العراق: هل یخرج المارد الشعبي من قمقمه؟


عدنان كريم
الحوار المتمدن - العدد: 7354 - 2022 / 8 / 28 - 10:38
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

العراق: هل یخرج المارد الشعبي من قمقمه؟
عدنان کریم/ سدني

لازالت الصراعات الحادة بین القوی السیاسیة التي إحتلت صدارة المشهد السیاسي في العراق لعقدین من الزمن متواصلة بشتی اشکالها. فالإنتخابات التي جرت في اکتوبر من العام الماضي فشلت في حلحلة الازمة القائمة بل نفخت في سعیرها وإشتد أوارها منذذاك.
لقد مثلت مرحلة ما بعد ٢٠٠٣ حقبة تاریخیة متمیزة للعراق بکل معانیها. فالغزو الامریکي و ما صاحبه من تحولات عصفت بکل مناحي الحیاة السیاسیة و الاجتماعیة و الاقتصادیة في البلاد، آلت في نهایتها الی ولادة نظام سیاسي هجین یتحکم بمفاصله الاساسیة ثلة من أطراف سیاسیة لم تتطابق نهجها و ممارساتها و مآلات عقدین من تجربتها مع ما کان یتطلع إلیه غالبیة العراقیین الذین إکتووا خلال ٣٥ عاما بنار الدکتاتوریة البعثیة. طغمة سیاسیة جاءت علی أشلاء نظام منهار وإحتلال تمکن من توظیف غیظ أبناء الشعب العراقي و نقمتهم من صدام و نهایته، من أجل تفکیك لیس بنیة العراق ( ولیس النظام ) فقط، بل بنیته المجتمعیة و ترکیبته الوطنیة و کل ما هو ضروري و ملح من اجل إعادة لحمته وفق أسس الوطن و المواطنة و ما یوصل بینهما من وشائج.
هکذا کان مآلات البلاد بعد الایام الاولی من فرحة أبنائه بسقوط صنم الطاغیة حیث ولد من رحم الاحتلال و بعزم و تصمیم مسبقین و بصورة مرسومة منذ مٶتمر لندن في أواخر ٢٠٠٢، النظام الطائفي، المحاصصاتي و التوافقي بین اطراف زعموا زورا بانهم ممثلین لمکونات العراق من الشیعة و السنة و الکرد.
یخطيء من یظن بأن ولادة النظام الطائفي القذر لم یکن سوی ولیدة المفاوضات التي جرت أثناء حکم بول بریمر بین الفرقاء الذین أتی بهم الامریکان بعد الغزو. فالنیة المبیتة کانت مرسومة ووضعت لبناتها منذ مٶتمر صلاح الدین في ١٩٩٨ و تم التحضیر النهائي لها و الاتفاق بشأنها في مٶتمر لندن أواخر ٢٠٠٢.
ان ما نشهده من ازمة بنیویة و حادة، ازمة نشهد تداعیاتها شعبیا منذ ٢٠١٨، لیست سوی نذیر بنهایة مرحلة ما بعد الاحتلال وما تلاه من ولادة النظام الطائفي المبني علی تقاسم السلطة السیاسیة و مغانمها بین الأحزاب الاسلامیة الشیعیة و القوی السنیة المتحالفة معها بالإضافة للقوی الکردیة التي لم تعد قادرة ان تستظل بمآسي الکرد و فواجعهم بعد ان أذاقوهم هم أضعاف ما نال منهم صدام و طغمته البائدة.
هکذا فتوافق تلك القوی بالأمس مثلما هو إحتدام صراعاتهم و مکائدهم الیوم لا شأن یربطها بالقضایا الجوهریة والمعاناة التي ابتلی بها الشعب العراقي، معاناة و ظلم وفاقة و إجحاف لم یکن إلا ثمرة من ثمار حکم الطغمة الثلاثية القذرة بشتی مکوناتها.
لقد بتنا، الآن، أمام مشهد سیاسي جدید. فأمریکا و هي تلملم آثار مراجعة تواجدها المکثف في الشرق الأوسط في ظل منافستها مع القوی الدولیة و الاقلیمیة الجدیدة الصاعدة علی المسرح الدولي، تسعی نحو تخفیف ثقلها العسکري في المنطقة. الا انها لن تترك المنطقة و العراق خاصة دون تفاهمات و تسویات تجري بعض تفاصیلها وراء کوالیس محادثاتها مع ایران في فینا بشأن البرنامج النووي للأخیرة.
إن عراق ینخر سیادته ووحدته الاقلیمیة التدخل الایراني المباشر وتحکمه في أبسط شٶونه السیادیة کتشکیل الحکومة و تبوأ سلطاته السیادیة و علاقاته الخارجیة بل و حتی علاقاته التجاریة مع العالم الخارجي ، و ..، الخ، مازال امامه شوط طویل لیقف علی قدمیه بمثابة دولة ذات سیادة و مالکة لقرارها الحر و المستقل الذي ینتج عن صراع قواها الداخلیة او توافقهم.
کما إن تبعیة مجمل القوی المتسلطة علی المشهد السیاسي الطائفي العراقي منذ ٢٠٠٣، و إرتهان قراراتهم السیاسیة لکل من ایران ( کما هو الحال مع اغلب الأطراف السیاسیة الشیعیة و الاتحاد الوطني الکردستاني) و ترکیا ( بالنسبة للحزب الدیمقراطي الکردستاني و القوی السنیة و الترکمانیة المتنفذة )، ساهمت بقوة في تعقید وتمییع الخریطة السیاسية للبلاد و ترك مقدراتها نهبا للصراعات الاقلیمیة التي لم تجلب للعراق سوی الذیلیة و الدمار و جعلها ساحة لکل من هب و دب.
وبالمناسبة لم یکن الفدرالیة کمطلب للأحزاب الکردیة تمکنوا من دبلجة الدستور العراقي المدون من خلالها في ٢٠٠٥، سوی غطاء لتمریر مرامیهم في تقاسم السلطة مع الشلة الشیعیة و السنیة المتحالفة معهم. کما کانت الفدرالیة، و بعکس المطلوب بوصفها حلا للقضیة الکردیة من جذورها وترتیبات اداریة یرجی منها تقاسم للسلطات المحلیة و ایجاد فسحة اکبر للسلطات الشعبیة لغرض توفیر الخدمات بصورة افضل، أصبحت وسیلة لذر الرماد في أعین المواطن الکردي و تزیین تطلعات الحزبین الکردیین من حیث نهبهم و سرقتهم لثروات البلاد ومغانم السلطة و تقسیمها مع صنویهم الشیعي و السني. تصویرها و کأنها وسیلة، أي الفدرالیة، ومظلة تحمیهم، أي الکرد، من شرور الأغیار ولکن کي ینفردوا هم لا غیرهم بنهب باطن الأرض و ما فوقهما و ما بینهما و جعل المواطن الکردي یتضور جوعا و بٶسا و شقاءا یلعن الیوم الذي لدغه عقارب وهمه ببني جلدته کونهم إدعوا زورا بأنهم حماته.
هکذا لیس هناك الآن من یسترالثالوث غیر المقدس الشیعي و الکردي و السني من أغطیة تستروا خلفها و بفضل تضلیل الامریکان و تسویقهم لنمط دیمقراطیتهم المزعومة کتریاق نوعي مضاد لدکتاتوریة البعث و صدامه منذ ٢٠٠٣. فلا الکردي بات الآن نهبا لأوهام متنفذي اقلیمه الذي بات ثلث أرضه مسرحا لجولات الدرك الترکي و ثرواته بات نهبا و مغانم لأسر البارزانیین و الطالبانیین و هو یتضور جوعا و بطالة ولا بات المواطن الشیعي المحروم من کل الخدمات الاساسیة و فرص التوظیف و الذي یشهد بأم عینیه إستباحة موطنه من قبل الحرس الثوري و لا السني الذي جعلوه یدفع عنوة ثمن حماقات الدکتاتور المتسلط علی رقابهم والمنبوذ من الخطاب الإسلامي الشیعي ، لم یعد هٶلاء مأسورین و مفتونین بالخطاب الطائفي و القومي و المذهبي و حاملي تلك الشعارات.
فالأوضاع تتجه یوما إثر آخر، و بالتوازي مع إنکشاف ألاعیب القوی المکونة للثلاثي الجاثم علی صدر العراقیین، و بصورة بطیئة ضمن تعقیدات شتی، نحو إصطفاف إجتماعي وطني شامل عابر للطوائف و القومیات و المذاهب.
إن المجری الموضوعي المذکور لا یعني بأن صورة المشهد قد ینقلب غدا علی رٶوس سدنة الخطاب الطائفي، العرقي، المحاصصاتي و المٶتمر بأوامر الخارج، بل جل ما أعنیه هو تحوله إلی تیار إجتماعي یرنو،وإن بخطوات حثیثة، نحو إکتساب ملامحه السیاسیة المتمیزة نوعیا بوصفه الحاضنة المادیة لبلورة تیار وطني للخلاص من عقدین من مٶسسة سیاسیة تلفظ أنفاسها و بدأت بولوج مرحلة التشظي و الصراع فیما بین مکوناتها.
ولم تکن انتفاضة تشرین و المقاطعة الجماهیریة شبه الشاملة للإنتخابات المبکرة في اکتوبر ٢٠٢١، سوی تباشیر و تمارین أولیة لمسار لیس هناك من أمل سواه في المرحلة الراهنة.
آب ٢٠٢٢