تونس: فشل وأمل .
فريد العليبي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8522 - 2025 / 11 / 10 - 14:39
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
.
في يوم خريفي يميل لونه إلى الرمادي، وقف رئيس الجمهورية قيس سعيد وحده يغرس شجرة في حديقة المجلس الأعلى للتربية. لا حرس يحيط به، لا جمهور يصفق، ولا حضور لهؤلاء الوزراء الأربعة الذين يؤلفون معه ذلك المجلس الغريب. لأول مرة يحتفل رئيس تونسي بتلك المناسبة بهذه العزلة .
كان بوسع الرئيس أن يذهب إلى البرلمان ليحشد النواب ويغرس معهم الأشجار قبل التوجه إلى قاعة للحوار، لكنه لم يفعل. هذه الصورة الصغيرة تعيد تشكيل المشهد الكبير: رئيس غاضب، وحكومة أثقلت كاهله وكاهل الشعب بأسره، وبرلمان مقهور ومتمرد، حتى إن رئيسة الحكومة غادرت مبناه بعد نهاية كلمتها بينما غفت وزيرة من بعدها، والنقاش من حولها محتدم حول مستقبل البلاد.
المرجح أن غضب الرئيس موجّه إلى حكومته، تلك الحكومة التي صارت عبئًا عليه وعلى الجميع، والتي باتت ساعة رحيلها قريبة، وربما ستحمل آخرين معها في ذات السفينة في بحر تونسي متلاطم الأمواج، فالسماء الملبدة بالغيوم تهدد بالانهمار.
البرلمانيون عبّروا عن سخطهم على الأداء الحكومي، فقد كبرت المعضلة بما يشير إلى فشل منظومة بأكملها. في هذا السياق تظهر الصورة: رئيس يغرس ويَسقي شجرة تبدو ثمارها ناضجة، وسؤال القطاف يلوح في الأفق: هل سيدفن الرئيس خيار التكنوقراط ويحكم بالسياسة الوطنية، أم ستدفنه التكنوقراطية وشقيقتها البيروقراطية؟
فلسفة في البرلمان
عندما حلت عقدة لسان البرلمان ولم يعد يكتف بالموافقة على مشاريع القروض، هبت زوبعة صغيرة فلسفية الطابع، أقرب إلى المزحة، فقد نطق نائبٌ ناقدًا رئيسة الحكومة التي تقول ما لا تفعل وتفعل ما لا تقول، مذكّرًا عرضًا بالكوجيتو الديكارتي: "أنا أفكر .... أنا موجود"، من وجهة نظر فلسفية تبرز أهمية الفعل والعمل (البراكسيس).
بدا البرلمان التونسي متفلسفًا عرضًا ومتمردًا جوهرا ، وفي مواجهة موجة التهكم استل النائب أسماء ومفاهيم مثل هيجل ودوسوسير، والغزالي ومحمد شحرور، والجزئي والكلي، والفلسفة باعتبارها صالحة لكل زمان كما لو كانت هي و القرآ.ن صنوان .
أما الزوبعة الكبيرة فكانت سياسية، وبدا أن تونس اليوم تحوي برلمانين: برلمان الشعب وبرلمان أعدائه، برلمان يدافع عن مصلحة الوطن، وآخر يدافع عن مصالح نوابه أو من أوصلهم إلى كراسيهم. فحضرت أسماء بعض كبار البرجوازية الكمبرادورية، فضلًا عن طلاب المصالح الشخصية.
تمرد النواب: صراع داخل البيت
لم يأت تمرد أغلب النواب من خارج جبهة 17 ديسمبر / 25 جويلية، بل هو صراع داخلها. فهؤلاء النواب كانوا جزءًا من صناع ذلك التيار، وصوتهم اليوم محاولة لإنقاذه من سيطرة تكنوقراطية وانتهازية أيضًا.
أي إنه صراع داخلي على المشروع الوطني نفسه، يتعلق باستمرارية الخط الثوري للانتفاضة التونسية ولواحقها، أوبانقطاع حبله والعودة إلى نسخة مُعاد تركيبها من الماضي القريب ؟
المنظومة و البيروقراطية
لم تكن المعركة في جوهرها مع رئيس الجمهورية، فالتناقض معه ثانوي، وإنما مع منظومة بيروقراطية متجذرة، منظمة وممولة، ولها أدواتها الإعلامية والدعم الخارجي. هذه المنظومة لا تكتفي بإعاقة التنفيذ، بل قد تلجأ إلى خلق صدمات مفاجئة بـ "غرز الفأس في عين مملكة النمل"، أي اعتماد تكتيك يجبر الجميع على رد فعل شامل، بما يشبه حرب الجميع ضد الجميع، في انتظار أن تحط الفوضى أوزارها لتحديد الهدف مجددًا، ثم مواصلة السير نحو الهاوية.
قابس: في قلب الأزمة.
لم يكن ما جرى في البرلمان منفصلاً عما حدث قبل ذلك في مدينة قابس من احتجاجات ضد التلوث، التي كشفت عن هشاشة إدارة الدولة وتراخي الحكومة.
عندما تُترك معدات معالجة التلوث مرمية دون استعمال، وعندما يُلقى اللوم على الحكومات السابقة دون مساءلة فعلية للحاضر، يصبح السؤال: لماذا لم تُنفذ الحلول عندما كانت بسيطة وواضحة؟ غياب الحلول يغذي غضب الشعب ويزيد تشكك الرئيس في فعالية حكومته.
أوراق الرئيس وإمكانية التحرك.
الواقع اليوم أن الرئيس في حرج، غير أنه لا يزال لديه "أوراق" لم يستعملها بعد، مستفيدًا من مقبولية شعبية لا تزال كبيرة رغم خسارة جزء مهم منها.
يمكن أن تصبح هذه الشعبية أداة لتطهير الصفوف أو إعادة ترتيب الوضع السياسي، بما في ذلك تحالفه مجددًا مع الاتحاد العام التونسي للشغل، وإنقاذ الموسم الفلاحي، وإجبار المضاربين والسماسرة على تخفيض الأسعار، فضلًا عن الانفتاح على الشباب، وتكوين حكومة وطنية سياسية متطابقة مع خط انتفاضة 17 ديسمبر وهبة 25 جويلية، فضلًا عن تنزيل شعار "الثورة الثقافية" وتطهير الإدارة، وغيرها من الشعارات التي ترددت خلال سنوات على أرض الواقع.
في صندوق باندورا هناك الشرور والأمل أيضا .
تشبه تونس اليوم "صندوق باندورا"، الذي تم فتحه فخرجت منه شرور عديدة، لكن الأمل لا يزال موجودًا.وإذا أمكن للرئيس قفل الصندوق عبر إنجاز المهام المذكورة، وحسن الإصغاء لمن حوله، والعمل بجرأة على مواجهة البيروقراطية مهما بدت قوية، فإن تونس ستواصل طريقها نحو المستقبل. أما التأخير فسيستفحل معه العجز بمرور الأيام التي لن تطول كثيرًا قبل أن تغرق البلاد مجددًا في المستنقع الدي لن تخرج منه بعد ئلك بسهولة .