كنا قد خلصنا في المراهقة (2) إلى أن المجتمع المصري يعاني من أزمة حادة تتلخص في أن هناك مايقرب من 14 مليون ناضج جنسيا خارج المؤسسة الشرعية المعترف بها إجتماعيا لممارسة النشاط الجنسي ( الزواج) وأن هناك مايقرب من المليونين – إن لم يكن أكثر بكثير- ناشط وناشطة جنسية بشكل غير شرعي وغير مسجل ويفتقدون لكافة أشكال الرعاية الصحية والمجتمعية ، وأمرهم متروك لتحذيرات رجال الدين ومطاردات شرطة الآداب ورجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
والأزمة كما عرفها الفيلسوف الألماني ( هابر ماس ) هي : أن لايملك نسق إجتماعي معين سوى إمكانيات قليلة ومحدودة لحل المشكلات التي تواجهه ، الأمر الذي لايسمح بإستمرار وجود هذا النسق ، ومن هذا الفهم يتضح أن تغيير النسق هو مفتاح حل الأزمة ، وأن كل المحاولات التي تدور في فلك هذا النسق وتهدف إلى إحتواء المشكلات هي شكل من أشكال التحايل هدفها فقط الحفاظ على النسق لصالح القوى الرجعية والمستفيدة ببقاء الحال كما هو ، دون أن يعنيها العبئ burden الذي يتحمله المجتمع والذي يتمثل في :-
1. حالات الإضطراب النفسي والذهني والسلوكي التي تصيب الأفراد إما بسبب الكبت والإمتناع أو بسبب الندم على ممارسة غير شرعية.
2. الإنتشار غير المسيطر عليه للأمراض المنقولة جنسيا .
3. انتشار الجريمة الجنسية ( الخطف والإغتصاب والتغرير والتحرش الجنسي والإعتداء على القاصرات )
4. إنتشار أشكال من الشذوذ الجنسي ( السحاق واللواط )
5. زيادة نسبة حالات الإجهاض بين الفتيات للتخلص من الحمل غير المرغوب الناتج من علاقات جنسية بدون زواج ( حوالي ألف حالة يوميا طبقا لموقع أمان )
6. إرتفاع نسبة الوفيات بين الأمهات الشابات نتيجة اللجوء لوسائل شعبية للتخلص من الحمل
7. العار الإجتماعي المصاحب لحالات الحمل خارج الزواج أو اكتشاف المحيطين للعلاقة الجنسية للفتاة ومايتبع ذلك من ممارسة كافة أشكال العنف ضد المرأة والتي تبلغ حد القتل .
8. انتشار شبكات الدعارة بين طالبات المدارس الثانوية والجامعة لتقديم المتعة مقابل أجر لتلبية الطلب في السوق المحلي . بعد أن كانت هذه الشبكات قاصرة على بعض الأماكن السياحية وتتعامل مع بعض شباب وشيوخ النفط .
9. انتشار الإدمان وتعاطي المخدرات المصاحب للنشاط الجنسي الغير شرعي استجابة للثقافة الشائعة في بعض الأوساط والتي تربط بين الآداء الجنسي وغياب العقل .
10. ارتفاع معدلات الجريمة ( سرقة – قتل – الخ ) ذات الدوافع المرتبطة بالنشاط الجنسي .
كل هذه الظواهر تضرب المجتمع بعنف وتدمر أهم وأكبر شرائحه العمرية وأكثرها قدرة على العمل والإنتاج .
الهرم السكاني في مصر وفقا لتعداد 2000
السكان فوق الأربعين سنة
21.5%
السكان من الخامسة عشر وحتي الأربعين عاما
40.7%
السكان أقل من خمسة عشر عاما
37.8%
ومن المنتظر خلال العشر سنوات القادمة أن تزداد قاعدة الهرم ضيقا بسبب انخفاض معدلات الزواج وبرامج تنظيم الأسرة ، ويزداد منتصف الهرم اتساعا وكذلك قمته بسبب زيادة متوسط عمر الفرد. وهذه الزيادة المتوقعة تعني ببساطة أن المجتمع المصري في طريقه إلي تغير هيكلي كبير فبعد أن كانت الأسرة هي اللبنة الأساسية لبناء المجتمع وكانت قيم المجتمع مستمدة من قيم غالبية أفراده المنضوين تحت لواء الأسرة ، سيصبح الفرد هو اللبنة الأساسية لبناء المجتمع في المستقبل القريب وسوف تسود القيم التي تحقق مصالح الأفراد محل القيم التي تحقق مصالح الأسرة . وبعد ان كانت حماية الأسرة ورعايتها أحد أهم أهداف المجتمع سوف تصبح رعاية الفرد وحمايته هي الأولي بالإهتمام من قبل المجتمع ، إن هذه المرحلة أشبه بمرحلة الإنتقال من مجتمع الأسرة الكبيرة الممتدة إلي مجتمع الأسرة الصغيرة ، هذا الإنتقال الذي كان يصعب تخيله قبل خمسين عام من الآن . إن مرحلة الإنتقال من مجتمع الأسرة الصغيرة إلي مجتمع الأفراد تتطلب تغيرات كبيرة في الكثير من المفاهيم المجتمعية السائدة ، وخاصة بعد أن استنفذ المجتمع كافة الحلول الممكنة لمقاومة هذا الإنتقال ولعل من أبرز هذه الحلول والتي تم طرحها وبقوة خلال العشر سنوات الماضية :-
1. الزواج العرفي الذي انتشر بين طلبة الجامعات والشباب المتعطل عن العمل وتجاوز هذه الفئات إلي غيرها من المطلقات والأرامل والمستفيدات من الهيئة القومية للتأمين والمعاشات
2. عودة الحديث عن مشروعية زواج المتعة وهو عقد نكاح لفترة محددة وبأجر معلوم
3. ظهور فئة من المحامين المتخصصين في كتابة أنواع مختلفة من العقود بين الأفراد أصبح لها مسميات شعبية مثل ( عقد مصاحبة ) و (عقد معاشرة ) وهذه العقود تستهدف إيهام حامليها بالحماية القانونية وعدم الوقوع تحت طائلة المسائلة القانونية .
4. حفلات الزواج الجماعي المدعومة من رجال الأعمال وبعض الجمعيات الخيرية وأموال الزكاة والتي تساعد الزيجات الجديدة في تأسيس منزل الزوجية
5. عقد القران مع وقف التنفيذ وإرجاء المعاشرة الزوجية لحين توفر الظرف المناسب أو كلما تيسر
6. اسهام الجماعات المسماة بالإسلامية في إتمام عشرات الآلاف من الزيجات بين أفرادها بجزء من أموال الدعم الذي كان منهمرا عليها خلال السنوات الماضية ، ودعم هذه الزيجات بالمشاريع التجارية الصغيرة لضمان استمرارها ( الزيجات ) وضمان الولاء للجماعة من قبل الأفراد .
هذه نماذج لبعض محاولات الرتق من قبل المجتمع لنسقه القيمي والأخلاقي المهترئ ، وهي محاولات قد نختلف حولها ولكننا نتفق جميعا على أنها قد استنفذت أغراضها ولم تعد قادرة علي إعادة طرح نفسها كحلول بديلة في المستقبل القريب والقريب جدا .
علينا إذن وبكل الوضوح والشفافية صياغة نسق جديد يحمل في داخله حلولا جذرية للمشكلات القائمة ويضمن إنتقالا تقدميا وديموقراطيا للمجتمع ويرتكز أساسا على نظرة مغايرة للمرأة من حيث كونها رهينة المحبسين ( أسرة المنشأ وأسرة الزوج ) ، ويكفل حق الفرد في حياة خاصة حرة ومستقلة ومصونة والفرد هنا يشمل كل رجل وكل امرأة ، وينهي كافة أشكال الوصاية المجتمعية على العلاقات الخاصة بين الأفراد حيث كل فرد مسئول عن حياته الخاصة ويملك الحق في التصرف في جسده ونشاطه الجنسي والإنجابي علي أن يكون ذلك مصحوبا بضمان حق الفرد في تلقي المعرفة والتعليم المتعلقين بالجنس والإنجاب وحقه في الحصول علي المشورة والنصيحة والوسائل والخدمات الصحية العلاجية والوقائية في سرية ( ضمان الخصوصية وعدم الإزدراء والتشهير ) ويسر وبدون أعباء مالية مع مراعاة الإنتشار الواسع لأماكن تقديم الخدمة لتغطي كافة المناطق وتغطي كافة ساعات الليل والنهار وتدريب مقدمي الخدمة علي المعاملة المحترمة والمحايدة لطالبي الخدمة .
وهذا يتطلب حوارا مجتمعيا جاد يشارك فيه بفاعلية مؤسسات المجتمع المدني وخبراء وزارة الصحة والإسكان وعلماء الإجتماع والجمعية المصرية للأمراض الجلدية والتناسلية حيث يقع علي عاتق هذه الجمعية مهمة إعلان الأرقام التقريبية لحجم مشكلة الأمراض المنقولة جنسيا STDs ووضع برنامج الحملة القومية لحصر وتسجيل وعلاج ومنع انتشار هذه الأمراض .
نعم إن الأمر يحتاج إلي جهود مضنية ودؤوبة على مستوى الأفكار والقيم وعلى مستوى النشاط العملي، ولايمكن ترك الأمر للإنفجار العشوائي .
د/ أحمد نصـــــار