التحليل النفسي وتطبيقاته المعرفية 66


طلال الربيعي
الحوار المتمدن - العدد: 7820 - 2023 / 12 / 9 - 09:45
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

ما الذي تقمعه الرأسمالية؟ وجهة نظر يونغية!

إن عيش المليارات من الناس في حالة من انعدام الأمن والظلم ليس نظاماً عقلانياً.

يقدم الاقتصاد نفسه باعتباره علماً عقلانياً يتعامل مع مقاييس موضوعية وأساليب كمية، ولكن المراقبين النبيهين أدركوا منذ فترة طويلة احتوائه على عناصر سحرية وغير عقلانية وغير واعية. وهذا يجعله أرضًا خصبة لأولئك الذين يدرسون علم النفس البشري.

تركز المناقشات المعاصرة للاقتصاد وعلم النفس في الغالب على الاقتصاد السلوكي، في حين أن التحليل النفسي، وهو الفرع المخصص ظاهريًا لزيادة الوعي باللاوعي، ظهر بشكل أقل بكثير في النقاشات الجارية. منذ أكثر من نصف قرن، اكتسب مفكرون مثل أستاذ الإنسانيات وأستاذ تاريخ الوعي في جامعة كالفورنيا نورمان أو. براون, وهو مؤلف الكتاب الشهير
Life Against Death
Life Against Death: The Psychoanalytical Meaning of History
- الحياة ضد الموت
التاريخ من وجهة نظر التحليل النفسي-
https://chinese.wooster.edu/files/brown1.pdf
وكذلك الفيلسوف الماركسي الشهير هربرت ماركوز ,جاذبية واسعة النطاق بخوضهم في فترات الركود الخفية والدوافع اللاواعية للاقتصاد، ولكن عندما بدأ سيغموند فرويد في فقدان شعبيته بين الأكاديميين في الستينيات، تم إهمال أو إعادة تسمية مناهج التحليل النفسي - على الرغم من أن قدرًا كبيرًا من الأبحاث العلمية الحديثة تدعم مفهوم فرويد عن اللاوعي .
The Unconscious Mind
-العقل اللاواعي-
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC2440575/
وبينما نتصارع اليوم مع الأنظمة الاقتصادية التي تبدو أكثر تدميراً لرفاهة الإنسان، فهل حان الوقت لإعادة النظر فيما إذا كان التحليل النفسي لديه أي شيء مفيد ليقوله عن علم الاقتصاد, العلم الكئيب: "إن الاقتصاد ليس مجرد علما كئيبا بل هو علما احتياليا بشكل أساسي أيضًا", على حد تعبير
يوجين مكاراهر , الذي يعتبر الرأسمالية دين الحداثة!
The Enchantments of Mammon: How Capitalism Became the Religion of Modernity
https://www.thenation.com/article/archive/capitalism-religion-eugene-mccarraher-interview/
وكذلك
Has Capitalism Become Our Religion?
-هل أصبحت الرأسمالية ديننا-
https://www.thenation.com/article/archive/capitalism-religion-eugene-mccarraher-interview/

ربما يبدو اسم الطبيب النفسي السويسري كارل يونغ، الذي تفوح منه رائحة المخاوف الغامضة والباطنية، في غير مكانه بشكل خاص في أي نقاش اقتصادي. لكن في كتابه
-من أجل حب الخيال: التطبيقات المتعددة التخصصات للتحليل النفسي اليونغي-
For Love of the Imagination
Interdisciplinary Applications of Jungian Psychoanalysis
https://www.routledge.com/For-Love-of-the-Imagination-Interdisciplinary-Applications-of-Jungian-Psychoanalysis/Adams/p/book/9780415644099
يوضح المحلل النفسي وأستاذ علم النفس مايكل فانوي آدامز كيف أن اهتمام يونغ الخاص بالصور - لجعلها واعية وفهم معناها وتأثيرها - يمكن أن يساعدنا في استخلاص ما يكمن في الخيال. ظل الرأسمالية المعاصرة (الظل بمعناه اليونغي, على وجه التقريب, هو الجانب المظلم او المدمر).

إن نقطة بداية آدامز هي صورة آدم سميث لليد الخفية، ذلك التمثيل الأسطوري, الميتافيزيقي, للقوة غير المرئية التي تنظم تصرفات الأفراد التي تخدم مصالحهم الاقتصادية وتحويلها إلى منافع جماعية. ومن وجهة نظر آدامز، فإن اليد الخفية ليست فكرة أساسية في الاقتصاد فحسب، بل هي "الصورة الأكثر أهمية في الـ 250 عاماً الماضية" ــ والتي لا تقل أهمية بالنسبة للرأسمالية عن صورة المطرقة والمنجل بالنسبة للشيوعية. في المصطلحات اليونغية، فهو نموذج أصلي. يؤكد آدامز: "لا توجد صورة أخرى اكثر شيوعا في العالم الحديث وتهيمن عليه".

ويشير إلى أنه مع استمرار الصور، فإن اليد الخفية هي يد غريبة. لا يمكنك تصور ذلك حقا. ومع ذلك، وكما يذكرنا آدامز، فإن صورة اليد غير المرئية كانت منتشرة قبل فترة طويلة من استخدامها من قبل سميث في أعمال هوميروس وفولتير, مثلا, للإشارة إلى القوى الشبحية أو الإلهية التي تتدخل في شؤون الإنسان. لاحظ علماء الأدب أنه في وقت قريب من استخدام سميث، ظهرت الأيدي الخفية في الروايات القوطية gothic novels لتغلق أبواب السردية وتحريك الحبكة البشرية. يشير آدامز إلى نسخة مثيرة بشكل خاص لليد المذكورة في كتاب أي أو هيرشمان " العواطف والمصالح"
The Passions and the Interests: Political Arguments for Capitalism before Its Triumph
- العواطف والمصالح: الحجج السياسية للرأسمالية قبل انتصارها-
https://www.amazon.com/Passions-Interests-Political-Arguments-Capitalism/dp/0691160252
- الرسم التوضيحي المعاد إنتاجه ليد سماوية غير مادية تضغط على قلب بشري تحت شعار "Affectus Comprime" أو، في ترجمة هيرشمان، "قمع العواطف! صورة التحليل النفسي إذا كان هناك واحدا.

وكما يشير آدامز، عندما ذكر سميث اليد لأول مرة في أطروحة عن علم الفلك (في مقال لم يُنشر خلال حياته ولكن من المحتمل أنه كتب قبل عام 1758)، كانت تلك صورة أسطورية - يد المشتري Jupiter تحرك الأجرام السماوية في السماء. وفي وقت لاحق، أصبحت هذه اليد يدًا اقتصادية، وقد ورد ذكرها أولاً في نظرية المشاعر الأخلاقية عام 1759 ثم مرة أخرى في كتاب ثروة الأمم عام 1776 لآدم سميث.

ويفسر سميث اليد الاقتصادية الخفية على أنها التأثير الذي يقود الأفراد الذين يسعون لتحقيق مصلحة خاصة إلى تعزيز الصالح العام دون أن يدركوا ذلك. في نظرية المشاعر
الأخلاقية، في توضيح حالة ينتهي فيها الأمر بمالك أرض ثري إلى توظيف العمال من خلال إنفاقه على الرفاهية، يوضح سميث أن اليد تساعد الأثرياء، على الرغم من "رغباتهم التي لا تشبع"، في تقاسم بعض ثرواتهم مع الفقراء. وفي وقت لاحق، في كتابه ثروة الأمم ، يصف اليد في قسم خاص بالتجارة، ويشير إلى أنها ترشد التجار والمصنعين الذين يعملون من أجل مصلحتهم الخاصة لتحقيق الربح لتحقيق نتائج إيجابية للجميع عن غير قصد. وهذا قد يسمى حاليا trickle-down economics, اي اعادة توزيع الثروة لصالح الطبقات الدنيا اقتصاديا عن طريق, مثلا, فرض ضرائب عالية على الطبقات العليا.

وهكذا، بواسطة بعض السحر الجريء، تحوّلت لمسة اليد الخفية الأنانية إلى فضيلة. وهذا، على حد تعبير آدامز، يشكل "انقلاباً أخلاقياً" ــ انقلاباً رأساً على عقب لتقليد طويل من النظر إلى الأنانية باعتبارها واحدة من السمات البشرية اللامرغوبة. وكما يرى آدامز، فإن آثار هذا الانقلاب على الشؤون الإنسانية كانت عميقة.

من خلال عدسة آدمز التحليلية اليونغية، يمكن رؤية اليد الخفية وهي تمسح الشعور بالذنب للمستغِلين. وتحت تأثيره يمكن أن يشعر الإنسان بالبراءة أثناء التصرف بجشع والانغماس في ما كان يُعرف سابقاً بإحدى الخطايا السبع المميتة. بالمصطلحات اليونغية، ما يحدث عندما لا ندرك ذنبنا هو أننا نميل إلى إسقاطه على الآخرين كظل، وهو شعار صراعاتنا الأخلاقية التي لم يتم حلها. وفي أنظمة السوق الحرة، يعتبر الفقراء مذنبين، ويحملون اللوم على وضعهم وفشلهم في التصرف على النحو الذي يؤدي إلى زيادة ثرواتهم. يتم تحميل الفقراء الذنب بسبب تصرفات الأغنياء لتحقيق المصلحة الذاتية. الشعور بالذنب والعجز قد يولد الكآبة التي تعالج بالعقاقير. ان شركات الادوية تغتني اكثر واكثر كلما زاد الشقاء الذي تسببه الرأسمالية: المزيد في
-الطب النفسي النيوليبرالي-
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=505656


ويشير آدامز إلى أن اليد تؤدي وظيفة دينية أيضًا، وتحديدًا في تمثيلها لإله السوق، الإله الذي يعبده الاقتصاديون منذ زمن طويل. إنه ينظر إلى هذا الإله على أنه إله أبسكونديتوس deus absconditus ، وهو إله مخفي ، مثل شكل الرب المذكور في الكتاب المقدس. بمعنى آخر، deus absconditus هو إله غائب عندما يكون الناس في ورطة شديدة (اليس هو نفسه الرب الغائب الآن عن وحشية لا تصدق لاسرائيل بحق اهل غزة؟!). أو إله لا يمكن معرفته أو فهمه-او ال the real بمفهوم المحلل النفسي لاكان.
An Introductory Dictionary of Lacanian
Psychoanalysis
https://www.davidbardschwarz.com/pdf/evans.pdf
ص. 186

لماذا، على سبيل المثال، تعتبر اليد الخفية ضرورية إذا كان السلوك الأناني يؤدي بشكل طبيعي إلى نتائج اجتماعية مفيدة؟

ويشير آدامز إلى أن صورة اليد غير المرئية، مثل الرب، تمنح الأفضلية للغير المرئي على المرئي، والمجرد على المتجسد، والعقل على الحواس. ويبدو أن هذه الوظيفة تنتشر في علم الاقتصاد، حيث وقع الممارسون في كثير من الأحيان في حب النماذج المجردة التي أعمت عيونهم عن ما يمكن رؤيته بسهولة في الواقع، وخاصة فقر ومعاناة الكائنات الحية المتجسدة فعليا. وتصبح اليد، باعتبارها إله السوق، بمثابة آلة مثل تلك التي يتم إنزالها على خشبة المسرح في الأعمال الدرامية القديمة لتحديد النتيجة النهائية للمسرحية، أو على نطاق أوسع، الآلية التي تجلب الحل لمشكلة تبدو غير قابلة للحل. بهذه الطريقة، تتلاعب اليد الخفية بالاقتصاد إلهيًا وغيبيا. وأياً كانت المشكلة الاقتصادية، ومهما كانت شائكة، فإن اليد الخفية هي الحل الوحيد: تينا ـ لا يوجد بديل-TINA – There Is No Alternative. إن التحدث علنًا ضد إله السوق يعني التشكيك في مصداقيتك وارتكاب الهرطقة. بالنسبة لعشاق اليد، يتمتع السوق بحكمة لا حصر لها للتصرف بالطريقة التي يتصرف بها.

يلاحظ آدمز أن إله السوق هو إله غيور (وهل هنالك من اله غير غيور!؟) ، ومثل الرب، لن يكون له آلهة أخرى أمامه. إذا كانت الحكومة تسعى إلى التدخل في السوق الإلهية والخيرية، فلا بد أنها شيطان. إن صورة إله السوق هذه، وفقاً لآدامز، تسمح للاقتصاديين بقمع التجربة الفعلية للأزمات الاقتصادية من خلال استدعاء شعار مفاده أن التدخل الحكومي ليس ضرورياً أبداً. وبالتالي فإن عيوب السوق تُنسى مما يسميه آدامز "اللاوعي الاقتصادي". إن احتكار إله السوق يزاحم الصور الأخرى، كما يحذر آدامز، الصور التي قد تساعد في توجيهنا نحو قيم مثل نكران الذات.

ويشير آدامز إلى أنه في تجنب ضرورة التنظيم الحكومي، يتم الاستغناء عن أي مساءلة بشرية في الاقتصاد. في نهاية المطاف، في الرؤية المتطرفة لليبرالية الجديدة، أصبح كل شبر من المجتمع البشري في قبضة اليد، مع خصخصة كل شيء من الطب إلى التعليم. فالسوق يجعل الحكومات غير ضرورية إلا لحماية مصالح الرأسماليين، الأمر الذي يؤدي إلى ضخ كميات هائلة من الأموال من الشركات والأفراد الأثرياء للسيطرة على الدولة وتعزيز سلطتهم. ويبدو أن اليد الخفية في الأسواق غير المنظمة تفعل عكس ما وصفه سميث ــ توجيه النشاط الذي لا يستفيد منه إلا قِلة من الناس.

مثل الأزمة المالية العالمية في الفترة 2007-2008، أفقدت جائحة فيروس كورونا أيديولوجية اليد الخفية مصداقيتها، مما يوضح كيف أن النشاط الأناني بلا هوادة لا يؤدي إلى فوائد اجتماعية، بل إلى الدمار الاجتماعي. لقد كشفت أزمة كوفيد كيف أن تدهور الخدمات العامة يجعل المجتمعات الرأسمالية أكثر عرضة للاضطراب وأقل مرونة. وقد عادت اليد المرئية للحكومة من خلال الحوافز المالية، وتقديم الإعانات للعمال العاطلين عن العمل، والسياسة النقدية. هناك ارتداد على قدم وساق، لكن هذا لا يعني هزيمة إله السوق.

هناك الكثير من الأحاديث الدائرة حول احتمالات الركود ـ وربما يتعين علينا أيضاً أن نشعر بالقلق إزاء القمع المستمر. في عام 1957، أصدر يونغ هذا التحذير حول الفشل في التعرف على الظل وفهم عمليات اللاوعي:
"يمكن للمرء أن يعتبر معدته أو قلبه غير مهمين ويستحقان الازدراء، لكن هذا لا يمنع أن يكون للإفراط في الأكل أو الإفراط في الجهد عواقب تؤثر على الإنسان كله. ومع ذلك فإننا نعتقد أن الأخطاء النفسية وعواقبها يمكن التخلص منها بمجرد الكلمات، لأن كلمة "نفسية" تعني أقل من الهواء بالنسبة لمعظم الناس. ومع ذلك، لا يمكن لأحد أن ينكر أنه بدون النفس لن يكون هناك عالم على الإطلاق، ناهيك عن عالم إنساني. عمليا كل شيء يعتمد على النفس البشرية ووظائفها. ينبغي أن تكون جديرة بكل الاهتمام الذي يمكننا أن نوليه لها، خاصة اليوم، حيث يعترف الجميع بأن سراء أو بلاء المستقبل لن يتقرر لا بهجمات الحيوانات البرية ولا بالكوارث الطبيعية ولا بخطر الأوبئة العالمية، بل ببساطة بالتغيرات النفسية التي تحدث في الإنسان."

جادل المحلل النفسي المبكر أوتو جروس، أحد المقربين والمؤثرين على يونغ، بأن التحقيقات في اللاوعي هي الأساس الضروري لأي نوع من الثورة أو الاستعادة الأخلاقية. ويوجهنا إلى مشروع تحرير قيم المساعدة المتبادلة والتعاون المكبوتة التي يولد بها الإنسان. عندها فقط يمكننا أن نلوح وداعًا لليد الخفية. وهذا يعني او سيعني بالضرورة ان اي مشروع ماركسي لا بتضمن اعتبار الجانب اللاواعي للعقل البشري سيصبح مشروعا يكرر الحالة الراهنة او يفاقمها, سيزيد من تعاسة البشر, وسيشوه سمعة الماركسية ويوجه ضربة قاصمة الى مصداقيتها, لأنها في المطاف الاخير ستتراجع الى ما هو جماعي في العقل الباطن-رأسمالي, او بلغة الرياضيات ستتقهقر الى المعدل العام من فكر او ثقافة.
Regression to the Mean
https://www.wallstreetmojo.com/regression-to-the-mean/
وتصبح ليس اداة للتغيير, وبما يتوافق مع البيان الشيوعي, بل ستظل لغة توصيف تعكس اصداء ما قاله المحلل والطببب النفسي البربطاني الراحل لاينكَ:
«إن واقعنا الاجتماعي على درجة كبيرة من القبح إذا نظرنا إليه من حيث الحقيقة المنفية، فليس هنالك تقريباً من جمال إلا وهو كذب.
ما العمل..؟ أبوسعنا نحن الذين لا نزال نعيش شبه أحياء في قلب الرأسمالية الشائخة الذي ما زال ينبض، أن نفعل أكثر من أن نعكس الخراب من حولنا وفي داخلنا؟ هل نستطيع أن نفعل أكثر من أن نغني بحزن ومرارة أغاني الخيبة والهزيمة؟»
http://www.notable-quotes.com/l/laing_ronald_david_iv.html

---------------
يتبع