باختصار، عن العلاقة بين التخلف المعرفي والتخلف الاجتماعي.
غازي الصوراني
الحوار المتمدن
-
العدد: 8289 - 2025 / 3 / 22 - 17:11
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يمكنني وصف هذه العلاقة بين كل من التخلف المعرفي والاجتماعي بكونها علاقة تبادلية مترابطة جدليا بين حالة التخلف المعرفي وبين أوضاع التخلف الاجتماعي الاقتصادي في مجتمعاتنا العربية، الأمر الذي يفسر حالة الانحطاط والانقطاع المعرفي السائدة في الوطن العربي منذ القرن الثالث عشر الميلادي حتى اليوم .
صحيح ان هناك عوامل خارجية وظروف موضوعية، أدت إلى مراكمة وتكريس أوضاع التخلف والاستتباع، إلا أننا لا يمكن أن نتجاوز غياب عوامل التطور الذاتي العربية وقصورها وعجزها، ارتباطاً بتراكم عوامل التخلف التاريخية الشديدة الارتباط بالماضي وأوهام الأساطير والغيب والقدرية العفوية التي تقود إلى حالة التغيب عن الواقع والبعد او عدم التفاعل والوعي بالحضارة والتقدم ، وتشابك هذه العوامل التاريخية ( الذاتيةوالموضوعية) مع المصالح الطبقية الانتهازية، ودورها الرئيسي في وصول مجتمعاتنا وبلداننا إلى هذه الدرجة من الخضوع والتخلف المعرفي والمجتمعي أو ما يمكن أن أسميه اعادة إنتاج وتجديد التخلف بسبب عوامل ذاتية اولا وبسبب عوامل خارجية واقصد بها الاستعمار ثم الامبريالية وقوة استتباع مجتمعاتنا لها ، بما أدى الى احتجاز تطور مجتمعاتنا بفعل قوة التخلف وما يفرضه من التبعية والخضوع والاستبداد والاستغلال الطبقي، وكل هذه المظاهر حالت دون ظهور أي فيلسوف عربي بعد ابن رشد، في مقابل نهوض أوروبا المعرفي والمجتمعي من خلال فلسفات عظيمة قدمها بيكون وديكارت وكانط وسبينوزا وهيجل وجون لوك واوجست كونت ومونتسكيو وروسو وفولتير وديدرو وسنتيانا ووليم جيمس وماركس ودوركايم وماكس فيبر وشوبنهاور ونيتشه وداروين ولوكاتش ودريدا وفوكو وماركيوزه وهابرماس وغيرهم، علاوة على صياغتهم للرؤى المستقبلية التي حددت طريق النهوض الأوروبي الحديث والمعاصر الممتد حتى اللحظة.
بالمقابل ، أدى احتجاز تطور بلداننا بسبب استمرار التخلف المعرفي والاجتماعي ، إلى فشل مشروع التنوير العربي الذي بدأت ملامحه الأولى في عهد المأمون عبر طروحات مذهب المعتزلة وانقلب على أعقابه، لأنه أخفق في بناء خطاب عقلاني في أوساط الجماهير وعجز عن أن يواصل البدء، لأنه انكفأ على الذات الماضويّة مرّة، وارتمى في أحضان الآخر مرة أخرى، إنّه مُني بالإخفاق لأن قيم التنوير لم تنتصر في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة، وبقيت اليقينيّات المطلقة هي السائدة مما فاقـم الأزمة"-كما تقول د.خديجة زنتيلي- وكل هذه اليقينيات تُعَبرِّ عن المصالح الطبقية الرأسمالية سواء كانت في إطار الأنظمة الحاكمة أو في حركات الإسلام السياسي، باعتبارها أحد أهم الأسباب الرئيسه في إجهاض مشروع النهضة والتنوير العربي.
ولهذا يقول المفكر الراحل محمود العالم " إن قضية تجديد العقل السياسي العربي اليوم مطالبة بأن، تحول "القبيلة" في مجتمعنا إلى تنظيم مدني سياسي اجتماعي، وتحول " الغنيمة "أو الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد إنتاجي، يمهد لقيام وحدة اقتصادية بين الأقطار العربية، كفيلة بإرساء الأساس الضروري لتنمية عربية مستقلة، وتحويل العقيدة إلى مجرد رأي، أي التحرر من سلطة عقل الطائفة والعقل الدوجمائي، دينياً كان أو علمانياً، وبالتالي التعامل بعقل اجتهادي نقدي"، ما يستدعي من المثقف العربي في مجابهة هذا التمدد الرجعي السلفي غير المسبوق، التأمل والتفكير والنضال الديمقراطي ضد الاستبداد والاستغلال ومتابعة المستجدات النوعية التي ستدفع إلى بلورة مفهوم جديد للمعرفة، صاعداً وثوريا وديمقراطيا بلا حدود أو ضوابط، بعد أن أصبحت صناعة الثقافة والمعلومات من أهم صناعات هذا العصر بلا منازع .
وهنا بالضبط تتجلى أهمية الفلسفة العقلانية الحداثية الديمقراطية التقدمية ونشرها عبر الجامعات والمدارس في بلادنا لمجابهة تحديات الانحطاط والتخلف الاجتماعي والثقافي الراهن، عبر إعادة الاعتبار للفكر الفلسفي الديمقراطي والتقدمي، من خلال إعادة بلورة وصياغة أسس ومفاهيم الحداثة والعقل والعقلانية والحرية بما يسهم في استنهاض الفكر العربي المعاصر ونقله بصورة نوعية قادرة على إحداث التغيير النهضوي الديمقراطي المطلوب، ذلك هو هدف الفلسفة العقلانية الحداثية الديمقراطية التقدمية القادرة على مجابهة وهزيمة القوى اليمينية بمختلف منطلقاتها وأطيافها والوانها ومسمياتها، وفتح أبواب التقدم المعرفي العلمي والتكنولوجي بالإرتباط الجدلي مع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية تعزيزا لتفعيل تراكمات وأساليب التطور النهضوي في جميع مجالات الحياة على الصعيدين القطري والقومي وفقا للرؤى والأفكار التنويرية العقلانية التقدمية الديمقراطية الكفيلة بتكريس القطيعة المعرفية والسياسية والمادية مع كل ما يتعلق بالتخلف والتبعية والاستبداد والاستغلال من ناحية وتوفير عوامل التقدم العلمي والازدهار الاقتصادي وعناصر القوة والحضارة بالمعنى المادي الجدلي بما يكفل التصدي للتحالف الامبريالي الصهيوني وإنهاء وجوده من بلادنا.