أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - جورج حداد - أضواء على انشقاقات الستينات في الحزب الشيوعي اللبناني: الاضاليل لا تصلح الحـزب، ولا تبني حركة يسـار دمقراطي















المزيد.....



أضواء على انشقاقات الستينات في الحزب الشيوعي اللبناني: الاضاليل لا تصلح الحـزب، ولا تبني حركة يسـار دمقراطي


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 932 - 2004 / 8 / 21 - 09:28
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


في 25 و26 و27 اذار الماضي نشرت "النهار" تحقيقا من ثلاث حلقات بعنوان رئيسي هو "الحزب الشيوعي بعد ثمانين عاما: منعطفات المآثر والمآسي". والتحقيق هو بقلم علي بردى.

ويتناول التحقيق، فيما يتناول، الازمة المزدوجة والمركبة التي تعرض لها الحزب الشيوعي في فترة 64 ـ 1968، بما فيها انشقاق 64 ـ 1965، وهي الازمة التي اسفرت عن انعقاد المؤتمر الثاني للحزب في 1968، الذي مثل تحولا عضويا في تركيبة قيادة الحزب وطريقة تعامله مع الواقع اللبناني والعربي.

ومن جانب اعلامي مهني، اذا صح التعبير، يعتبر هذا التحقيق عملا جديا ناجحا، يلقي نظرة شاملة على "الحالة التاريخية" التي يمثلها الحزب الشيوعي في لبنان، احد اهم فصائل حركة التحرر الوطني اللبنانية والعربية، اذا لم يكن اهمها على الاطلاق، نوعيا، لا كميا او حجما. وهو ـ اي التحقيق ـ يخدم كـ"مفتاح شامل" يمكن الانطلاق منه لدراسة اي مرحلة من مراحل تاريخ الحزب، كما واوضاعه المأساوية الراهنة.

وللفت النظر الى اهمية هذا التحقيق، لا بد ان نذكر انها، حسب علمي، المرة الاولى التي يتم فيها، اعلاميا، تناول موضوع انشقاق 64ـ1965، الذي كان حسب تقديري اكبر ازمة سياسية وتنظيمية يمر بها الحزب الشيوعي اللبناني في تاريخه. وقد دأبت قيادة الحزب، "شيبها" و"شبابها"، على تجنب البحث في هذه الازمة وابقائها طي الكتمان، واخفائها عن جمهرة الاعضاء بشكل خاص، حتى في الاجتماعات العامة والمؤتمرات الحزبية، ناهيك عن اختفائها تماما من الشلال الاعلامي للحزب الشيوعي، منذ 1964 وحتى تاريخ نشر تحقيق علي بردى. حتى ان الكاتب الشيوعي الالمعي الاستاذ كريم مروة (مثلا في كتابه "كريم مروة يتذكر" الذي يعد مئات الصفحات، والذي افرد فيه عدة صفحات للحديث عن الاحتفاءات بمناسبة خاصة به) لم يجد ما يقوله عن ازمة 64 ـ 1965 سوى احالة الموضوع الى الرفاق جورج حاوي ونديم عبدالصمد وغيرهما، بحجة انهم اكثر اطلاعا منه على المشكلة. وتناول الموضوع لاول مرة في تحقيق علي بردى هو فعلا مأثرة من مآثر الحزب الشيوعي في الثمانين عاما، وإن كانت مأثرة يصح فيها القول المأثور "صمت دهرا، ونطق كفرا". فعلى الاقل أعطي الجمهور الوطني اللبناني والعربي، ولا سيما الجمهور الشيوعي، حق كشف الغطاء عن بعض "اسرار الآلهة" في وضح "النهار".

ولما كنت احد المعنيين المباشرين بهذا التحقيق، إذ كنت احد، وبالاصح اول المطرودين من الحزب، في اذار 1964، وجدت من الضروري ان أدلي برأيي، ليس لأي "غرض" شخصي او حزبي مباشر، حيث انني "خارج سرب الحزب" منذ ذلك التاريخ، بل اسهاما في وضع النقاط على الحروف، وتصويب بعض الحقائق، التي فشل التحقيق في ابرازها، حول الازمة التي عصفت بالحزب وادت الى اول انشقاق كبير فيه سنة 64 ـ 1965.

وقد تأخرت قليلا في هذا الرد، لانني لم اطلع على التحقيق الا مؤخرا، حيث زودني به احد الاصدقاء الافاضل. واني، وارجو ان اكون مخطئا، اشك في أن "النهار" يمكن ان تنشر ردي، لانه ـ مع رفع القبعة لدمقراطيتها ـ فإن لكل دمقراطية اهدافها المعلنة او غير المعلنة. وانا ارى ـ وايضا ارجو ان اكون مخطئا ـ ان فتح صفحات "النهار" لموضوع اوضاع بعض اطراف الحركة الشيوعية اللبنانية والعربية في الوقت الراهن، انما يهدف الى "تزييت رؤوس" تلك الاطراف بالدرجة الكافية لحشرهم في مؤخرة الركب "الدمقراطي" الاميركي، على طريقة بعض الشيوعيين العراقيين، الذين تحولوا ـ بقدرة البيريسترويكا وايتام الكا جي بي"السوفياتيتين" ـ الى "عطارين"، يعملون لتلميع وجه احتلال العراق باسم انقاذه من دكتاتورية صدام البائدة. ولكن: لا يصلح العطار ما افسد الدهر! وهؤلاء "البيريسترويكيون" العراقيون والعرب، يذكروننا تماما بالبيريسترويكيين الروس والاوروبيين الشرقيين، الذين، بعد ان طعنوا احزابهم الشيوعية في الظهر والصدر، تخلوا عن قضيتهم الوطنية ذاتها، وسلموا بلدانهم لقمة سائغة للمافيات والجاسوسيات الاميركية والغربية، ولا سيما الصهيونية، باسم مكافحة الستالينية(!)، كأنما مكافحة الدكتاتورية الستالينية، وواستطرادا الصدامية واشباهها، لا تستقيم الا بالتسليم للاعداء. ومع ذلك اتمنى على الاستاذ غسان تويني شخصيا فتح صفحات "النهار"، التي اصبحت، باسمه وجهده، "قيمة" اعلامية كبيرة لبنانيا وعربيا وعالميا، لمناقشة شاملة، غير محدودة الاهداف، لاوضاع الحركة الشيوعية، اذا لم يكن وفاء للارض العربية التي انجبتنا، فعلى الاقل وفاء لذكرى جبران التويني الاب المؤسس، الذي كان احد الأوائل الذين اسهموا في سقاية البذرات الاولى للشيوعية التي زرعت في الارض اللبنانية والعربية، وهي الارض التي "لن تصطلح الا بأن تتبلشف"، على ما يقول الريحاني الكبير.

وفي كل الاحوال، ومع كل الاحترام لشخص كاتب التحقيق، والتقدير الكبير للجهد الذي بذله، فلا يسعني الا ان اقول له بصراحة وصدق: ان ما جاء في التحقيق عن الازمة المركبة في 64 ـ 1968، انما يلوي عنق الحقيقة ويجافيها تمام المجافاة.

وانتهز هذه الفرصة لأقول لبعض الرفاق الذين كان بيننا يوما شيء من الود والاحترام، وخاصة جورج حاوي ونديم عبدالصمد: هل وصلت "الامانة التاريخية" بقادة و"مصلحين" حزبيين مثلكم، الى حد ان تقولوا ـ مثلا ـ عن جورج حداد انه كان سوفياتيا وبكداشيا، مع حسن قريطم وصوايا صوايا (رحمهما الله، وغفر لهما ما تقدم من مآثرهما وما تأخر)، وهما اللذان كنتم انتم واياهما على "الصراط السوفياتي والبكداشي المستقيم"، ولم يكن خلافكم معهما، ومع بكداش، الا صراعا على الامتيازات القيادية، والا رجع صدى للخلافات السوفياتية ـ السوفياتية ذاتها؟

كما أسالهم: لقد قلتم عنا في حينه اننا "صينيون" و"عملاء السفارة البريطانية" (لانه كان معنا دروز، مثل الشهيد المرحوم حسن فخر وامين الاعور. والدروز طبعا متهمون دائما بالانكليز). والان تقولون اننا كنا "سوفييت". فبأيهما تصدقون، وبأيهما تفترون؟ ان كلا من هاتين التهمتين تنفي احداهما الاخرى. واذا كانت فرية واحدة يمكن ان تعتبر "زلة لسان" او "انفعالا" او "شطارة"، فإن فريتين متناقضتين من الطرف ذاته، وضد الطرف المفترى عليه ذاته، تدلان على تصميم مسبق على الافتراء، تنتفي منه اي "شطارة" .

كان لا بد لي من هذه المقدمة، لأبين لهؤلاء الرفاق الذين اختلفنا معهم في حينه، انه ليس في خلافنا السابق، وفي طرحنا الحالي، اي ظلال شخصية، واننا لا زلنا نحرص على "حزبهم" من اي انحراف، ولا سيما من الافتراء، والتضليل السياسي، المصدر الاول لجميع الانحرافات والارتكابات.

وطبعا انني لا احمـّل كاتب التحقيق اي مسؤولية مباشرة، عملا بمقولة "وناقل الكفر ليس بكافر". وانتقل الى تناول الموضوع مباشرة، لأقدم فيما يلي مقتطفات مما جاء في الحلقة الاولى، وهي المتعلقة بأزمة 64 ـ 1968 المركبة:

جاء عن لسان جورج بطل:

"ويضيف انه "في بداية الستينات، اجرت مجموعة شباب نقاشات جادة: كريم مروة ونديم عبدالصمد وخليل الدبس وجورج حاوي وغسان الرفاعي وحسين مروة وجورج بطل... وقلنا انه لا بد من معركة متدرجة لفك الارتباط مع السوريين والسوفيات. واول فريق واجهناه كان من رفاق ممتازين مثل نخله مطران وادمون عون واوهانس اغباشيان وانطون تابت واحمد الحسيني وجورج حداد وخليل موسى وسهيل يموت وغيرهم ممن كانت علاقاتهم وثيقة ببكداش. فكان لا بد من البتر. وخرجوا عام 1964 من الحزب "في معركة استكملت لاحقا بخروج مجموعة اخرى كان على رأسها حسن قريطم وصوايا صوايا".

ثم جاء عن لسان نديم عبدالصمد:

"بيد ان العلاقة بين الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان والاتحاد السوفياتي "بدأت تضعف بعد عام 1964 بخلافات بين النهج السوفياتي من جهة والشيوعيين اللبنانيين من جهة اخرى على المسألة القومية وقضية فلسطين وغيرهما".

واخيرا جاء في التحقيق:

"عام 1964 تكرست استقلالية الحزب الشيوعي اللبناني عن الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان بعدما ظهرت خلافات بين "الرفاق" اللبنانيين على قضايا جوهرية قبل ذلك العام واثناءه وبعده: قضية فلسطين والمسألة القومية ورفع الوصاية السوفياتية، فضلا عن حمل هموم القضايا الوطنية. ووقفت قوى التجديد في الحزب: جورج حاوي وكريم مروة وغسان الرفاعي وخليل الدبس وجورج بطل ونديم عبدالصمد وحسين حمدان ورهيف فياض وفضل الحاج وخليل نعوس في مواجهة المجموعات القيادية بزعامة الامين العام نقولا الشاوي (الذي انضم اليهم لاحقا) ونخلة مطران وادمون عون ونسيب نمر واوهانس اغباشيان ثم حسن قريطم وصوايا صوايا وغيرهم. لكن المشلكة في رأي حاوي "لم تكن مع بكداش (والمؤيدين له)، بل مع الصيغة السوفياتية القديمة التي كان يمثلها الاتحاد السوفياتي لحما ودما عبر اشخاص مثل ليونيد بريجنيف وميخائيل سوسلوف وبونوماريوف والسفير في بيروت ديودشكين، وليس مع نخله مطران الذي كان رجلا ثوريا جاء مع ادمون عون من موقع اقطاعي الى الحركة الشيوعية، هو لم يكن قضية اساسية والحزب لم يحسن ان يستوعبه مع عون واغباشيان" فتولد لديهم اقتناع ان في امكانهم الافادة من بكداش والسوفياتي لمواجهة حالة غير ديموقراطية في قيادة الحزب انذاك".

لا شك ان غالبية القراء هم غير مطلعين على مجريات تلك الازمة، حتى يستطيعوا تبين الخيط الابيض من الخيط الاسود في هذه اللوحة المشوشة التي يقدمها التحقيق، بعين الشخصيات التي اكتفى "باستنطاقها". ولذلك ارى من الضروري اعادة تركيب الصورة، بناء على المعطيات المقدمة في التحقيق ذاته، والتي اقتبسناها آنفا حرفيا:

1 ـ اول ما نستنتجه من هذا التحقيق ان الرفاق المذكورين جورج حاوي وكريم مروة وغسان الرفاعي وخليل الدبس وجورج بطل ونديم عبدالصمد وحسين حمدان ورهيف فياض وفضل الحاج وخليل نعوس ونديم عبدالصمد وغسان الرفاعي وحسين مروة وجورج بطل، الذين سأسميهم لاحقا "الشباب"، هم الذين بدأوا المناقشة الفكرية ـ السياسية ـ التنظيمية في الحزب في 1964. وهذه اول كذبة على النفس وعلى الناس.

2 ـ ان الذي وقف ضد "الشباب" وضد التجديد في الحزب وضد المناقشة الفكرية ـ السياسية ـ التنظيمية هو تيار المعارضة الذي طرد من الحزب في 1964، ومنه: نخله مطران وادمون عون واوهانس اغباشيان وانطون تابت واحمد الحسيني وجورج حداد وخليل موسى وسهيل يموت وغيرهم. وأرى من الضروري ان اضيف هنا بعض هؤلاء الـ(وغيرهم) واكتفي باسماء: الصحافي المرموق الشهيد حسن فخر، وشقيقه الشهيد حسيب فخر، والشاعر والكاتب المعروف المرحوم د. ميشال سليمان، والصحافي المرموق نسيب نمر، وشقيقه المحامي المرحوم حسيب نمر، والفنان المعروف المرحوم ميشال المير، واخيرا لا اخرا الصحافي المعروف امين الاعور.

وهذه هي الكذبة الكبيرة الثانية.

3 ـ ان التحقيق يربط بين تيار المعارضة الذي طرد من الحزب في 64 ـ 1965، وبين كتلة حسن قريطم وصوايا صوايا. وهذه هي الكذبة الثالثة.

4 ـ ويربط بين تيار المعارضة وخالد بكداش. وهذه هي الكذبة الرابعة.

5 ـ ويربط بين تيار المعارضة في64 ـ 1965 وبين نقولا الشاوي. وهذه هي الكذبة الخامسة.

6 ـ ان "الشباب" هم الذين قاموا بمواجهة "الصيغة السوفياتية القديمة"، وان تيار المعارضة كان اداة سوفياتية (علما انه في حينه اتهم تيار المعارضة بالـ"صينية". وهذا ما لا يزال يذكره جيدا مئات والوف الشيوعيين الذين عايشوا تلك المرحلة). وهذه هي الكذبة السادسة.

أظن ان "نصف دستة" من الكذب من هذا العيار، كاف لتجريد تلك القيادة الحزبية من اي مصداقية على المستوى الوطني والقومي والاممي، ويجعلها في وضع "فقدان الجاذبية"، ويهدد بالضياع، على مذبح "البازارات السياسية" و"الارتباطات الخارجية" و"الحسابات القيادية"، كل تضحيات عشرات الوف الشيوعيين. وقديما قيل "اللي استحوا ماتوا!".

ولإعادة النصاب الى الحقيقة التاريخية، ولمساعدة شخصيات وطنية وشيوعية، تتنطح لاصلاح الحزب الشيوعي او لبناء حركة يسار دمقراطي، مثل جورج حاوي ونديم عبدالصمد، كي "تفوق لنفسها"، أعرض فيما يلي صورة الازمة، كما عايشتها:

I ـ بعد 1958، كانت السحب تتكثف في المنطقة كلها، وكانت عوامل الانفجار تتراكم بشكل متسارع في لبنان بشكل خاص. وفي هذه الظروف بالذات جاء الطرح الانتهازي الخروشوفي (سلف الغورباتشوفية الخائنة) حول: "طريق التطور اللارأسمالي". و"الطريق السلمي الى الاشتراكية". و"حزب كل الشعب". وحل الاحزاب الشيوعية، ودمجها في الاحزاب البورجوازية الصغيرة كالاتحاد الاشتراكي المصري. وما اشبه من الاطروحات المشبوهة، التي تصب في النهاية في خانة التراجع والاستسلام امام الامبريالية العالمية.

وبطبيعة الحال، فإن القيادة الحزبية (بزعامة خالد بكداش ونقولا الشاوي، والتي كان يمسك بها رعيل "الشيوخ"، الذين عاشوا حياتهم كـ"جهازيين" حزبيين منغلقين، ومرتبطين خارجيا بالاجهزة السوفياتية) كانت تدعم بدون تردد الخط السوفياتي "الجديد" المتساهل، تماما مثلما كانت في السابق تدعم الخط الستاليني المتشدد، لا كقناعة ذاتية بهذا الخط او ذاك، هذا الطرح او ذاك، بل كتبعية عمياء للاجهزة السوفياتية، وخصوصا اجهزة البوليس السياسي، التي كان يعود لها الامساك بكافة الخيوط الحزبية خارج الاتحاد السوفياتي. وفي بلد كلبنان، وفي حزب كالحزب الشيوعي اللبناني، الذي كان من مؤسسيه مثقفون ومناضلون مرتبطون ببيئتهم ولا يأتمرون بالخارج، كيوسف ابرهيم يزبك وسليم خياطة وفرج الله الحلو و"خوّان عمر" (حسب التسمية الحزبية لهم انذاك: والمقصود رئيف خوري ورفاقه)، وفي بلد يقف في الخط الامامي بمواجهة اسرائيل، وفيه شعب متوثب يرفده حوالى 400 الف مهجر فلسطيني من الاراضي المحتلة في 1948، كل واحد منهم قنبلة موقوتة، ـ في مثل هذا البلد، كان من الطبيعي ان تنفجر ازمة 64 ـ 1965، بوجه القيادة الحزبية التابعة للقيادة الانتهازية السوفياتية. وتيار المعارضة الذي بدأ المناقشة الفكرية ـ السياسية ـ التنظيمية، ضد الخط القيادي المُسَفـْيـَت (البكداشي ـ الشاوي) كان يتمثل على وجه التحديد بـ: نخله مطران وادمون عون واوهانس اغباشيان وكسبار دردريان وماري تابت وجاد تابت واحمد الحسيني وحسين بعلبكي وحسيب نمر ونسيب نمر وكامل المر وحسن فخر وحسيب فخر وميشال سليمان ومرشد شبو وميشال المير وسهيل يموت وجورج حداد وغيرهم كثير من الكوادر الحزبية المجربة والمثقفين الحزبيين واصدقاء الحزب. وقد طرد وفصل جميع هؤلاء من الحزب واتهموا بالتخريب، وبشق وحدة الحزب، وبـ"الصينية"، وحتى بالعمالة للسفارة البريطانية. ومن التهم المضحكة التي لفقت ضد تيار المعارضة لتبرير الطرد والفصل، هي تهمة تشكيل لجنة مركزية انشقاقية وقيادة حزبية منفصلة، وقد طلبت القيادة (وهذا مثال على الاساليب المخابراتية السوفياتية الصنع) من الاستاذ خالد شرتوني، ان يشهد بأن "الانشقاقيين" عرضوا عليه ضمه الى اللجنة المركزية الملفقة، مقابل انضمامه اليهم، واقنعوه بأن شهادته الزور، هي ضرورية لادانة "الانشقاقيين"، وهي "لمصلحة الحزب!". ولا شك أن الاستاذ خالد لديه من الاحترام لنفسه ما يتيح له ان يقول الحقيقة بعد كل هذه السنوات، وان يسمي الاشياء بالاسماء. كما استخدم الطرد والفصل، والمحاربة في لقمة العيش وحتى التهديد الجسدي، كوسيلة لاخراس المعارضة الحزبية، وخنق النقد والمناقشة. واذكر بعض الامثلة التي تدل على "مبدئية" تلك القيادة التابعة للأجهزة السوفياتية:

1ـ كان اوهانس اغباشيان، رحمه الله، رجلا متقدما في السن وقياديا حزبيا قديما كرس كل حياته لقضية الشيوعية، وكان صحفيا ومثقفا وكاتبا ومترجما بالارمنية والعربية. وبعد طرده من الحزب، وحرمانه من بدل التفرغ الزهيد، ذهب ليعمل بائع ساعات متجولا لدى احد الساعاتية. وكان هذا الساعاتي يستورد الساعات والمنبهات من ارمينيا السوفياتية. فتدخلت القيادة الذهبية العظيمة، وهددت ذلك الساعاتي بحرمانه من الاستيراد اذا لم يفصل اغباشيان من العمل عنده، فاضطر لفصله.

2ـ وشخصيا، كنت في الاساس عامل مطبعة وامتهن تنضيد الاحرف على آلة اللينوتيب. وقبل طردي من الحزب، كنت اعمل في جريدة "النداء" كمحرر شؤون نقابية ومعيشية وكمدير ادارة، وبعد طردي من الحزب، وفصلي طبعا من الجريدة، ذهبت للعمل في احدى المطابع لكسب عيشي، فتدخلت القيادة العظيمة ايضا لدى صاحب المطبعة، المرحوم فؤاد ناصرالدين، وكان شيوعيا قديما ورئيسا سابقا لنقابة عمال المطابع، وطلبت منه فصلي من العمل. ولكن الرجل رفض ذلك، لانه في وقت سابق كانت القيادة قد اساءت اليه اساءة كبيرة، وحينها كنت انا من القلائل الذين وقفوا الى جانبه.

3ـ كان المرحوم المحامي كميل مجدلاني احد مؤيدي القيادة الذهبية. وفي احد النقاشات مع ج. ش. (من الاشرفية)، قال له: "ان لدينا الرفاق الارمن الذين صفوا 100 طاشناقي، وسنلقن الانشقاقيين درسا لن ينسوه".

4ـ وفي الاشرفية ايضا، حيث كانت منظمتي الحزبية الاولية، أبلغني عشرات الرفاق هناك، بأن لا احرجهم بزيارتهم والاتصال بهم علنا، لأن القيادة العظيمة عممت على الجميع بأنه ("اذا جاء لعندكم جورج حداد، يجب ان تعملوا له اللازم"). واذكر انه في احد الاجتماعات، الذي كنت مشاركا فيه مع جورج حاوي، قلت ان المعارضة لا تريد اكثر من حق النقد. فأستل حاوي من جرابه الستاليني "حكمة لاسعة" نافثا القول "لكم حق النقد، ولنا حق الطرد". وطبعا ان "الرفيق العزيز" جورج حاوي لا ينسى انه هو الذي كان احد المشاركين الرئيسيين، في "مراسم طردي" شخصيا من الحزب، الى جانب شلة القيادة القديمة، شاوي وقريطم وصوايا، التي طردتني من الحزب في اذار 1964، ولست انا ـ لا سمح الله ـ من كان مع تلك القيادة التي همت بطرد جورج حاوي في 1967، وهذا ما سأعود اليه لاحقا.

II ـ لقد انطلقت المناقشة من هيئة جريدة "النداء"، وكانت الشرارة الاولى التي فجرت النقاش بشكل حاد بين المعارضة والقيادة (وجماعتها من "الشباب"، وعلى رأسهم جورج حاوي) عبارة قالها لي صوايا صوايا، المسؤول الاول عن الجريدة، بعد ان قمت بتعيين رفيق من الطائفة الشيعية موزعا للجريدة، فلما علم صوايا صوايا بأنني عينت شيعيا ابدى اعتراضه واستاء كثيرا واتحفني بتلك العبارة وهي "يا رفيق، أكلونا الشيعة". وكنت اعلم، من خلال احاديث بعض الرفاق الجنوبيين، ان صوايا صوايا كان ايضا مسؤولا عن الجنوب في تلك الفترة. وقد استنتجت من عبارته تلك انها تدل على موقف سياسي، معارض للتوجهات الطبيعية للرفاق الجنوبيين وغالبيتهم من الشيعة، اكثر مما تدل على موقف طائفي بالمعنى السطحي المباشر. فلما وصل احمد الحسيني، وبعده فؤاد كحيل (وهما شيعيان) الى مكاتب الجريدة، طلبت منهما تغيير هويتهما الطائفية، اذا ارادا البقاء في الحزب الشيوعي، الذي اصبح يضيق بالشيعة. وانفجر النقاش من تلك اللحظة، ليتناول كل اوضاع الحزب وسياسته ودوره الوطني وتبعيته السوفياتية، وهو ما سأتناوله لاحقا. وجرى الانشقاق اولا في هيئة الجريدة، ووقف مع المعارضة على الفور حزبيون وصحفيون كبار مثل نسيب نمر واوهانس اغباشيان وحسن فخر وامين الاعور. وكرت السبحة. وكانت تلك اكبر هزة في تاريخ الحزب، ولم تنته الا بانشقاقه الى عدة اجزاء، وهو ما اتناوله لاحقا.

III ـ انطلاقا من السطحية، والتمييز الطائفي السياسي، والغربة شبه الكاملة عن الواقع الوطني، وهو ما عبرت عنه عبارة "اكلونا الشيعة"، تناولت المناقشات القضايا الكبرى التي تتعلق بأوضاع الحزب الداخلية والسياسية وعلاقاته الخارجية. وأهم تلك القضايا:

اولا ـ الدمقراطية داخل الحزب وعدم شرعية القيادة. في تلك السنة، اوائل 1964 كان قد مضى بالضبط اكثر من 20 سنة على انعقاد المؤتمر الاول للحزب. ومنذ ذلك الحين لم يجر اي تعديل في النظام الداخلي للحزب ولا في برنامجه السياسي ولا اي انتخاب نظامي للهيئات الحزبية، ولا سيما القيادات المركزية، الامانة العامة، المكتب السياسي واللجنة المركزية. بل ان تلك الهيئات كان يتم "انتخابها" من فوق اي بالتعيين. وبالتالي فإن الحزب اصبح اشبه شيء بمزرعة او اقطاعة سياسية لبضعة اشخاص، على رأسهم بكداش وشاوي ومادويان وقريطم وصوايا، الذين اصبحوا "يملكون" الحزب بالمعنى الحرفي للكلمة، ويعينون المكتب السياسي واللجنة المركزية وهيئات تحرير الصحف الحزبية، والقيادات المنطقية والمهنية والنقابية الخ الخ. ويعود لهم تقرير وفرض الشعارات المركزية والنهج السياسي للحزب، بعمومياته وبتفاصيله حتى اصغرها.

والموضوعة الاولى التي طرحها تيار المعارضة هي لاشرعية الهيئات القيادية الموجودة، وعلى رأسها القيادات المركزية، لانها غير منتخبة وهي تعين نفسها بنفسها، وتعين الازلام والمرضي عنهم في الهيئات الادنى. وكان اول مطلب لتيار المعارضة هو اعلان الوضع الاستثنائي في الحزب، واجراء مناقشة عامة حول كل اوضاع الحزب التنظيمية والفكرية والسياسة، وتشكيل هيئة مؤقتة مهمتها ادارة هذه المناقشة دمقراطيا، والتحضير لاجراء المؤتمر الثاني للحزب، بعد توضيح معالم مختلف التيارات والاراء السياسية فيه، وان يقوم المؤتمر العتيد بانتخاب الهيئات القيادية المركزية، لاعادة اللحمة بين الجسم الحزبي والقيادة، وان يوضع نظام داخلي وبرنامج حزبي جديدين، ليصبح للحزب وجه سياسي واضح وقيادات شرعية مسؤولة فعلا امام الحزب.

وقد واجهت القيادة وازلامها "الشباب"، وبالاخص جورج حاوي الذي كان يتزلف للقيادة ويتقرب منها بدوافع وصولية مفضوحة، واجهوا مطلب تيار المعارضة بضرورة عقد المؤتمر واجراء انتخابات قيادية، بهستيريا حقيقية. وطرحوا في البداية الاتهام "البسيط" بأن المعارضة كانت "تشكك" (يا للهول!) بالقيادة الذهبية. ولكنهم سرعان ما تجاوزوا هذا الاتهام، وانتقلوا الى الاتهام "التخويني" بأنها ـ اي المعارضة ـ تريد تسليم القيادة للشرطة، لأن الظروف الامنية لا تسمح بعقد مؤتمر للحزب، وان عقد المؤتمر سيؤدي الى تسهيل اعتقال اعضاء القيادة "التاريخية" للحزب.

وحينما جرى دحض كل حجج القيادة وازلامها "الشباب" حول استحالة عقد المؤتمر، انكشفت "كلمة السر" في تلك الهستيريا وهي اتهام المعارضة بأنها كانت تريد الحلول محل القيادة. وفي احد الاجتماعات طرح حسن قريطم الموضوع بشكل صريح وسأل: ماذا اذا عقد المؤتمر، ولم تكونوا انتم فيه؟! وكان هذا "السؤال" تكملة منطقية لطرح جورج حاوي "لكم حق النقد، ولنا حق الطرد".

واذا عدنا الى الوقائع التاريخية نجد ان هذا ما جرى فعلا وحرفيا: بعد ان اسقط بيد القيادة وازلامها "الشباب" واصبحت غالبية الحزب تطالب بعقد المؤتمر، اتجهت القيادة وازلامها الوصوليين (وعلى رأسهم جورج حاوي، الذي لم يتوان فيما بعد عن تسليم نفسه للقيادة السوفياتية لكسب ثقتها وموافقتها على ترفيعه حزبيا)، الى عقد المؤتمر، ولكن... بدون تيار المعارضة. وكان قرار القيادة بالموافقة على عقد المؤتمر، هو نفسه قرارا ضمنيا بـ"تطهير" الحزب، من فوق الى تحت، تطهيرا تاما من تيار المعارضة. وهذا اسلوب ستاليني معروف تماما في الاتحاد السوفياتي: حملات تطهير شاملة، طرد ، فصل، اعتقالات، اعدامات، تمهيدا لعقد المؤتمرات الحزبية المدجنة، واعادة انتاج القيادة الستالينية. وقد اخذت العملية حينذاك مدة سنتين كاملتين: 1964 ـ 1965، لتطهير الحزب ليس فقط من كل العناصر البارزة لتيار المعارضة، بل ومن ابسط الاعضاء واصدقاء الحزب المؤيدين، وحتى الاصدقاء الشخصيين لأي شخص يمت بصلة الى تيار المعارضة. وهذا يحدث لاول مرة في تاريخ الحزب الشيوعي اللبناني. فإن الخلافات الحزبية، في السابق (ومنها خلاف بكداش، ومعه الشاوي وبقية القيادة الذيلية للسوفيات، مع فرج الله الحلو حول مسألة الاعتراف بتقسيم فلسطين سنة 1947)، كانت تبقى محصورة في اطار الهيئات القيادية والاجتماعات الحزبية المغلقة. اما في 64 ـ 1965، فقد ألقي خارج الحزب قطاع شيوعي واسع جدا، واصبح في كل مدينة وبلدة وقرية ونقابة الخ جسمان شيوعيان: جسم اعمى منغلق هو جسم الحزب التقليدي التابع للقيادة، وجسم منفتح ومتحفز ومجدد هو الجسم المؤيد لتيار المعارضة. والمؤتمر الذي عقد سنة 1968، يمثل بالحقيقة جزءا واحدا فقط من الحزب، هو الجزء المستسلم للارهاب الستاليني لقيادة موميائية اكل عليها الدهر وشرب.

ما هي شرعية مؤتمر 1968، و"البازار" السياسي الذي تم بين "شيوخ" و"شباب" القيادة التي نشأت عن هذا المؤتمر؟

تاريخيا، يمكن القول ان الستالينية كانت تحوز الشرعية الشكلية، ولكنها كانت تستولي على تلك الشرعية عن طريق الاغتصاب، القائم على التطهير، اي عن طريق قتل الشرعية الحقيقية الحية، وتحويلها الى جثة هامدة. وقد اثبت التاريخ كم هي شرعية تلك "الشرعية" الستالينية الميتة، اذ ان الخروشوفية والغورباتشوفية، التي خانت الحزب الشيوعي السوفياتي والنظام السوفياتي و"الوطن" السوفياتي، انما خرجت من الستالينية بالذات، تماما كما تخرج الديدان من الجيفة. وبانهيار التجربة السوفياتية، بفضل ديدان التحريفية الخروشوفية ـ الغورباتشوفية، يمكن الجزم بأن "الشرعية" الستالينية لا تمتلك مقومات الشرعية الحقيقية، لانها لم تقم لها قائمة الا بقتل الشرعية التاريخية لقيادة الحزب الشيوعي السوفياتي. والشيء ذاته يمكن ان يقال عن مدى "شرعية" القيادة البكداشية ـ الشاوية ـ الحاوية "الستالينية"، للحزب الشيوعي اللبناني (والسوري). وكل ما نتمناه الا يؤدي "التفسخ" الحالي في "الجثة" الى الوقوع التام في المصير، او المستنقع، البيريسترويكي الغورباتشوفي، مستنقع الخيانة الوطنية "المزوزق" بكل اشكال "الزينة الاصلاحية"، "الدمقراطية" و"التقدمية" و"الشيوعية"، المستوردة من اوكار السي آي ايه والموساد، وليس من دهاليز الكا جي بي هذه المرة.

ثانيا ـ كانت القضية الثانية، من حيث الترتيب لا من حيث الاهمية، التي دارت حولها النقاشات الحادة، بدءا من اوائل 1964، هي القضية القومية والوطنية. وتحت هذا العنوان العريض، كان هناك عناوين عديدة، كل منها له اهميته الكبيرة، وهي بالاخص:

أ ـ موضوعة تبعية الحزب والقيادة الحزبية والخط الحزبي، للسوفيات، و"استيحاء" المواقف الوطنية والقومية ذاتها، من المواقف السوفياتية. حيث كان يتم تفصيل كل موقف لبناني وطني، وكل موقف قومي عربي، على قياس المواقف السوفياتية المعلنة. وكانت القيادة لا تبادر الى اتخاذ اي موقف من اي قضية سياسية لبنانية وعربية، الا بعد صدور مواقف سوفياتية، بحيث يجري مطابقة الموقف الحزبي في لبنان طبقا للموقف السوفياتي، ليس فقط من مختلف القضايا العالمية، بل ومن القضايا اللبنانية والعربية الرئيسية ذاتها. ولاعطاء فكرة عن طبيعة تلك القيادة والمستوى الفكري والسياسي لذيليتها السوفياتية، اذكر هنا "طرفتين" معبرتين:

الاولى ـ خلال النقاش في احد الاجتماعات التي ضمتني مع المرحومين نقولا شاوي وحسن قريطم، دافع حسن قريطم بشدة عن ضرورة انتظار المواقف السوفياتية وعدم التعارض معها، في جميع القضايا القومية والوطنية بالذات. ولكي "يفحمني" بصحة "قاعدته الاممية ـ القومية" سألني "ما هو لون بنطلونك؟" فتعجبت، وتساءلت عن علاقة لون بنطلوني بالاتحاد السوفياتي. ولكن حيال اصراره، اجبته "لونه كذا!" وطبعا انني الان لا اذكر اللون. فقال فورا "لو قال لك الاتحاد السوفياتي ان لون بنطلونك هو احمر، في حين انه غير احمر، فيجب ان تقول ان لونه احمر"، فزاد عجبي طبعا. ولكنه عاد بعطفة "ابوية" كي يطمئنني "بأن الاتحاد السوفياتي يكون معه حق دائما، حتى وهو يبدو ظاهريا بأنه على غير حق، لانه يعلم بأنه يوجد في بنطلونك مادة، انت لا تراها ولا تعرفها، ستحوله في نهاية المطاف الى اللون الاحمر".

الطرفة الثانية ـ ان المؤسسات الاعلامية للدول الاشتراكية السابقة كانت تشترك بجريدة "النداء"، وكانت اشتراكاتها تمثل دخلا ثابتا من ضمن الدخل المحدود للجريدة. وفي احد الايام جاءتنا رسالة من براغ بالغاء الاشتراك بعددين للاذاعة التشيكية. وكان لذلك صدى سيئ جدا. وقام الرفيق صوايا، المسؤول عن الجريدة، بالتحقيق معي، كمدير ادارة، لمعرفة السبب، وعما اذا كان هناك تأخير في ارسال البريد او اي سبب "فني" اخر قد يكون اثار استياء الرفاق التشيكيين. ولما وجد اننا نحرص على ارسال البريد الخارجي باسرع ما يمكن، تعجب كثيرا واخذ يضرب اخماسا بأسداس، متسائلا عن السبب في قطع الاشتراك. فوجدتني اقول له انه ربما يكون السبب هو توفير كلفة الترجمة، لأن التشيك تصلهم نشرة وكالة تاس السوفياتية باللغة الروسية، وهم يترجمونها الى التشيكية، ثم تصلهم جريدة "النداء" بالعربية، فيترجمونها ايضا الى التشيكية، وحينها يكتشفون انها نسخة عربية عن نشرة وكالة تاس السوفياتية، التي سبق وترجموها عن الروسية. فلماذا يدفعون ثمن الاشتراك، وثمن الترجمة مرتين للمادة نفسها. وكان "عقابي" على ذلك، ان طلبني صوايا في اليوم الثاني او بعده، لـ"يجلدني" بمحاضرة طويلة ـ عريضة ضد الصين والقيادة الصينية والخط "الصيني" المغامر، ولكنه فوجئ بأنني "زايدت" عليه، بأن القيادة الصينية هي نسخة مكررة عن القيادة السوفياتية، ولكنها لا تزال الان (حينذاك) في المرحلة الستالينية، والآتي اعظم!

ب ـ موضوعة القضايا القومية الكبرى، كقضية فلسطين والاعتراف باسرائيل، وتأييد او عدم تأييد الوحدة العربية بشكل عام، ومسألة موقف الحزب من الوحدة المصرية ـ السورية التي كانت لا تزال ذيولها تنعكس على الاوضاع العربية برمتها، ولا سيما في لبنان وسوريا والعراق.

ومن اهم القضايا الوطنية التي تناولتها النقاشات، هي مسألة اولوية قضية التحرر الوطني، على قضية الاصلاح الاجتماعي والعدالة الاجتماعية، وارتباط الثانية بالاولى، واعتبار ان العدو الوطني، بما في ذلك اسرائيل، وعملاءه الداخليين، هم الذين يمثلون العدو الرئيسي الذي يجب التركيز ضده في المرحلة التاريخية الراهنة.

ثالثا ـ وقد ارتبطت بالموضوعة السابقة، بشكل وثيق، قضية اخرى من قضايا الخلاف، وهي قضية الاسلوب الرئيسي للنضال. وفي تلك الفترة، كان يجري الترويج بشكل واسع جدا لمقولات "الطريق اللارأسمالي للتطور" و"الدمقراطية الوطنية والرأسمال الوطني" و"الطريق السلمي الى الاشتراكية" ومحاربة ما يسمى "الطفولية اليسارية" و"المغامرة السياسية"، وغير ذلك من مفردات قاموس الانتهازية الخروشوفية. ومعلوم ان مثل هذه المواقف هي التي جعلت الحزب الشيوعي الجزائري يعارض الثورة الجزائرية لمدة سنتين بعد اندلاعها، ويتهمها بالارهاب والرجعية ومعاداة الدمقراطية والشوفينية واللااممية، وجعلت الحزب الشيوعي الكوبي (السابق) بزعامة بلاس روكا يقف ضد الثورة الكوبية بقيادة كاسترو، واخيرا لا آخرا جعلت الحزب الشيوعي البوليفي يتآمر لعزل ارنستو تشي غيفارا ويسهل اعتقاله وتصفيته من قبل السي آي ايه وعملائها. واذكر ان جريدة "الاخبار" (التي كان يصدرها الحزب الشيوعي اللبناني اسبوعيا) قد سخرت من غيفارا وسمته حرفيا "الثائر المغامر الجوال". وكانت القيادة قد اخذت تربي الحزب على النبذ الكلي لخط الكفاح المسلح، واعتماد الطريق البرلماني فقط، متجاهلة تمام التجاهل خطر وجود اسرائيل، والطابور الخامس العميل لاميركا واسرائيل داخل لبنان، والذي كان يتسلح ويتدرب ويستعد على قدم وساق. وقد ادت تصفية تيار المعارضة في 64 ـ 1965 الى سيادة الخط الانتهازي "السلمي" للقيادة البكداشية المسيفتة. وآل ذلك في الحساب الاخير الى نتيجتين فاجعتين بالنسبة للمصير، والمستقبل السياسي، للحزب وهما:

اولا ـ عدم رؤية، والتغرب والابتعاد عن، نشوء ظاهرة المقاومة الفلسطينية في تلك السنوات بالضبط. حيث اخذ الشيوعيون يطبلون، حتى بعد هزيمة 5 حزيران 67، للشعار السوفياتي الرخيص والتافه حول "فشل الهدف الرئيسي للعدوان، المتمثل ـ حسب زعمهم ـ بالقضاء على انظمة الحكم الوطنية والتقدمية في مصر وسوريا"، والشعار السوفياتي الثاني الارخص والاتفه في ان الهدف الستراتيجي للنضال اصبح حينذاك "ازالة آثار العدوان ـ سياسيا"، على غرار ما حدث بمؤتمر لندن سنة 1957، غداة العدوان الثلاثي على مصر. واخذ الشيوعيون المسيفتون يتهجمون على المقاومة الفلسطينية، ويتهمون الفدائيين بأنهم "مرتزقة، يقبضون وينزلون" (اي ينزلون في عمليات ضد اسرائيل). وقد عبروا عن الاعجاب الشديد بدور الملك حسين، وسموه حرفيا "سيهانوك العرب" (راجع "النداء"). ويمكن لمن يشاء ان يراجع مطبوعات الحزب الشيوعي في تلك الفترة، وحتى عقد المؤتمر الثاني الشهير في 1968، وسيرى الاعاجيب على هذا الصعيد، بقلم "الشيوخ" امثال نقولا الشاوي، و"الشباب" امثال جورج حاوي وكريم مروة وجورج بطل ونديم عبدالصمد. وهذا ما يكشف تماما عدم صحة ادعائهم الالتزام بالقضية الفلسطينية وخط المقاومة ضد اسرائيل، في تلك الفترة. والحقيقة انهم لم يبدأوا في اللحاق بالقطار الا بعدما تركزت المقاومة في العرقوب، وبدأت الاحداث تتفاعل داخليا وخاصة في الجنوب في 68 ـ 1969.

ثانيا ـ إغماض العين عن الاستعدادات المحمومة للطابور الخامس (الكتائب والشماعنة واضرابهم من الاحزاب الطائفية اليمينية ذات القيادات العميلة) لذبح التيار الوطني اللبناني والمقاومة الفلسطينية، لحساب اميركا واسرائيل. وعدم تحضير الحزب بأي شكل لمواجهة الخطر الداهم. وهذا ما جعل الحزب "يتفاجأ" (حسب تصريحات جورج حاوي وغيره من القادة الاشاوس) بانفجار الحرب اللبنانية، التي كانت بوادرها ترى بالعين المجردة. وأنا اذكـّر هنا الرفيق العزيز نديم عبدالصمد بحادثة معبرة جدا، على هذا الصعيد: خلال ثورة 1958 ضد حكم العميل كميل شمعون، كنا معا في "الفصيل الشيوعي" مع المقاومة الشعبية بقيادة كمال جنبلاط في الجبل. ومعلوم حينذاك انه تمت "تسوية سياسية دولية ـ اقليمية" جاءت بالجنرال فؤاد شهاب الى رئاسة الجمهورية. ولكن الاسطول الاميركي السادس كان يغطي الافق في الشاطئ اللبناني. وبنتيجة تلك التسوية، جرى تكريس الكتائب والشماعنة كقوة سياسية ـ عسكرية معترف بها. امام هذا الوضع الداخلي والخارجي الخطير، كان من الواضح ان التسوية لن تكون اكثر من هدنة موقتة، تطول او تقصر، وان "الليالي حبالى". وعند حل "المقاومة الشعبية"، بما فيها "الفصيل الشيوعي" في الجبل، لم نقم، انا وبعض الرفاق الاخرين، بتسليم سلاحنا الفردي، بل عمدنا الى جمع ما معنا من دراهم قليلة وقمنا بشراء بضع بنادق اخرى، اضفناها الى بنادقنا، وسلمناها الى المرحوم الشيخ ابو عادل (والد نديم عبدالصمد، الذي تعرفت اليه حينذاك وكنت اكن له احتراما كبيرا)، كي يقوم بتخبئتها لـ"غدرات الزمن". وبعد ان نزلنا الى بيروت، التقيت بالرفيق المرحوم يوسف خطار الحلو، وطلبت منه "كم ليرة" حتى نشتري ما نأكل، واخبرته اننا انفقنا كل ما لدينا لشراء السلاح وتخبئته، فاستاء من ذلك واتحفني بعبارة لا تزال ترن بأذني "ولأيش يا رفيق، ما خلصت الثورة!". وفيما بعد اخبرني احد الرفاق من عماطور ان تلك البنادق قد تلفت في بيت الرفيق نديم. طبعا ان كم بندقية من طراز ما قبل الحرب العالمية الثانية ليست شيئا، ولكن المسألة هي مسألة موقف، مسألة "ولأيش"، التي جعلت الحزب يخسر المعركة قبل ان تبدأ في المناطق "الشرقية" المسيحية في 1975. اذ ان عناصر الكتائب كانت قد استمرت في التسلح والتدريب منذ اللحظة الاولى لنهاية ثورة 58، وهم قد نزلوا الى الشارع بالسلاح صبيحة 5 حزيران 1967، استعدادا لأي مفاجأة من قبل القوى الوطنية والمقاومة الفلسطينية، فيما لو صمدت الجبهات العربية. ولو كان الحزب الشيوعي مستعدا منذ ذلك الحين، مثل استعداد الخونة الكتائب واضرابهم، لما "تفاجأ" في 1975، ولتغير مجرى الحرب اللبنانية برمته. ولكن الحزب الشيوعي لم يكن مستعدا داخليا ضد العملاء، ولا خارجيا ضد اسرائيل. وفي 1969 انضم الى "تأييد" المقاومة الفلسطينية وبادر في 1970 الى تنظيم "الحرس الشعبي" ثم "قوات الانصار"،ولكن بعد مرور القطار وبعد ان اصبح "البازار" في اخره، وبعد ان انخرط البعثيون والقوميون العرب والاخوان المسلمون والناصريون وحتى مرتزقة القذافي وغيرهم، في المقاومة، في حين اصبح "الطليعيون" الشيوعيون في آخر الخيل تماما.

ووصلنا الى "مهزلة" ان يذهب القادة الشيوعيون، جورج حاوي ونديم عبدالصمد وامثالهما، في 1969 او 1970، الى ياسر عرفات، كي يستجدوا منه بعض البنادق، بدلا من ان يكون العكس تماما، اي ان يقف عرفات وامثاله امام باب الشيوعيين طالبا المساعدة، لا سيما وان المصدر الرئيسي للدعم العالمي للمقاومة ولحركات التحرير، كان هو المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفياتي.

ان عدم التمسك بخط الكفاح المسلح الثوري، جعل الحزب الشيوعي، في النطاق القطري اللبناني والنطاق العربي معا، بما فيه الفلسطيني، يفقد زمام المبادرة في قيادة المقاومة الشعبية المسلحة ضد اسرائيل، التي امسكت بها القيادة الفلسطينية البورجوازية والانظمة "الوطنية" و"التقدمية" العربية، التي اخذت، ولا تزال، تفصّـل القضية الفلسطينية على قياس مصالحها الطبقية، والسياسية، والحزبية الضيقة. كما جعل الحزب الشيوعي اللبناني "يتفاجأ" باندلاع الحرب اللبنانية، وينجر الى سياسة رد الفعل. وحتى حينما اخذ الحزب، مع منظمة العمل الشيوعي، مبادرة اطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية الباسلة، ضد الاحتلال الاسرائيلي في 1982، والنجاح العسكري والسياسي الكبير للمقاومة، فإنه لم يتمسك بها كخيار ستراتيجي لا يمكن التخلي عنه، واخضعها للضغوطات والمساومات السياسية الاقليمية والدولية، وخاصة بين السوفيات والنظامين السوري والايراني، حيث ان المقاومة الوطنية اللبنانية، بقيادة الشيوعيين، دفعت بوجودها ذاته جزءا من "الفاتورة الافغانية"، وفاتورة "المحافظة"(!!) على الانظمة الوطنية والتقدمية، ومنها طبعا النظام السوري، اي عمليا المحافظة على العلاقات السوفياتية مع تلك الانظمة.

IV ـ ان حالة المعارضة التي ظهرت في الحزب، ونتجت عنها ازمة 64 ـ 1965، لم تظهر فجأة، بل جاءت نتيجة تراكمات سياسية وتنظيمية، كان يمر بها كل كادر حزبي في الاطار الذي هو فيه. وهذه التراكمات تدل ان الخط اللادمقراطي، الانتهازي، والذيلي للسوفيات، الذي كانت تتبعه القيادة، لم يكن مقبولا "على عماها" من قبل الجسم الحزبي. وعند انفجار الشرارة في جريدة "النداء" مع عبارة صوايا "اكلونا الشيعة"، فإن تلاقي الكوادر المعارضة كان صدفة من زاوية النظر التنظيمية وما اشبه، ولكنه كان ضرورة من زاوية نظر الاطروحات، حيث ان كل كادر معارض كان بالتأكيد يطرح قناعاته المعارضة باشكال مختلفة، في الاطر التي كان عضوا فيها. ولاعطاء فكرة عن ذلك اعرض لمحة عن "تاريخ" معارضتي الخاصة:

ـ في 1953 جرى ضمي مع بعض الرفاق (اذكر منهم ل. ف. و س. خ.) الى ما يسمى "حلقة ثقافية" كان يقودها الرفيق فرج الله الحلو (وكان حينذاك مغضوبا عليه من القيادة البكداشية والسوفيات، بسبب موقفه المعارض لتقسيم فلسطين، وقد استكتب "رسالة سالم" المشينة لاجل "شرشحته" حزبيا، وقد استقرئنا واستدرسنا تلك "الرسالة" حزبيا. و"انزال" فرج الله الحلو لقيادة "حلقة ثقافية" قاعدية كان من جملة العقوبة الحزبية له). ومع ان مواضيع "الحلقة الثقافية" لم يكن لها اي علاقة بقضايا خلافه مع القيادة البكداشية، الا انني ـ واظن الرفاق الاخرين ايضا ـ خرجت بانطباع تعاطف قوي مع فرج الله الحلو وتساؤلات اساسية حول صدقية قيادة الحزب في موقفها منه.

ـ في 1954، كنت مسؤولا عن توزيع المطبوعات الحزبية السرية في الاشرفية وبعض مناطق بيروت والساحل الشمالي. وكانت احدى هذه المطبوعات جريدة "الكومنفورم" المسماة "في سبيل سلم دائم، في سبيل دمقراطية شعبية"، وفي صيف تلك السنة، وبينما كنت اتصفح عدد جديد من الجريدة قبل توزيعه، وجدت فيه مقالة بقلم صموئيل ميكونيس، امين عام الحزب الشيوعي الاسرائيلي، بمناسبة 15 ايار، التي يحتفل بها الاسرائيليون بوصفها "يوم استقلال اسرائيل"، ويقول ميكونيس في تلك المقالة "ان صداقة الاتحاد السوفياتي هي ضمان لاستقلال اسرائيل". فرفضت توزيع العدد المذكور. وقد تضامن معي بشدة وشجعني الرفيق نايف بشارة (عم البطلة سهى بشارة)، الذي كان يكبرني سنا، وليعذرني لذكر اسمه كاملا. كما تضامن معي غالبية الرفاق القاعديين الذين كنت على اتصال بهم. اما القيادة فكان موقفها مغايرا، وقد طلب صوايا صوايا مقابلتي وهددني بالطرد من الحزب. ولكننا لم نتراجع. وتلفلفت المسألة.

ـ في 1956 كنت اعمل على آلة اللينوتيب في مطبعة "النجاح" التي كانت تطبع نشرة او مجلة "الانباء" التي كانت تصدر عن "وكالة الانباء السوفياتية"، وفي يوم جلبوا لي تقرير خروشوف في المؤتمر العشرين الشهير للحزب الشيوعي السوفياتي، وكانوا يريدون نشره كاملا في عدد خاص من مجلة "الانباء". وكان في التقرير تحية لوفد الحزب الشيوعي الاسرائيلي، بقيادة صموئيل ميكونيس ذاته، فرفضت ان اصف العبارة، وكررت الرفض حينما جلبوا لي "البروفة" للتصحيح. وحينذاك "انصب" علي عدد من "الاساتذة" الحزبيين والعاملين محررين او مترجمين او مصححين في "الانباء"، واذكر منهم الاساتذة نديم عبدالصمد وألبير فرحات وبارير يرتسيان، واخذوا يضغطون علي كي اصف العبارة، وقد سألني يومها الاستاذ بارير يرتسيان "هل تريد إلقاء اليهود في البحر؟"، فأجبته "ليس اليهود هم المهددون، بل الفلسطينيون والعرب. وهل تؤيد انت والحزب تشريد الفلسطينيين وإلقاءهم في الصحراء؟". كما هددني مدير المطبعة، الذي اصبح فيما بعد مديرا مسؤولا لوكالة "تاس"، الاستاذ ريمون سعادة، بالفصل من العمل. ولكنني اصررت على الرفض. وتوقفت طباعة المجلة اكثر من شهر. ثم عادوا وطبعوا تقرير خروشوف بدون تلك التحية للحزب الشيوعي الاسرائيلي. وقالوا لي فيما بعد ان القضية وصلت الى موسكو، وان السوفيات هم الذين قرروا شطب العبارة، مستندين الى رد الفعل من قبل "عامل شيوعي عربي". وقد استنتجت من هذه الحادثة انه توجد امكانية لمناقشة السوفيات في مواقفهم الخاطئة من قضايانا، وان الذيلية للسوفيات تتحمل مسؤولية كبرى في تشويه المواقف السوفياتية ذاتها، وفي عدم مساعدة الرفاق السوفيات على اتخاذ مواقف أصح من القضايا العربية.

ـ وفي 1956 وقعت احداث المجر المأساوية، وتم اعتقال ايمري ناج بخدعة، بأن وعدوه بأن يقدم للمحاكمة اذا سلم نفسه، بعد ان كان التجأ الى السفارة اليوغوسلافية. ولكنهم نكثوا بوعدهم واغتالوه بنذالة فور تسليم نفسه مع اخرين من قيادة الحزب الشيوعي المجري، ودخلت الدبابات السوفياتية وارتكبت المجازر ليس فقط ضد عملاء الغرب الذين استغلوا بالطبع تلك الاحداث، بل بالدرجة الاولى ضد الجماهير المجرية، بما في ذلك الشيوعيين الاصلاحيين. وبهذه المناسبة كنت واحدا من الذين عارضوا بشدة التدخل السوفياتي في المجر، وقلت ان الاشتراكية لا تفرض بقوة الدبابات الآتية من الخارج. وكنت حينذاك سكرتير المنظمة الحزبية في الاشرفية. وادى موقفي الى تجريدي من مسؤولياتي الحزبية، ولكن بدون طردي من عضوية الحزب.

ـ في 1958، عارضت بشدة موقف قيادة الحزب المعارض لقيام الوحدة السورية ـ المصرية، والذي تبدى منذ اليوم الاول، بامتناع خالد بكداش عن حضور جلسة مجلس النواب السوري الذي صوت على الوحدة في شباط 1958. وقد ارسلت رسالتين الى اللجنة المركزية بهذا الخصوص. وخلال المناقشات حول الموضوع، اتهمني الرفيق يوسف خطار الحلو بأنني "اتكلم كبعثي" وليس "كشيوعي"، ووجه لي سؤالا اعتبره محرجا لي وهو "يا رفيق، أيش بيستفيد الحزب من الوحدة؟". وقد اجبت على سؤاله بأن المسألة هي معكوسة تماما وهي "أيش بتستفيد الوحدة من الحزب؟".

ـ في 1959، كنت مع عدد من الرفاق اللبنانيين والعرب في المدرسة الحزبية في بلغاريا. وكانت قضية اعتقال فرج الله الحلو من اكثر ما يشغلنا. وكنت احد الذين تساءلوا: كيف يرسل الحزب فرج الله الحلو الى الخطر المؤكد في سوريا، في الوقت الذي كانت المعركة على اشدها بين المخابرات السراجية والحزب الشيوعي، وكانت تجري اعتقالات واسعة النطاق لابسط الشيوعيين في سوريا، وكذلك محاولات اغتيال القيادات والكوادر الشيوعية في لبنان (منها محاولة اغتيال ارتين مادويان وفاروق معصراني). وجوابا على هذه التساؤلات، نقل لنا الرفيق م. غ. (سوري) عن لسان خالد بكداش شخصيا (الذي كان في زيارة لبلغاريا لحضور مؤتمر الحزب الشيوعي فيها) "اذا خلص فرج الله الحلو من إيد عبدالناصر، ما رح يخلص من إيدنا". وقد فسرنا ذلك بأن القيادة تعتبر ان فرج الله الحلو ارتكب اخطاء كبيرة يجب ان يحاسبه الحزب (اي القيادة) عليها. ولكن هذا الجواب زادني شخصيا شكا في الدافع الى ارسال القيادة لفرج الله الحلو الى الموت المحتم على يد المخابرات في سوريا. وقد تأكدت شكوكي لاحقا لدى بحثي هذا الموضوع مع عدد من الحزبيين (حاليا: سابقين) في الشمال وفي بيروت. وانا انتهز هذه المناسبة، لأسأل القيادة الحزبية الحالية التي لا اشك بإخلاصها: أما آن الاوان، لإجراء تحقيق حزبي كامل عن قضية فرج الله الحلو، ولا سيما قرار وظروف ارساله الى سوريا؟ من هي الهيئة التي اتخذت ذلك القرار، ومن هم الاشخاص الذين شاركوا فيها؟ وما هو "رأي" ودور السوفيات في ذلك؟ وما هي الظروف الواقعية التي ارسل فيها فرج الله الحلو الى سوريا، خصوصا وأن البيت الذي ذهب اليه، كانت المخابرات تنتظره فيه خلف الباب، واستقبله جلادو السراج، بعد ان قرع الباب، بعبارة "اهلا ابو فياض"، اي انهم كانوا عارفين بقدومه!!!

ـ في 1961، بعد فشل هجوم خليج الخنازير في كوبا، اعلن فيديل كاسترو التحول المكشوف لكوبا الى الاشتراكية، وجرى توحيد "حركة 26 تموز" بزعامة كاسترو التي كان لها فضل اعلان وخوض الثورة، مع الحزب الشيوعي الكوبي السابق، ذي القيادة الانتهازية، التي كان على رأسها بلاس روكا، الذي كان يسير على الخط السوفياتي التقليدي. وانتخب كاسترو رئيسا للحزب الشيوعي الكوبي الجديد، الموحد. وكان ذلك شيئا جديدا. اي ان "تأتي الاشتراكية" على يد تنظيم، غير الحزب الشيوعي التقليدي، تنظيم كنا نعتبره بورجوازيا صغيرا، دمقراطيا ثوريا الخ. ودارت مناقشات حامية بين الطلاب العرب في المدرسة الحزبية في بلغاريا. وقد تبنيت حينذاك الرأي القائل بأن الحركة الشيوعية، التي فقدت مبرر وجودها التاريخي لجهة الثورة والكفاح المسلح (الجزائر وكوبا)، ولجهة القضية الوطنية والقومية (فلسطين والجزائر والوحدة السورية ـ المصرية)، ها هي تفقد ايضا مبرر وجودها التاريخي لجهة الثورة الاشتراكية ايضا. فالافضل لها ان تعلن حل نفسها كأحزاب ذات وظيفة نضالية تاريخية، ولتعلن التحول الى حلقات ثقافية دعائية ليس الا. وحينذاك جاء الرفيقان قريطم وصوايا الى بلغاريا، وعقدا اجتماعا موسعا مع الطلاب العرب في المدرسة الحزبية، في مقر اللجنة المركزية، دافع فيه صوايا بشكل هزيل وفاشل عن مواقف الحزب الشيوعي الكوبي السابق، قائلا انه كان ظهيرا للثورة، وكان يناضل ضد القمع الدكتاتوري للثوار، ولولا هذا النضال الدمقراطي لقضي على الثورة في المهد، وان الفضل في انتصار الثورة في 1959 يعود للحزب الشيوعي الذي اعلن الاضراب العام الذي شل الحياة العامة في كوبا وسهل دخول الثوار الى هافانا. وقد رديت عليه بأن الثورة هي التي جذبت قواعد الحزب الشيوعي السابق، مثلما جميع القوى التقدمية والدمقراطية في كوبا، في حين ان القيادة الشيوعية التقليدية كانت تعارض الثورة وتعتبرها اعمالا ارهابية، ولو لم تعمد القيادة الانتهازية في النهاية الى تأييد الثورة، لانفض عنها الحزب بأسره ولسقطت تلك القيادة نهائيا. فما كان من صوايا الا ان هددني بالفصل من المدرسة الحزبية والطرد من الحزب. ولكنه لم يلق التجاوب الذي كان يريده من الحضور، فتناسى تهديداته وذهب كما جاء.

V ـ بالرغم من كل التخرصات التي قيلت عن اركان المعارضة، والتي تتمحور حول تآمريتها على الحزب، فقد ثبت تاريخيا بطلان تلك التخرصات، الى درجة ان القيادة التقليدية المغتصبة، بـ"شيوخها" و"شبابها" خشيت طرح موضوع ازمة 64 ـ 1965 امام الحزب ومؤتمراته، التي بلغت ثمانية منذ ذلك التاريخ. وفي كل ما صرح به وكتبه القادة الحزبيون التقليديون، منذ ذلك التاريخ، فقد كانوا ـ كمن يتكتم على عاره ـ يتجنبون التطرق الى تلك الازمة. وحينما ـ لغاية في نفس يعقوب ـ تحدث بعضهم عن تلك الازمة في تحقيق الاستاذ علي شندب، تحدثوا زورا، وستكشف الايام الغايات المبيتة. وانا ارد هنا على اتهامين من تلك التخرصات:

الاول ـ الاتهام بـ"الصينية":

ان "المستند" الواقعي الوحيد لاتهام المعارضة بـ"الصينية" هو دفاع المعارضة عن خط الكفاح المسلح والثورة الشعبية وثورة التحرر الوطني والثورة الاشتراكية، بدون التخلي عن اشكال النضال السياسي والبرلماني. حيث ان كل كلام عن "الثورة" و"الكفاح المسلح" صار حينذاك يعتبر في نظر القيادة تطرفا و"صينية". ولكن ذلك لم يكن بالحقيقة سوى وجهة نظر لمناضلين شيوعيين يرتبطون بواقعهم الوطني والقومي، ويرون بأم العين وحشية وخيانة الرأسمال "الوطني" الكومبرادوري المرتبط بالامبريالية العالمية، ويرون الاستعدادات المسلحة للطابور الخامس، وتنامي خطر اسرائيل، والوجود العسكري الاستعماري في المنطقة الخ. وقد جاءت وقائع الحياة المريرة، للاسف، لتبرهن التهافت والسقوط المشين لـ"المدرسة" الخروشوفية واذنابها من القيادات الشيوعية اللبنانية والعربية. ومع ذلك يبقى من الضروري الرد على ذلك الاتهام، لجهة التلميح بوجود علاقة ما بين تيار المعارضة وبين المراجع الصينية، الحزبية او الرسمية الحكومية.

ان العلاقة الوحيدة التي كانت للمعارضة مع "الصينيين" هي العلاقة التي قام بها بعض اشخاص المعارضة، وانا منهم، مع بعض الرفاق "المتصينين" الذين كانوا قد نظموا انفسهم في اطار خاص اطلقوا عليه التسمية "الماركسية ـ اللينينية" على ما اذكر. ولسخرية التاريخ، انه في حين كنا متهمين بـ"الصينية"، فإن اتصالاتنا بأولئك الرفاق كانت تهدف بالضبط الى اقناعهم بفك ارتباطهم ـ كعلاقة تبعية ـ بالمراجع الصينية. وكان اولئك الرفاق، وعلى طريقة الحزب التقليدي وعلاقاته السوفياتية، قد حصلوا على بعض المساعدات المالية واسسوا دار نشر سموها "دار ابن سينا"، كان مقرها في بناية اللعازارية، جعلوها مقرا لهم كانوا يوزعون منه المطبوعات الصينية، تماما كما كان الحزب "الرسمي" جهاز توزيع للمطبوعات السوفياتية. كما انهم اشتروا امتياز جريدة "الطيار" من الصحافي المرحوم توفيق المتني، وكانوا على وشك اصدارها بوجه جريدة "النداء". ولو تم ذلك، لأتحف المسرح السياسي الهزلي العربي بسيرك "شيوعي" حقيقي: بوق سوفياتي بشخص "النداء"، وبوق صيني بشخص "الطيار". وكانت حجتنا الرئيسية في مناقشاتنا مع اولئك الرفاق بأن التبعية للسوفيات كانت مصيبة كبرى على القضية الوطنية وقضية الشيوعية في لبنان والبلاد العربية، وان وجود تبعية شيوعية واحدة هو مصيبة، اما وجود تبعيتين، سوفياتية وصينية، فهو انتحار. وان الرد على التبعية السوفياتية يكون بالنضال لاجل الاستقلال الفكري والسياسي والتنظيمي للحركة الشيوعية العربية، وليس باستبدالها، او باضافة تبعية اخرى اليها. وكي نفي الناس حقها، علي ان اذكر هنا ان بعض هؤلاء الرفاق قد انفك فعلا عن "المجموعة" الصينية، ومنهم الكادر المناضل الشهيد البطل ابرهيم حطيط. كما ان هؤلاء الرفاق قرروا، بعد نقاشات حادة، الامتناع عن اصدار جريدة "الطيار"، وبيع الامتياز من جديد، بخسارة مالية صغيرة عن سعر الشراء، وشكلوا لجنة من ثلاثة اشخاص ذهبت الى السفارة الصينية في دمشق لتسليم المبلغ. ولكن المسؤولين في السفارة رفضوا استلام المبلغ باعتبار ان الامر لا يعنيهم ولا علاقة لهم به من قريب او بعيد، فخرج الثلاثة من السفارة وعمدوا الى التخلص من المبلغ بوضعه في صندوق البريد امام باب السفارة. وانا انقل هذه الرواية بحذافيرها، كما اخبرني اياها الرفيق ر. ك. (من طرابلس). وهو يمتلك الشجاعة الادبية ليؤكدها امام من يشاء. كما ان بامكان الرفاق السابقين في "المجموعة" الصينية ان يؤكدوا هذه الوقائع ويدلوا برأيهم حولها.

تلك امثلة على "صينية" تيار المعارضة في 64 ـ 1965.

الثاني ـ الاتهام بالانشقاقية:

لقد ذكرت فيما سبق ان القيادة لفقت عن المعارضة تهمة محاولة تشكيل لجنة مركزية بديلة، وهو ما اشهدوا عليه احد الشيوعيين الشباب، الذي يرتبط عائليا وعاطفيا باحد القياديين، وهو الاستاذ خالد شرتوني. وكانت تلك كذبة ستالينية رخيصة، لم يستطيعوا متابعة العمل بها.

ولكن التهمة الواقعية الوحيدة ضد المعارضة، هي انها ـ وبالتحديد بعد ظهور الخلافات ـ تحولت الى تكتل، استمر طوال فترة المناقشات وعمليات الطرد والفصل في سنتي 64 ـ 1965. ولكن هذا التكتل لم ينشأ بشكل "مسبق"، بل نشأ بالضبط مع بداية المناقشات والخلافات وتوجيه الانتقادات للقيادة وخطها الانتهازي والذيل ـ سوفياتي. ولم يتخذ التكتل ككل اي طابع تنظيمي موحد، بل هو لم يتعد التلاقي العفوي لكوادر ومثقفين حزبيين، حول آراء موحدة ومتقاربة في نقد الخط القيادي السائد. اي ان عملية النقد، هي فقط التي كانت تجمع تلك الكوادر. وبعد انتهاء المناقشة داخل الحزب، بفصل وطرد جميع المعارضين، توقف التكتل عمليا عن الوجود وتشرذم فورا، تبعا لوجهات النظر المختلفة لمختلف اعضائه. وهذا ما سأتناوله لاحقا.

وهنا لا بد ان ادلي بشهادتي الشخصية حول هذه النقطة "التنظيمية"، كي يكون الحزبيون من الاجيال الجديدة على بينة من مدى الصدقية "الدمقراطية" للشلة التي تمكنت، بواسطة التلفيق والتآمر والدعم السوفياتي، من السيطرة على الحزب، عشية وبعد "المؤتمر الثاني" في 1968: عرضت في ما سبق، انني لم آت الى المعارضة فجأة في 1964، بل "تطورت" قناعاتي على مدى سنوات للتوصل الى اتخاذ هذا الموقف. وبالتأكيد انه هذا كان حال غالبية، اذا لم يكن كل، كوادر المعارضة الاخرين، الذين وصل كل منهم الى هذا الموقف المعارض الجماعي، كنتيجة لتراكمات شخصية في تاريخه الحزبي. ولكن قبل انفجار المناقشة في هيئة جريدة "النداء"، ومن ثم امتدادها في مختلف المنظمات الحزبية، في 1964، لم تكن لي اي علاقة جانبية بأي من اركان المعارضة، الذين كانت غالبيتهم اقدم مني حزبيا ويكبرونني سنا وتجربة. وبالتالي فأنا لا "اتهم" احدا بأنه حرضني على معارضة قيادة الحزب او التآمر عليها، كما لا يستطيع احد من اولئك الكوادر "اتهامي" بالشيء نفسه.

ولا بد ان اذكر هنا ان غالبية الصحف الحزبية كانت حينذاك مسجلة باسماء كوادر في المعارضة. ومنهم نسيب نمر والمرحوم نخلة مطران، وكانت "النداء" باسميهما. والمرحوم سهيل يموت، وكانت "الاخبار" باسمه. وقد تنازل المذكورون عن الامتيازين. ولو كان هناك اي نية تآمر، او اي تكتل تآمري، لما كان تم التنازل، ولما اقدم نمر ومطران ويموت على التنازل فرديا.

وعلي ان اضيف اخيرا، عند هذه النقطة بالذات، ان جماعة القيادة لم تكن صادقة باي اتهام وجه الى المعارضة، فرديا وجماعيا. ودليلي على ذلك، ان الاتصالات كانت تجري جانبيا مع كل فرد من افراد المعارضة، لاقناعه بالبقاء في الحزب، وبتحسين وضعه الحزبي، اذا تخلى عن المعارضة وسكت. السكوت كان الشرط الوحيد للحصول على رضا القيادة من جديد، وعلى المواقع والامتيازات.

وبالنسبة لي شخصيا، فإن قرار طردي من الحزب كان مقرونا بشرط السكوت لمدة اسبوعين فقط، كبادرة "حسن نية". اي، ان قرار الطرد كان قرارا معلقا لمدة اسبوعين، فاذا وافقت على الصمت، والامتناع عن طرح القضايا الخلافية، خلال هذه المدة، يعتبر القرار كأنه لم يكن. ولكنني رفضت. وحتى بعد ان اصبح قرار الطرد نافذا، جاء جورج حاوي للقاء معي (بدلا من النقابي الشيوعي ي. ح.، الذي كنت على موعد معه، فأرسل لي جورج حاوي بدلا عنه او كبدل عن ضائع)، ودام لقاؤنا اكثر من 3 ساعات حاول خلالها اقناعي بالعودة الى الحزب، والمقابل هو فقط السكوت عن توجيه الانتقادات للقيادة. ثم اتصل بي المرحوم الشهيد خليل نعوس، وكانت تربطني به صداقة قوية، وزارني في بيتي حيث قضى يوما كاملا، وحاول ايضا اقناعي بالعودة الى الحزب. ثم طلبني المرحوم الرفيق ارتين مادويان، للقاء معه في منزله، وكانت لي معه علاقة "تاريخية" جيدة جدا، وقام بالمحاولة نفسها، ولكنني لم اقتنع بالعودة الى الحزب مقابل الصمت عن الخط الانتهازي واللادمقراطي السائد.

VI ـ ذكرت فيما سبق ان تيار المعارضة لم يكن تكتلا تآمريا، وقد تأكد ذلك تماما بعد فصل وطرد الجميع من صفوف الحزب. فما ان تم ذلك حتى ظهرت مختلف الآراء. وانقسمت المعارضة الى عدة اقسام، بناء لثلاثة مواقف:

القسم الاول ـ أيد تشكيل تنظيم حزبي بديل، فكان ما سمي "اتحاد الشيوعيين اللبنانيين"، بقيادة المرحوم نخلة مطران. وكان هذا القسم هو القسم الاكبر من "المعارضة"، لأن هذا "المخرج" كان ـ ظاهريا ـ يمثل الحل الأريح، حيث اعتبر "اتحاد الشيوعيين" في هذه الحالة هو "الاستمرار الشرعي" للحزب. واذكر من الكوادر الرئيسية الذين ساروا معه: ادمون عون، المرحوم اوهانس اغباشيان، احمد الحسيني (الذي انفصل عنه لاحقا)، كسبار دردريان. ولا بد ان اذكر هنا ان "اتحاد الشيوعيين" ضم قطاعا واسعا من الحزب الشيوعي، وحينما كانت تجري المظاهرات الوطنية العامة، كان قطاع "اتحاد الشيوعيين" يكاد يضاهي قطاع "الحزب الشيوعي". وبحكم حجمه الكبير، والاخلاص المبدئي الذي كان يتميز به نخلة مطران ورفاقه الاخرون، فقد اخذ "اتحاد الشيوعيين" يتصرف فعلا وكأنه الاستمرار الشرعي للحزب الشيوعي، ومن هنا محافظته، مع الاستقلالية، على العلاقة التقليدية مع السوفيات والحزب الشيوعي السوري، بالرغم من انه فعليا لم يعد "موضع ثقة" لا من قبل القيادة السوفياتية ولا من قبل قيادة ثعلبية كقيادة بكداش. ولكن للاسف ان "اتحاد الشيوعيين" قد حكم بذلك على نفسه سلفا، لأنه اكتفى بدور ما يسمى "البديل"، او "ضرة" الحزب الشيوعي. فإذا كانت "الام" قد فشلت تاريخيا في تأسيس البيت الشيوعي الحقيقي، فهل كانت "الضرة" ستنجح؟ وللاسف الشديد، فإن "اتحاد الشيوعيين"، بكل حجمه الكبير في حينه، لم ينجح سوى في ان يتحول الى نسخة كربونية مشوشة عن الاصل غير الاصيل، اي الحزب الشيوعي اللبناني بقيادة "الشيوخ" و"الشباب"، الذين شكلوا في الاخير "شركة قابضة" حولت الحزب الى ستار للاعمال التجارية بما في ذلك اكثر التجارات ربحا، اي التجارة السياسية. ومصير "اتحاد الشيوعيين اللبنانيين" هو برهان حسي على التهافت التاريخي للحركة الشيوعية اللبنانية والعربية، بتركيبتها الراهنة، الفكرية والسياسية والكفاحية والتنظيمية، وبكلمات اخرى: برهان حسي على عجزها عن اصلاح نفسها بنفسها، بمقوماتها الداخلية والذاتية.

القسم الثاني ـ أيد أطروحة اصدار جريدة شيوعية، تضطلع بدور خلق تيار شيوعي جديد. وذلك استنادا الى تجربة تأسيس الحزب الشيوعي السوفياتي (البلشفي) والسؤال التاريخي للينين: بماذا نبدأ؟ وجوابه: نبدأ بالجريدة! وكان على رأس هذا القسم الحزبي الكبير والكاتب والصحفي اللامع نسيب نمر، الذي اصدر جريدة "الى الامام" تحت اسم غائم شبه تنظيمي هو "الشيوعيون اللبنانيون". وقد شارك في تحرير الجريدة ماركسيون عرب بارزون غير اعضاء في الحزب الشيوعي، منهم رئيس الاركان السوري السابق (اللبناني الاصل) الفريق عفيف البزري، والمناضل الفلسطيني (البعثي اليساري) المرحوم حمزة الرحيل. وقد اضطلعت "الى الامام" بدور مميز، كصوت شيوعي مستقل ونقدي. ولكنها ضاعت في موجة موضة التحول الى الماركسية من قبل حركة القوميين العرب واليساريين البعثيين وحتى الناصريين وجمهرة واسعة من المثقفين المستقلين الخ. لانها كانت في نظر الكثيرين "شيوعية تقليدية"، ولم تستطع ان تستقطب التيارات الماركسية الجديدة. الا انها لعبت دورا كبيرا في "هز" الاحزاب الشيوعية الاخرى، ولا سيما في سوريا والاردن وفلسطين والعراق. وكانت "الى الامام" توزع بشكل كبير في سوريا. ولا بد ان نذكر هنا ان الخلافات داخل الحزب الشيوعي السوري، في النصف الثاني من الستينات، والتي انفصل فيها جناح رياض الترك ـ بدرالدين الطويل (رحمه الله) عن جناح بكداش، قد حدثت في اجواء وتحت تأثير الانشقاق في الحزب الشيوعي اللبناني، وقد لعبت "الى الامام" دورا مباشرا في ذلك. ولكن للاسف ان المعارضة الحزبية السورية (جناح الترك) لم تمسك بالحلقة المركزية، وهي المشاركة والممارسة العملية للكفاح المسلح ضد اسرائيل، وأبقت المواجهة مع اسرائيل ومحاربتها ضمن لائحة "المطالب" الموجهة الى النظام البعثي، مما جعل المعارضة الشيوعية، والمعارضة الوطنية الدمقراطية السورية بأسرها، تقف على ارضية سياسية هشة، هي ارضية طبيعة النظام والصراع على السلطة، خارج دائرة الصراع الرئيسي، اي الصراع العملي مع اسرائيل والامبريالية الاميركية.

القسم الثالث ـ قرر عدم المشاركة في اي اطار شيوعي بديل، غير الحزب الشيوعي التقليدي المنحرف، والاستعاضة عن ذلك بالانخراط في الحياة الثقافية والنقابية والسياسية والكفاحية، الوطنية والتقدمية، بصفة شخصية غير حزبية شيوعية تقليدية. وكنت انا وامين الاعور والمرحوم حسن فخر والمرحوم مرشد شبو من هذا الرأي. وقد عمل امين الاعور والمرحوم حسن فخر، وهما صحفيان مرموقان، في الحقل الصحافي، بصفة مستقلة. واصدر امين الاعور لفترة ما مجلة "بيروت المساء". وهنا لا بد ان انوه بالدور التنويري والنضالي المميز، الذي اضطلع به المرحوم حسن فخر في مواجهة المحاولات الاسرائيلية المستميتة لخلق طابور خامس منظم في الاطار الدرزي، لا سيما بعد اجتياح الجبل في عدوان 1982، و"استضافة" "القوات اللبنانية" العميلة فيه. وقد حاولت اسرائيل الربط بين "القوات اللبنانية" ومشروع الطابور الخامس الدرزي، لضرب التيار التقدمي والوطني والعروبي العريق في الجبل، الذي كان ولا يزال يمثله بشكل خاص تيار كمال جنبلاط. ولكن محاولات اسرائيل باءت بالفشل، بفضل وعي ونضال الوطنيين والتقدميين الشجعان امثال الشهيد حسن فخر، الذي دفع هو وشقيقه الشهيد حسيب حياتهما ثمنا لموقفهما البطولي. وكان للمرحوم حسن، الى جانب الكادر الثوري الباسل غ. أ ـ م.، دور في اصدار نشرة "أبناء الجبل"، التي كانت تصدر في ظروف الاحتلال، وفي اطلاق عمليات المقاومة الوطنية ضد جيش الاحتلال و"القوات اللبنانية" في الجبل. وفي ايامه الاخيرة، كان حسن فخر يعرف تماما انه "محكوم بالاعدام" من قبل اسرائيل وعملائها، وكان بإمكانه ان يحفظ رأسه بأن "يزيح مؤقتا من الدرب"، ولكنه ابى التخلي عن المواجهة حتى الرمق الاخير، وسعى الى الشهادة بملء ارادته. (هذه بعض ملامح الكادر الشيوعي العربي الشهيد البطل حسن فخر، الذي طردتموه من الحزب الشيوعي في 1965، بتهمة ـ من الجملة ـ انه "عميل السفارة البريطانية" ـ يا "الابطال الشرفاء جدا" جورج بطل، جورج حاوي، نديم عبدالصمد وشركاهم)!!!

اما انا والمرحوم مرشد شبو، فقد اتجهنا منذ 1965 للتلاقي مع بعض المناضلين الحزبيين السابقين، شيوعيين وغير شيوعيين، وبعض الماركسيين المستقلين او الجدد، للمشاركة في النضال الوطني بشكل جبهوي. ونتج عن هذا التلاقي تأسيس تنظيم كفاحي جبهوي هو "الجبهة التقدمية اللبنانية لمكافحة الصهيونية". وكان من ابرز، او اوائل العاملين فيها والمتعاونين معها: س.ذ.، ا.خ.، م.ش.، ح.ص.، ا.ح.، ا.ر.، ر.ك.، خ.ا.خ.، ف.ش.، ك.د.، ب.ع.، ، ر.ك.، ر. ك.، ع.ش.، ف. ص. وغيرهم. وبعض هؤلاء قد استشهدوا، وبعضهم برزوا لاحقا ككتاب وصحفيين ومثقفين لامعين.

وعلي ان اتوقف قليلا عند تجربة "الجبهة التقدمية": ان الاطروحات السياسية والممارسة النضالية لهذا التنظيم تمثل صفحة مضيئة في التاريخ غير المكتوب للحركة الوطنية اللبنانية، واكتفي بالاشارة الى بعض "رؤوس الاقلام":

أ ـ مثلت "الجبهة" بتركيبتها إطارا كفاحيا وطنيا، يتجاوز الاختلاف الايديولوجي ـ الفلسفي المسبق.

ب ـ طرحت منذ ذلك الوقت المبكر مسألة "لبننة" المقاومة ـ اي الكفاح المسلح ـ ضد اسرائيل، وليس فقط "مساندة" الثورة الفلسطينية او "المشاركة" في المقاومة الفلسطينية. وبناء على هذا المفهوم أنشأت "الحرس الثوري" ـ وهو اول تجربة لانشاء ميليشيا شعبية لبنانية بمواجهة اسرائيل. وأنشأ بعض اعضائها "حركة العمل الشعبي"، التي حاولت انشاء مزارع وافران الخ.، شعبية مسلحة، في المناطق الحدودية، تحت شعار "كل مزارع ـ مقاتل".

ج ـ طرحت مسألة الربط العضوي بين الكفاح المسلح ضد اسرائيل، وضد الطابور الخامس في الداخل.

د ـ طرحت مسألة الربط العضوي بين الكفاح الوطني المسلح، والنضال السياسي والاجتماعي والنقابي الداخلي. وضمن هذا الخط أنشأ بعض اعضائها "المنظمة الاشتراكية الثورية".

هـ ـ طرحت مسألة التآخي المباشر بين المقاومة الشعبية والجيش الوطني.

و ـ طرحت ضرورة تكوين تنظيم ثوري عربي موحد، كمحك وشرط ضروري للالتزام بالقضية القومية. وأسهم بعض اعضائها في انشاء "المنظمة الشيوعية العربية".

ز ـ أولت اهتماما خاصا لتوحيد صفوف مختلف الاحزاب والتنظيمات والتيارات والشخصيات الوطنية اللبنانية. وكانت هي المبادرة للدعوة الى اجتماع موحد للقوى والاحزاب والشخصيات الوطنية خلال ازمة نيسان 1969، وهو الاجتماع الذي انبثق عنه لاحقا المجلس السياسي المركزي للحركة الوطنية اللبنانية، برئاسة القائد التاريخي الشهيد كمال جنبلاط.

ولكن "الجبهة التقدمية اللبنانية لمكافحة الصهيونية"، بمختلف الاشكال التنظيمية والنضالية التي انبثقت عنها او ساهمت في تكوينها، لم تستطع الاستمرار بالشكل التنظيمي النوعي المستقل، لسببين رئيسيين:

الاول ـ انها غرقت، او أغرقت، في طوفان التنظيمات المسلحة الصورية، القائمة على التسطح والارتزاق، التي عمدت القيادة البورجوازية الفلسطينية الى إغراق الساحة الوطنية اللبنانية بها، لمحاصرة جميع القوى الوطنية اللبنانية الاصيلة والصادقة، وعلى رأسها قيادة كمال جنبلاط، بهدف التسلط والاستفراد بالقرار السياسي في الساحة الوطنية اللبنانية، والتفرد في المساومة مع "الانعزاليين" واسيادهم الاسرائيليين والاميركيين، من وراء ظهر الجميع.

والثاني ـ انها، اي "الجبهة التقدمية"، كانت موضع "اهتمام" و"رعاية" خاصين، من قبل جميع اجهزة الامن السياسي، اللبنانية والعربية والاجنبية، "الصديقة" والمعادية، التي كانت "تلتقي موضوعيا" عند نقطة عدم السماح لأي تجربة ثورية طليعية ان تشق طريقها بسهولة، وضرورة خنقها في المهد او قتلها بالانحراف (مثلما جرى لمجموعة "ابو نضال"، التي تحولت للاسف من مجموعة مناضلة طليعية، الى زمرة ارهابية مورطة في مختلف المخططات المخابراتية المشبوهة). وأورد هنا احد الامثلة على طريقة "الرعاية" الخاصة التي حظيت بها "الجبهة التقدمية"، بناء لمرويات بعض "المعايشين" الذين لا استطيع التشكيك بصدقهم:

ـ عندما حدثت عملية بنك اوف اميركا اثناء حرب تشرين 1973، والتي استشهد فيها لدى اقتحام قوات الامن للبنك المناضلان علي شعيب وجهاد اسعد، حدثت مفاوضات بين السلطة والمجموعة المسلحة، قبل الاشتباك. وكان الوسيط بين الطرفين احد مسؤولي "فتح" (وهذا لم يكن صدفة). ويقول بعض "المعايشين" ان جهاد اسعد اصيب خلال التراشق مع الشرطة لدى اقتحامها البنك واستشهد. اما علي شعيب، وكان هو المسؤول عن المجموعة، فهو لم يصب بالاشتباك، وهناك صورة نشرت في جريدة "الانوار" (مأخوذة عن بعد بواسطة آلة تصوير زوم، ويمكن لمن يشاء مراجعتها)، يظهر فيها علي شعيب وهو رافع يديه امام الشرطة. اي انه، سواء شارك في الاشتباك ام لا، قبل لحظات من التقاط تلك الصورة، فهو كان قد ألقى سلاحه ورفع يديه مستسلما. فكيف ولماذا قتل علي شعيب، بعد استسلامه، بعد الاشتباك؟ يقول بعض اقربائه من بلدة الشرقية، نقلا عن اهله الذين عاينوا الجثمان، ان ثقب الرصاصة التي دخلت جسمه وقتلته لم يكن حوله وشم في مكان الدخول، في حين انه كانت توجد فجوة كبيرة في مكان خروج الرصاصة. وهذا يعني ان الرصاصة القاتلة اطلقت من مسافة قريبة جدا لا تتعدى السنتيمترات، لأن اي رصاصة تطلق من مسافة ابعد تحدث وشما حول الثقب الذي تدخل منه. وأن الذي اطلق الرصاصة القاتلة كان قريبا من المرحوم علي الى درجة الالتصاق وانه كان "مرتاحا" كي يختار اللحظة والزاوية والنقطة المناسبة للرماية. أي اننا لسنا امام حادث اصابة قاتلة في اشتباك، غير مقصود به شخص بعينه، بل امام حادث قتل بدم بارد لشخص بعينه هو علي شعيب. فمن كان له مصلحة في "إخراس" علي شعيب، وكان قادرا في الوقت نفسه على "ايجاد" و"تجنيد" القاتل من صفوف القوات النظامية، لتصفية علي شعيب بهذه الطريقة، وتغطية الجريمة بـ"الظروف المحيطة"؟ سؤال ربما يجب ان نبحث عن الجواب عليه لدى ارباب "اتفاق القاهرة" و"اتفاق اوسلو" او حتى "اتفاق الطائف"!

ان سياسة "ترويض" الحركة الوطنية اللبنانية و"تخفيض سقفها" كانت تأتي في رأس اولويات الانظمة والمخابرات "الوطنية" العربية، بما فيها للاسف الشديد التابعة لبعض فصائل المقاومة الفلسطينية. وكان من ابرز "ثمار" هذه السياسة، الهادفة في النهاية الى التفاهم والتسوية مع العدو الامبريالي ـ الصهيوني: الاطاحة بكمال جنبلاط والامام موسى الصدر. وما تعرضت له "الجبهة التقدمية اللبنانية لمكافحة الصهيونية" هو مؤشرات مبكرة ومعبرة عن هذه السياسة. ولكن هذا لا يلغي، بل يؤكد تماما، ان الاطروحات السياسية، والتجربة النضالية، التنظيمية، السياسية والعسكرية، لـ"الجبهة التقدمية اللبنانية لمكافحة الصهيونية" تبقى هي التجربة الكفاحية الطليعية الارقى على مستوى القاعدة الشعبية، بموازاة التجربة المتقدمة التي مثلها كمال جنبلاط على مستوى القيادة الوطنية الحقيقية والصادقة على النطاق اللبناني والفلسطيني والعربي بأسره.

VII ـ ان ازمة 64 ـ 1965، ومجزرة طرد عشرات الكوادر الحزبية المعارضة ومئات المناضلين المؤيدين لاطروحات المعارضة، هي التي مهدت موضوعيا لازمة 67 ـ 1968 بين "الشيوخ"، بقيادة الشاوي، و"الشباب" بقيادة حاوي، والتي تحولت ضد قريطم وصوايا بعد انضمام الشاوي الى "الشباب".

فماذا كان موقف "الشباب": جورج حاوي وجورج بطل ونديم عبدالصمد وكريم مروة وغسان الرفاعي وخليل الدبس وحسين حمدان ورهيف فياض وفضل الحاج وخليل نعوس وفؤاد زحيل، خلال ازمة 64 ـ 1965؟

لقد وقفوا بشدة الى جانب "الشيوخ": نقولا الشاوي وارتين مادويان وحسن قريطم وصوايا صوايا وطنوس دياب.

ويمكن الان، من هذا البعد الزمني الكافي، القول إن موقف هؤلاء "الشباب" هو المسؤول الرئيسي:

اولا ـ عن استمرار النهج السياسي الانتهازي والذيلي للحزب الشيوعي، وعدم ارتفاعه الى مستوى المسؤولية التاريخية في الظروف العاصفة التي كان ولا يزال يمر بها لبنان والمنطقة.

وثانيا ـ شق صفوف الحزب الشيوعي وبعثرتها.

فإن قيام المعارضة الشديدة في صفوف الحزب في 64 ـ 1965 ادى عمليا وموضوعيا، من جهة، الى إخراج خالد بكداش من دائرة النفوذ والهيمنة التي كان يمارسها على الحزب الشيوعي اللبناني. وأدى، من جهة ثانية، الى إحراج القيادة السوفياتية وقطع الطريق فعليا عليها في فرض خطها على قيادة الحزب الشيوعي اللبناني، عبر حشر ادواتها "التاريخية"، اي "الشيوخ"، في زاوية المحاسبة الشاملة.

ولكن تدخل "الشباب" بشدة الى جانب "الشيوخ"، هو الذي "عكس الآية" كما يقال، حيث ان هذا التدخل "الشبابي" أنقذ "الشيوخ" من الازمة، وأتاح لبكداش والسوفيات متابعة التدخل في شؤون الحزب. وقد عمد "تحالف" "الشباب" و"الشيوخ" للتخلص على الطريقة الستالينية من المعارضة، عبر مجزرة عمليات الطرد الجماعية.

وفي 1968، ولا سيما في ما سمي "المؤتمر الثاني" للحزب، اخذ "الشباب" يرددون، كرجع صدى باهت، بعض اطروحات المعارضة الحزبية في 64 ـ 1965، لتعزيز موقفهم بوجه "الشيوخ" بعد ان دب الخلاف بين الطرفين. ويمكن لمن يشاء ان يراجع جريدة "النداء" و"الاخبار" والادبيات الحزبية المتوفرة، في السنوات 64 ـ 1968، ليرى ماذا كان يكتب ويقول جورج حاوي وكريم مروة وجورج بطل ونديم عبدالصمد وامثالهم من "الشباب"، فسيجد انه لم يكن يختلف بشيء عما كان يقوله "الشيوخ" امثال نقولا الشاوي وصوايا صوايا وغيرهما، الا من حيث المزايدة على "الشيوخ" في "السَفـْيـَتـَة". اما في 1968، وبعد ان كان قد تم "تطهير" الحزب تماما من كل اثر للمعارضة، قلب "الشباب" ظهر المجن لـ"الشيوخ" مستخدمين بعض الشعارات والاطروحات السياسية للمعارضة المضحى بها، بطريقة انتهازية ووصولية بشعة لا تخرج عن "مبدأ" "حق يراد به باطل".

ان هؤلاء "الشباب" الاشاوس لا يجرؤون، بل يخجلون حتى اليوم من قول الحقيقة كما هي حول الازمة المركبة للحزب في 64 ـ 1965 و 1968، ويفضلون المراوغة على الاعتراف بالحقيقة، الى درجة ان "الازدواجية" اصبحت "طبيعة ثانية" فيهم، وهو ما يكشفه، كمثال وحسب، تحقيق علي بردى.

ما الذي دفع هؤلاء "الشباب" الى الانزلاق لمثل هذا الموقف الانتهازي ذي الوجهين؟

الجواب بسيط، ولكنه في الوقت نفسه غريب او طريف، وهو يدل على مدى "فهلوية" و"كركوزية" هؤلاء "الشباب": فهم ارادوا، اولا وقبل كل شيء، ان يحصلوا ويحافظوا على الامتيازات المادية والمعنوية التي تتيحها لهم المراكز القيادية (بالسير الذيلي مع السوفيات). وهذا هو "بيت القصيد" في مجمل الحياة السياسية لهؤلاء "الشباب" ذوي الاصول البرجوازية الصغيرة، الذين دخلوا الحزب الشيوعي بدوافع انتهازية، وعاشوا بالانتهازية ولا يزالون حتى اليوم، امد الله باعمارهم جميعا يعيشون ويتعيشون بالانتهازية (وربما يكفي، او لا يكفي، مثالا لذلك، النموذج الذي يقدمه الرفيق العزيز جورج حاوي، الذي يلعب الان دور "ممثل يساري" في "قرنة شهوان"، وفي الوقت ذاته "سمسار سياسي وتجاري" للنظام الكراكوزي للقذافي، الذي كان يتنطح لقيادة القومية العربية، خلفا لعبدالناصر، فشرشح الناصرية وشرشح القومية العربية كما لم يشرشحها اي "قائد عروبي!" آخر). وللوصول الى هذا الهدف حينذاك كان عليهم ازاحة "الشيوخ" عن المراكز الاولى للقيادة، وهي المراكز التي كانت تمثل كل "قيمة حياة" اولئك "الشيوخ". وقد خطا "الشباب" خطوتهم الحاسمة في الوصولية، بالوقوف الى جانب "الشيوخ" ضد المعارضة.

ولكن لسوء حظ "الشباب"، لم يكن بامكانهم الوصول الى هدفهم الانتهازي، باستلام القيادة، الا بالتبني الشكلي الانتهازي لانتقادات المعارضة ذاتها التي حاربوها وابعدوها عن الحزب. ومثلما ان هؤلاء "الشباب" لم يكونوا مخلصين في الدفاع عن "الشيوخ" ضد المعارضة، فهم لم يكونوا، ايضا وطبعا، مخلصين في تبني اطروحات المعارضة التي قضوا بايديهم عليها. فالهدف الوحيد لـ"الشباب" كان هو فقط وفقط الوصول الى المراكز القيادية والاستفراد بها، تحت اي ذريعة كانت.

وحينما بدأ "الشباب"، بعد تصفية المعارضة في 64 ـ 1965، يطالبون بالحصول على "مكافأتهم"، بتقديمهم الى المراكز القيادية الاولى وتقاسم امتيازاتها مع "الشيوخ"، ادرك الاخيرون غايتهم الوصولية وهم ـ اي "الشيوخ" ـ لم يكونوا مستعدين لتقاسم القيادة مع اي طرف، فبادروا "الشباب" بالهجوم، واتهموا "شيخ الشباب" جورج حاوي بأنه "عميل للحلف الاطلسي"، وقد صدرت بذلك نشرة داخلية حزبية في 1967 لم توزع على الاعضاء بل طبع منها اعداد قليلة ومحصورة كان يتم قراءتها واعادتها للقيادة، وقد دعاني في حينه احد الرفاق الذين ظلوا في الحزب ويدعى ج.ع. للاطلاع عليها. ولكنني لا انا ولا اي من كوادر المعارضة لم "نقبض" هذا الاتهام ضد الرفيق جورج حاوي، ولم نشمت به، بل كان هذا الاتهام بمثابة تأكيد لقناعتنا بالاساليب الستالينية الملتوية للقيادة التقليدية. وقد عمد جورج حاوي حينذاك للسفر الى موسكو وتسليم نفسه لـ"الرفاق السوفيات"، بكل شيم "الكرامة والإباء وعزة النفس"، كي يؤكد "نظافته" واستعداده للسير باخلاص في الخط السوفياتي. وبهذه "النقلة" الذكية، "المستقلة" و"الوطنية" تماما، أمن الرفيق جورج حاوي على مستقبله السياسي، وضمن لنفسه الحصول على مركز الامانة العامة للحزب، مستفيدا من "الحرج" الذي كان السوفيات قد وقعوا فيه، بعد ان تزعزع مركز نقولا الشاوي كليا، واصبحوا يرغبون في ايجاد بديل له.

VIII ـ تزامنت ازمة 64 ـ 1965، ربما بطريق الصدفة الزمنية، مع الازمة داخل القيادة السوفياتية ذاتها، حيث كانت المعارضة لخط خروشوف الانتهازي قد بدأت تزداد في صفوف البيروقراطية السوفياتية التقليدية، وتمخضت تلك الازمة عن اقالة خروشوف بشكل مفاجئ. وقد انعكست الازمة القيادية السوفياتية بأشكال مختلفة على الازمة في الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان. وطبعا انني لا ادعي الاحاطة الكافية بهذا الموضوع الحساس والشائك، ولكنني ارى من الواجب تناوله بما اعرف، دون ان ادعي ان استنتاجاتي هي دقيقة كل الدقة:

1 ـ ان خالد بكداش (وانا هنا اقيمه سياسيا، بدون اي ظل لأي موقف شخصي) كان "أعتق" و"ادهى" "ركائز" السوفيات في القيادات الشيوعية العربية. وكان على صلة مباشرة بأرفع المواقع السوفياتية وموضع ثقتها اكثر من غيره. ومن خلال موقعه ذاك، كان على اطلاع قريب على الخلافات الداخلية في صفوف القيادة السوفياتية ذاتها، التي كان كل فريق منها يحاول تجنيد "الاصدقاء" والمؤيدين في صفوف القيادات الشيوعية الاجنبية، للوقوف الى جانبه ضد الفريق او الفرقاء الاخرين ضمن القيادة السوفياتية. ويبدو من القرائن ان بكداش قد اخذ جانب المعارضين لخروشوف، قبل اقالة الاخير. في حين ظل "الشيوخ" اللبنانيون، نقولا الشاوي وصوايا صوايا وحسن قريطم الخ، الى جانب خروشوف، اي الى جانب الطرف القادم على الخسارة قريبا. وبعد ان "طار" خروشوف اهتزت الارض كليا تحت اقدام نقولا الشاوي، خارجيا، بعد ان كانت قد اهتزت داخليا بفعل المعارضة في 64 ـ 1965. وكانت تلك بمثابة اللحظة التاريخية الذهبية التي عرف "الشباب" كيف يستغلونها للانقضاض على نقطة الضعف التي اخذ يمثلها نقولا الشاوي، ففرضوا عليه التنازل عن مركز الامانة العامة للحزب، وهو اهم مركز حزبي، لجورج حاوي، وساوموه على مركز شرفي مصطنع هو مركز رئاسة الحزب، مقابل التخلي عن "الشيوخ" والسير مع الشباب. وقد ألغي مركز رئاسة الحزب مع وفاة المرحوم نقولا الشاوي .

2 ـ ثبتت القيادة السوفياتية الجديدة، بعد خروشوف، جورج حاوي في مركز الامانة العامة للحزب، وثبتت من خلاله "الشباب" في "واجهة" الحزب، لعدة اسباب مكيافيلية اهمها:

أ ـ الوثوق التام من التبعية السوفياتية لحاوي و"شبابه".

ب ـ مسايرة قواعد وجماهير الحزب التي اصبحت مؤيدة في غالبيتها للخط التنظيمي الحزبي والسياسي، المنافي لخط القيادة القديمة، وتضليل تلك القاعدة وايهامها بوجود "تجديد" في الحزب.

ج ـ تحجيم دور خالد بكداش في لبنان، الذي اصبح يمثل "مشكلة" في الحزب الشيوعي اللبناني، القيادة السوفياتية هي في غنى عنها.

د ـ التلطي خلف برقع جديد يتمثل بـ"الشباب"، وإضفاء طابع من "الاستقلالية" الشكلية الكاذبة على القيادة الشيوعية اللبنانية "الشابة"، بعد ان بلي واستهلك البرقع القديم للاجهزة السوفياتية، المتمثل في "الشيوخ".

وبحيازته درع التثبيت من موسكو، انتهت ازمة 1967 بين "الشيوخ" وجورج حاوي و"شبابه". حيث ذهب جورج حاوي الى موسكو وهو متهم من قبل الشيوخ بأنه عميل للحلف الاطلسي (في النشرة الداخلية، التي صدرت ضد جورج حاوي بهذا الخصوص، ذكر ان المصدر الذي استندت اليه القيادة في توجيه هذا الاتهام هو "مصادر صديقة". وكان يقال شفاهيا ان هذه "المصادر الصديقة" هي السفارة السوفياتية). وعاد منها بعد عدة اشهر مدعوما بقوة (لماذا؟) من السوفيات انفسهم ليتسلم مركز الامانة العامة للحزب.

IX ـ بعد انطواء صفحة "الشيوخ"، جرى الاحتفاظ فقط بالمركز الرئاسي الشرفي والشكلي للمرحوم نقولا الشاوي، وبالمركز الابوي الذي كان على الدوام يشغله المرحوم ارتين مادويان، نظرا لعلاقته العائلية الخاصة مع جورج حاوي ولـ"مرونته" المعهودة، حيث كان يحاول على الدوام التكيف مع الجميع، خصوصا عند بروز الازمات، متصرفا على اساس انه "الاب الروحي" للحزب بكل اجنحته. ولكن بعد هذا "التطور"، كان لا بد من اجراء تغيير في واجهة الحزب وإحلال "الشباب" مكان الشيوخ في جميع المراكز القيادية. وبطبيعة الحال ان هذا لم يرق لـ"الشيوخ" امثال المرحومين حسن قريطم وصوايا صوايا وطنوس دياب، فابدوا معارضتهم للقيادة "الشبابية" الجديدة. وكي يكون هناك "اساس" فكري وسياسي لمعارضتهم، مهما كان هذا "الاساس" واهيا وبلا اساس، ادعوا بأن "الشباب" هم "غير صادقين" و"غير مخلصين" في "سوفياتيتهم"، وأنهم ـ اي "الشيوخ" ـ هم "الاخلص" سوفياتيا، وهذا ما دفعهم للاتصال والتنسيق مع خالد بكداش، وتقديم الطاعة له من جديد، متناسين خلافهم السابق معه حول تأييد او عدم تأييد خروشوف. وكان من الطبيعي ان يصطف هؤلاء "الشيوخ" مع خالد بكداش لأنهم تاريخيا من طينة واحدة و"قابرين الشيخ زنكي" معا، كما يقال. وطبعا ان فلول "الشيوخ" هؤلاء كانوا يلعبون "ورقة محروقة"، هي ورقة بكداش والمزايدة الاولترا ـ السوفياتية التي لم تعد القيادة السوفياتية ذاتها تحتاج اليها. ولكنهم بهذا الموقف السطحي قدموا خدمة مجانية لـ"الشباب" الانتهازيين، بإظهارهم زورا وبهتانا بأنهم "مستقلين" عن السوفيات و"مختلفين" عن البكداشية، في حين ان "الشباب" اكدوا تماما انهم ليسوا شيئا آخرا سوى صورة مجددة و"مزوزقة" عن"الستالينية" و"البكداشية".

وهذه هي حقيقة "انشقاق" 1968، الذي يختلف تماما وجذريا عن ازمة 64 ـ 1965. ومع ذلك فإن "الشباب" يستغلون جهل وتجهيل القواعد والجماهير الحزبية بالحقائق، من اجل تأكيد "اصالة" مدرسة التضليل والديماغوجية "الستالينية ـ البكداشية" التي ترعرعوا وبرعوا فيها، كي يضعوا المعارضة في 64 ـ 1965 في سلة واحدة مع السوفيات وبكداش وحسن قريطم وصوايا صوايا.

وانتهز هذه الفرصة، لاتوجه الى الامين العام الجديد "الشاب" للحزب الشيوعي اللبناني، الدكتور خالد حدادة، والى بقية اعضاء القيادة الجديدة بدعوة مخلصة: ان يستندوا الى الرصيد التاريخي الكبير للحركة الشيوعية، اللبنانية والعربية والعالمية، لفتح كل الملفات، ومناقشة كل الموضوعات، بجرأة وصدق.

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

* كاتب لبناني مستقل مقيم في بلغاريا



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مؤامرة اغتيال فرج الله الحلو


المزيد.....




- مصر.. بدء تطبيق التوقيت الشتوي.. وبرلمانية: طالبنا الحكومة ب ...
- نتنياهو يهدد.. لن تملك إيران سلاحا نوويا
- سقوط مسيرة -مجهولة- في الأردن.. ومصدر عسكري يعلق
- الهند تضيء ملايين المصابيح الطينية في احتفالات -ديوالي- المق ...
- المغرب يعتقل الناشط الحقوقي فؤاد عبد المومني
- استطلاع: أغلبية الألمان يرغبون في إجراء انتخابات مبكرة
- المنفي: الاستفتاء الشعبي على قوانين الانتخابات يكسر الجمود و ...
- بيان مصري ثالث للرد على مزاعم التعاون مع الجيش الإسرائيلي.. ...
- الحرس الثوري الإيراني: رد طهران على العدوان الإسرائيلي حتمي ...
- الخارجية الإيرانية تستدعي القائم بالأعمال الألماني بسبب إغلا ...


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - جورج حداد - أضواء على انشقاقات الستينات في الحزب الشيوعي اللبناني: الاضاليل لا تصلح الحـزب، ولا تبني حركة يسـار دمقراطي