جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء 117)
أحمد رباص
الحوار المتمدن
-
العدد: 8364 - 2025 / 6 / 5 - 15:58
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
من الثورة إلى الإرهاب
ما هو بالضبط محتوى الحرية المطلقة والإرهاب، كشكل من أشكال الوعي؟ يبدأ هيجل بتحليل أحداث الثورة التي سبقت الإرهاب:
"هذا الجوهر غير المنقسم للحرية يعتلي عرش العالم دون أن تستطيع أي قوة معارضته بالمقاومة. [...] في هذه الحرية المطلقة، تُفنى جميع الهيئات [الاجتماعية]، التي هي الجواهر الروحية التي يتمفصل فيها الكل؛ الوعي الفردي، الذي ينتمي إلى عضو في هذا التمفصل والذي أراد ونفذ فيه، أزال حدوده؛ هدفه هو الهدف الكلي، لغته هي القانون الكلي، وعمله هو العمل الكلي".
بالعودة إلى مقارنتنا بين التاريخ المبني على الأحداث و"التاريخ المُتصوَّر"، يمكننا طرح افتراض أن هيجل يُحلل هنا ليلة الرابع من غشت 1789، عندما ألغت الجمعية التأسيسية الامتيازات وأنهت النظام الإقطاعي بطبقاته الثلاث. وفي غشت 1789 كذلك اعتُمد، وسط الحشود، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن، الإعلان الذي استطاع أن يجسد فكرة أن الحرية تسعى إلى ترسيخ مكانتها على عرش العالم، أي أن تُقدِّم نفسها كنموذج يُحتذى به في جميع البلدان الأخرى. حتى الآن، كل شيء على ما يُرام، كما يُقال. بالفعل، كل شيء يُشير إلى أن هيجل اعتبر إلغاء النظام القديم أمرا جيدا، أو على الأقل نتيجة حتمية.
في القسم السابق حول "الثقافة ومجال فعاليتها"، يستشهد بكتاب "عشيقة رامو" لديدرو (1713– 1784)، الصادر سنة 1761 والذي ترجمه جوته إلى الألمانية، باعتباره تمثيلاً ساخراً لفوضى القيم والتحلل المتفاقم للمجتمع الفرنسي ما قبل الثورة. ويؤكد هذا الرأي كتاب "فلسفة التاريخ"، حيث يوضح هيجل أن الثورة نشأت من "الفساد الأكثر تطرفا" في فرنسا القديمة، من التفاوتات الناجمة عن امتيازات النبلاء ورجال الدين، من "الضغط القاسي للغاية" الذي أثقل كاهل الشعب، ومن رفض الملك وحكومته إجراء "إصلاح ".
بعد "قمع الكتل الروحية المتمايزة" (الهيئات الثلاثة)، تواصل الحرية المطلقة عملها النافي، وتُلغي الجمعيات المهنية، وهي الجمعيات التي أطلق عليها هيجل لاحقا اسم "الكتل العمالية الخاصة". هذا هو قانون لو شابيلييه الصادر في 14 يونيو 1791. فبدون هذه الوساطات، تفقد هذه "الهيئات داخل الدولة" - وفقا لصيغة جان هيبوليت - عضويتها، ولا شيء يحمي الفرد المحروم من السلطة السيادية، التي هو معرض لها مباشرةً. عندها يصبح الوعي "وعيا ذاتيا كإرادة كونية ؛ فهو يدرك أن متعارضه هو قانون ممنوح وعمل منجزه من قبله؛ ومن خلال الانتقال إلى النشاط وخلق الموضوعية، فإنه لا يفعل شيئا خاصا، بل يفعل فقط القوانين وأفعال الدولة."
من الممكن أن تتوافق هذه اللحظة مع الجمعية التشريعية التي خلفت الجمعية التأسيسية، من شتنبر 1791 إلى نفس الشهر من عام 1792. عند هذه النقطة، يقدم هيجل وصفا مشروطا للمسار الذي كان من الممكن أن تتخذه الثورة لو بقيت ضمن إطار دستور 3 شتنبر 1791. كان بإمكانها أن تُرسي "الفرق الذي ستُقسّم بموجبه إلى كتل روحية قائمة وإلى ما يُشكّل أعضاء السلطات المختلفة" (التشريعية والقضائية والتنفيذية). كان بإمكانها أن تُميّز نفسها "كهيئات [اجتماعية] أكثر تحديدا"، أي أنها أعادت تأسيس الجمعيات - "كتل العمال الخاصة" - على أسس جديدة. لكن وقد تم ذلك، تجد الحرية الكونية نفسها "مقتصرة على فرع من كل، على نوع من الفعل والوجود؛ وإذا وضعت هذه الشخصية في عنصر الوجود ، فقد تتلقى معنى شخصية محددة؛ قد تتوقف في الحقيقة عن أن تكون وعيا ذاتيا كونيا".
لهذا السبب، كان من المحتم أن يفشل هذا المسار الأكثر اعتدالاً، وفقاً لهيجل. يمكن تفسير انتفاضة العاشر من غشت 1792، وما تلاها من استبدال الجمعية التشريعية بالمؤتمر، ليس فقط بانعدام ثقة الشعب بالمسؤولين المنتخبين، بل أيضاً بعجز الوعي الذاتي الكوني عن قبول التمايز والخصوصية في مؤسسات مستقرة ومحددة، وعن التخلي عن سلبيته ووضع نفسه "في إطار الوجود". يُحلل هيجل موقف الوعي الثوري إلى سلسلة من التناقضات المفاهيمية: كونيته تُحارب كل خصوصية، ووحدته غير المنقسمة ترفض التفتت إلى أي تعددية، وهويته الذاتية تحفظ نفسها من كل اختلاف، وسلبيته في الحركة ترفض أي استقرار في الوجود الجوهري .
من سمات الإرهاب، الذي تجلى في المحكمة الجنائية الاستثنائية المُشكّلة يوم 10 مارس 1793، وفي لجنة السلامة العامة المُشكّلة يوم 6 أبريل (من نفس السنة)، نفي مبدإ فصل السلطات، والخلط بين السلطتين التنفيذية والقضائية. يرى هيجل أن الإرهاب مرحلة أخرى في عملية النفي التي يُحرّكها الوعي الكوني؛ إنه انقلاب الحرية الكونية إلى "غضب الاختفاء". فعندما "تنتهي الحرية المطلقة من إبادة التنظيم الحقيقي"، وعندما تُدمّر تماما الهياكل الملموسة للمجتمع (هيئات، شركات، سلطات متمايزة)، لا يبقى لها ما تُنفيه، سوى ذاتها، أي الأفراد الذين يُجسّدونها. لا شك أن هيجل كان يُفكّر في شعار الثورة - الحرية أو الموت - الذي أصبح، مع المحكمة الثورية، إما البراءة أو المقصلة. ورغم أنه امتنع عموما عن إصدار أحكام قيمة في تحليلاته طي "الفينومينولوجيا"، إلا أنه سمح هنا بإظهار تحفظاته:
"لذلك فإن العمل الوحيد والفعل الوحيد للحرية الكونية هو الموت، وهو في الواقع موت ليس له حجم أو ملء داخلي، لأن ما يتم نفيه هو النقطة غير الممتلئة للذات الحرة المطلقة؛ وبالتالي فهو الموت الأكثر برودة وسطحية، ولا يحمل أي أهمية أكبر من تقطيع رأس كرنب أو ابتلاع جرعة ماء."
صورة رأس كرنب مقطوع - وهو طبق شائع في بلدة صوابة بألمانيا - تشير بوضوح إلى المقصلة، التي حلت محل مراسم الإعدام في النظام القديم، مع مرادفاتها من التقنيات المتنوعة - الشنق، قطع الرأس والتقطيع - بطريقة عمل واحدة وبسيطة وسريعة، متساوية للجميع، بحيث تم تقليص المشهد إلى رحلة رجل محكوم عليه من سجنه إلى السقالة وربما، إذا قرر الجلاد ذلك، إلى عرض الرأس، بمجرد قطعه، أمام الحشد.
اقترح جيمس شميدت بشكل مقنع أن الصورة الثانية لجرعة ماء قد تكون تلميحا إلى مذابح الغرق التي ارتكبها جان بابتيست كاريير في نانت، من دجنبر 1793 إلى فبراير 1794، وسط مشاهد الإرهاب. أُغرق مئات السجناء الفينديين (نسبة إلى منطقة la Vendée)
والكهنة المتمردين والسكان المحليين في نهر لوار (وهو ما أسماه كارييه "الترحيل العمودي")، وكانوا أحيانا يُجردون من ملابسهم ويُربطون اثنين اثنين (وهو التعذيب المعروف باسم "الزواج الجمهوري").
بعد سقوط روبسبير، حوكم كارييه وأُعدم بالمقصلة في 16 دجنبر 1794 على هذه الفظائع. يذكر هيجل الشاب إعدام كارييه في رسالته إلى شيلينغ بتاريخ 23 دجنبر من العام نفسه، حيث ندد "بعار الروبسبيريين". ومن المرجح أنه لم ينسَ هذه الأحداث بعد اثني عشر عامًا، عندما كتب مؤلف "الفينومينولوجيا" .
خلال فترة الإرهاب، استُخدم الموت بطريقة شبه إدارية، بصفته "السيد المطلق"، وهو سيد مجهول مُكلّف بإبادة حريات الأفراد، إما جسديًا، من خلال آلاف عمليات الإعدام، أو بشكل غير مباشر من خلال التهديد الدائم المُخيّم على حياة كل مواطن والخوف الشديد الناتج عنه - ومن هنا جاء الاسم البديهي لهذه المرحلة من الثورة. يُحاصر الوعي حينها في جدلية لا هوادة فيها: الكونية - التخصيص - العودة إلى الكونية بتدمير الجزئي. كل حكومة "إرادة مُحددة"، وبالتالي، فهي "مُعارضة للإرادة الكونية؛ وبالتالي، لا يُمكنها أن تُقدّم نفسها بشكل مُطلق إلا كفصيل". ومع ذلك، فإن كونها فصيلًا، أي كيانا مُتهما بالدفاع عن مصالح خاصة مُعارضة للإرادة الكونية، يُحمّلها مسؤولية الذنب و"ضرورة سقوطها". هكذا اقتيد الثوار المتحمسون، الجيرونديون، ثم سكان الجبال أمثال دانتون وكاميل ديمولان، واحدا تلو الآخر إلى منصة الإعدام. فبالنسبة إلى لإرادة الكونية، ترتكب كل حكومة جريمة لمجرد وجودها كإرادة مُحددة. أما بالنسبة إلى لحكومة، فيرتكب الأفراد جريمة لمجرد وجودهم كأفراد.
هكذا يُحلل هيجل قانون المشتبه فيهم الصادر في 17 شتنبر 1793: "إن كون المرء مشتبهًا فيه هو ما يحل محل الإدانة أو ما يعنيه ويترتب عليها". هذا القانون يُنفي مسبقًا حرية الفرد، لصالح الحرية الحصرية للحكومة، التي تُعلن "أعداء الحرية" كل من يُحتملون أن يُعارضوها. اقترحت كومونة باريس، يوم 11 أكتوبر 1793، إدراج "أولئك الذين لم يفعلوا شيئًا ضد الحرية، ولم يفعلوا شيئًا من أجلها" في قائمة المشتبه فيهم.
في نظر هيجل، كان قانون المشتبه فيهم مناقضا لمفهوم الحرية ذاته، الذي يُعرّف الإنسان بأفعاله، لا بنواياه أو ميوله المفترضة. وقد كتب هذا في قسم سابق من كتابه "الفينومينولوجيا"، حيث انتقد علم الفراسة الرائج آنذاك: "إن الوجود الحقيقي للإنسان هو فعله؛ وفي هذا تتجلى الفردية". في سياقها، تُفهم هذه الأطروحة في مقابل الرغبة في الحكم على الفرد بمقياس وجهه وجسده، ولكنها تُصحّ أيضا بشكل أعم في مقابل مطابقة حقيقة الفرد لنواياه المفترضة. إن سجن الإنسان أو إدانته بناءً على نواياه المجردة هو نفي لحريته، لأنه بقدر ما يكون الفرد متحكما في أفعاله، فإنه لا يملك السيطرة على النوايا التي يمكن نسبتها إليه. لذا، في نشاطها النافي المتواصل، تنتهي الحرية المطلقة إلى تدمير نفسها، بعكسها إلى نقيضها:
"إن الإرادة الكونية، باعتبارها وعيا ذاتيا فعالا إيجابيا مطلقا، تنقلب – لأنها تلك الفعالية الواعية بذاتها التي ارتفعت إلى الفكر الخالص أو المادة المجردة – إلى جوهر سلبي، وأثبتت أنها قمع للفكر الذاتي وللوعي الذاتي".
يكتشف الوعي أن واقعه، حقيقته - الموت، غضب الدمار، الفوضى - يتناقض تماما مع مفهومه الأولي، مع اليقين الذي كان لديه عن نفسه - الإرادة الكونية، والحرية الإيجابية، وإقامة دولة جديدة.
(يتبع)
نفس المرجع