خطوط امريكا الحمراء!


عصام شكري
الحوار المتمدن - العدد: 7709 - 2023 / 8 / 20 - 00:41
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

استمعت مؤخرا الى مقابلة اعتقد انها اهم ما سمعته من تصريحات لمسؤوليين امريكيين مؤخرا. هذه المقابلة اجرتها محطة سي بي اس CBS مع قاض امريكي متقاعد يعد احد اعمدة اليمين الامريكي لسنين طويلة وهو مايكل لوتيك. تأتي هذه المقابلة في ظل انتقادات حادة وجهها هذا القاضي اليميني لدونالد ترامب واعتبر ان ما جرى على يد الترامبية هو تمزيق حاد لا يمكن معالجته للوضع السياسي داخل الولايات المتحدة. وطبعا تأتي هذه المقابلة اثر اتهام المدعية العامة لولاية جورجيا فاني ويليس لدونالد ترامب و 18 اخرين من مساعديه بقانون الابتزاز وهو قانون يقتصر على ولاية جورجيا في محاكمة كبار قادة المافيات وعصاباتهم والمسمى Racketeering. وسارجع لمقابلة مايكل لوتيك لاحقا.

حملة غير مسبوقة ضد ترامب

شنت السلطات القضائية الامريكية حملة غير مسبوقة ضد دونالد ترامب بتهم اجرامية متعدد كلها تتمحور حول مسألة واحدة: الدمار الذي احدثه دونالد ترامب في الهيئة الامريكية الحاكمة والتي ادت الى ضعضعة مكانة امريكا العالمية وقوضت احد اهم دعائمها الاديولوجية الدعائية اي الديمقراطية الامريكية. ومن ظمن هذه الاتهامات يأتي تعريض امن امريكا للخطر من خلال اوامر ترامب بنقل وثائق غاية في السرية الى سراديب بيته الخاص تمهيدا لابتزاز الحكومة الامريكية بالاضافة طبعا الى هجوم رعاعه (سرايا السلام؟!) على قدس الاقداس ومعقل الديمقراطية الامريكية ورمز عزة امريكا وكرامتها - مبنى الكابيتول هيل - الكونغرس الامريكي.

لحد كتابة هذا المقال تم رفع 4 دعاوي قضائية ضد دونالد ترامب 3 منها من قبل المحكمة الفدرالية الامريكية وواحدة (وهي الاكثر جدية) من قبل المدعي العام في ولاية جورجيا فاني ويليس. ويقال ان الدعوى الاخيرة قد تكون الضربة القاضية لترامب حيث ان قانون الجرائم الذي سيحاكم به يتظمن تهمة الابتزاز المنظم ولها عقوبة خطيرة لو ثبتت.

الترامبية

تحولت الترامبية الى ظاهرة عالمية منذ العام 2017 تحت مرأى ومسمع البرجوازية الامريكية وبذهول كامل. هذا النفوذ مبعثه قدرة ترامب على تهييج اكثر نسخ الفاشية الرأسمالية في العديد من الدول، ولكن ايضا بسبب حجم الاعلام الامريكي الثري حتى من القنوات التي تدعي بانها ديمقراطية كالسي ان ان والسي بي اس. لقد وجد الجميع في الديماكوجي ترامب مادة خصبة لنشر الدعاية حول القيم الامريكية وبشكل ما قدموا دعما كبيرا له في حملته الصليبية على الديمقراطية الامريكية.

الترامبية بنظري لها بعدان؛ البعد الاول هو انها جاءت كرد على العجز المهول للطبقة البرجوازية في مواجهة الازمة الاقتصادية العالمية وجواب على حركة "احتلال وول ستريت" في نيويورك عام 2009 وما تلاها من "احتلالات". هذه الحركة مثلت الصاعق في حركة احتجاجات يسارية شعبية شوارعية برزت في كل انحاء العالم احتجاجا على النظام الرأسمالي برمته؛ من استراليا الى اسبانيا وايطاليا وفرنسا مرورا بامريكا الجنوبية وصولا الى مصر وتونس والعراق ولبنان وايران وسوريا والسودان.

والبعد الثاني للترامبية تمثل في دورها في ابراز الحركات اليمينية المتطرفة في كل مكان للرد على الثورات والانتفاضات الجماهيرية في العديد من دول العالم وابراز قادة شعبويين ذوي ميول فاشية شديدة الخطورة؛ فمن بولسينارو في البرازيل، الى بوتين في روسيا، وكاليشنكو في بيلاروسيا مرورا بمارين لوبان في فرنسا، وهربرت كيكل في النمسا، والفاشية ميلوني في ايطاليا، واوربان في هنكاريا، والاحزاب القومية المتطرفة في فنلندا والسويد واسبانيا وهولندا انتهاءا بنتانياهو رئيس الوزراء الاسرائيلي اليميني المجرم وصولا الى مقتدى الصدر في العراق وخامنئي في ايران وحسن نصر الله في لبنان وعديد اخرين من قادة كاريكاتوريين ملطخين بالدم بلا ضمير، بلا مبادئ، بلا حتى ايديولوجيا، وبلا حد ادنى من الاخلاقية او حتى من الادعاء بها، لا يتسع المجال لذكرهم هنا.

انجازات الترامبية

انجزت الترامبية بنظري مهمتها في ابراز اليمين الفاشي (قومي ديني اسلامي يهودي مسيحي...) على صعيد عالمي وخلطت الاوراق السياسية لدرجة اصبحت الجماهير عاجزة كليا عن فهم من هؤلاء الرعاع ولم يحكمون وما هي فلسفتهم وتوجهاتهم ولم هم غير قادرين على توفير اي شئ الا الشتائم والقاذورات الفكرية. غابت حتى الهوية الايديولوجية المتعارفة عن السياسة والصراع الاجتماعي واصبح التهييج القومي ومعاداة المهاجرين والملونين والنساء سمة يتم التباهي بها باعتبارها ردودا مفحمة على "تخرصات اليسار".

وبنظري فان الترامبية لم توفر حتى اليسار الرسمي (يسار الدكاكين) الذي ساهمت باعادة انتاجه مشوها، مضطربا، وبلا اي ملمح انساني، يحارب بميكافيللية لا تقل عن ميكافيللية اليمين المتطرف ويستخدم الوسائل نفسها فقط لاثبات وجوده الهامشي وبشكل بعيد كل البعد عن الحركة الجماهيرية الثورية او امالها ومطامحها الانسانية.

دوافع محاكمة ترامب

ارجع الان الى مقابلة القاضي اليميني المخضرم الاشهر في امريكا - مايكل لوتيك.

بين لوتيك في مقابلته مع الصحفية الامريكية في السي بي اس وقبلها في شهادته للكونغرس بانه حزين ويائس. حزين على ما آل اليه الوضع السياسي في امريكا ويائس من اي محاولة ممكنة لانقاذه. وقد بين ان ما يجري من احداث في السلطة الامريكية اكثر من مؤسف قائلا بلا اي مواراة "لم يتدهور الوضع في امريكا الى هذه الدرجة من الانحطاط منذ تاسيس الولايات المتحدة الامريكية قبل 250 عام" في تعليق له عن هجوم اتباع ترامب على مبنى الكونغرس في 6 كانون الثاني 2021 وتآمر ترامب مع اعوانه على سرقة الوثائق شديدة الحساسية وتأمره لتزوير نتائج انتخابات ولاية جورجيا لصالحه.

تصريح القاضي لوتيك صحيح بلا ادنى شك. ولكنه ايضا له دلالة عميقة. فحزنه ليس على المجتمع في امريكا وتفاقم الفقر والجريمة وانعدام الرعاية الصحية او زيادة العنصرية وكراهية الملونين او المثليين الجنسيين او التهييج ضد المهاجرين واحتقارهم. كلا. لوتيك يدق جرس الانذار ويذرف الدموع على شئ واحد فقط لا غير: مصير الديمقراطية الامريكية.

حين يتحدث لوتيك بنقد لاذع عن ترامب والترامبية فانه يتحدث بالتحديد عن تدمير الديمقراطية الامريكية او "صورة امريكا" في العالم. وبنظري فان الاجراءات العقابية الرادعة التي تتمثل في صرامة المدعي العام في ولاية جورجيا لجهة جلب ترامب واعوانه الى المحاكمة واخذ بصماته وصوره كاي مجرم عادي ليس هدفها الاقتصاص منه كشخص.

هدف هذه الصرامة هو ارسال رسالة واضحة الى كل الطبقة البرجوازية بانها جادة في قطع دابر من يتجاوز على اهم ركيزة من ركائز الدعاية الامريكية حول العالم - الديمقراطية والتي حولها ترامب الى مادة سخرية واستهزاء ومهزلة. ان القضاء الامريكي على هذا الاساس وهو الذي يمثل الدولة يقوم بمهمة عاجلة وملحة للبرجوازية الامريكية التي دقت ناقوس الخطر معلنين بصوت عال: تجاوز ترامب خطوط امريكا الحمراء.

واخيرا، ارى ان انهيار الدعامة الدعائية والايديولوجية الامريكية بافلاس قدرتها على اعادة انتاج اكاذيب الديمقراطية التي استخدمتها امريكا طويلا ومعها مقولات حقوق الانسان والشفافية والعلمانية والمساواة والمواطنية وحرية الدين والتبجح بالدستور الامريكي في كل احتلال وحرب وحصار ومناورات عسكرية وقصف بالطائرات، يأتي هذا الافلاس بعد ان انهارت الدعامة الايديولوجية-الدعائية للاسلام السياسي في الدول التي سلطت امريكا فيها الاسلام على الجماهير فيه كالعراق وايران ولبنان.

لفلفت الحركة البربرية للاسلام السياسي شعاراتها "كلا كلا امريكا" و "يسقط الشيطان الاكبر" و "اسرائيل شرٌ مطلق" و "لا للاستكبار العالمي" لا بل شرعت بتوقيع اتفاقات ترسيم الحدود مع اسرائيل وعقد الصفقات مع امريكا والغرب لتقاسم المناطق، وترويج امريكا لمقتدى الصدر وجماعته كحليف موثوق بميكافيللية لا تقل عن ميكافيللية تنصيب طالبان في السلطة بافغانستان.

وفي كلتا الحالتين، انسداد افاق الاسلام السياسي وانسداد افاق الديمقراطية، فان البرجوازية الامريكية والعالمية والطبقة الطفيلية الحاكمة في كل دولة قد وصلت الى حالة من الانحطاط والانكسار لم يسبق لها مثيل منذ انهيار عالم ثنائي القطب.

الام يؤشر ذلك؟

ان ذلك سيؤشر بلا شك الى طي صفحة خانقة والى دورة جديدة من الحركات الانسانية ولنزول مليارات من الجماهير الغاضبة الى الشوارع والميادين والساحات لكنس هذه القاذورات (ومنهم نفايات الاسلاميين والقوميين في العراق وايران ولبنان وفلسطين وو) واستعادة حقوقها وكرامتها وانسانيتها وفتح صفحة جديدة من الصراع، صراع لا بين اجنحة على نفس الدرجة من الحقارة ومعاداة الانسانية، بل صراع بين جبهة انسانية تعشق الحرية والمساواة والعدالة الرفاه والامان وبين جبهة الاقلية الطفيلية العفنة التي اعطوا ترامب مقودها للسنين الستة الماضية.