حزمة صغيرة من عيدان شجرة أنسابي (2/1)
أحمد رباص
الحوار المتمدن
-
العدد: 8352 - 2025 / 5 / 24 - 08:01
المحور:
الادب والفن
يس لأنسابي شجرة بل هي بمثابة غابة من أشجار متفرقة، متناترة هنا وهناك عبر بادية إقليم بنسليمان في الجزء الكبير الممتد، الشاسع، والمحسوب على أمنا الشاوية..
هكذا، تعين اعادة النظر في التعبير الشائع “شجرة الأنساب” ويلزم الحديث بدل ذلك عن غابة أنساب.
جدتي (أم أبي) كانت تحمل من الأسماء "الدغاية" ما يعني أن أصلها من "مليلة" وهي قرية يقام فيها سوق في كل يوم جمعة، في حين جدي (والد أبي) يتحدر من غير بعيد عن "مليلة" لكونه من فخدة “العوانس” التي هي أصل ومسقط رأس الدكتور المعطي منجيب..
أما جدتي الأخرى ( والدة أمي) فهي من أصل “قدميري” نسبة لولي صالح يوجد ضريحه المزار السنوي في ضواحي سوق "ثلاث الزيايدة"..
يبقى جدي الثاني (والد أمي) منتميا لقبيلة أولاد زيان المجاورة لقبيلة الزيايدة. عرف عنه الزهد في إغراءات الحياة في جانبها المادي وبلغ صيته أبعد مدى عبر قبيلة زعير التي تكسو أرضها الغابات..
حكت لي عنه أمي حكاية حفظتها عن ظهر قلب. ذات يوم، عاد من سوق أسبوعي وهو يمتطي ظهر حمار عليه بردعة وشواري. عندما وصل إلى الخيمة، قال لابنته التي أصبحت أمي أن أخرجي قسيمة اللحم من إحدى عيني الشواري. ذهبت البنت مستجيبة لأمر والدها، لكنها ما لبيت أن عادت خاوية الوفاض، فقالت له: ليس في الشواري لحم، يا أبي. عندها لم يرتسم على محياه ما يفيد الشعور بالخسارة أو بالندم، واكتفى بأن قال: ما مكتابش.. لكن ما هي إلا لحظات حتى سمعت البنت رجلا ينادي على أبيها، فخرجت لتعرف من المنادي وماذا يريد. رأته يحمل شيئا بيده اليمنى وعندما اقتربت منه مد إليها قسيمة اللحم التي سقطت من ثقبة في قاع الشواري وهو يقول: وجدتها وسط الطريق وأدركت أن أباك هو صاحبها لعلمي أنه كان أمامي على الطريق.
لكن جدي لأبي كان، على عكس سيدي سلام (هذا هو الاسم الذي يعرفه به أحد الشيوخ الذي امتد به العمر الى أن التقيت به وحدثني عنه)، حيث كان (العينوسي) صعب المراس ومقبلا على الحياة بكل ما أوتي من زخم وعنفوان..
زمن هذا الحكي يقع في بداية القرن العشرين المطبوعة بدخول الاستعمار وغرز مخالبه عميقا في مختلف ربوع الوطن المستباح..بمجرد ما بدأت مداركي- أنا الحفيد - تستقبل مسلسل أحداث ماضي غابة أنسابي القريب، علمت أن جدي “العينوسي” طلق “الدغاية” وطردها من مجاله الحيوي، فاتجهت المسكينة صحبة ابنها الوحيد الذي صار في ما بعد أبا لي فلم تجد غير التوجه الى جهة “أهل الوطا” (هلوطة باللهجة المحلية). هنا التقت برجل من دوار قريب يدعى بدوار “أولاد شطان”، فاقترح عليها أن تكون زوجته الثانية وضرة لزوجته الأولى.
قبلت العرض مشترطة عليه بقاء ابنها محمد معها والى جانبها. طمأنها الرجل على هذا الأمر وزاد عليه التصريح لها بنيته في جعله واحدا من أبنائه..
كان جدي العينوسي يمتهن الحلاقة التي علمها لابنه الذي أنجبه مع المرأة الأخرى التي حلت محل جدتي المطلقة أو كانت ضرتها بحكم انتشار تعدد الزوجات في ذلك العهد..
كان جدي يؤمن ويعمل بمقولة “الدرهم الأبيض ينفع في اليوم الأسود”، لذا عرف عنه الادخار والتوفير في زمن القحط والمذلة. هكذا تجمع لديه مبلغ من المال مكنه من شراء قطعة من الأرض تعود لملكية أحدهم..
حدث ذلك في بحر سنة 1935 حسبما يستفاد من عقدة شراء تلك القطعة كنت قد اطلعت عليها عندما طلب مني أبي ذات يوم ترجمة محتواها الى لغته الأم لأنها كانت مرقونة بلغة فرنسية ومختومة بأختام تحيل الى أسماء أجنبية..
بهذه المناسبة، حكى أبي لي ولمن كانوا من الأقارب حاضرين لحظتئذ في منزلنا ذات ليلة قصة النزاع الذي نشب بين جدي وصاحب الأرض بعد اتمام عمليتي البيع والشراء؛ ذلك أن هذا الأخير تراجع عن وعده بالبيع رغم تسلمه المبلغ أمام شهود..
بعد فشل محاولات الصلح المبذولة من قبل ذوي النيات الحسنة، انتقل ملف القضية الى ردحات محكمة بنسليمان الذي أشارت إليه الوثيقة المذكورة ب”كمب بولهو”.. بعد جلسات ومداولات، صدر الحكم بمشروعية البيع لصالح جدي، وتم الزج بغريمه في السجن فمات من شدة الغبن و”الشمتة”.