التحليل النفسي وتطبيقاته المعرفية 35

هل اصبحت سمات مثل القمع والفساد والتعصب العقائدي تركيبة جينية مخزونة في العقل الباطن, عابرة للعقائد او الآيدولوجيات, في مجتمع مثل المجتمع العراقي ويتم توارثها عبر الاجيال؟
--------
الماركسية اللاكانية, بعرف وآخرين موجودة بالفعل؛ إنها موجودة بالفعل منذ أن تم ابتكارها من خلال التأثيرات الإيجابية إلى حد ما لنظرية لاكان في قراءات ماركس والمفكرين الماركسيين. هذه التأثيرات يمكن أن يتم توليفها في اطار نظري واحد:الماركسية اللاكانية, أي بمعنى آخر, قراءة الماركسية من خلال اضفاء سمات الاشكالية, التاريخية، التعميم, الأثبات، والتكملة. هذه التأثيرات الخمسة يجرى توضيحها في أعمال بادو، جيجيك, وآخرين.
Lacanizing Marxism
the Effects of Lacan
in Readings of Marx
and Marxist Thinkers
https://crisiscritique.org/april2019/cuellar.pdf

الإشكالية
على الرغم من وجودها وتبريرها، إلا أن الماركسية اللاكانية إشكالية للغاية، مشكوك فيها ومثيرة للجدل، لأسباب داخلية وخارجية، أي من حيث تكوينها ومكانتها في مجال المعرفة. واحد من الأسباب الداخلية الرئيسية لهذه الإشكالية هي أن أفكار لاكان لا تستطيع ان تتعامل مع الماركسيين دون إثارة المشاكل معهم. احدى هذه الاشكاليات, كما اشرت اليه في الحلقة السابقة, هي مفهوم الفرد وعدم وحدته ككائن امبريقي واحد او متوحد. اللاكانية وعموم التحليل النغسي ترى ان الانسان لا يتحكم في سلوكه وأفكاره ومشاعره الوعي وانما اللاوعي الى حد كبير. الوعي بمكن تمثيله بالجزء الظاهر من جبل الجليد الذي قسمه الأعظم مغمور تحت الماء. القسم المغمور هو اللاوعي.
The unconscious mind
https://www.simplypsychology.org/Sigmund-Freud.html
هذه التركيبة البنيوية- الآركولوجية للعقل يترتب عليها النتائج التالية:
1. ان لاوعي الإنسان هو مستودع لشخصيات عديدة ومتشظية, لشخصيات قد يعرفها الشخص او لا يعرفها وقد تنتمي الى الحاضر او عصور ساحقة تعود قدما الى تشكل الإنسان وانفصاله عن القرد حسب نظرية التطور لدراوين. ولكن هذه الشخصيات قد تكون, او كانت موجودة, بالفعل, او قد تكون شخصيات من خلق الدراما او الأساطير القديمة وبضمنها روايات الكتب المقدسة. هنا يجب ان نختلف مع التعريف الماركسي ل (الواقع !) ونتعرف (لاكانيا) على اشكاليته. الواقع هو ليس فقط الواقع الامبريقي الذي يجري التعرف عليه بالحواس الخمسة ثم ينقل عصبيا الى الدماغ او بالاحرى الى القشرة الدماغية كانعكاس مرآتي لهذا الواقع-الماركسية تصبح هنا صنوا لوضعية اوغست كومت. قد تكون شخصات مثل هاملت شكسبير او مستوفيليس غوته اكثر واقعية من الواقع نفسه, الواقع بالمعنى المتعارف عليه. شخصيات الدراما القصصية او المسرحية او السينمائية هي واقع أيضا, ولكنها واقع تجريدي, اي بمعنى آخر انها تجريد لسمات بشرية لا تنتمي في الواقع "الموضوعي!" الى شخص محدد في الواقع, وانما انها, اي الشخصية الدرامية, تجريد لسمات بشرية لأشخاص عديدين وعبر العصور. وهنا تكون الشخصية الدرامية وكأنها تجسيد للاوعي الذي يكون هو الآخر مستودع لتشظيات أشخاص عديدين عبر العصور. ولكن الفرق ببن اللاوعي والشخصية الدرامية هو ان الأول هو الحلم قبل تأويله, أما الثانية فهي الحلم بعد تأويله, او بعبارة اخرى, فقط لتقريب المفهوم, هو ان الدراما تسعى الى إضفاء نوع من المنطق السردي للربط بين هؤلاء الأشخاص وإعادة لحمة الحياة اليهم. ولكن هذا لا يعني ان الدراما يجب ان تكون خاضعة لشروط المنطق الارسطي, فمسرح بيرتولت بريخت لا ارسطي.
التحليل النفسي وتطبيقاته المعرفية 8
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=754473

2. التجريد, الذي تنفي واقعيته (الموضوعية!) الماركسية التقليدية, يحيل الماركسية الى فلسفة وضعية, وبالتالي, بعرف لينين مثلا في "المادية ونقد الفكر التجرييي", ستكون صنوا لفلسفة رجعية, أي بتبسيط شدبد, انها ستقتصر على دراسة ستاتيكية للوضع كما هو عليه الحال الآن دون استشراف احتمالات تغيره وبذلك يكون العلم والثورة طرفا نقيض.
الماركسية المبتذلة لا تستطيع اقناعنا إن الرياضيات, خصوصا البحتة منها, التي هي بالطبع تجريد, ليست واقعا. فالعدد الخيالي, مثلا الجذر التربيعي لناقص واحد, هو اساس عمل الترانزستور. مثال آخر ان فلسفة فيتكنشتاين, لُعبات اللغة language games, هي فلسفة تكنولوجيا أيضا ولها تطبيقاتها العملية في الهندسة او خلافها.
Wittgenstein as a Philosopher of Technology: Tool Use, Forms of Life, Technique, and a Transcendental Argument
https://www.researchgate.net/publication/322464532_Wittgenstein_as_a_Philosopher_of_Technology_Tool_Use_Forms_of_Life_Technique_and_a_Transcendental_Argument
العدد (الخيالي) هو اختراع وليس وجودا امبريقيا يمكن التعرف عليه بواسطة الحواس الخمس, ولكنه, بالرغم من ذلك, لا بد من وجوده او افتراضه لخلق واقع امبريقي, الترانزستور مثلا. اي ان الحدود الفاصلة بين التجريد والواقع الامبريقي لا معنى لها ومضرة معرفيا واستكشافيا واستقصائيا. الا تكاد ان تكون الحياة مستحيلة بدون التجريد, الأعداد والرياضيات؟ وفي الواقع إن جميع الأرقام خيالية (حتى "الصفر" كان مثيرًا للجدل)
All numbers are imaginary (even "zero" was contentious once)
https://www.theguardian.com/notesandqueries/query/0,5753,-18864,00.html
لذا سعى لاكان الى تحويل التحليل النفسي الى علم رياضيات
From mathematics to psychology: Lacan s missed encounters
https://www.taylorfrancis.com/chapters/edit/10.4324/9780429476501-8/mathematics-psychology-lacan-missed-encounters-david-corfield
إن الرياضيات ليست لغة العلوم فقط, وإنما "يستحيل" تعريضها للتلوث البيئي او التحيز الشخصي, وهذا بالطبع لا ينفي, بل يعزز, التداخل بين الذات والموضوع, كما نعلم من تجربة القطة السوداء لعالم فيزياء الكم شرودنجر.
SCHRÖDINGER S CAT EXPLAINED
https://www.youtube.com/watch?v=OkVpMAbNOAo
التي هي, قد يمكن القول, تشكل فيزياء مسرح الدراما التغريبي لدى بريخت.

3. وبالتاي فان اختزال (علم) الإنسان الى (علم!) اقتصاد من قبل الماركسيين المبتذلين هو طامة كبرى لأسباب منها ان الاقتصاد مشكوك في علميته,
Why Economics Is Not Yet a Science
https://www.jstor.org/stable/4225324
ولأنه علم متشائم,
In other words, we ve tended to align ourselves with Carlyle to acknowledge that an inescapable element of economics is human misery.
Why Economics Is Really Called the Dismal Science
https://www.theatlantic.com/business/archive/2013/12/why-economics-is-really-called-the-dismal-science/282454/
والاهم من ذلك انه لا (يستطيع ان) يوفر لنفسه المنهجيات والأدوات المناسبة لخلق اقتصاد العقل الباطن.

4. العقل اللاواعي, الذي تتجاهله الماركسية التقليدية, اقدم عصبيا-تطوريا بمئات الملايين من السنين من العقل الواعي. استمرارية وجوده عبر مئات الملايين من السنين عقب نزول الانسان من الشجرة والتخلي عن رفيقه في الاصل, القرد, او على الأقل منذ اختراع الانسان للنار (الذي سهل كثيرا من هضم اللحوم وتطور دماغ الإنسان وزيادة حجمه: القرد يمتلك بطنا ضخمة لأنه يقتات على الحشائش التي يصعب هضمها ولذا يجري إعادة مضغها للحصول على محتواها الغذائي), يعني إن الماركسية, او اية فلسفة اخرى, ستصبح بمثابة القناع الذي يرتديه الشخص لتحقيق مكسب او لتحقيق منزلة اجتماعية. ولأن اللاوعي, بعرف بعض مدارس التحليل النفسي, هو مستودع الحكمة والذكاء والإبداع, وهو قادر على ابقاء الانسان على قيد الحياة بدون الحاجة الى الوعي: التنفس او عمل القلب او التعرق للحفاظ على درجة حرارة الجسم او الوظائف الهرمونية والايضية, هي كلها, لحسن حظنا نحن جميعا, وظائف لا يتحكم فيها الوعي: تحكم الوعي فيها سيعني هلاك الجنس البشري لا محالة لأسباب منها انه من الاستحالة التحكم في هذه الوظائف ليل نهار وبدون غفلة او نسيان, او اثناء النوم! للمزيد من التفصيل يمكن مراجعة الكتاب بالغ الشهرة رغم ذكوريته وتحفظي على بعض محتوياته:
The Power of Your Subconscious Mind by Dr. Joseph Murphy Audiobook
https://www.youtube.com/watch?v=R4Drxkg7eZo
نفي الماركسية للدور الحاسم العقل الباطن سيعني ان اي بديل ماركسي للوضع الراهن اما سيكون بمثابة اعادة تدوير له, حماقة-هستيرية استعراضية في احسن تقدير, او حتى في ان يكون مشروعا شموليا-قمعيا, كما اثبت ستالين ورفاقه من اعمدة اللاحكمة!

5. نحن نعلم من التجارب العلمية ان الصفات المكتسبة يمكن توارثها, وتخزن في اللاوعي
Acquired Traits Can Be Inherited via Small RNAs
https://www.cuimc.columbia.edu/news/acquired-traits-can-be-inherited-small-rnas
ولذا يمكن التساؤل: كيف يمكن للثورة البروليتارية, او ما هو من صنوها, ان تطهّر البشر, في مرحلة ما يسمى ديكتاتورية البروليتاريا, من شوائب او أضغان النفس البشرية, كحصيلة مجتمع طبقي-رأسمالي لمئات السنين, اذا كانت هذه الشوائب قد اصبحت تركيبة بيولوجية-جينية يتم توارثها حتى من قبل معتنقي الشيوعية انفسهم؟
والسؤال الآخر:
هل لعب توارث هذه السمات دورا, اساسيا او ثانويا, في انهيار دول الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية سابقا؟
يبقى سؤالا مفتوحا ويحتاج الى استقصاء بحثي من قبل مجالات معرفية متعددة. واني حتى لا اعلم هل ان العلم حاليا قد بلغ درجة من التطور وابتكر أدوات بحثية مناسبة للبرهنة, حتى وبقدر من التواضع, على فرضية العمل working hypthesis بالغة التعقيد ولا شك هذه!!
والسؤال الموازي هو:
هل اصبحت سمات مثل القمع والفساد والتعصب العقائدي تركيبة جينية, عابرة للعقائد او الآيدولوجيات, في مجتمع مثل المجتمع العراقي ويتم توارثها عبر الاجيال؟
يتبع