التسريبات لا تصدم أحدا قرأ التاريخ
حميد كشكولي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8328 - 2025 / 4 / 30 - 16:48
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لفهم أي معلومات أو اكتشافات تتعلق بتفكير الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر من الضروري فهم السياق التاريخي المرتبط بقيادته. يتفق العديد من المؤرخين ودارسي تلك الحقبة على أن هناك تغييراً واضحاً في نهج عبد الناصر، ربما في رؤيته للعالم، بعد الهزيمة الكبيرة في حرب 1967 العربية الإسرائيلية.
قبل ذلك العام، كان عبد الناصر يتمتع بشعبية واسعة ونفوذ كبير محلياً وعلى المستوى العربي. كان يمثل رمزاً للقوة والوحدة العربية ومواجهة الإمبريالية، وغالباً ما جاءت خطاباته محملة بالحماس والثبات.
إلا أن الهزيمة القاسية في 1967 كان لها تأثير بالغ. فقد أبرزت نقاط ضعف وحطمت أسطورة القوة العسكرية العربية وأسفر عنها فقدان أراضٍ كبيرة. بعد هذه الأحداث، أصبحت خطابات ناصر أكثر واقعية، وشهدت تلك الفترة تأملاً ذاتياً ومحاولات للإصلاح الداخلي.
ليس من السهل الافتراض بأن جميع السياسيين العرب كانوا يفتقرون إلى فهم موازين القوى. فمن المؤكد أنهم كانوا يتلقون تقارير استخباراتية وعسكرية. غير أنه يمكن تفسير اتخاذهم لقرارات تبدو غير مناسبة للواقع بعدة طرق. ربما كانت هناك أخطاء في تقييم قدرات الجيوش العربية أو تقليل من قوة إسرائيل أو سوء فهم للدعم الغربي لها. وعادةً ما كانت الضغوط الشعبية تدفع القادة العرب إلى مواجهة إسرائيل، وردوا على ذلك رغم إدراكهم للمخاطر. كذلك، فإن بعض الأيديولوجيات القومية كانت تسعى إلى تحرير فلسطين وإزالة إسرائيل مما أثر في التقييم الواقعي للقوة. أحياناً، يتبنى القادة مواقف متشددة لتعزيز شعبهم أو لتحقيق مكاسب سياسية.
كانت هناك آليات داخل الأنظمة تؤدي إلى تزييف الحقائق أمام القيادة أو التقليل من قدرات العدو بتقارير متحيزة. أما الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة فقد اتخذ موقفاً مختلفاً ودعا في وقت مبكر إلى الاعتراف بإسرائيل وإيجاد حلول سلمية للنزاع. تمتع بورقيبة بحس سياسي براغماتي في التعامل مع السياسة الدولية والإقليمية وأدرك باكراً عدم إمكانية تحقيق النصر العسكري على إسرائيل نظراً للدعم الغربي الغير المحدود. وتوجهت أولوياته نحو تنمية تونس بدلاً من الانخراط في صراعات إقليمية واسعة. ربما كان لديه وحكومته نظرة مختلفة للموقف الإقليمي والدولي وتقدير أكثر واقعية لموازين القوى. تمتع بورقيبة بقوة استقلالية أكبر مقارنة ببعض القادة الآخرين الذين كانوا تحت ضغوط أكبر.
من البديهي أن نعرف أن إسرائيل حليفة استراتيجية للكثير من الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، لدرجة اعتبارها جزءاً من الأمن القومي الغربي. يرتبط هذا الدعم بعوامل تاريخية وسياسية واستراتيجية، وإسرائيل دولة معترف بها دولياً من معظم دول العالم مما يمنحها شرعية قوية. كانت بعض الحقائق واضحة لبعض القادة العرب، لكن اتخاذ القرارات بناءً عليها كان بمثابة تحدٍ كبير وسط الظروف السياسية والإقليمية المعقدة. لا يمكن التعميم بأن جميع السياسيين العرب كانوا يجهلون الحقائق؛ ربما كان هناك تفاوت في فهمهم لهذه الحقائق، لكن القرارات كانت تستند إلى العديد من العوامل الأخرى التي تتجاوز مجرد المعرفة بموازين القوى. موقف بورقيبة كان استثناءً مبكراً يعكس رؤية مختلفة للتعامل مع هذا الصراع المعقد.
لن تكون أي معلومات تسلط الضوء على ناصر بصورة مختلفة قبل وبعد عام 1967 مفاجئة لمن يعي هذا المسار التاريخي. فغالباً ما تؤدي تجارب الحرب والهزيمة إلى تحولات كبيرة في شخصية الزعماء ونهجهم السياسي.
شهدت سياسة الرئيس جمال عبد الناصر تغييرات كبيرة بعد النكسة في يونيو 1967 وخاصة خلال السنوات القليلة التي سبقت وفاته. تعكس هذه التغيرات مدى الصدمة العميقة لتلك الهزيمة وتأثيرها الكبير على تفكيره واستراتيجياته السياسية بشكل عام.
قبل عام 1967، كان عبد الناصر يكرس جهوده لتحقيق الوحدة العربية وكان ينوي إقامة كيان عربي موحد تحت سيادة واحدة تشمل الدول العربية. ومع ذلك، بعد النكسات، بدأ يتحول نحو مفهوم "التضامن العربي"، وهو نهج يركز أكثر على التعاون والتنسيق بين الدول العربية المستقلة بشكل أقل إلزامًا وأكثر واقعية بسبب التحديات الجديدة والانقسامات التي أعقبت الهزيمة.
من ناحية أخرى، يُعد قبول عبد الناصر لمشروع روجرز الذي اقترحته الولايات المتحدة خطوة كبيرة في سياق محاولاته لتحقيق تسوية سلمية للصراع العربي الإسرائيلي بناءً على قرار مجلس الأمن.
من الطبيعي أن يتوقع من المثقفين العرب أن يكونوا على دراية واسعة بالتاريخ وتحولاته التي تؤثر على الأفراد والمجتمعات. قراءة التاريخ يجب أن تتجاوز سرد الأحداث لتشمل تحليل الأسباب والنتائج والتغيرات في الأفكار تحت تأثير الظروف. بالنسبة لردود الفعل تجاه التسريبات المرتبطة بتحولات عبد الناصر بعد هزيمة 1967، قد تعكس قراءة سطحية للأحداث أو الاعتماد على صورة نمطية لعبد الناصر. الانتماء الأيديولوجي يؤثر في قراءة التاريخ وتقييم الشخصيات البارزة. البعض قد يرفض أي تقليل لصورة "البطولية" أو "القومية" التي يمتلكها عن شخصيات تاريخية معينة.
ربما يكون هناك نقص في الاطلاع على تفاصيل تلك الفترة والظروف الصعبة. بعض المثقفين لديهم توقعات مثالية تجاه القادة ويرفضون فكرة أنهم قد يغيرون آرائهم بشكل "براغماتي". التاريخ ليس ثابتًا، وتفسيره يتطور مع ظهور معلومات جديدة ووجهات نظر مختلفة. المثقف الحقيقي يسعى لفهم أعمق للماضي ويدرك أن الشخصيات تواجه تحديات معقدة. تجاهل الحقائق التاريخية قد ينتج عن تحيزات شخصية، مما يؤدي إلى رفض معلومات تتعارض مع التصورات الراسخة. قد يظهر الاستغراب لأسباب سياسية أو اجتماعية، حيث يمكن أن يكون التعبير عن "الصدمة" مطلوبًا حتى وإن كان لديهم دراية مسبقة بهذه التحولات.
تشير الاحتمالات الثلاثة: التعامي، والتجاهل، والاستغباء إلى أن ردود الفعل تجاه المعلومات التاريخية ليست دائمًا نتاج المعرفة، فالعوامل النفسية والاجتماعية والسياسية تلعب دورًا مهمًا في تفسير التاريخ، خاصة مع الشخصيات المثيرة للجدل. علينا التفكير بعقل منفتح ونقدي لفهم السياقات المتنوعة، بعيدًا عن التصورات المسبقة والانفعالات العاطفية.
تجسد فكرة "إذا بليتم فاستتروا" سلوك إخفاء الحقائق لتجنب الجدل. تسعى دائماً مجموعات أو مؤسسات لحجب معلومات تؤثر على شخصيات أو أنظمة سياسية أو مراحل تاريخية معينة، لتقليل الأضرار أو لتحقيق أهدافها.
غالبًا ما تتغير الروايات التاريخية بشكل متعمد لتلميع صورة معينة لأهداف سياسية. التحكم بالسرد التاريخي يسعى لتعزيز القوة وتجاهل الضعف، لحماية المصالح وتحقيق أهداف جماعية أو فردية، بل ويشمل الحفاظ على صور مثالية مستقبلاً.
برغم التستر، يقوى التاريخ في كشف الحقائق مع الزمن. النقاش الشفاف حول الماضي يعزز الفهم المشترك القائم على حقائق شاملة. على سبيل المثال، الرئيس الراحل أنور السادات يمثل جزءًا من تاريخ مصر الحديث، أكمل جهود سلفه جمال عبد الناصر لاستعادة الأرض المصرية والسلام رغم اختلاف الاستراتيجيات.
دأب عبد الناصر على إبقاء القضية دائرة مع حرب الاستنزاف ضد إسرائيل، في حين قاد السادات حرب أكتوبر 1973 لفتح باب المفاوضات. أظهرت التجارب التكلفة العالية للحلول العسكرية، مما دفع السادات نحو خيار السلام والمفاوضات، مع استفادته من تجارب عبد الناصر المريرة مع الحرب.
كانت زيارة السادات للقدس عام 1977 خطوة جريئة للخروج من حالة الجمود، مهدت لاتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع إسرائيل، كنتيجة لتغير استراتيجي بدأ عقب هزيمة 1967 وتبلور بعد حرب 1973.رغم أن عملية التطبيع مع إسرائيل كانت ولا تزال قضية حساسة ومثيرة للجدل في الأوساط العربية، إلا أن السادات نظر إليها كوسيلة لا غنى عنها لتحقيق السلام المستدام واستعادة كامل الأراضي المصرية. هذا القرار، رغم الانتقادات التي واجهها من البعض، كان جزءًا لا يتجزأ من رؤيته الشاملة لإنهاء الصراع في المنطقة.
فقد استطاع السادات بمهارة أن يستفيد من الظروف السياسية والعسكرية التي نشأت بعد حرب أكتوبر ليحول هدف استعادة الأراضي المصرية المحتلة إلى حقيقة ملموسة عبر عملية السلام والمفاوضات. شكل كلٌّ من عبد الناصر والسادات حجر الأساس في هذا السياق التاريخي، رغم اختلاف النهج والخلفيات.
من هذا المنظور، يمكن النظر إلى السادات باعتباره مكملًا لمسيرة بدأها عبد الناصر. لقد بنى على الأسس التي وضعت خلال عهد عبد الناصر وأثبت التمسك بالأرض المستردة مع اتخاذ مسار مختلف لتحقيق النجاح النهائي في مسعاه الوطني والسياسي.
مالمو2025-04-30