التشكيلية الرائدة (مديحة عمر) في كتاب جديد


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 7644 - 2023 / 6 / 16 - 22:49
المحور: الادب والفن     

ضمن سلسلة كُتُب "فنانون عراقيون" التي تصدرها مشكورة "جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين"، تم تخصيص الكتاب الأول لرائدة الفن التشكيلي العراقي مديحة عمر (1908-2005)، بعنوان: "مديحة عمر: الريادة الحروفية" لمؤلفه الأستاذ الفاضل خالد خضير الصالحي. وحسنا فعلت جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين المثابرة بتكريس كتابها الأول لهذه الفنانة الرائدة التي كان كل شيء فيها راق: خلقاً واخلاقاً وانجازاً فنياً. يقع الكتاب بـ (64) صفحة من القطع المربّع - بضمنها (29) صفحة ملونة خُصصت لمصورات عدد من أعمالها الفنية - واشتمل على المقدمة، ومباحث في مفهوم "البعد الواحد"، و" الرسامون والتجربة الحروفية"، و"الخطاطون والتجربة الحروفية"، و"طواعية الخط العربي"، و"الحروفية التشكيلية والريادة"، و"الريادة والهوية"، و"منجز مديحة عمر"، وأخيراً موجزاً مبتسراً جداً لسيرتها الذاتية.
ومن الواضح أن وَكَد الكاتب الاستاذ خالد خضير الصالحي في تأليفه لهذا الكتاب قد أنصب على العرض المستفيض للحركة الفنية للحروفية وعلى تفاصيل تراكب شبكة ريادتها في التشكيل العربي والعراقي - والذي استغرق متن أول (26) صفحة منه - في حين لم يحظ وصف المنجز الفني للفنانة التشكيلية إلا بسبع صفحات فقط. كما يخلو الكتاب من ثبت بالمصادر والمحتويات.
وُلِدَت الفنانة التشكيلية مديحة عمر (وأسمها الحقيقي: مديحة حسن تحسين) في حلب بسوريا عام 1908، من أب شركسي وأم سوريّة. وانتقلت عائلتها إلى بغداد وهي لما تزل فتاة صغيرة. درست في دار المعلمات ببيروت، وفي المدرسة السلطانية بإسطنبول قبل عودتها لبغداد واشتغالها في سلك التعليم بوزارة المعارف آنذاك. وكانت أول امرأة تحصل على منحة دراسية من الحكومة العراقية للتحصيل العلمي في أوروبا، حيث تم ابتعاثها كمعلمة فنون في كلية "ميريا جراي" بلندن ، التي تخرجت فيها عام 1933، بمرتبة الشرف الأولى في الفنون والخط. عند عودتها للوطن، اشتغلت رسّامة ومعلمة ورئيسة لقسم الرسم والفنون في مدرسة تطبيقات دار المعلمات، ومن بعدها في دار المعلمات ببغداد (وليس في "أكاديمية الفنون الجميلة"، حسبما ينص الكتاب في الصفحة: 37). كما لعبت دوراً ريادياً في الدفاع عن حق المرأة العراقية في المساواة.
بعد زواجها من الدبلوماسي العراقي الأستاذ ياسين عمر، استعارت لنفسها اسم عائلته، وانتقلت معه إلى واشنطن عام 1942 حيث بدأت أبحاثها في الخط العربي المستوحاة من مؤلفات الباحثة الإسلامية "نبيا آبوت". في عام 1959، حصلت على شهادة الماجستير في الفنون الجميلة من كلية كوركوران للفنون في واشنطن العاصمة، وذلك عقب حصولها على شهادة البكالوريوس في التربية الفنية من جامعة جورج واشنطن. وعندما عادت إلى العراق، تولت التدريس في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد، وانضمت إلى "جماعة البعد الواحد" الفنية التي أسسها الفنان التشكيلي شاكر حسن آل سعيد في عام 1971، كما كانت عضواً في "جمعية الفنانين العراقيين".
في مبحثها المعنون "الخط العربي: عنصر استلهام في الفن التجريدي"، تصف مديحة عمر رؤيتها الفنية للخط العربي بالقول:
"لقد أتقنت الخط العربي الذي يمثل المعاني المجردة، وهو في جوهره رمزي. لذا، فمن الخطأ النظر اليه بوصفه مجرد ابعاد وأشكال هندسية... وهذه النظرة في اعتقادي، من وجهة نظر التصميم الفني، تسيء الى فردية كل حرف من حروف الخط العربي، وتُجرِّده من حريته في التعبير، وتعيق القدرة على استخدامه كتصميم فني. في الواقع، فإن كل حرف من الخط العربي له القدرة الكافية والشخصية الدينامية لتكوين صورة تجريدية. علاوة على ذلك، فإن هذه الحروف تتمتع بتلك الخاصية الفردية الواضحة التي تساعد في صنع أشكال مثالية ذات معنى أو التعبير عن فكرة معينة، أو في تمثيل حدث جديد أو قديم ".
أقامت مديحة عمر معرضها الشخصي الأول في عام 1949 في مكتبة جورج تاون العامة بواشنطن، والذي اشتمل على سلسلة من (22) لوحة فنية مستوحاة من "الحروفية" كانت هي الثمرة لتمضيتها تسع سنوات في التحقيق الفني، بتشجيع من مؤرخ الفن ريتشارد إيتينغهاوزن. تقول مديحة عمر: "بدأت البحث في الحروفية قبل معرضي بسنوات عديدة؛ في عام 1944 أو 1945 ، على ما أذكر. لقد عثرت في مكتبة الكلية على كتاب عن الخط العربي في شمال إفريقيا، مع جدول يوضح بدايات الحروف وتطور أشكالها وهيئاتها. بعد ذلك، ذهبت إلى مدير المتحف، الباحث الشهير في الفن العربي الإسلامي ريتشارد إيتنغهاوزن ، الذي شغل كرسي الفن العربي الإسلامي في جامعة ميشيغان قبل أن ينتقل إلى واشنطن. وعندما عرضتُ عليه بعضًا من تجاربي الفنية في تطوير الخط العربي، قال لي هذا الاستاذ الشهير: "استمري بهذا الاتجاه، الذي لم يسبقك اليه أحد"".
بين عامي 1950 و 1980 ، أقامت الفنانة التشكيلية مديحة عمر(18) معرضًا شخصياً منفردًا في واشنطن وميريلاند وسان فرانسيسكو ونيويورك ولبنان والسودان واسطنبول وبغداد (كان آخر معرض لها فيه عام 1988 ، والذي ضم )136( لوحة، أقدمها مؤرخ عام 1931). كما شاركت أيضًا في العديد من المعارض المشتركة التي أقيمت في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية والعراق. وتُعرَض قطعها الفنية بشكل دائم في المجموعات العامة، وكذلك في المعارض المتنقلة لمتحف بغداد الوطني.
وبالإضافة للوحاتها الفنية، فقد تميزت هذه الفنانة أيضاً بمنجزها الفني الفذ في أعمال السيراميك الملون برسومها الحروفية: الأواني والأكواب وقطع الزجاج والمزهريات والأباريق والقناني التي أستطيع أن أزعم بأنها بلغت القمة في درجة تطور جماليات فن السراميك على صعيد الشرق الأوسط كله خلال القرن الماضي. ولكن هذا الكتاب لا يتطرق إليها.
ومثل غيرها من عشرات الادباء والفنانين والأكاديميين العراقيين المُغرَّبين، فقد توفيت التشكيلية الرائدة مديحة عمر - بعيدة عن وطنها الحبيب: العراق - في عمّان، الأردن، عام 2005، ودُفن جثمانها هناك.
يقول فيها مؤلف الكتاب الاستاذ خالد خضير الصالحي (ص 15):
"لقد أحست (مديحة عمر) أن الحرف العربي يمكن التأسيس عليه لا بوصفه عنصراً مساعداً في تنفيذ الرؤى المعاصرة وتوصيلها للمشاهد، بل بتمركزها في النصوص التشكيلية كمركز بؤري، أو مولد رؤيوي مهيمن في القراءة البصرية اللاحقة، ليشكل (بلورة شكلية نووية)، أو (جزيئاً متناهياً في الصغر) له كل الخصائص المرنة المتفردة للكتابة العربية، بما يشكل جمالية ومجالاً رحباً لابتكار اساليب وصيغ فنية لا مجال لقولبتها على وفق قواعد جامدة، فقد اتصفت أشكالها الحروفية بأقصى درجات المرونة، والطواعية البلاستيكية، وقدرتها على المد والاستدارة، والصعود والنزول، والتصغير و التكبير، و الاجتزاء من أشكال الحروف، و التركيب لتشكيل كلمات، أو حتى تكوين جمل كاملة، فامتزجت الامكانيات التقنية لها رسامة و(خَطّاطة) عربية تنتج أعمالاً عصية على التجنيس، سواء عُدّت أعمال رسم أنجزت كأعمال خط، أو أعمال خط عربي تخلت عن تقليديتها في الأدوات وفي المادة، وفي اتباعها للقواعديات القارة. وقد انتجت بتقنيات الرسم الحديثة على الرغم من وجود تأثيرات كبيرة من فن المنمنمات الاسلامية و الكتابة الخطية فيها، بعيداً عن نقل العالم المرئي، أو تقليده بشكل ميكانيكي، واستبدال ذلك بمنطق شكلي داخلي."
كما يقيم منجزها الفتي الأستاذ خالد خضير الصالحي بالعين الثاقبة للناقد العارف بالقول (ص 34):
"لفد فتحت مديحة عمر باباً واسعة أمام الحرف العربي لتحرير صورته مما علق بها من قيود منهجية وصرامة، وأطلقت له عنان حريته في فضاء سطح لوحاتها منذ ثلاثينات القرن المنصرم، وهو أمر جاء بفعل كونها ليست خطاطة متمرسة تعنى بتجويد الخط العربي، وإنما رسامة تعنى بالطاقة التعبيرية للحرف، وليس بقواعد كتابته كما اتفق عليه أئمة الخط العربي، فكشفت وظيفة فنية اجتهادية في جماليات الحرف العربي، ومحاولة تطويعه على وفق رؤية تشكيلية معاصرة، وليست صورة قرائية أو تزويقية للوحة خطية خالصة.
ما يجلب الاهتمام في أعمالها كونها أعمالاً "مسطحة" من دون عمق منظوري إلّا بدرجة طفيفة وغير محسوسة، تماماً كما في الأعمال الخطية والزخرفية القديمة، والتجريدية الحديثة. ولكن حيوية منجزها تكمن في وجود حراك نسبي في المكان، وفي المساحة، مما يمنح العمل الفني أبعاداً غير واقعية، ومتخيلة، بفعل حركة الفرشاة في أرجاء سطح اللوحة، بين مناطق غامقة معتمة، وأخرى فاتحة ملفتة البياض، فيتخلق تناوب بين الفاتح والغامق مما يمنح العمل الفني "عمقاً" محسوساً، ويجعله يُحسب بسهولة ضمن الفن التشكيلي الحديث."
وختاماً، لا بد لي أن أبارك هذه المبادرة الكريمة لجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، والتي جاءت في وقتها المناسب للوفاء لهذه الفنانة الرائدة التي تشربت بروح الابداع التي طالما تميزت بها الأزاهير المترعرعة في طينة هذه الأرض المعطاء. كما لابد لي من توجيه تحية الإكبار والإجلال للفنان التشكيلي والأستاذ الفاضل: قاسم سبتي، رئيس جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، والمشرف العام على اصدارات سلسلة كتب: "فنانون عراقيون" المتميزة، ولأعضاء هيئة تحريرها، الأساتذة: ماجد صالح السامرائي، و د. عاصم فرمان، و د. جواد الزيدي، ولمديرها الفني الأستاذ سمير مرزه.
وبإمكان قارئات وقراء "الحوار المتمدن" الأغر الأعزاء الاطلاع على صور ملونة لبعض من أهم أعمال هذه الرائدة التشكيلية الكبيرة على موقعها الذي أعده حفيدها الأستاذ: دارا كِتّاني، على الرابط:
https://www.madihaumar.com/biography