غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة


أحمد جرادات
الحوار المتمدن - العدد: 7786 - 2023 / 11 / 5 - 15:25
المحور: القضية الفلسطينية     

"السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ
في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ
بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ في
مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ
وَالعِلمُ في شُهُبِ الأَرماحِ لامِعَةً
بَينَ الخَميسَيْنِ لا في السَبعَةِ الشُهُبِ."
أبو تمَّام، حبيب بن أوس بن الحارث الطائي
تمهيد
صبيحة السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، دقَّ قلبي في جسد السكون وطاولَ رأسي جدار الاعتكاف على إيقاع نمور المقاومة في غزة. وعندما حلَّ اليوم العاشر للعدوان الانتقامي التلمودي على غزة وعمليات الإبادة الجماعية للإنسان ومحو المكان وتجميد الزمان وقطع شرايين الحياة كافة، وضعتُ يدي على قلبي، لا أُنكر، وقفزَتْ إلى ذاكرتي قصة زكريا تامر "النمور في اليوم العاشر" التي استطاع فيها المروِّض ترويض نمور الغابة الحرة التي وضعها في القفص بالتجويع والإذلال يومًا بعد يوم حتى رضيتْ بأكل الحشائش في اليوم العاشر. بيد أنني، بعد انقضاء اليوم العاشر واستمرا ر المقاومة البطولية وثَبات الجماهير الفلسطينية في غزة على أرضها وإصرارها على عدم السماح بنكبة ثانية مهما بلغت جسامة التضحيات، أدركتُ أن نمور المقاومة ليست كنمور زكريا تامر، فهي لم تيأس ولم تستسلم، وتأبى أن تأكل الحشائش مع الماشية حتى لو صارت هي نفسها عشبًا تحت الأنقاض يُزهر جيلاً جديدًا من نمور الغابة الحرة ذات يوم جديد أجمل، انتعشَ القلب وردَّت الروح.

ونظرًا لأنني لا حولَ لي ولا قوة في ساح الوغى، فكَّرتُ بما أستطيع إليه سبيلا، بالكتابة عن ملحمة غزة الكبرى. لكنْ، مرةً أخرى تساءلتُ: ماذا يمكنني أن أكتب عنها؟ فالملحمة، منذ الإلياذة والأوديسة، هي أصل الكتابة ومنبعها، وكيف أستطيع الإحاطة بكل أبعادها والكتابة عنها بما يليق بها؟ هنا عصفت في ذهني قصيدة أبي تمام الشهيرة التي أوردتُ مطلعها في مُستهلِّ هذا المقال، بغض النظر عن خرافة "وامعتصماه"، وتساءلتُ مرةً ثالثة: هل بقي للكلام محلٌّ من الإعراب في متن هذه الملحمة، أو حتى على هامشها؟ وأيهما أصدق وأمضى وأفعل، الضرب بالسيف أم الضرب بالرمل؟ بياض السيوف اللامعة أم سواد الحبر على الورق؟ أسنَّة الرماح أم أصابع المنجِّمين من "الخبراء الاستراتيجيين الفضائيين؟ وهل سيكون لكلامي معنى؟ بل هل لأيّ شكل من أشكال التعبير المجرد، نثرًا كان أم شعرًا، ما يرقى إلى مستوى هذه الملحمة الواقعية الكبرى؟ مستحيل! لحظتئذٍ، تبدَّى لي أن لنظرية ما بعد الحقيقة، وهي نظرية أكاذيب الغرب الاستعماري المنافق، صلةً وثيقة بهذا الحدث الأجلِّ، فقلت لا بأس، أكتبُ في موضوعها. غير أن الأسئلة التي دارت في رأسي لم تنقطع: ما أهمية الكتابة عن "شيء" عنوانه "نظرية ما بعد الحقيقة"، أو عن أي مقال في هذا المقام في عيون آلاف الرُضَّع التي أطفأتْها قنابل الوحوش الصهاينة الثقيلة والذكية التي هطلت عليهم من قُبة السماء وأعالي البحار بحماية كاملة ودعم مطلق من الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الجماعي- بحسب التعبير الروسي؟ وكيف أُعبِّر عن مشهد الأطفال الذين يكتبون أسماءهم على أجسادهم كي يتعرَّف عليهم ذووهم ومسعفوهم بعد استشهادهم؟ أو الأطفال الذين يكتبون وصاياهم بخربشات أناملهم الغضَّة على عجَل، وفيها يتركون ملابسهم وأدواتهم المدرسية القليلة ومصروفهم اليومي الشحيح لأحبتهم، بأسمائهم، بعد التحاقهم بموكب الملائكة الذين سبقوهم إلى سدرة المنتهى؟ فشعرتُ بِصَغارٍ متناهٍ وبخجلٍ شديد حتى من نفسي.
- إذن لماذا تكتب مِن أصله؟ لماذا لا تكسب ذهب الصمت بدلاً من فضة الكلام؟ يسألني صوت داخلي.
- لأنني أكاد أختنق بكليهما، يجيبني صوت داخلي آخر، وأنا بأمسِّ الحاجة إلى التنفس.
- احسمْ أمرك وامْتشقْ السلاح إذن، قال صوت ثالث.
- السلاح، وقد بلغتُ السادسة والسبعين، وليس لي به باع أو ذراع؟ أم هل تريدني أن أخترع لنفسي تاريخًا مزيفًا، أبيضَ كالثلج لإخفاء تاريخ أسود كالفحم، كما يفعل بعض السياسيين والحزبيين المتطفلين في بلادنا؟

تداعيات هامشية
بعد كل هذه التساؤلات، تسرَّبَ بعض التداعيات الهامشية من تيار الوعي:
- كانت المرة الأولى والأخيرة التي أمسكتُ فيها بسلاح ناري في آذار/مارس 1987 عندما استُدعيت للتدريب في الجيش الشعبي مع الرجال الذين لم يشملهم التجنيد الإلزامي (خدمة العلم) لكِبر سنهم ممَّن ليس لديهم عمل. ولمَّا كنتُ مفصولاً وممنوعًا من العمل ومن السفر بعد اعتقالي أربع مرات حتى ذلك التاريخ إبان حقبة الأحكام العرفية، فقد شمَلني التدريب في الجيش الشعبي لمدة أربعة أسابيع على ما أذكر. كان ميدان التدريب مُقامًا في منطقة الشلاَّلة من أراضي قرية سال المتاخمة لقريتي على يسار طريق إربد- بشرى- الرمثا (أرض محطة التنقية حاليًا). وفي ختام الدورة التدريبية أُجري للمتدربين فحص إطلاق النار العملي باستخدام بندقية كلاشنكوف السوفييتية الصنع. وعندما جاء دوري للتسديد (التنشين) على الهدف (بعشر طلقات في المخزن) طبَّقتُ تعليمات المدرب بحذافيرها، وعندما أُعلنت النتائج، تبيَّن أنني أحرزتُ "عشرة من عشرة". فأخذ زملائي من أهل القرية يتهامسون: "يا عمي هذا إحمد الحسن - يعني حضرتي- مدرَّب في الاتحاد السوفياتي (بالفاء والألف) من زمان". كانت تلك المرة الأولى التي ربط أهل القرية بيني وبين الاتحاد السوفييتي.

- أما المرة الثانية، فكانت في أعقاب خروجنا من سجن سواقة الواقع على الطريق الصحراوي على خلفية "هبَّة نيسان" في عام 1989، حيث أعلنت السلطات عن تنظيم انتخابات نيابية بعد تعطيلها منذ الاحتلال الصهيوني للضفة الغربية في حزيران عام 1967، والسماح للمعارضة بالمشاركة فيها. رشَّحني الحزب عن دائرة إربد الانتخابية، وكنت أحمل في رأسي الحلم الرومانسي الثوري المنتشر في أوساط المناضلين "من السجن إلى البرلمان". أثناء فترة الحملة الانتخابية، حدثت أعطال في التمديدات الصحية في منزلي بقرية بشرى، فأرسلتْ زوجتي، التي كانت تعمل مديرة مدرسة في إربد، سبَّاكًا لإصلاحها. جاء "المواسرجي" على دراجة هوائية، حاملاً حقيبة "العِدَّة"، وطفقَ يسأل عن بيت أحمد جرادات- وهو اسم يحمله أشخاص كُثر في القرية كما هو معروف في بيئات القرى والعشائر- إلى أن وصل إليَّ أخيرًا. أنجز الرجل عمله وقبض أجره وعاد أدراجه بحقيبته. في اليوم التالي راجتْ شائعة تقول إن شخصًا مجهول الهوية جلب لي حقيبة "متروسة" بالدولارات الأمريكية مرسَلة من موسكو لتغطية حملتي الانتخابية. طبعًا لا يمكنني الادعاء بأنني رسبتُ بسبب تلك الشائعة، فالنجاح والرسوب في بلدنا "بيد الله".

نظرية ما بعد الحقيقة Post-Truth Theory
بعد هذه الاستطرادات الطويلة وربما غير المهمة، دَعوني أدخل في موضوع هذه النظرية التي كنت قد كتبتُ عنها فصلاً في كتابي الموسوم "جداول ثقافية: فانتازيا ما بعد الحقيقة"، وأستعين به في هذا المقال.

لقد أصبحت نظرية ما بعد الحقيقة، أو الحقائق البديلة، سلاحًا من أمضى وأخطر الأسلحة الحربية بيد الولايات المتحدة و"الغرب الجماعي"- بحسب التعبير الروسي. فما هي هذه النظرية التي تعمل بكثافة في الحرب العدوانية الأبشع على غزة بأوضح تجلياتها؟

إن كلمة post هنا لا تعني "ما بعد" بالمفهوم الزماني، كأن نقول: "ما بعد الحرب العالمية الثانية" مثلاً، وإنما هي صفة تدل على أو تتعلق بظروف تصبح فيها الحقائق الموضوعية أقلَّ تأثيرًا في تشكيل الرأي العام من مخاطبة العاطفة والاعتقاد الشخصي، أو في وقت يصبح فيه الموضوع غير مهم أو غير ذي صلة بالموضوع نفسه، ويصبح المهم هو ما بعد الموضوع الحقيقي الأصلي.

وقد استُخدم المصطلح من قبل الكاتب المسرحي الأمريكي الصربي الأصل ستيف تيسيتش في عام 1992، حيث قال إننا نعيش في "عالم ما بعد الحقيقة"، بمعنى أن الحقيقة نفسها فاتتْ ولم تَعدْ ذات صلة بالموضوع المُثار. ومنذئذٍ، ظهرت عدة استخدامات لمصطلح "ما بعد الحقيقة"، من قبيل: سياسة ما بعد الحقيقة Post-truth Politics؛ عالم ما بعد الحقيقة Post-truth World؛ أو "الحقائق البديلة" Alternative Facts؛ حقبة ما بعد الحقيقة Post-truth Era؛ ثقافة ما بعد الحقيقة Post-truth Culture.. إلى آخره.

- تُعرَّف "سياسة ما بعد الحقيقة" التي تتَّبعها الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الجماعي الاستعماري عمومًا بأنها ثقافة سياسية تتشكل فيها المواقف والممارسات من خلال مخاطبة العواطف المنفصلة عن تفاصيل السياسات، وبتكرار التأكيد على نقاط الكلام التي يتم فيها تجاهل الدحض الحقيقي للسردية المزيَّفة، والتركيز على إثباتها بالعواطف والمشاهد المصطنعة.

- ويُوصف "عالم ما بعد الحقيقة أو الحقائق البديلة" بأنه عالم تُعرَّف فيه الحقيقة بأنها ما يتصوَّر المرء أنها حقيقة، حتى لو كانت الحقيقة غير ما يتصوره أو عكسه، وهو بالتالي عالم "الحقائق البديلة".

أما "حقبة ما بعد الحقيقة"، فإنها تثير حيرة الكاتب والصحفي الأمريكي ديفيد سيروتا، فيتناولها في مدونة "أوف بوست" بسؤال استنكاري بسيط: لماذا في ميدان السياسة يتم جَلد ونبذ الأشخاص الذين يتوخون الحقيقة ويتبين أنهم على صواب، بينما يكافأ المخطئون الذين يجانبون الحقيقة كليًا ويُعتبرون مجرد حالمين أو واهمين؟ في حين أنه في ميادين أخرى، كالبزنس مثلاً، يحدث العكس؟ حيث يُكافأ المُصيب ويُعاقب المخطئ؟

الجواب عند سيروتا بالطبع يتعلق بقبضة المال والسلطة، أي مَن الذي يقبض على ناصية المال والسلطة. "فالمؤسسة The Establishment تؤيد الحرب لأسباب تتعلق بجني الأرباح، وتدعم الاتفاقيات التجارية التي تزخر ببنود الحماية للشركات (براءات الاختراع، حقوق النشر، حقوق الملكية الفكرية، إلى آخره) ولكنها تخلو من الحماية للبشر (الأجور، شروط العمل، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها).

وفي هذه الحقبة يتم تبني الخطاب السياسي الذي يُستعاض فيه كليًا عن "الواقع الحقيقي بحقبة ما بعد الحقيقة"، وهي فترة زمنية لا يتظاهر فيها هذا الخطاب- ولو مجرد تظاهر- بأنه يستند إلى أدلة حقيقية أو معلومات ملموسة، وحيث يُحتفى بالأشخاص الأكثر خطأً ويُقدَّمون على أنهم الأكثر صوابًا.

ويخلص سيروتا إلى القول إن نظرة سريعة على الفوضى التي تضرب العراق، أو الحالة الاقتصادية التي تعيشها الولايات المتحدة نفسها تبيِّن أن "نظرية ما بعد الحقيقة" لا تلائم أحداً سوى حفنة من الطغمة الأوليجارشية المتربعة على عرش القمة.

وأما ثقافة ما بعد الحقيقة فربما تكون الأخطر بين سابقاتها، لماذا؟ لأنها، مع ظهور المزيد من استخدامات المصطلح والتوسع في المفهوم، ربما تتطور إلى نظرية قائمة بذاتها في عصر سيادة الثقافة السطحية أو تسطيح الثقافة، وتصبح غطاءً أيديولوجيًا للتلاعب بعقول الشعوب وقلوبها مثلما حدث لنظرية نهاية التاريخ البائسة، مَن يدري؟ ولعل هذا هو ما اقتضى نقل هذه الظاهرة إلى طاولة النقاش على مستوى مجتمع الأكاديميين والفلاسفة، الذين يُفترض أن تكون غايتهم تكريس الحقائق الموضوعية، وإجراء استقصاء لآراء بعضهم بشأن معنى مصطلح "ما بعد الحقيقة". وفي هذا السياق ينظر الأكاديمي أُستاذ الإنسانيات البريطاني أنتوني غريلنغ، إلى عالم ما بعد الحقيقة بعين الرعب، فيحذِّر من تأثير سيادة أو تفشي مفهوم ما بعد الحقيقة في "إفساد النزاهة الفكرية وإتلاف نسيج الديمقراطية برمته."

مِن أين جاء مصطلح " ما بعد الحقيقة"؟
يجيب البروفيسور غريلنغ بأن العالم تغيَّر بعد عام 2008؛ فمنذ الأزمة المالية تزايد التفاوت في الدخل بشكل "خانق ومسموم". وبالإضافة إلى الفجوة الشاسعة بين الأغنياء والفقراء، فقد نما شعور عميق بالمظلمة في نفوس العائلات ذات الدخل المتوسط. وفي ظل حالة الاستياء الاقتصادي، لا يكون من الصعب "إشعال" نار العواطف حيال قضايا مقلقة كقضية المهاجرين واللاجئين.

ويعتبر غريلنغ ظهور وسائل التواصل الاجتماعي أحد العناصر الرئيسية لثقافة ما بعد الحقيقة، حيث الرأي القوي يغلب الأدلة الدامغة أو يطغى عليها. ويرى أن ظاهرة ما بعد الحقيقة تتعلق باعتقاد المرء بأن رأيه أكثر قيمة من الحقائق، كما أنها تتعلق بشعوره تجاه الأشياء. ويعتقد أنها ظاهرة نرجسية رهيبة تعزَّزت بالقدرة على نشر الرأي. ففي السابق كان الشخص بحاجة إلى "دلو دهان وقناع" كي يتمكن من نشر رأيه إذا لم يجد ناشرًا (ربما إشارة إلى أيام النضال السري أو التقليدي). أما اليوم فإن كل ما يحتاجه هو جهاز "آي فون". وإذا اختلفت معه في الرأي فإنه يعتبر ذلك هجومًا عليه شخصياً، وليس على رأيه. وإذا شقَّ أحد النَّكِرات طريقه إلى الصفوف الأمامية الديجيتالية وشاهدَه آخرون أو حصل على عدد كبير من "اللايكات" الفارغة، فإنه يظن أنه أصبح من نجوم المجتمع وربما من مشاهير العالم.

ويلاحظ البروفيسور غريلنغ أن "الأخبار الكاذبة" التي تُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي أضحتْ جزءًا من النقاشات العامة بعد الانتخابات. وهنا يحذِّر غريلنغ من ثقافة الانترنت التي لا تميز بين الحقيقة والخيال، ومن أن بعض المزاعم المبثوثة في التغريدات على "تويتر" تحظى بنفس القدر من الصدقية التي تتسم بها مكتبة كاملة زاخرة بالبحوث الرصينة، أو أكثر، إذ يكفي القول إنها منشورة على الانترنت يا أخي، ألا تصدِّق؟ أو إنَّ عند غوغل الخبر اليقين.

ويرى غريلنغ أن "ما بعد الحداثة" و"النسبية" تشكلان الجذور الفكرية "لنظرية ما بعد الحقيقة". وأن مقولات من قبيل "كل شيء نسبي"، و"يتم اختلاق قصص طوال الوقت"، و"ليس ثمة شيء اسمه الحقيقة"، أخذتْ تتفشى على نطاق هائل، الأمر الذي يفتح مصاريع الأبواب كلها أمام نوع من السياسة التي لا تشغل نفسها أبداً بالبحث عن أدلة بشأن الحقيقة أو عن الحقيقة نفسها. لكنْ، ألم يكن ذلك جزءًا من معركة الأفكار دائمًا؟
من كل ما سبق يخلص غريلنغ إلى القول: "إن هذه الحقبة تشبه حقبة الثلاثينيات من القرن المنصرم، وقد أدرك معتنقو نظرية ما بعد الحقيقة أنهم ليسوا بحاجة إلى حقائق، بل إلى مواصلة إطلاق الأكاذيب وحسب." وفي هذه المهارة، ليس لهم في العالم كله كُفُوًا أحد.

بعض التجليات السياسية لنظرية ما بعد الحقيقة
قلنا آنفًا إن سياسة ما بعد الحقيقة، أو الحقائق البديلة، التي تتَّبعها وتَبْرَع بها الولايات المتحدة ودول الغرب الجماعي الاستعماري هي تلك السياسة التي تتشكل فيها المواقف والممارسات من خلال مخاطبة العواطف المنفصلة عن تفاصيل السياسات، وعن طريق تكرار التأكيد على نقاط الكلام التي يتم فيها تجاهل الدحض الحقيقي للسردية المزيَّفة. ولتطبيق هذه السياسة في بلداننا تاريخ لم يبدأ في 7 أكتوبر/تشرين الأول بعملية "طوفان الأقصى"، ولا أظن أنه سينتهي بها.

- فقد طبَّقتها في العراق في عام 2003 باستخدام "أُنبوبة" أسلحة الدمار الشامل، الأكذوبة المضحكة المميتة التي أشهرَها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول في وجه العالم، الذي صدَّقها وكذَّب وطمسَ الحقيقة الواضحة والبسيطة بعد التفتيش الذي أجراه خبراؤه في جميع أرجاء العراق، وحتى في غرفة نوم صدام حسين، دون أن يعثروا على شيء من ذلك، واستطاع بواسطتها تسويق وتبرير احتلال العراق وتدميره وقتل مئات الألوف من شعبه وتفكيك دولته وتحطيم جيشه ومؤسساته وتقسيمه بالمحاصصة الطائفية.

- وفي سوريا، تم تأليف وإخراج وأداء المسرحية الهزلية الشهيرة حول وقوع هجوم بالأسلحة الكيميائية-غاز السارين- في خان شيخون في عام 2017، وهي قصة مختلَقة كلياً ومُعدَّة مسبقاً وممسرَحة، أدَّتها جوقة عالمية كاملة منسَّقة، من منظمة الخوذات البيضاء وفصائل "الثورة" الوهابية الإرهابية إلى رئيس الولايات المتحدة، وما بينهما، وأُلصقت بالقوات الحكومية السورية. و لم تجدْ الأدلة المادية الدامغة التي تدحض الرواية الملفَّقة أُذناً صاغية من أحد، فكذَّب العالم الحقيقة وتجاهلها وصدَّق ما بعد الحقيقة وأخذ بها.

أما في غزة، في أعقاب عملية "طوفان الأقصى"، ذلك الحدث "الوجودي" بالنسبة لإسرائيل، فعن تجليات نظرية ما بعد الحقيقة حدِّث ولا حرج:
- اجتياح قوات المقاومة الفلسطينية المستوطنات الصهيونية المُقامة على جزء من أراضي فلسطين التاريخية (ما سُمي بغلاف غزة) والسيطرة عليها والمكوث فيها ولو لفترة قصيرة، الذي كان بمثابة رمز للتحرير والعودة بالنسبة للفلسطينيين، اعتبرته الولايات المتحدة ودول الغرب الجماعي الاستعماري عدوانًا على إسرائيل واحتلالاً لأراضٍ إسرائيلية، استحقَّ حشد الأساطيل الحربية وتجريد حملة عسكرية ضخمة "للدفاع" عن الدولة المظلومة والمعتدى عليها، إسرائيل؛
- المقاومة الفلسطينية التي تقاتل من أجل تحرير أرضها المحتلة والعودة إليها هي بنظرهم شبيهة بتنظيم "داعش" الإرهابي (الذي أنشأوه ورعوه ومنحوه اسمًا رسميًا "آيسيس"، ثم وضعوه على لائحة الإرهاب الانتقائية غبَّ الطلب) والذي يتوجب القضاء عليه من أجل تخليص "العالم الحر" من شروره؛
- المدنيون الأبرياء، من أطفال ونساء وشيوخ، ما هم إلا حيوانات بشرية تستحق الإبادة الجماعية؛
- تدمير المدن وهدم البيوت على رؤوس أهلها هو إجراء حربي عادي ومحقٌّ ولا يشكل انتهاكا لقوانين الحرب والقانون الدولي الإنساني. وقصف المدارس والمساجد والكنائس والمستشفيات وتدميرها على آلاف المرضى والمصابين والمهجَّرين إليها بالقوة الغاشمة هي عمليات ارتكبها مقاتلو حماس والجهاد الإسلامي؛
- قطع الماء والكهرباء والغذاء والدواء والوقود عن قطاع غزة بأكمله، الذي يشكل عقابًا جماعيًا محرَّمًا دوليًا، هو السبيل الوحيد للقضاء على حركة حماس، ونتائج هذا العقاب الجماعي الكارثية الرهيبة هي مجرد أضرار جانبية؛
- خرافة قطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين واغتصاب النساء الإسرائيليات وقتلهن من قبل مقاتلي المقاومة أُكذوبة اخترعها نتنياهو وسوَّقها لرئيس دولة الديمقراطية وحقوق الإنسان العظمى، وطرِب لها بايدن، واهتز ضميره الإنساني لها، فهبَّ على جناح السرعة لمدِّ جسره الجوي وإرسال حاملات طائراته وبوارجه الحربية إلى سواحل فلسطين، وأمر توابعه من الزعماء الأوروبيين ودول حلف الناتو ومن لفَّ لفُّهم بأن يحذوا حذوه، فتقاطروا إلى إسرائيل زرافاتٍ ووحدانا من كل فجٍّ عميق للدفاع عن وجود إسرائيل المسالمة الديمقراطية في مواجهة خطر الدواعش المفترسة. ولم يرَ هؤلاء المتحضِّرون أشلاء آلاف الأطفال المفتَّتة فوق الركام وتحته، ولا صور الأطفال الأحياء وهم يكتبون أسماءهم على أجسادهم كي يتعرَّف عليهم ذووهم ومسعفوهم بعد معراج أرواحم إلى السماء السابعة.
- وأخيرًا، إنَّ تفريغ غزة من أهلها وأصحابها وتهجيرهم إلى خارج وطنهم يعتبر عملاً رحيمًا يحافظ على أرواحهم، حيث سيتكرَّم عليهم أبناء العمومة الإبراهيميون بمنحهم قطعة أرض في سيناء المصرية منذ فجر الحضارة، سفر خروج موسى وهارون أخيه الذي حلَّ عقدة من لسانه، ليقيموا عليها خيامهم في نكبة ثانية لا تقلُّ هولاً. وربما يسمحون لهم بإقامة دولتهم المنشودة عليها بموجب حل الدولتين البائس. غير أنَّ أهل غزة سيرفضونها بالتأكيد ولن يرتضوا بغير وطنهم فلسطين بديلا. وعندئذ سيحقُّ لهم أن يصرخوا في وجه العالم بأعلى صوتهم: ما شأننا بعالم ليس لنا فيه وطن؟
هذا غيض من فيض تجليات نظرية ما بعد الحقيقة- طوفان الأقصى نموذجًا.

طوفان الأقصى ودروس كومونة باريس
ثمة مَن يقول بأثر رجعي، بحُسن نيَّة أو بسوء نية، إن عملية "طوفان الأقصى" مغامرة متعجِّلة وغير محسوبة العواقب، وانظروا ما يحدث أمام عيوننا من دمار شامل وإبادة جماعية للمدنيين الأبرياء، من أطفال ونساء وشيوخ، وتهجير قد يؤدي إلى نكبة فلسطينية ثانية وكارثة جيو- سيساسية على المنطقة بأسرها. بيد أنها في نظر الأعداء مجتمعين شكَّلت إرهاصًا لخطر وجودي على إسرائيل، ما يعني أن فكرة تحرير الأرض المغتصبة في لحظة ما من التاريخ لم تعد محض خيالٍ أو نوستالجيا. ولعلَّ هذا ما دفع الولايات المتحدة والغرب الجماعي الاستعماري إلى هذا الهيَجان والتدخل الفوري المباشر في المعركة.
هنا، أودُّ أن يُفهم بشكل لا لَبس فيه أنني لا أحاول المطابقة أو حتى المقارنة بين عملية "طوفان الأقصى"، أو المقاومة الفلسطينية أو قوات "القسَّام" في غزة وبين كومونة باريس، فذلك سيكون أمرًا مضحكًا، فهذه عملية مقاومة عسكرية بطولية ضد الاحتلال الصهيوني، وتلك ثورة بروليتارية للتغيير الاجتماعي بهدف بناء الاشتراكية. كما أن التاريخ لا يكرر نفسه، والأحداث التاريخية لا تتطابق، والمياه نفسها لا يمكن أن تجري في النهر مرتين على حد قول الفيلسوف اليوناني هيراقليطس. إلا أنني أحاول إبراز إمكانية الاستفادة من دروس ثورة كومونة باريس. وأعتقد أنَّ لنا في موقف ماركس من الكومونة دروسًا مغايرة "لدرس" المعارضين العرب بأثر رجعي لعملية طوفان الأقصى .
ففي خريف عام 1870، أي قبل انطلاق ثورة الكومونة بعدة أشهر، كان قد حذَّر عمال باريس من أنَّ أية محاولة لاسقاط الحكومة ستكون حماقة دفع اليها اليأس. لكنه عندما فُرضت المعركة الفاصلة في آذار 1871، وغدتْ الانتفاضة واقعًا ملموسًا، لم يتردد في تأييد الثورة البروليتارية بمنتهى الحماسة على الرغم من نُذر الخطر عليها من تكالب الأعداء الداخليين والخارجيين. ولم يُصر ماركس على اتخاذ موقف متحذلق لإدانة الثورة "باعتبارها جاءت في غير أوانها"، كما فعل بليخانوف الماركسي الروسي عندما كتب قبل ثورة عام 1905 مشجِّعاً العمال والفلاحين في روسيا على الثورة، لكنه بعد فشلها، أخذَ يصرخ، شأنه شأن الليبراليين: "ما كان ينبغي حمل السلاح" !
رسائل ماركس الى كوغلمان
اتَّسمت رسائل ماركس الى صديقه كوغلمان، الاشتراكي الديمقراطي الألماني البارز الذي شارك في ثورة عام 1848، بأهمية بالغة لفهم "سياسة ماركس الثورية" بحسب تعبير لينين، الذي أكَّد أنَّ "ما يجب أن نتعلمه من ماركس هو الإيمان بالثورة، والطريقة التي ينبغي بها دعوة الطبقة العاملة الى الدفاع حتى النهاية عن مهماتها الثورية المباشرة، والصلابة الروحية التي لا ترضى بإقامة البُكائيات عندما تُمنى الثورة بهزائم مؤقتة". وأضاف إنه "في مرحلة "الركود الكئيب"، كان ماركس يعرف كيف يشعر باقتراب الثورة وكيف يرفع البروليتاريا حتى تدرك مهماتها الطليعية. ففي نيسان 1871 كتب ماركس الى كوغلمان رسالة زاخرة بالحماسة تجاه الكومونة." وعلَّق لينين عليها بالقول "إن أعمق المفكرين- يقصد ماركس طبعًا- الذي كان قد تنبَّأ بفشل الكومونة قبل ستة أشهر، ينحني أمام مبادرة الجماهير التاريخية عندما اندلعت."

لقد عرَف ماركس كيف يحذِّر القادة من انتفاضة مبكرة. ولكنه وقف من البروليتاريا التي "تقتحم السماء" موقف المشارك في نضال الجماهير التي ترفع الحركة برمتها الى درجة أعلى. وكتب في رسالته الى كوغلمان المشار إليها آنفًا إنه "مهما يكن من أمر، فان الثورة الباريسية، حتى لو قضت عليها ذئاب المجتمع القديم، تظلُّ أروع مأثرة قام بها العمال الباريسيون منذ انتفاضة حزيران". وفي 17 نيسان 1871، كتب له: "قد يكون من السهل للغاية صنع تاريخ العالم إذا كان النضال لا يبدأ إلا في ظروف تؤدي الى النجاح المحتَّم."

هكذا تطور موقف ماركس نفسه من ثورة كومونة باريس: ففي أيلول 1870 قال عنها إنها ستكون ضربًا من الجنون، لكنه حين اندلعت، اختار أن يسير معها بحماسة وإخلاص، وأن يتعلم منها في غمرة النضال، لا أن يلقي عليها المواعظ. فقد أدرك أن كل محاولة يُراد منها تقدير نجاحات النضال بدقة تامة مسبقًا ستكون ضربًا من الدجل أو الادعاء الفارغ، ذلك لأنه نَظَر إلى التاريخ من زاوية نظر أولئك الذين يصنعونه، لكن ليس على هواهم، ومن دون أن تُتاح لهم إمكانية تخمين احتمالات النجاح مسبقًا بلا أي خطأ، وليس من زاوية نظر سياسي أو مثقف ضيق الأفق يوزِّع الحكمة بأثر رجعي بادعاء أنه "كان من السهل التنبؤ بفشلها..، ولم يكن ينبغي المجازفة.. ".

لقد ذهبَ ماركس إلى أبعد من ذلك، إذ رأى أنه في بعض حِقب التاريخ لا بدَّ من خوض نضال ضارٍ حتى في سبيل قضية يائسة، وذلك من أجل توعية الجماهير والتحضير لجولات نضال لاحقة. وقيَّم تجربة الكومونة الفريدة على نحو في غاية الدقة والواقعية والتفهُّم والأمل في المستقبل، إذ قال: "إن البرجوازيين الأوباش وضعوا العمال الباريسيين أمام خياريْن لا ثالث لهما: إما قبول التحدي وخوض المعركة، أو الاستسلام بدون خوضها. وفي حالة اختيار الثاني، فإن الروح المعنوية للطبقة العاملة ستنهار، وسيشكل انهيارها كارثة أفدح بكثير من خسارة أي عدد من قادتها".
ربما كان هذا الدرس من أهم الدروس التي يمكن أن تُستقى من كومونة باريس العظمى في انتصارها وهزيمتها بالنسبة لسيرورة نضالات شعوبنا الطويلة، وربما كان من ضمنها "طوفان الأقصى".

أحمد جردات
أكتوبر/تشرين الأول 2023