بين حداثة صالحة وأخرى طالحة، وبين حداثة مباشرة وأخرى مؤجلة، وبين حداثة عالمية وأخرى خاصة بالغرب، وقد تشكل مفهوم الأمة لديهم من العناصر الأولى في هذه الخيارات. لاحقاً، ظهرت ثلاثة اتجاهات مؤسسة على هذه الرؤية أو بتجاوزها: بينما تمسك بها الأوتوقراط التحديثيون، تجاوزها العلمانيون من الخارج، والإسلاميون من الداخل .
ظلت الفكرة العربية مجرد اكتشاف سياسي، فتشتت الوعي الوطني العربي بين نزعة قطرية نابعة من ضرورة الخضوع للأمر الواقعي الدولي، ونزعة إسلامية سياسية لا تطابق الحقائق التاريخية العملية الحية. شهدت نهاية القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين ولادة وصعود ثلاثة اتجاهات متوازية ومتداخلة، متصارعة ومتنافرة، فكرياً وعملياً، أيدولوجياً وسياسياً: الاتجاه القومي، الاتجاه الوطني القطري، الاتجاه الإسلامي.
مع نهاية القرن التاسع عشر، برزت محاولات تجديدية (الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا) لمواجهة الحداثة الغربية بحداثة خاصة بالإسلام لا تبنى انطلاقاً من وصفات اكتشفها الآخر، بل انطلاقاً من تحد مزدوج: التحدي الناجم عن حداثة الغرب، والتحدي الذي يعود إلى المجتمعات التي تخلت عن المبادئ التي تشكل حيويتها وهو ما أورثها التخلف.
تبنى التجديديون فكرة بناء الإسلام كحضارة وليس كدين، لأن الدين متضمن في الحضارة. العالم الإسلامي يقابل الغرب، والغرب عرف التقدم عندما تحرر من المسيحية، بينما الدين الإسلامي يفرض نفسه ليس فقط كعقيدة في المقدس، بل كمكان للتضامن الاجتماعي، للهوية ولبناء التقدم. وهكذا، أصبح الإسلام يتعين/يتحدد على صيغة استبعاد الآخر، أي إطراح الغرب. وفي نفس الوقت كمبدأ إيجابي، أي كقاعدة بناء نموذج جديد للحداثة. وقد انبنت الفكرة التجديدية على مبدأين: إعادة بناء الوحدة كعنصر قوة وانتصار، وإعادة فتح باب الاجتهاد لتكييف الشريعة مع المعطيات الجديدة.
تبنت الحركات الإسلامية المعاصرة منذ الثلث الثاني من القرن العشرين خطاباً اتهامياً للمحاكاة والإقتداء بالغرب. وذهبت أبعد مما ذهب إليه أصحاب النزعة التجديدية، بإنكار الحداثة وإيجاد بديل لها، حداثة إسلامية تؤسس لدولة إسلامية. هذا النموذج أرسى قواعد واضحة: تربية إسلامية، قوانين مستمدة من الشريعة، وإدارة مستندة إلى الإسلام. ومع التصور الذي يتبناه هؤلاء عن الدولة الإسلامية، يتهافت منطق الدولة عن طريق زوال فكرة السيادة وعن طريق القضاء على فكرة المجال السياسي وإحلال مبدأ العرفان محل مبدأ السلطة.
ولعل أسطع ما تمخضت عنه هذه النزعة، وهي أبعد عن الفقه أو الفلسفة، ميلها لفكرة المعارضة للنموذج الغربي، وهو ما يعطيها هويتها، بوصفها حركات نشطة سياسياً تطمح لإصلاح الأمة تجاه الآخر الغربي والأخر الداخلي الذي يقتدي بالغربي. وقد اعتمدت في الطريق إلى ذلك نمذجة المبادئ الجوهرية للثقافة وتبسيطها وجعلها في متناول عامة الناس، ما جعلها أقرب إلى الإطلاقية الأيديولوجية منها إلى النسبية الفكرية.

إطار (4) الموقف من الغرب
تؤسس الحركات الإسلامية المعاصرة رؤيتها للغرب على أربعة مفاهيم: عالمية الإسلام، وحدة الإنسانية، الجهاد وقيادة العالم. بالطبع، لا يغيب عن هذه الحركات وهي تصوغ رؤيتها عوامل أخرى غير العقيدة، أي التاريخ والواقع. تتحدد أبعاد مفهوم الغرب في فكر الحركات الإسلامية أولاً، باعتباره استعماراً مارس الاستغلال والقهر، وثانياً، باعتباره صاحب التقدم العلمي والتكنولوجي الحديث، وثالثاً، باعتباره نمطاً خاصاً في الحياة قيماً وعادات. أما الاستعمار فهو أحد أبرز وجوه الغرب حضوراً في رؤية الحركات الإسلامية، وهو لازال مستمراً بأشكال جديدة، ومن جرائمه في منظور هذه الحركات، استغلال الثروات ونهبها، التآمر على الخلافة العثمانية وإسقاطها، تجزئة العالم الإسلامي، وأخيراً غرس إسرائيل في قلب العالم الإسلامي والانحياز لها. وأما التقدم العلمي والتكنولوجي فلا تنبهر به الحركات كثيراً، لكنها تسلم بأنه من حسنات المدنية الغربية، وهي لا تنكر أهمية التقدم وضرورة الأخذ بعناصر القوة والإمكانيات المادية، لكنها تدعو للأخذ بحذر، فليس كل المنجزات جديرة بالنقل والاقتباس. وأما بالنسبة لنمط الحياة، فتركز الحركات على نقد الجوانب الأخلاقية والسلوكية والقيمية وتعتبرها دليلاً على خواء الحضارة الغربية .

الهوية الوطنية الفلسطينية:
يتميز مفهوم الهوية الوطنية عن غيره من مفاهيم الانتماء والولاء المختلفة والكثيرة، في أنه حالة سياسية وإرادية خالصة، تتسم بطبيعتها الجماعية حصراً، وتقوم على الاتفاق وعن وعي تام بين سكان إقليم معين، على العيش معاً في مجتمع سياسي يتمتع بالسيادة الكاملة. يشترط هذا الاتفاق الإجماع على عناصر أساسية في مقدمتها الإقليم المعرّف والمحدد، والحكومة الواحدة والقانون الواحد الذي يسري على جميع السكان. يستند هذا المفهوم على مبدأ الديمقراطية مقترنة بالمكاسب الاقتصادية والاجتماعية.
بالنسبة لتشكل الهويات الوطنية في العالم الثالث، فقد مر في ثلاث مراحل: (1) مرحلة وضع حدود الأقاليم من قبل القوة الاستعمارية. (2) مرحلة تشكل الحركات الوطنية. (3) مرحلة الدولة التي تقوم بوظيفة تشكيل الهويات الوطنية لسكانها من خلال سياساتها التطويرية. ويرى البعض أن الحركات الوطنية في العالم الثالث تتشكل في رحم النضال ضد الاستعمار، غير أن النضال ضد الاستعمار، لا يكفي بحد ذاته لتشكيل الهوية الوطنية.

بروز الهوية الفلسطينية وتطورها:
في ظل الدولة العثمانية، لم تكن ثمة حاجة لفكرة الهوية الوطنية، فقد كان معظم سكان الأقاليم العربية، ومنها فلسطين، يعرّفون أنفسهم بأنهم مسلمون. مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بدأت شعوب المنطقة تتطلع إلى إعادة بناء شخصيتها الوطنية. في سياق ذلك تشكلت متصرفية القدس عام 1871 لتوفر المقدمات الموضوعية لتبلور مفهوم هوية وطنية فلسطينية . حيث تمتعت بمستوى متقدم من الحكم الذاتي، وضمت لدى أول تشكيل لها كل ما عرف لاحقاً بفلسطين الانتدابية. من جهة ثانية، أدى موقعها بين القاهرة وبيروت إلى تعرضها للمؤثرات الثقافية. وتحديداً بروز عدة تيارات فكرية سياسية أهمها التيار الإسلامي، التيار القومي العربي والتيار الوطني.
على الرغم من وجود نخب سياسية وثقافية فلسطينية أيدت الإصلاح في إطار الدولة العثمانية، إلا أن التيار العام في متصرفية القدس كان تياراً متديناً محافظاً أقرب إلى التيار الإسلامي الداعي إلى اعتبار الإسلام متغيراً أساسياً للانتماء. كذلك لقي التيار القومي العربي تجاوباً في صفوف النخبة الثقافية، وازدهر الاهتمام باللغة العربية كمقوم أساسي من مقومات القومية العربية، على الرغم من عدم ظهور مفكرين مرموقين في صفوف تلك النخبة. بالإضافة إلى تشكيل متصرفية القدس، لعبت عوامل أخرى في بلورة مقدمات الهوية الفلسطينية، منها الكفاح ضد الحركة الصهيونية، وطبيعة التركيبة السكانية الفلسطينية، واستبعاد فلسطين من إطار الحركة الوطنية السورية.
لم يعتنق الفلسطينيون فكرة الدولة القومية الوطنية مبكراً، على النحو الذي فعله اللبنانيون والمصريون على سبيل المثال، وذلك بفعل أن الثقافة السائدة كانت هي الثقافة الإسلامية المتمسكة بإطار الدولة العثمانية الإسلامية، أو الدولة العربية الإسلامية الواحدة في سياق ثورة الشريف حسين. وكانت الأصوات الداعية إلى ثقافة فلسطينية وإلي فلسطينية الفكر السياسي قليلة وضئيلة التأثير.
كانت م.ت.ف منذ الستينيات قد تحولت إلى دولة فوق إقليمية، وعملت على تأسيس هوية سياسية فلسطينية غير أن هذه الهوية تعرضت للإنهاك بفعل الشد والجذب من بعض الحركات القومية العربية، ثم بفعل تيار الإسلام السياسي، وبفعل عدم تمكن الفلسطينيين من حسم مسألة تحديد الإقليم من جهة أخرى، قد أضعفت هذه الهوية السياسية، الأمر الذي حال دون تشكيل وعاء لهوية ثقافية فلسطينية واحدة ناضجة. لم يغير نشوء السلطة الفلسطينية وتشكل حقل سياسي جديد من هذه الحقيقة، بل تفاقم الأمر خلال سنوات إلى الحد الذي تمزقت فيه هذه الهوية وتذررت إلى هويات جزئية.


إطار (5) في الجدل حول قضايا الهوية
كان إسهام الفلسطينيين ولازال في إنتاج النظرية والجدل النظري حول قضايا الهوية متواضعاً جداً، أولاً بسبب غياب الدولة الوطنية التي تتشكل الهوية في إطارها، وثانياً بسبب ضعف وهشاشة الشريحتين الثقافية والسياسية، وثالثاً، لطبيعة المجتمع الفلسطيني المحافظة وافتقاره للحرية شرط الإبداع ورابعاً، بسبب العزلة الناجمة عن الموقع الطرفي لفلسطين. خامساً، بسبب غياب المركز، بمعني عدم وجود عاصمة ثقافية للفلسطينيين على مدى التاريخ.
إذا كانت الثقافة السياسية الفلسطينية، قد اكتسبت بعض السمات كالاقتدار والمشاركة والثقة والتسامح والانفتاح، إلا أن بعضها آخذ في التآكل والتراجع؛ السبب الأول يتعلق بالشعور العام بالعجز والهوان الناجم عن الاحتلال، السبب الثاني، طبيعة السلطة الفلسطينية وما شابها من ملابسات، السبب الثالث، ضعف الأحزاب والمؤسسات والنخب المثقفة، السبب الرابع، الموروث الثقافي الطويل من القيم والمفاهيم الإقصائية والإلغائية التي تقوم على الحقائق المطلقة وعلى الإحجام عن نقد الذات، والسبب الخامس، غياب الرؤية السياسية الواضحة. وأخيراً، الطبيعة المحافظة للمجتمع الفلسطيني، وإعادة تظهيرها في ضوء دخول حركة حماس الحقل السياسي الفلسطيني.

اكتفى ميثاق حركة حماس بتحديد صفة الإسلامي للنظام السياسي الذي تسعى إلى استبدال النظام العلماني به، دون أن يشرح طبيعة هذا النظام وقواعد ممارسة السلطة وآلياتها. وسحب الميثاق ذات الصفة على القضية الوطنية بالإضافة إلى صفتي الفلسطينية والعربية "وعلى هذا الأساس يجب أن ينظر إلى القضية، ويجب أن يدرك ذلك كل مسلم" (المادة 14)، وعلى "الأرض "فلسطين أرض وقف إسلامي" (المادة 11) وعلى الشعب الفلسطيني "على أتباع الديانات الأخرى أن يكفوا عن منازعة الإسلام في السيادة على هذه المنطقة" (المادة31) ويغفل الميثاق التشديد على البعد القومي للشعب وللقضية والأرض، وإن طالب الدول والشعوب العربية ببذل الجهد وتقديم العون، وحدد الدائرة العربية ضمن الدوائر الثلاث لقضية تحرير فلسطين. في أعقاب تشكيل حكومة حماس جرى التشديد على البعدين العربي والإسلامي، ليس لتركيز الجهد أو إعادة الموازنة في العلاقات، وإنما في مواجهة العلاقة مع الغرب أو حتى كبديل لها. وسرعان ما تبين عقم هذا الطرح، بل ذهبت الحركة أبعد من ذلك في ترحيبها بفتح قنوات للحوار مع دوائر صنع القرار في الغرب والدخول الفعلي في هذا الحوار. ومع تأكيد الميثاق على أن حماس تبادل الحركات الوطنية على الساحة الفلسطينية الاحترام وتقدر ظروفها طالما لا تعطي ولاءها للشرق الشيوعي أو الغرب الصليبي، وأنها ستكون سنداً لها وعونا، تجمع ولا تفرق، توحد ولا تجزئ، غير أنها تؤكد على حقها في الدفاع عن النفس. الملفت للانتباه، أن حماس بررت سلوكها العنيف وهي في السلطة بحجة الدفاع عن النفس. بالطبع، فميثاق الحركة يمتنع عن التأكيد على احترام التعدد والاعتراف بالآخر، وبالتالي تظل علاقتها بالفاعلين الآخرين مرهونة بموقفها منهم وحكمها عليهم، بالرغم من حقيقة أن تطوراً نظرياً طرأ على ذلك كما عبر عنه برنامج الحكومة بالإضافة إلى التطور العملي الذي أضفى على العلاقة بين حماس وبقية التنظيمات شكلاً يتسم بالتفهم والتعاون المشترك. يجدر الانتباه أن هذا التطور يتعلق بالنخب القيادية ولما ينعكس على القواعد والأعضاء الذين يعيشون حياة تنظيمية صارمة. ولعلنا نجد في ذلك بعض التفسير للمبالغة في القسوة أثناء الاشتباكات التي حدثت بين حركتي فتح وحماس. إلى ذلك، يمكن استخلاص بعض الملاحظات الأخرى بخصوص حماس والهوية الوطنية:
(1) بدأت عملية تشكيل هوية ثقافية للفلسطينيين مع تشكيل م.ت.ف وقيام المؤسسات الرسمية والشعبية التي على الرغم من هشاشتها وضعفها، قد عززت مساراً ظل متذبذباً منذ عشرينات القرن العشرين، بين تيار يعمل على تأسيس مثل هذه الثقافة وتيار يرفض ذلك ويدعو إلى الاندماج في محيط الثقافة العربية. وكان هذا التيار يدّعي بأنه لا يمكن وجود ثقافة فلسطينية خاصة، لأن ثقافة الفلسطينيين هي جزء لا يتجزأ من الثقافة العربية العامة. مع صعود حماس طرحت إشكالية أخرى تتعلق بالمكون الإسلامي للهوية الفلسطينية وإبرازه على حساب المكونات الأخرى، وهو ما يعني أن الهوية الفلسطينية لازالت أبعد عن النضج والاكتمال.
(2) تبحث الهوية السياسية عن عناصر ارتكاز لها في الهوية الثقافية (صحيح أنها لا تعبر عن المصالح، لكنها تشكل الوسيلة الأكثر نجاعة لبلورة برنامج متميز للجماعة؛ برنامج يختصر ويبتذل كل مسافات الابتكار السياسي والتجربة والخطأ) وسرعان ما يقع حامل هذه الهوية الملتبسة، الغامضة فريسة الصراع بين الاتكاء على عنجهية الخطبة والمواجهة الفعلية مع عنجهية القوة، الانكفاء على الذات وضرورة إعادة مناقشة مكونات الذات، قوة التعبئة الناجمة عن الهوية الثقافية ومحدوديتها في تعبئة القوة في الحياة العملية. تواجه حماس وحكومتها اليوم مأزقاً في علاقتها مع العالم ناجماً تحديداً عن هذه الهوية الملتبسة، مهما كان ادعاء المؤامرة الخارجية مريحاً ومطمئناً. كان لافتاً خلال الشهور التي أعقبت تشكيل الحكومة، وفي ظل الحصار المضروب على الحركة وحكومتها، وفي ظل المناكفة الداخلية، لجوء قادة الحركة ورموز حكومتها إلى المساجد وإلقاء الخطب وحشد الجماهير الغفيرة في الساحات العامة لتستمع إلى خطابات تبريرية لحالة العجز التي وجدت الحركة نفسها أسيرة لها، متحاشية استخدام لغة السياسة ودون أن تقدم بدائل ومخارج عملية. تكررت عبارات انفعالية من قبيل "لن تسقط القلاع"، و"لن نعترف" و"الجوع ولا الركوع" وبمقدار ما أسهبت هذه الخطابات في شرح المؤامرة، قصرت إلى درجة كبيرة في طرح البدائل والحلول الممكنة. وقد تبين للحركة أن قدرتها على تعبئة الجمهور على أساس عاطفي محدودة، وأن نتائج هذه التعبئة كانت كارثية دفع الفلسطينيون ثمنها غالياً، وأنها عاجلاً ستجد نفسها مضطرة لتقديم كشف حساب عن إنجازاتها وليس عن إخفاقات الآخرين.
(3) صدمة العولمة: كان للعولمة الاقتصادية والثقافية فعلاً صادماً للهويات الوطنية والثقافية ، فبينما أدت ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات إلى تحطيم الحدود وإلغاء حالة الانغلاق كاشفة عن مدى المتخيل في التاريخ المبني على خطية مبسطة لحركة المجتمعات، شكلت عولمة الاقتصاد تهديداً للسيادة القومية. خلقت العولمة حالة انفصام في بلدان الأطراف، حيث الاضطرار إلى المشاركة في القيم العالمية وفي نفس الوقت الارتباط بالولاء المحلي. وتجد الكثير من الدول نفسها حيرى بين التخلي عن سيادتها، أو إلغاء دورها وحضورها في النظام العالمي. تعود حالة الانفصام، إلى بعدين للهوية: الأول تاريخي مبني على الذاكرة الجمعية، ويعبر عن جوهر ثابت ودائم، والثاني، بعد يقيم في الحاضر، ويتم من خلاله التعامل مع الواقع. ومع أن التجربة الإسلامية في القرون الأربعة الأولى قدمت مثالاً ساطعاً على أن الهوية ليست بنية مغلقة سكونية ثابتة، فقد تحول الإسلام من دعوة دينية إلى دولة-مدينة ومن ثم إلى إمبراطورية ودين كوني. شهد خلال ذلك عمليات انصهار واندماج في الثقافة والحياة، عمليات ولاء وانتماء وتزاوج وتداخل، العنصر المشترك فيها المرونة والقدرة على إعادة تمثل صورة الذات. إلا أن معظم الحركات الإسلامية المعاصرة تفتقر إلى مثل هذه المرونة والقدرة. وإذا كانت لم تتجاوز صدمة الحداثة، وبقيت خارجها، تنكرها وتعجز عن تقديم بديلها كما زعمت، فهي أيضاً، غير مرشحة لاستيعاب صدمة العولمة.







#تيسير_محيسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حكومة حماس بين الإغاثة والتنمية
- آفاق التحولات البنيوية في النظام السياسي الفلسطيني
- الإصلاح المؤسساتي
- علاقة المسرح بالمجتمع المدني في الضفة الغربية وقطاع غزة
- في مواجهة خطة شارون: استحقاقات فلسطينية عاجلة وآجلة
- في العمل مع الشباب: التنشيط الاجتماعي والثقافي


المزيد.....




- لاكروا: هكذا عززت الأنظمة العسكرية رقابتها على المعلومة في م ...
- توقيف مساعد لنائب ألماني بالبرلمان الأوروبي بشبهة التجسس لصا ...
- برلين تحذر من مخاطر التجسس من قبل طلاب صينيين
- مجلس الوزراء الألماني يقر تعديل قانون الاستخبارات الخارجية
- أمريكا تنفي -ازدواجية المعايير- إزاء انتهاكات إسرائيلية مزعو ...
- وزير أوكراني يواجه تهمة الاحتيال في بلاده
- الصين ترفض الاتهامات الألمانية بالتجسس على البرلمان الأوروبي ...
- تحذيرات من استغلال المتحرشين للأطفال بتقنيات الذكاء الاصطناع ...
- -بلّغ محمد بن سلمان-.. الأمن السعودي يقبض على مقيم لمخالفته ...
- باتروشيف يلتقي رئيس جمهورية صرب البوسنة


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - تيسير محيسن - بعد عام على تشكيلها: حكومة حماس بين الفكر والممارسة