ایران في ظل الإنتفاضة: إلی أین؟


عدنان كريم
الحوار المتمدن - العدد: 7422 - 2022 / 11 / 4 - 07:54
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     



تعکس الإنتفاضة الشعبیة الجاریة في إیران منذ تسعة اسابیع، في جوهرها، إنفجارا لتناقض أساسی یعتمل منذ عقود و بعمق في المجتمع الایراني: بین نظام دیني، آیدیولوجي، قروسطي و شمولي و شعب یتطلع نحو حیاة حرة مزدهرة في ظل نظام دیمقراطي تعددي علماني و مدني یزدهر فیها الحریات الفردیة و الحقوق السیاسیة و المساواة بین الجنسین. فالنظام الذي یستند و حسب الدستور الإسلامي الشیعي الایراني علی حکم ولایة الفقیه، و طوال 43 من سلطته مارس أشکالا من القمع و کبت الحریات و التمییز القسري الفظ بین الجنسین و حملات الاعدامات و قمع المثقفین و الکتاب و حرمان القومیات غیر الفارسیة من أبسط حقوقها وحظر کل أشکال المعارضة السیاسیة، تجاوزت کل الحدود المألوفة. وقد عجز النظام رغم کل دکتاتوریته و شراسته و إعداماته و سجونه عن أسلمة المجتمع الایراني آیدیولوجیا وثقافیا و تلك یمثل عقب آخیل الحکم الدیني في إیران. کما لم یأت نتائج حکم طبقة الملالي في إیران علی صعید المنطقة سوی بالمزید من الأزمات و التدخل السیاسي و الأمني و العسکري المباشرحیث بات العراق و سوریا و لبنان و الیمن و البحرین و غزة مسرحا لمساعي ایرانیة محمومة من أجل التوسع و دعم المیلیشیات الشیعیة و نظام بشار الأسد الدکتاتوري والحکم الطائفي في العراق من أجل الهیمنة و تخریب نضالات شعوب المنطقة و تحریف مسارات مساعي تلك الشعوب من اجل الحریة إلی رافعة من أجل تسویة خلافاتها مع الغرب و قبول هیمنها بالشراکة مع أمریکا. وقد أدت سیاسات النظام و عواقبه في عسکرة المجتمع الایراني و مساعیه المستمرة لتصدیر الإرهاب و الهیمنة خارج حدود البلاد و تناحره مع الغرب بهذا الصدد، إلی تدمیر الرکائز الإجتماعیة و الإقتصادیة للمجتمع و تسخیر طاقات البلاد الهائلة من أجل خدمة تلك المآرب التي لا جامع لها مع تطلعات الشعب الایراني المعروف بسمو ثقافته و ما یختزنه مکنونه الحضاري من توق للحریة و الحیاة المتمدنة و سأمه من القیود والکبت الدیني و کل ما یستتبعه من ثقافة متحجرة و تدخل فظ و ممجوج في الشأن الخاص والتمییز بین الجنسین بشکل أخص.
و لم یتوقف نضال الایرانیین طوال حکم الجمهوریة الاسلامیة من اجل حقوقهم و مقاومة فرض رکائز الدکتاتوریة الدینیة حیث إتخذت المقاومة الشعبیة أشکالا شتی من الإضرابات و المظاهرات الشعبیة و النضالات النقابیة للعمال و الطلبة و المثقفین و غیرهم من الشرائح الاجتماعیة. فعلی سبیل المثال إتخذت المقاومة الشعبیة في کردستان و منذ تبوأ طبقة رجال الدین علی السلطة في 1979 و إثر المقاطعة الشاملة للإستفتاء الذي جرت للتصویت علی إعلان إیران کجمهوریة إسلامیة في 1980 طابعا جماهیریا و مقامة مسلحة. کما شهدت إیران إحتجاجات شعبیة عارمة بین أعوام 1912 و 1981و 1919 حیث تمکن النظام وقواه القمعیة من دحرها و راح ضحیتها الآلاف بین قتیل و سجین. إلا إن کل تلك الإحتجاجات کانت حرکات شعبیة تطالب سواء بإصلاحات في الهیکل العلوي للنظام و إجراء جرح و تعدیل في أسالیب حکم المنظومة الإسلامیة ذاتها أو تطالب بحل معضلات و قضایا کالبطالة و الفقر الخدمات أو وقف تعدیات و تطاول القوی القمعیة کالحرس الثوري و قوات البسیج أو التعبئة أو الحد من تدخل شرطة الاخلاق و وقف تعدیاتها علی المرأة و خاصة الممتنعین عن رعایة أوامر الحجاب الإجباري.
و کانت المدن الکردستانیة مرکزا مهما للتململ و المقاومة الجماهیریة في شتی مراحل حکم الجمهوریة الإسلامیة الایرانیة حیث کانت الاحتجاجات تأخذ منحی سیاسیا ڕادیکالیا نظرا للتمییز القومي الممارس و القوة المفرطة التي تلجأ إلیها النظام في فرض سیاساتها و نهجها الشوفیني هناك.
إلا إن الإنتفاضة الشعبیة الجاریة منذ شهر و نصف و إن جاءت شروعها ردا علی مقتل الشابة الکردیة ژینا ( مهسا ) أمیني ، إلا أنها تحولت و بسرعة البرق إلی حرکة ثوریة شاملة إنتشرت بسرعة کالنار في الهشیم في شتی المدن و الاقالیم الایرانیة. کما إن ما یمیز الانتفاضة الراهنة هي إختلافها في أهدافها و طبیعتها و آلیات نموها و تطورها و نسبة و طبیعة القوی المشارکة فیها و االشعارات التي بدأت ترفعها الجماهیر المنتفضة منذ یومها الأول.
فلنبدء بهدف الحرکة الراهنة. إذ سرعان ما تجاوزت النقمة الشاملة وردة الفعل الطبیعیة علی مقتل ژینا أمیني من المطالبة التقنیة بالتحقیق في الحادث و معاقبة المسٶولین عن الجریمة إلی مد سیاسي شعبي عارم للمطالبة برحیل النظام ثم المناداة علنا بسقوط الدکتاتور و ( الرهبر – القائد ) و إستمرت منظومة الأهداف بالتجذر خلال أیام لتستقر علی المطالبة ب ( إسقاط نظام ولایة الفقیه ) بآیدیولوجیته و رموزه و سدنته وکل مٶسساته بل و کل ما یمثله من رموز و ما یمت إلیه بصلة من قریب أو بعید.
أما عن طبیعتها فهي حرکة ثوریة مبنیة علی وعي طبیعي متجذر بقوة تبلورت خلال تمرین نضالي إستمر لسنین طوال و بدون تأثیر مباشر لقوی سیاسیة و خاصة لمعارضة المهجر بکل أطیافها. إن محتوی الوعي الطبیعي السلیم و ذو الأصالة السیاسیة یتمحور حول إستحالة التعایش بین نظام دیني شمولي متحجر ینخره الفساد ولم یتمخض عن نهجه سوی الفقر و الإذلال و التخلف و جر المجتمع الایراني الراقي و ذي الجذور الحضاریة و الثقافیة الراقیة و المتمدنة وکذلك المتمتعة بقدر کبیر من التآلف بین شعوبه و جنسیه، إلی مهالك حکم الشریعة و طغمة متخلفة من الملالي لا تربطها بقیم العصر و الحضارة شیء یذکر.
کما تتمتع الحرکة الثوریة الراهنة و الجاریة بشمولیتها جغرافیا و إثنیا وتعدد الفئات و الشرائح ذوي المصلحة فیها و المٶتلفة قلوبهم علی هدف مرکزي آني واحد و مشترك ألا و هو إسقاط النظام بکلیته و بناء نظام دیمقراطي مدني علماني یفصل ما بین الدین والسلطة و النظام السیاسیین. نظام لا یحمل سمة و توصیف قومي أو دیني أو آیدیولوجي بل یکون بمثابة مظلة یحتمي بظلها کل مکونات الشعب الایراني وفق مبدأ التآلف وإحترام خصوصیات الجمیع و ممارسة حقوقهم ضمن دائرة المنظومة الدیمقراطیة لمرحلة ما بعد حکم آیات الله.
ومما یمیز الانتفاضة الراهنة أیضا لیس الحضور المٶثر للمرأة الایرانیة فقط بل و زخم تأثیرها و قوة مطالیبها الرادیکالیة و التي لا تمثل سوی درجة و مستوی الوعي السامي في صفوفهن و الدعم القوي التي یحظین بها في وسط کل قوی الإنتفاضة بدون أدنی درجات التردد و تلك تمثل سمة تمیزها عن سائر مجتمعات المنطقة.
إن توصیف الانتفاضة و نعتها بالطبیعي و العفوي ربما تحیلنا في الادب الکلاسیکي و خاصة الیساري لفهم سلبي و مستوی متدن من الوعي قیاسا لما تعرف بالحرکات الثوریة التي تقودها الأحزاب و القوی السیاسیي طبقا لبرامج و تقالید الأحزاب الطلیعیة والقائدة وتلك سوء فهم ونموذج متحجر من وعي تقادم علیها الزمن و تبین من خلال مسیرة طویلة من التجارب السیاسیة و مآلاتها، خطلها و کونها مثلبة الثورات و الانتفاضات و لیست میزتها الایجابیة. وکذلك یثیر ذلك قضیة شائکة أخری في الادب السیاسي و مواقف بعض قوی المعارضة الایرانیة الیساریة التي أدمنت الرادیکالیة اللفظیة و إطلاق الشعارات علی علاتها ألا و هي تصویر العمال، و بصورة ذهنیة بعیدة عن تفاعلات الواقع الفعلي ومخاضاتها و منعرجاتها و الطموحات الواقعیة للعمال أنفسهم وکأنهم هم الفئة الوحیدة و المنقذة التي بوصفها قیادة کل حرکة ثوریة و قیاس کل تحرك سیاسی و إجتماعي طبقا لتلك الضوابط الذهنیة و الإنتظار لحین نهوض المارد العمالي ولیس القیاس وفق درجة الوعي بطبیعة متطلبات الحرکات السیاسیة و قوة الإستعداد لخوض غمار المعرکة فعلیا. إن المطالب العمالیة السیاسیة و الطبقیة و التي تشکل فعلا رافدا مهما للإحتجاج الشعبي تدخل في المراحل الثوریة مسارا موحدا مع مجمل الأهداف العامة للثورة بحیث یصعب فصلها عن بعض بل ومن الخطأ وضعها في مقابل الهدف الثوري العام و المشترك.
فالوعي الثوري لیس میزة تستوردها الأحزاب التي تدعي الثوریة قولا ولا تمارسها فعلا و تزرق بها الحرکات الجماهیریة. فکم مر بنا من حرکات ثوریة لم تثمر الشعارات الثوریة مافوق الواقعیة الرنانة و التحلیلات التي لا تنطلق من الواقع الفعلي بل من المفروض الذهني و المستحب الفکري الفرضي، إلا عن دمار تلکم الحرکات و دفعها نحو هاویات سحیقة کما جری في الثورة الإیرانیة في 1979و الإنتفاضة الشعبیة في کردستان عام 1991 .
إن الوعي الشعبي المتجذر و الناشیء بصورة طبیعیة في خضم الإنتفاضة الراهنة في إیران بعیدا عن تدخل قوی المعارضة بیمینها و یسارها و القاضي بإستحالة التعایش مع النظام أو إمکانیة إصلاحه، و هدفها العام المتمثل ببناء نظام یرتقي فوق الدین و القومیة و شتی الخیارات الفئویة و المناطقیة الضیقة و إقامة منظومة سیاسیة تلبي طموحات الشعوب الایرانیة في التعایش المشترك و فق نظام المواطنة، هي أکثر أصالة من الطنطنات القومیة و الطبقیة لقوی ترید خائبة صعود موجة المد الثوري الراهن و خلق البلبلة في صفوف المنتفضین. کما إن نقطة الإنطلاق السلیمة للوعي الشعبي الناهض في مجری الإنتفاضة بوسعها التبلور أکثر و إفراز طلیعتها التي بوسعها رسم ملامح و مسارات الإنتصار النهائي.
إن مقارنة سریعة، علی سبیل المثال لا الحصر، بین مختلف خصائص الإنتفاضة الراهنة في إیران و إنتفاضات الربیع العربي بوسعها أبراز بعض السمات الأکثر رقیا و سموا للاولی.
فحضور المرأة القوي في الإنتفاضة الإیرانیة بمطالیبها الرادیکالیة و زخمها الثوري و موقفها الطلیعي و تجاوز الحرکة ککل للشوائب الدینیة و الإثنیة والمذهبیة و الجهویة وعدم إنجرارها خلف أحزاب و قوی سیاسیة مأزومة تسعی لتحویل الحرکة مختبرا لعصابها الفکري وازماتها الآیدیولوجیة و طموحاتها في السلطة والهیمنة والقیادة وتغلیبها بالعکس للسمات الجوهریة المشترکة للجماهیر ذوي المصلحة الأساسیة في التغییر الثوري بعیدا عن العنعنات الطبقیة و القومیة المتشظیة و المتذررة لصفوف الجماهیر المنتفضة، تعکس کلها، وعیا سلیما و بدایة و مٶشرا قویا بإتجاه النصر المٶزر.
إن ما ذکرته من خصائص إیجابیة نوعیة للحرکة الجاریة في إیران لا تعني بأنها لا تعاني من إشکالات أو إنها قاب قوسین من قلب النظام بل جل ما أعنیه هو إبراز بعض ملامحها و خصائصها التي تٶهلها موضوعیا لتحقیق أهدافها. کما إن إنتصار الإنتفاضة النهائي وسقوط النظام سیفتح الباب أمام صراع مفتوح تحت سقف التنافس الدیمقراطي بین عشرات التیارات و الحرکات السیاسیة ببدائلها و إفاقها المختلفة.
و مثلما کانت ولادة الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة بدایة لسلسلة طویلة من التحولات التي إکتسحت المنطقة وما لعبته من دور سلبي في خلط الأوراق و جر شعوب المنطقة نحو منزلقات طائفیة و صراعات سیاسیة متخلفة في جوهرها و محرفة لأهداف و مرامي شعوبها، فإن سقوط النظام الحاکم في إیران سیفتح الأبواب علی مصراعیه علی مرحلة جدیدة بوسعها عودة نضالات الشعوب إلی مساراتها السلیمة کما إنها بوسعها في حال نجاحها و فق منحی ثوري سلیم بتحویل إیران من حصن للرجعیة و التخلف و الشرذمة و النبذ و الإقصاء المذهبي و الدیني إلی منارة للدیمقراطیة و التقدم و حریة المرأة و مساواتها و تعایش الشعوب و تفاعلها الإیجابي.
لذا فأن الشعب الإیراني و في معترکه المصیري الراهن بحاجة إلی دعم و مٶازرة کل القوی المتطلعة إلی الحریة و الدیمقراطیة والتقدم و المساواة.
إن مستقبل المنطقة السیاسي وتوازن القوی بین جبهة قوی الحریة و مناوئیها مرهونة إلی حد کبیر بمصیر إنتفاضة إیران الراهنة و المسارات المختلفة التي بوسعها إتخاذها.

نوڤمبر 2022