هوامش على متن -هبَّة نيسان-


أحمد جرادات
الحوار المتمدن - العدد: 6282 - 2019 / 7 / 6 - 14:25
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     



(مجرَّد مداخلة في لقاء ائتلاف الأحزاب والقوى القومية واليسارية في مقر الحزب الشيوعي الأردني بعمان في 24 نيسان/أبريل 2019)

1. مهمة في ذاتها ولِذاتها
شكَّلت ما درجَ الأردنيون على تسميتها بـ هبَّة/انتفاضة نيسان التي اندلعت في 17 نيسان/أبريل 1989 حدثاً عظيماً وعلامة فارقة في تاريخ الأردن منذ عام 1970 من حيث أنها:
- عمَّت أرجاء البلاد، من معان التي انطلقت منها جنوباً إلى إربد شمالا.
- قدَّمت نحو 15 شهيداً ومئات الجرحى، ناهيك عن "المختفين" والمطاردين نتيجة للقمع المسلح الذي مارسته قوات السلطة.
- مثَّلت أول احتجاج شعبي على بدء مرحلة التحول النيوليبرالي والتخلي عن الدولة الريعية.
- كانت غير مسبوقة، وهذا هو الأكثر أهميةً ودلالةً سياسية، من حيث أنها كانت أول صِدام مباشر وعنيف ينشب بين نظام الحكم وقاعدته الشعبية الأردنية على وجه التحديد، على الرغم من أن نصف الكتلة الشعبية في الأردن، الذي يحلو لكثيرين تسميته بـ "المكوِّن" الآخر، لم يشترك فيها، الأمر الذي سيشكل الإرهاصات الأولى لمحاولات فك الارتباط "البنيوي" بين الأردنيين والنظام في وقت لاحق.

2. المُخرجات: عناوين كبرى ومضامين صغرى
- تكرَّرت تراجيديا الأوزار والثمار التاريخية، إذ أن الجماهير المنتفضة التي صنعت الهبَّة والمناضلين السياسيين الذين أيَّدوها حمَلوا أوزارها، بينما قطفَ النظام والانتهازيون ثمارها. واستطاع النظام تحويل التحدي الكبير إلى فرصة ثمينة، وعملَ على إعادة إنتاج نفسه وتقديمها إلى الشعب برداء مزركش لكن مسموم، وتمكَّن من إعادة الجماهير إلى بيت الطاعة.
- أما الأحزاب والقوى السياسية المعارضة ومناضلو الحقبة العرفية، فقد تفاوتت ردود أفعالهم واستجاباتهم بعد مغادرتهم الشارع وعودتهم إلى بيوتهم، فمنهم مَن سارَ على خُطى امرئ القيس وتخلَّى عن الثأر لأبيه الملك القتيل:
"لقد طوَّفتُ في الآفاق حتى رضيتُ من الغنيمة بالإياب"؛
أو في حالٍ أحسن وضعَ اللوم على قومه وردَّد قول العرجي:
أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا ليوم كريهةٍ وسَداد ثَغر؛
ومنهم من مشى وراء الحلم النضالي الرومنسي "من السجن إلى البرلمان أو الوزارة"؛ ومنهم مَن آوى إلى جبل يعصمه من ماء الطوفان الملوَّث ولاذَ بصمت الاعتكاف بانتظار مكر التاريخ بدلاً من حتميته.
- أما الثقافة الوطنية التقدمية المناهضة لثالوث الامبريالية والصهيونية والرجعية، فقد تدهورت وانحطَّت وحلَّت محلها "اللاثقافة" الليبرالية وأفكار العولمة الأوليجاركية ونهاية التاريخ وصراع الحضارات. وطفقَ المثقفون الأردنيون يلهثون خلف الجوائز والمكافآت والانتشار في النوافذ الثقافية والإعلامية المُضاءة بالنفط والغاز، حيث "مَن يدفع للزمار يحدِّد اللحن". ووصل الأمر ببعضهم إلى حد تأييد القوى الإرهابية الظلامية التابعة لمشغِّليهاالعالميين والإقليميين.

3. مأزق الشيوعيين الأردنيين:
شكَّل الشيوعيون الأردنيون أغلبية المعتقلين في سجن "سواقة" الصحراوي على خلفية هبة نيسان. وكانوا قبل فترة وجيزة من اعتقالهم قد أعلنوا وحدة هشة ومتوجسة بين أطراف الحركة الشيوعية الأردنية، ما لبثتْ أن تفككتْ بعد خروجهم، بل إن بوادر الوهن والتفكك ظهرت داخل السجن. وبدلاً من تحويل ذلك التحدي في السجن إلى فرصة، مثلما فعلَ النظام، وذلك بتعزيز الوحدة فيما بينهم وتدارُس الأوضاع الناشئة واجتراح حلول جديدة للمشكلات الجديدة التي طرحها الحدث والمرحلة، تحوَّلت الفرصة المحتملة إلى مفوَّتة.

4. رحلة موسكو الشهيرة:
بعد الخروج من السجن، وبعد إجراءات الإفراج عن جوازات السفر المحتجزة ورفع حظر السفر التي استمرت عقوداً إبان الأحكام العرفية، تلقَّى الحزب دعوة من قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي لزيارة موسكو للتعرف على مشروع ميخائيل غورباتشوف الغامض حينئذٍ (بيريسترويكا وغلاسنوست) لِما زُعمَ أنه إصلاح وتجديد الاتحاد السوفييتي والاشتراكية، وعلمنا هناك أنهم وجَّهوا دعوات للأحزاب الشيوعية الأخرى للغرض ذاته، طبعاً بهدف مُضمَر وهو إقناع الأحزاب االشيوعية بالمشروع وتأييده، أو لإثارة حالة من الارتباك في صفوف الحركة الشيوعية العالمية، تَحولُ دون مقاومتها للمشروع وفضحه قبيل الانفجار العظيم القادم (الرأي الأخير بأثر رجعي). أرسل الحزب وفداً من المكتب السياسي واللجنة المركزية إلى موسكو، كنتُ محظوظاً بمشاركتي فيه. في موسكو عُقدت حلقات دراسية لمدة أسبوعين في أكاديمية العلوم الاجتماعية التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، حاضرَ فيها عدد من أساتذة الأكاديمية من منظِّري مشروع غورباتشوف، وطرحوا أفكاراً غائمة وردَّدوا بعض "الآيات والأحاديث الماركسية" المبتورة من سياقاتها، واستشهدوا بماركس ولينين وغيرهما، ووزَّعوا كتاب غورباتشوف المتهافت "البيريسترويكا: تفكير جديد لبلادنا والعالم" (حقاً؟) وكتيبات أخرى قليلة، أبرزها "وصية لينين السياسية"، وهي مجموعة الرسائل والمقالات التي زُعم أن لينين كتبها وهو على فراش المرض العضال الذي انتهى برحيله وأُطلق عليها اسم "وصية لينين"، والتي قال باحثون روس إنها رسائل مزوَّرة، استخدمها كل من زينوفييف وتروتسكي ضد ستالين بهدف استبعاده من قيادة الحزب، وكذلك فعل خروتشيف بعد وفاته، ثم استخدمها غورباتشوف في "البيروسترويكا" لتحطيم الاتحاد السوفييتي والقضاء على الاشتراكية باسم لينين.
بعد تلك اللقاءات في الأكاديمية والجولات الحرة التي قمتُ بها بصحبة ومساعدة بعض طلابنا في العاصمة موسكو، وخصوصاً في شارع الفن "أرابات"، الذي أقام فيه شاعر روسيا العظيم بوشكين لفترة من الزمن. (قيل إن أصل الاسم عربي وهو "الرباط" لأن أجدادنا العرب المسلمين أيَّدهم الله بنصر من لَدُنه وصلوا إلى ذلك المكان واتَّخذوه رباط خيلهم، فسُمي بهذا الاسم). ويبدو أن غورباتشوف أراد لهذا الشارع أن يلعب دوراً شبيهاً بدور "هايد بارك" في لندن من حيث حرية الرأي والتعبير، لكن باتجاه واحد منظَّم، حيث شهدتُ بنفسي العداء الصريح للاتحاد السوفييتي وثورة أكتوبر الاشتراكية والحزب الشيوعي السوفييتي والزعماء الشيوعيين السوفييت واحداً واحداً، من لينين إلى تشيرننكو-حتى غورباتشوف نفسه لم يسْلم-، وللاشتراكية والماركسية ومنظِّريها الأوائل، بمن فيهم، بل على رأسهم، ماركس وإنجلز غير الروس... شهدتُ تشنيعات أشكالاً ألواناً، بالرسم والكلمات والموسيقى والغناء والمنشورات واللافتات. بعد الأكاديمية والشارع باتَ واضحاً لي تماماً أن "مشروع" إصلاح وتجديد الاتحاد السوفييتي والنظام الاشتراكي ما هو إلا مشروع تفكيك الاتحاد السوفييتي والقضاء التام على النظام الاشتراكي. وأود هنا أن أؤكد أن رأيي هذا ليس حكمة بأثر رجعي، وإنما كوَّنتُه وقُلتُه لعدد من أعضاء الوفد هناك وعُدتُ به إلى اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الأردني الذي عُقد خصيصاً للاطلاع على حصيلة زيارة الوفد الحزبي وتقييم استخلاصاته هنا، حيث قامت القيامة.
- لا ريب في أن انهيار الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية الأخرى وتحوُّلها إلى الرأسمالية بعكس اتجاه التاريخ كان له أثر "الصدمة والرعب" علينا، كما هو على الحركة الشيوعية وحركة التحر العربي والعالمي بأسرها. ففي سنوات الكفاح المجيد، كان إيماننا بقضيتنا لا يتزعزع، بل يصل إلى حد "إيمان العجائز"، فلم نكن نخاف من القمع ولا نخشى اقتحام الصعاب ولا نتوانى عنه، ولسان حالنا يلهج بالدعاء: "اللهم إنا لا نسألك حملاً خفيفاً بل ظهراً قوياً". آنئذٍ كان الاتحاد السوفييتي ظهرنا وجدارنا الاستنادي المعنوي، وبانهياره كُسر ظهرنا. فشعر كثيرون بالإحباط واليأس، و"كفروا" بالاشتراكية والماركسية، وحتى بالتحرر الوطني، واعتنقوا ديناً جديداً، هو دين الليبرالية المعولم الذي "يجُبُّ" كل ما قَبْله.

5. العدالة الانتقالية: الحقيقة والإنصاف والمصالحة
في عام 2008 عُقدت ندوة في مقر منتدى اليسار الاجتماعي قدمتُ فيها ورقة مفصَّلة تضمَّنت مشروعاً حول العدالة الانتقالية- على غرار ما تجارب جنوب أفريقيا وبعض بلدان أمريكا اللاتينية وحتى المغرب. وتتلخص فكرة المشروع- الذي يُقرأ من عنوانه- في إنشاء لجنة للحقيقة والإنصاف والمصالحة تتولى المطالبة بفتح ملفات انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها السلطات بحق الأفراد منذ عام 1952 حتى تاريخ طرح المشروع، الذي يشتمل على الكشف عن الانتهاكات ومرتكبيها وضحاياها، وتقديم المتهمين بارتكابها إلى محاكمات عادلة، وإنصاف الضحايا بجبر الضر، الذي يشمل اعتراف الدولة بارتكاب الانتهاكات وتقديم الاعتذار للضحايا وإعادة الاعتبار لهم ودفع التعويضات المادية لهم عمَّا لحِقَ بهم من أضرار. وقد شرحتُ المشروع أمام نحو أربعين شخصاً جلُّهم من المناضلين القدامى الذين كانوا قد تعرضوا لانتهاكات مختلفة في فترة الأحكام العرفية. بيد أنه قوبل بعدم اهتمام شبه كامل، وأحياناً باستهجان وسخرية، حيث سألني بعضهم: هل تريد أن تقبض ثمن نضالك يا رفيق؟ وهكذا وضعتُ مشروعي على رفوف النسيان ومعه الأمل في أن يأتي أحد غيري لينفض عنه الغبار ذات يوم.
6. تسألونني ماذا بعد؟/ما العمل؟/ما هو الحل؟
لينين كان لديه جواب عبقري عن هذا السؤال أثبت التاريخ صحته: الثورة الاشتراكية في الحلقة الأضعف روسيا القيصرية، والإسلام السياسي في جعبته جواب إلهي مطلق: الإسلام هو الحل لكل شيء. أما أنا، بتواضع إمكاناتي وقلة حيلتي، فلا أملك جواباً، لكن ربما يخبِّئ لنا التاريخ فسحة أمل كي لا يضيق عيشنا ويصنع لنا مفتاحاً ذا أنصالٍ ثلاثة لفتح طريق يُفضي إلى حل لهذه المعضلة الوجودية:
- فك الارتباط البنيوي بين النظام الحاكم وقاعدته الاجتماعية الأردنية القديمة؛ وعدم الاستعاضة عنها بقاعدة اجتماعية جديدة رثَّة من المهاجرين واللاجئين والمهجَّرين والمجنَّسين والموطَّنين سياسياً من فوائض الإقليم ومُخرجاته، وبحسب مقتضيات تصنيع أزماته و"حلِّها"؛
- إطلاق حركة نضال وطني وطبقي مشترك للدفاع عن الأردن وفلسطين معاً، أي التشبُّث بتحرير فلسطين وعودة أصحابها الشرعيين إليها، وإفشال خطة إنشاء وطن بديل على أرض الأردن في ما يُسمى بـ "صفقة القرن" بغض النظر عن أية تسميات مخزونة في جِراب الحاوي الأمريكي.

7. باليه "حُلم ليلة في منتصف الصيف": مسرح البولشوي
لعلَّ ما ساعدَني على تخفيف هول الصدمة والشعور بالهمِّ والغمِّ الذي أصابني في رحلة موسكو أنني حققتُ حلماً شخصياً قديما، وهو زيارة مسرح البولشوي العظيم ومشاهدة فرقة الباليه الأولى على خشبته. وها هو الحلم يتحقق: الولد ابن قرية بشرى بشمال الأردن الذي درسَ حتى صف "التوجيهي" على نور السراج نمرة أربعة وكتبَ وظيفة النسخ عشر مرات في كل مرة على الطبلية جاثماً على ركبتيه وذهبَ إلى مدارس مدينة إربد سيراً على قدميه في الوحل بجزمة الكاوشوك "باتا" ذات الرائحة الكريهة، والرجل الذي قضى سنوات شبابه مرتحلاً بين الزنازن والسجون أو مُلاحَقاً ومتوارياً عن الأنظار أو محروماً من العمل والسفر في سجن كبير يُدعى الوطن، وقادماً للتو من سجن دشَّنته هبة نيسان، يدخل مسرح البولشوي القيصري العظيم، يمشي الهوينى كي لا يعكِّر صفو الجمال وسحر الموسيقى، مرتدياً "بدلة" وربطة عنق كما تقضي "ديكتاتورية" تقاليد المكان المعشوقة! لا أنسى تلك النشوة والهيام والشعور بانعدام الجاذبية الأرضية وأنا أتأمَّل جمال المسرح الأخاذ من الداخل، أُبَّهتَه وعبقَ تاريخه، أسقفَه وجدرانَه وطبقاتِه وشرفاتِه ولوحاتِه ونقوشَه وأرضيتَه ومقاعدَه، وأنا أُشاهد باليه مسرحية شكسبير الشهيرة "حلم ليلة في منتصف الصيف" بأداء فرقة باليه البولشوي الأروع في الدنيا.
أحمد جرادات
[email protected]