الأساتذة الجامعيون في تونس وحمل الشارة الحمراء


إبراهيم العثماني
الحوار المتمدن - العدد: 7331 - 2022 / 8 / 5 - 19:37
المحور: الحركة العمالية والنقابية     

مقدّمة:

يقوم العمل النقابي أساسا على التفاوض بين المشغِّل والمشغّل بغية تحسين الأوضاع المادية والمعنوية للعمال بالفكر والسّاعد، وإزالة أسباب التوتر عند حدوثها، وخلق مناخ ملائم للعمل والبذل والعطاء. وإن تصامـم المشغِّل وتعطّلت لغة الكلام حصلت الجفوة وآلت العلاقة إلى القطيعة، وانتفى دور العمل النقابي أصلا، وأصبحت مهمة الهياكل النقابية السعي إلى إثبات ذاتها، وفرض وجودها، وحمل الطرف المقابل على الاعتراف بها مستعملة كل أشكال النضال المشروعة والقانونية حسب متطلبات الظرف ووضع الهيكل كما هو الشأن في قطاع التعليم العالي الذي قرر مجلسه القطاعي المنعقد يوم 5 ماي 2007 حمل الشارة الحمراء كامل يوم الأربعاء 9 ماي 2007 أو الأربعاء 16 ماي 2007 ، وعدّد الأسباب التي دفعته إلى الدخول في هذا التحرك. ومن المؤكد أن وزارة الإشراف كعادتها قابلت هذا التحرك بالاستخفاف وسخرت من كل المطالب والشعارات التي طرحها المجلس القطاعي. ولعلها أعدّت سلفا أجوبتها على النحو التالي :

1 –غضب الأساتذة على تردي ظروف التدريس والبحث :

في الحقيقة نحن لا نرى مبرّرا لهذا الغضب، بل إننا نحتج بدورنا على رفع هذا الشعار الذي يتصدّر المطالب كلما كُتبت لائحة أو صِيغت عريضة . فأي قطاع ليست ظروفه متردية؟ ولِمَ لا يعمل الأساتذة بالمثل الشعبي القائل "شنقة مع الجماعة خلاعة "فيوطّنوا أنفسهم على مثل هذه الأوضاع حتى تستحيل أوضاعا عادية يقاس عليها و تحفظ. فهل نسي أعضاء المجلس القطاعي أنهم تعلموا "باب،بقر..."في ظروف "كلْبة".* فالقاعات غاصّة، والأقسام متراصّة، والمستويات متداخلة، والبطون خاوية، والأسمال بالية، والجيوب فارغة. ولِمَ يتنكرون "للميزيريا الحرفا"* التي خلقت منهم رجالا وجعلتهم يطالبون بتحسين ظروف التدريس؟ وهل كانت ظروف أيام زمان أفضل من ظروف اليوم ؟
والغريب في الأمر أن هذا الغضب قادهم إلى المطالبة بالتفاوض الجدي

2 –المطالبة بالتفاوض الجدي :

التفاوض الجدي ! التفاوض الجدي ! هل نحن نمزح لمّا فتحنا أبواب الوزارة على مصاريعها واستقبلنا كل الأطراف النقابية بما في ذلك تلك التي عفا الزمن رسومها أو تلك التي نفخنا فيها من روحنا كي تزهق أرواح المتنطعين ! فما هذه الاتهامات المجانية؟ وما هذه اللغة الخشبية التي تحنطت رغم هبوب رياح صرصر استأصلت جذور الدوغمائية واقتلعت من الرؤوس الأحلام الطوباوية؟ ومتى كنا مازحين؟ فهل عقدنا اتفاقات ثم تراجعنا عنها ؟ نحن لم نلتزم بأي شيء أصلا ولم نقدم وعدا. فما زلنا نعمّق النظر في الملفات المطروحة أمامنا لمزيد التروي والتّحرّي، وندقق العمليات الحسابية لمعرفة ماذا تكلف الميزانية. وكل ما فعلناه هو لقاءات مع كل الأطراف تارة للتشاور وطورا للتعارف، ولم ننسج على منوال وزارات تلزم نفسها باتفاقات مضبوطة وتواريخ محددة ثم تتنصل منها فتضطر إلى استعمال الوسائل السمعية البصرية لتبرئة ذمتها، وتوضيح نيتها، والخلاص من ورطتها ثم تفشل في فعلتها.
التفاوض الجدي ! التفاوض الجدي! يالها من تهمة ! نحن وزارة صدرها رحب يتسع لأربع نقابات، وآذاننا صاغية إلى كل الأصوات متنافرة كانت أو متآلفة. فلِمَ التّجنّي علينا؟ ولِمَ تنصّب الجامعة نفسها متكلمة باسم الجميع وتتّهمنا بالتمييع، وتشن علينا حملة شعواء وتلقّن الناشئة الكراهية والبغضاء .
والأغرب من كل ذلك أن أعضاء المجلس القطاعي يرون في إصلاحاتنا تهديدا لجملة من المكاسب الوطنية .


3 –المشاريع المهددة لمكاسب الجامعة العمومية :

منذ نهاية الثمانينات انتقى أسلافنا الصالحون زُمرة من خيرة الأساتذة عهدوا إليها بإصلاح التعليم، ثم كلّفوها لاحقا بالنظر في إصلاح ما أصلح. ولمّا تبين أنّ إصلاح الإصلاح لم يُصلَح أُمِرَت الجماعة بإعادة النظر في ما أصلحته وإدخال إصلاحات على الإصلاحات التي سرعان ما اعوجّت ف"ربّما صحّت الأجسام بالعلل".
لقد سهرنا الليالي لا تأخذنا سِنة ولا نوم، وأمضينا الساعات الطوال لا يرتاح لنا بال موصول كَلالنا بكَلالنا، كَلال النّهار بكلام الليل حتى كلّت أبصارنا من البحث والتنقيب، واحدودبت ظهورنا من الخفض والرّفع. وهكذا دواليك مافتئنا نصلح التعليم منذ عقود، ولن يهنأ لنا بال إلا بعد أن يستقيم له عود ولن يستقيم الظّل ّقبل استواء العود. وفي الحقيقة فقد حققنا الكثير إذ درّبنا طلبتنا على مزايا التحرر والانفتاح، وبصّرناهم بشرور التعصّب والانغلاق. وخلّصنا ناشئتنا من غول التطاحن الطبقي والتباغض الفئوي. وعلّمناهم التسامح ونسيان أحقاد الماضي وعداوات الأمس، وحذّرناهم من إثارة النعرات الطائفية وتأجيج الأحقاد المذهبية وفتح الصراعات الحزبية. فنحن أمم متآخية، وشعوب متساوية، وحضارات متفاعلة، وثقافات متلاقحة. فأي مكاسب هُددتْ، وأي إنجازات رُوجعت. ألا لا أفلح من كذّب وافترى، وخاب من تباكى وادّعى. تَبّت أيادي الدّجّالين، وقُطعت ألسنة المُرْجفين، وأُخرست أصوات الحاقدين. ومهما يكن من أمر فنحن ماضون في إصلاحاتنا، وسنتصدّى بكل حزم لمن يقف حجر عثرة في طريقنا، ويهدّد مكاسب المجموعة الوطنية. وإن ما يشجّعنا هو النجاحات الجمّة التي حقّقناها والتي نفاخر بها أكثر الدّول تقدّما وسنضعها في سويداء قلوبنا وبؤبؤ عيوننا، وليست مجانية التعليم وديمقراطيته وتحديثه إلا عينات صارخة. فقد حافظنا على مجانية التعليم، وما فعلناه لا يعدو أن يكون مساهمة رمزية في بداية كل ثلاثية أو سداسية لا تفرغ جيوب البورجوازية ولا تثقل كواهل العائلات البروليتارية ، بل تُنتقص من الميزانية العائلية وتحذف من نفقات السهرات الصيفية وتؤخذ من مدخرات المناسبات الدينية. وهي مساهمة تخفف الضغط على تكاليف المجموعة الوطنية.
أمّا ديمقراطية التعليم فلا تحتاج إلى تدليل. اُنظروا إلى طلبتنا. فهم كوكتال عجيب غريب. فيهم الجنوبي المتعطش إلى النسمة الكافية. وفيهم الشمالي المتيم با بنيّة العرجون القبلية، وفيهم الملتحي المنتحي، وفيهم، الملتحف بتشي. وفي الحقيقة نحن لا نتدخل في شؤونهم. ألا ترون كيف أنّ "المُتبخْنقة"* تخاصر "المْعتْرة*" والخنساء تغازل من تألق وجهه حسنا وشاكل في القدّ غصنا، حُورٌ في طرف عيونهن حَوَر، غيدٌ وغوانٍ كأنّ البدر صورتهن، شقراوات متغنّجات وسمراوات دعجاوات، قدود ممشوقة ورؤوس محسورة، سُررٌ مكشوفة وسراويل مبتورة ، فتيات متمنطقات كأنهن إلى حفلات رقص مدعوّات، شبان في آذانهم أقراط، وفي معاصمهم أساور، وفي أجيادهم قلائد يتثنّون في مشيتهم ويغمزون بنظراتهم، سراويل محزوقة على أجساد هزيلة ملفوفة تسربلها جلابيب فضفاضة تكنس أدران الأنهج والشوارع، وجوه كالحة متجهّمة وألوان متنافرة ، فقراء وأغنياء، كهول وعوانس ،خفافيش وخنافيس، كلهم يكرعون من مناهل المعرفة حتى سن الأربعين.
أليس هذا الكوكتال إلا ثمرة الإصلاحات التي أقدمنا عليها منذ عقدين تقريبا. فقد حافظنا على ثوابتنا الوطنية، ودعّمنا هويتنا القومية، وجمعنا في إصلاحنا بين الأصالة والمعاصرة:انفتاح دون انسلاخ، وتأصّل دون انغلاق.ألسنا أمّة وسطْ ترفض التّطرّف والشططّ . فما هي هذه المكاسب التي تراجعنا عنها؟
ورغم هذه الإنجازات الجليلة فإن الأساتذة البحاثين لا تعوزهم الحيلة. فكلما فاتنا منهم طلب جاءنا طلب من حيث لا ندري ولا نحتسب، ففاجؤونا باحتجاجهم وتنديدهم بأسلوب الإملاءات .


4-الاحتجاج على أسلوب الإملاءات وانعدام التشاور :

غريب أمر هؤلاء الأساتذة! ترى لماذا يستنفرون أقلامهم ويشحذون أذهانهم ويدبّجون عرائض ويحبّرون لوائح كلما اشتموا رائحة الإملاءات؟ ألا تزال الإملاءات مشكلة؟ رحم الله زمانا تطرح فيه الاستشارات الوطنية، ويؤخذ فيه بآراء القواعد الشعبية، ويلتزم أثناءه المسؤولون بمواقف الأغلبية. ألم يدرك أعضاء المجلس القطاعي أننا استعضنا عنها بالأعمال الإدارية والدراسات الاستشرافية واستأنسنا بآراء الأقلية. ولنا من الباحثين جهابذة ومن الدارسين فطاحل. وفينا الحكيم والفهيم، وفينا الخبير والعليم .فلم الاستعانة بآراء المناوئين لمشاريعنا، الجاحدين لنعمنا؟ ولم الزّجّ بهم في شعاب وعرة نحن بها أدرى، ونخشى عليهم التعثر في حفرها والسقوط في "زراديبها"؟ *ولم لا يثق الأساتذة بنا؟ إن ما تأتيه الوزارة إن هو إلاّ وحي توحي به لنا المنظمات الدُّوَليّة والمؤسسات المالية، وهي خبيرة بشؤوننا الوطنية، ومطّلعة على أدق دقائق مشاريعنا الآنية والمستقبلية. ومادمنا بين أياد أمينة فلا خوف علينا ولا للحزن مدخل إلينا. فلِمَ إذن حمل الشارة الحمراء؟


5- حمل الشارة الحمراء :

وبعد هذا الغضب والعجب والانفعال خفّفت الوزارة الوطء وهوّنت الأمر وتنفّست الصعداء لمّا تيقنت أن الأمر لا يتجاوز حمل الشارة الحمراء، وتساءلت قائلة: ألم يدرك الأساتذة الذين حملوها أن المفاهيم تتغير بتغير المكان والزمان، وأن الأمر في تونس يختلف عمّا في اليابان. فالشارة الحمراء لا تعدو أن تكون عندنا قطعة قماش- حتى لا نقول شيئا آخر- ترمز إلى الحب والحنان، وتؤكد وداعة أساتذتنا وتعلقهم بأبنائنا. فهم قد يتمرّدون أحيانا لكن معدنهم صاف صفاء الصافية. وهم أبناء تونس الخضراء يحبّونها حبّنا لها. وهم أيضا أبناؤنا وفلذات أكبادنا. وما إن أصبحنا لهم سادة وعنهم ذادة حتى بادلناهم المحبة والمودّة. ولما جاؤونا مستسقين أمطرناهم بغيث من المناشير ييسّر لهم ظروف العمل ويقيهم غائلة العلل. وفكّرنا في متفقدين يُنتدبون من بينهم ليعينوهم على"هم ّالزمان"ويرشدوهم إلى ما فيه خير بني الإنسان، ويعلّموهم أصول الدرس والتدريس، وفن الشرح والتشريح. وأصدرنا تعاليم تريحهم من إرهاق الدرس بعد بلوغ سن الستين، وقررنا الاستعاضة عن خبراتهم بخبرات شيوخ من وراء البحار قادمين... إلخ.
هم أساتذتنا إن جنحوا إلى السلم جنحنا إليها، وإن تطاولوا رفعنا عقيرتنا وبمرتّباتهم ضخّمنا ميزانيتنا.اللهم فاشهد أنّنا أنذرْنا فأعذرنا !.

خاتمــــــــــــة:

وفي الختام نقول قد يكون منطلق هذه الأجوبة التخييل، ولكنه تخييل لا ينبع من فراغ بل يستمد أسسه ممّا دأبت عليه وزارة الإشراف في كيفية تعاملها مع مطالب الأساتذة وتجاهلها النداءات الملحّة الداعية إلى فتح تفاوض جدي.

ملاحــــــــــــظة:

فضّلنا، في بعض الأحيان، استعمال كلمات دارجة اقتناعا منّا بأنّها أقدر على أداء المعنى من العربيّة الفصحى:
*ظروف "كابة" أي ظروف سيّئة جدّا
*الميزيريا الحرفا: الميزيريا هي تحريف للكلمة الفرنسيّة misére وتعني البؤس والشقاء
الحرفا: الشديدة
*المتبخنقة هي الّتي ترتدي لباسا كان منتشرا في الرّيف التّونسي يسمّى البخنوق. وقد تغنّت به المطربة التّونسيّة صليحة قائلة: بخنوق بنت المحاميد عيشة ريشة بريشة
وعامين مايكملوش النقيشة. والمتبخنقة ترمز هنا إلى الفتاة المحافظة.
*المعترة: القصيرة اللّباس. وهي رمز الفتاة المتحرّرة.
*زراديب: سراديب بالعربيّة الفصحى.